الفصل 72 : 

 

“كيف تجرؤ على قول إنّها تخلّيتَ عني؟ ما هذا الكلام؟”

 

فيلّيون عبس قليلًا.

 

“هل سلّمتُ نفسي لتلك المرأة حتى تستخدم هذا التعبير المثير للاشمئزاز؟”

 

“الأجواء كانت توحي قليلًا بذلك… لا، لا، أنت مُحق. تلك المرأة لم تمتلكك قط. لقد عبّرتُ بشكلٍّ خاطئ.”

 

أشار الكونت ديلاريك بيده في الهواء كما لو كان يطلب منه نسيان الأمر.

 

“على أيّ حال، تلك المرأة رحلت من تلقاء نفسها. عرضتُ عليها أن أُوفّر لها دعمًا وافرًا في المستقبل، لكنّها اختفت تمامًا.”

 

“……”

 

“برأيي، حتى لو التقيتَ بها، فلن ترغب بأن تخبركَ أيِّ شيءٍ عن نفسها.”

 

توقّف الكونت قليلًا، وكأنّه يمنحه وقتًا للتفكير.

 

ثمّ ما إن فتح فمه مجددًا، قال:

 

“مع ذلك، إن أردتَ…”

 

“كفى.”

 

قطع فيلّيون كلامه بحزم.

 

“شخصٌ رحل بإرادته، لا يهمّني بعد الآن.”

 

“……”

 

“أخبرني بدلًا من ذلك عن سبب فقداني لذاكرتي. كيف حدث هذا؟”

 

ظلّ يضع قدميه على حافة النافذة.

 

لم يعد يبدو أنّه يستعدّ للمغادرة، بل أنّ جلوسه هناك صار أقرب لوضعيةٍ من يريد مواصلة الحديث، لكن في عيني الكونت، بدا ذلك إعلانًا بأنّه قد يغادر في أيِّ لحظة.

 

أطلق الكونت ديلاريك تنهيدةً عميقة قبل أن يبدأ الكلام.

 

“ألم أخبرك من قبل أنّكً كنتَ ساحرًا تابعًا لبرج السحر؟”

 

“وقلتَ إنّنا سنستأنف تدريبات السحر قريبًا.”

 

“برج السحر بُني في الأصل لحراسة الكتب المحرّمة. هذه الكتب تحوي ستًّا وستّين تعويذة تُخالف القوانين الطبيعيّة.”

 

“آه، قصّة لا تهمّني إطلاقًا.”

 

“استمع فحسب.”

 

زفر الكونت مرّةً أخرى قبل أن يتابع:

 

“منذ عامين، حدث أنّ أحد الكتب المحرّمة اختفى دون أثر. لم يكن هناك أيُّ دليل على متى أو كيف أو من سرقه. تسابق السحرة لاستعادته، وكنتَ أنتَ من بينهم.”

 

“إذًا، هل وجدتُه؟”

 

“قلتَ إنّكَ عثرتَ عليه، بل وأودعته في مكانِّ آمن. نحن صدّقناك.”

 

أشار الكونت إلى صدره.

 

“لأنّك كنتَ تحمل لعنةً بداخلك.”

 

خفض فيلّيون نظره إلى الموضع الذي أشار إليه، لكنّ شيئًا لم يكن ظاهرًا بطبيعة الحال.

 

“كنتَ بين سحرة البرج أحد أكثرهم تميّزًا، لا يوجد سحرٌ لا تجيده. وإن كان في داخلك لعنة، فهذا يعني…”

 

“أنّها لعنةٌ صنعها الكتاب المحرّم.”

 

“صحيح. السارق استعمله ليزرع فيك تلك اللعنة.”

 

تابع الكونت بعدما أنزل يده.

 

“لحسن الحظ، لم تُمحَ ذاكرتك على الفور، بل كنتَ تستخدم كلّ قوّة سحرك لكبحها. لكن هذا لم يكن كافيًا.”

 

“لماذا؟”

 

“لأنّ سحر الكتاب الممنوع، لا بدّ أن يُفعَّل ولو لمرةٍ واحدة.”

 

“… في أيِّ ظرف؟”

 

“في أيِّ ظرف. على سبيل المثال، يمكن إشعال النار في أعماق البحر، وسيظلّ مشتعِلًا ما دام السحر قائمًا.”

 

لم يستطع فيلّيون تخيّل هذا المشهد بسهولة، لكنّه أدرك أنّه أمرٌ يستحقّ أن يُسجَّل في كتاب محرم.

 

“أنت الآن لا تعرف الكثير عن السحر، لذا سأضرب مثالًا آخر.”

 

فكّر الكونت قليلًا، ثمّ قال:

 

“حين يعجز المرء عن التذكّر، يقولون عادة: وكأنَّ رأسي صفحةٌ بيضاء.”

 

تقطّب حاجبا فيلّيون.

 

“يعني أنَّ رأسكَ الآن صفحةٌ بيضاء؟”

 

“أنا؟ لا، رأسكَ أنت!”

 

نقر فيلّيون بلسانه متضايقًا، فيما زفر الكونت مجددًا وهو ينظر إليه.

 

“سحر محو الذاكرة يعمل هكذا…”

 

التقط الكونت ورقةً بيضاء من على الطاولة وكتب عليها كلمة ‘ذاكرة’ بالقلمٍ الأسود، ثم لوّح بها.

 

“لنفترض أنّ هذه هي ذاكرتك. وسحر المحو هو…”

 

وضع فوقها ورقةً بيضاء أخرى، وبفعل الضوء ظهر خطّ الكلمة أسفلها بشكلٍّ باهت.

 

“صفحةٌ بيضاء؟”

 

“صحيح. الورقة تحجب ما تحتها، لكن ليس بالكامل، كما ترى. لذا يمكن…”

 

ترك الكونت الورقتين على الطاولة وأمسك القلم مجددًا.

 

“يمكنك إعادة الذاكرة بمتابعة الظلال أسفل الورقة.”

 

كتب على الورقة العليا كلمة ‘ذاكرة’ مجددًا متّبعًا أثر ما تحته.

 

“لكن لعنتك كانت أشبه بامتلاء الغرفة كلّها بتلك الصفحات البيضاء.”

 

“وماذا يحدث حينها؟”

 

“بحسب ساحرٍ مختصّ بالسحر العقلي، ستُصبح شبيهًا بالزومبي.”

 

بعد صمت قصير، سأل فيلّيون:

 

“وما الزومبي؟”

 

“وحش سحري. إذا دُفن جسد في مكان اختلطت فيه طاقة المانا، يظهر بلا عقل ولا هدف سوى القتل.”

 

“إذًا، على الأقل لديه نزعةٌ هجومية.”

 

ابتسم الكونت ابتسامةً صغيرة.

 

“السحر المعتاد لمحو الذاكرة يُشبه صفحةً واحدة. يفقد المرء ذاكرته، لكن يبقى لديه حدّ أدنى من الأخلاق.”

 

“مثل ألّا يضرب رجلاً مسنًّا؟”

 

“… نعم. لكن لعنتك مختلفة، لا تُبقي شيءٌ على الإطلاق. تنسى حتى أنّك إنسان.”

 

تخيّل فيلّيون غرفةً مليئة بالأوراق البيضاء، ولم يعرف أبدًا ما المكتوب في الأسفل.

 

“وماذا فعلتُ لحلّ الأمر؟”

 

ابتسم الكونت قليلًا:

 

“قلتَ إنّك ستُطلِق اللعنة عمدًا مرّةً واحدة.”

 

“……”

 

“تحبس نفسك في مكانٍّ لا يصل إليه أحد، تفكّ الختم لتتحمّل جزءًا من اللعنة، ثم تستغلّ فترة ضعفها لإعادة الختم تدريجيًّا وإضعافها.”

 

“هل وجدتَ طريقة الإضعاف؟”

 

“بفضل جهد العائلة، نعم. لكن الأمر لا يتمّ إلا بعد إطلاق اللعنة.”

 

عاود فيلّيون تخيّل الغرفة، لكنّ الأوراق البيضاء صارت مرتّبة أكثر، يحيط بها غشاءُ رقيق.

 

‘إذا كان هذا الغشاء هو الختم…’

 

فإنّ حدّة الأوراق الحادّة التي تكاد تمزّقه هي سحر الكتاب المحرّم.

 

‘إذن أنا فتحت الغشاء قليلًا وأخرجت بعض الأوراق.’

 

في هذه الحالة سيصبح هناك متّسعٌ أكبر داخل الغرفة، ولن تُحجب كلّ ‘الذاكريات’

 

‘ثمّ أضع نارًا صغيرة داخل الغرفة، وهذا هو الإضعاف.’

 

لكن المخاطرة عالية، فالنجاح يتطلّب مهارةً وحسن توقيت.

 

‘لهذا قرّرتُ أن أفعلها وحدي في مكان مجهول.’

 

لأنّ الفشل قد يعني قتل عائلتي.

 

“لقد حاولتُ منعك.”

 

“……”

 

“لكنّك اختفيتَ ذات يوم.”

 

أضاف الكونت بصوتٍ منخفض.

 

“ما أردتَ فعله يشبه تفعيل بضع صفحات فقط من تلك الأوراق البيضاء، فكرةٌ لم أجرؤ حتى أنا على ضمان نجاحها.”

 

لكنّ فيلّيون نجح. وها هو أمامه حيٌّ يُرزق.

 

امتلأت عينا الكونت بالدموع، لكنّ نظرته بقيت حادّة.

 

“إذًا؟”

 

“……”

 

“قلتَ إنّي غبتُ لعامٍ ونصف، أليس كذلك؟ إذا كنتُ قد نجحتُ، كان يجب أن أحتفظ بذكريات تلك الفترة. فلماذا لا يزال رأسي فارغًا؟”

 

“حين وجدناك، كنتَ قد ختمتَ اللعنة مجددًا، وكان الإضعاف يجري بسلاسة. بدا أنّك قضيت عامًا كاملًا تصبّ كلّ طاقتك هناك.”

 

تخيّل فيلّيون الأوراق وهي تحترق بسرعة.

 

“لكنّني رأيت أنّ ذلك وحده لا يكفي لإزالتها بالكامل. كانت هناك ورقةٌ أخيرة، بيضاء، سميكة وعنيدة، لا تمسّها النار.”

 

“وبينما بقيت، ظلّت طاقتك السحرية مضطربة. لذا أطلقتَ اللعنة مرة أخرى… وكانت النتيجة…”

 

ترك الكونت كلّ الأوراق على الطاولة وحدّق فيه، وابتسامةٍ فخر تملأ وجهه.

 

قال فيلّيون بشيء من الارتياح:

 

“كلّها اختفت إذًا.”

 

“نعم، كلّها.”

 

أومأ الكونت برفق وهو يبتسم. لم يبقَ شيءٌ إطلاقًا.

 

عامٌ ونصف من الذكريات مقابل تحرّرٍ كامل من اللعنة.

 

“حين تبدأ بتعلّم السحر مجددًا، ستتأكّد بنفسك. لم يعد هناك لعنةٌ فيك، لذا طاقتكَ تتجمّع جيدًا. عمّا قريب ستستخدم السحر.”

 

“……”

 

“ومع ذلك، أتريد الخروج؟”

 

كان في عينيه تحدٍّ يقول: “بعد سماع هذا، هل ستخرج؟”

 

ابتسم فيلّيون. ظنّ الكونت أنّها ابتسامةُ موافقة، لكن…

 

“قل لي يا كونت… أنتَ متأكّدٌ بأنّكَ جدّي حقًّا؟”

 

قال فيلّيون بنبرةٍ مائلة للتمرد:

 

“إذا سألتني: هل ستخرج…؟ فجوابي سيكون: نعم، وسأغادر حالًا.”

 

شحب وجه الكونت ديلاريك، فيما ضحك فيلّيون بمرح.

 

وفي اللحظة التالية، عاد ليضع يده على حافة النافذة.

 

《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》

 

═════• •✠•❀•✠ •═════

الترجمة: فاطمة 

حسابي ✿

《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》