الفصل 70 : 

 

 

“جدي كان، منذ زمنٍ بعيد، دائمًا يضعني في المقامِ الأوّل.”

 

“…….”

 

“إنّه شخصٌ لا يمكن أن يقوم أبدًا بفعلٍ قد يؤذيني. بل حتّى إنّ الإمبراطورَ نفسه تذمّرَ ذاتَ مرّة من أنّه يبالغ في حمايتي.”

 

في الحقيقة، على حدِّ علمي، كان الإمبراطورُ أيضًا يُفرِط في حماية وليِّ العهد. قال فيليون وهو يبتسم.

 

وفي اللحظة ذاتها، خطَر في بالي وليُّ العهد الذي يبحث عنّي الآن لينقذ الإمبراطور. بما أنَّ الإمبراطور قد غمره بالحبِّ الخالص، كان وليُّ العهد يُحبُّ والده بإخلاصٍ شديد.

 

وكذلك كان الكونت ديلاريك يُعامِل فيليون بما لا يقلُّ عن معاملة الإمبراطور له، ولذا فإنّ فيليون أيضًا…

 

“أنتَ تثقُ بعائلتكَ…”

 

“وأثقُ بريكس أيضًا.”

 

قالها وهو يشدُّ يدي قليلًا نحوه.

 

“في اليومِ الأوّل الذي جئتُ فيه إلى هنا… قلتُ لكِ إنّي كنتُ أبحث عنكِ، أليس كذلك؟”

 

“……نعم.”

 

“في الحقيقة، كنتُ أظنُّ أنّكِ قد غادرتِ هذا المكان. لا أدري لماذا راودني شعورٌ كهذا.”

 

“…….”

 

“حين رأيتُكِ ما زلتِ هنا، شعرتُ بالارتياح، لكن بعد أن عدتُ إلى غرفتي ظلَّ القلق يلازمني. لا تعرفين كم قاومتُ رغبةَ النزول فورًا لرؤيتكِ.”

 

لكن، بما أنّي قلتُ له إنّي نعسانة، فلا بدّ أنّه تراجعَ على مضض. وربّما كان يبدو عليه التعبُ الشديد أيضًا.

 

لكنّ الحقيقة أنّني لم أكن مُتعبةً من طول الرحلة، بل كانت مُرهَقةً من التوتّر وأنا بانتظار لقائي بالكونت.

 

“لذلك أغمضتُ عيني قليلًا لأستريح، وحين استيقظتُ…”

 

في ذلك الوقت، لا بدّ أنّني كنتُ قد غادرتُ الغرفة. كنتُ قد تركتُ القصر الريفي قبل أن يلمسَ ضوءُ الفجرِ المكان، متّجهةً إلى المدينة.

 

وبعد أن قبضتُ على المال، ظللتُ أتسكّع بلا هدف حتى تأخّرتُ.

 

“شكرًا لأنّكِ عدتِ.”

 

ابتسم ابتسامةً رقيقة، وكانت كلماته تخرج من أعماق الصّدق بلا أيِّ شكّ.

 

لكن، لسببٍ ما، لم تَدخل تلك الكلماتُ إلى أذني كما يجب.

 

-جدي كان، منذ زمنٍ بعيد، دائمًا يضعني في المقام الأوّل.

 

لم يتردّد في البقاء في ذهني سوى هذه الجملة.

 

كان شعورًا ينتشر في جسدي كلّه كمرضٍ يتسلّل من صدري.

 

‘الكونت ديلاريك هو شخصٌ يضع فيليون في المرتبة الأولى دائمًا.’

 

الذهاب معي ليس الطريقَ الأمثل له.

 

بل هو طريقي أنا، وليس طريقه.

 

‘لن أكون أبدًا الخيارَ الأفضل لفيليون.’

 

حقًّا، محوُ الذكرياتِ من دون إذن صاحبها أمرٌ في غايةٌ القسوة. شيءٌ صادم، ولا أحد يرغب فيه.

 

لكنّ الكونت كان قد استعدَّ حتّى لتحمّل الكراهية التي قد تترتّب على ذلك.

 

وبعد محوِ ذكرياته، سيظلُّ يرعاه بحبٍّ بالغ، كما فعلَ في طفولته، بل ربما أكثر.

 

-كما تعلمين، فيليون هو وريثُ دوق إلفيرت.

 

وسيُعيد له كلّ ما كان يملكه من قبل.

 

سينزعُ عن كاهله تهمةَ سرقة الكتابِ المحرَّم، وسيجمعه بوالديه من جديد.

 

وسيعيده إلى مكانه كوريثٍ للدوق، ويُعيد له هيبته التي جعلت جميع السحرة يحترمونه. سيعود كلُّ شيءٍ إلى طبيعته.

 

نعم… تلكَ هي الحالةُ الطبيعية.

 

أمّا اللحظةُ التي أتمسّك بها الآن بدافع الحنين فهي نفسها الحالةُ غير الطبيعية.

 

ولإنهاءِ هذا اللاطّبيعي…

 

“ريكس؟”

 

رفعتُ رأسي على وقعِ صوته الحذر. في تلك اللحظة بالذات، كانت الغيوم قد انقشعت، ودخلت أشعّةُ الشمس عبر النافذة.

 

وكان فيليون واقفًا في ذلك النور.

 

مرتديًا ثيابًا فاخرة لم أرهُ يرتدي مثلها من قبل، ناصعَ البياض، نظيفًا وجميلًا، يشعُّ نورًا.

 

كان مظهره مفعمًا بالهدوء كما في أيامِ برج السّحر، حين كان الجميعُ ينظر إليه بإعجاب، وحين كان هو يستمتع بذلك الإعجاب.

 

حينها أدركتُ… أنّ مكانه الحقّيقي هو هنا.

 

“لماذا تبدين هكذا؟”

 

“……لأنّكَ وسيم.”

 

لم تكن كلمةً عابرة، بل كان بالفعل يشعُّ بجمالٍ مبهر في هذا اليوم.

 

…لكن فيليون بدا فجأةً وكأنّ تعبيره تغيّر باستغراب.

 

“أول مرّةٍ أسمع هذا.”

 

“ألم يقل لك أحدٌ إنّكَ وسيم؟”

 

“ليس هذا ما أعنيه، بل… أوّل مرّةٍ أسمعها منكِ، ريكس.”

 

اقتربَ منّي أكثر وهو يبتسم.

 

“قوليها مرّةً أخرى.”

 

“كفى. انتهى الأمر.”

 

“أحقًّا أنا وسيم؟ أكثر مِن وليِّ العهد؟”

 

“……الآن، لا يهمّ من ستأتيني به، سأراه أقلَّ وسامة منك.”

 

“آه، صحيح. إذن، ماذا يجب أن أسألكِ كي تقوليها ثانيةً؟”

 

كانت ملامحه وهو يُفكّر في ذلك بالغةَ الجديّة، مما جعلني أبتسم.

 

وظللتُ أحدّق في فيليون، وهو أيضًا أعاد بصره إليّ.

 

لا أدري كم من الوقت مضى هكذا…

 

“ريكس، أنا…”

 

لكن فجأةً، فُتح الباب بعنف.

 

“فيليون! ها أنتَ هنا!”

 

انتهزتُ لحظةَ دهشته وسحبتُ يدي فورًا. ورغم أنّه قطّب جبينه قليلًا، لم يتمكّن من قول شيء، فقد أسرع أقاربه إليه.

 

“أبناءُ عمّك وصلوا للتو، هيا لتُلقي عليهم التحية.”

 

“……كان عليّ أن أُغلق هذا الباب اللعين.”

 

“ما هذه الألفاظ؟!”

 

بدأت خالته، كما قيل، تُوبّخه بلا توقف. وكان رأسي المثقل أصلًا يكاد يطنّ من الضجيج.

 

آه… يبدو أنّ هذا البيت لا يسمح حتّى بالانغماس في المشاعر.

 

“اذهبْ أنتَ، لا تشغل نفسكَ بي. كنتُ سأنام على أيِّ حال.”

 

“هل ستنامين مجددًا؟”

 

“بل الآن فقط سأنام، فقد عدتُ من الخارج فجرًا.”

 

“كان عليكِ أن تأتي معي صباحًا إذن…”

 

“أوه، إذًا يمكنني أن آخذها معي، أليس كذلك؟”

 

في تلك اللحظة، ركضَ ابنها الصغير إلى الداخل وتمسّك بسرواله متوسّلًا، فتنفّس فيليون بعمق وهو يحمله بين ذراعيه.

 

“سأعود سريعًا.”

 

وما إن خرج فيليون، حتّى تبعه بقيّة العائلة دفعةً واحدة.

 

لكن شخصٌ واحد بقي في المكان.

 

“هيميل كنت هنا أيضًا.”

 

“أجل، أردتُ… الحديث قليلًا.”

 

أومأتُ برأسي، فجلسَ هيميل مكان فيليون.

 

“سمعتُ من الكونت… هل اتّخذتِ قراركِ؟”

 

“……لا أدري.”

 

“أعلم أنّه ليس من شأني، لكن… في رأيي، قبول عرض الكونت قد يكون أفضلَ لكِ أيضًا.”

 

“…….”

 

“ألا تظنّين ّ أنّ… الكلب الأسود… أعني، فيليون، سيكون أفضل مع عائلته؟ يجب أن يعود إلى حياته الأصلية.”

 

“هيميل… هل دفع لك الكونت مالًا؟”

 

قلتُها كمزحةٍ لتخفيف الجوّ الثقيل، لكن ملامحه تجمّدت بشكلٍ غير متوقّع.

 

“يبدو أنّه فعل فعلًا.”

 

“……أعتذر.”

 

“ماذا طلب منك؟ أعني… غير البحث عن فيليون بالطّبع.”

 

“طلب منّي إقناعكِ.”

 

“البارحة ليلًا؟”

 

أومأ هيميل ببطء.

 

هاه… يا له من رجلٍ عنيد.

 

“……أستأذنكِ، سأخرج.”

 

“لا، سنخرج معًا.”

 

نهضتُ معه.

 

“أريد لقاء الكونت. أين هو الآن؟”

 

قال هيميل بوجهٍ متوتّر:

 

“إن كان الأمرُ من أجلِ الشجار، فلا…”

 

“لا، ليس الأمر كذلك.”

 

هززتُ رأسي، ونظرتُ إلى النافذة.

 

كانت أشعّة الشمس لا تزال تُزيّن المكان.

 

تذكّرتُ فيليون وهو يتلألأ تحت ذلك النور، فعضضتُ شفتي.

 

“سأحاول، للمرّة الأولى والأخيرة، أن أثق بالكونت ديلاريك.”

 

***

 

كان الحديث مع الكونت يمرُّ بسرعة كبيرة.

 

-“كيف يمكن إعادة تفعيل اللعنة؟”

 

-“أنا أعرف الطريقة. حين أصيب فيليون باللعنة أوّل مرّة، كنتُ قد درستُها معه. لا يوجد الآن مَن يعرف عنها أكثر منّي.”

 

-“وإن شعر فيليون بالأمر؟”

 

-“سأتولّى كلَّ شيء.”

 

ولم أنتظر طويلًا.

 

بعد عودتي إلى الغرفة وجمع أمتعتي، كنتُ أُحدّق بشرودٍ إلى الخارج حين جاء الخادم يبحث عنّي.

 

وحين تبعتُه، وجدتُ فيليون نائمًا بهدوء، والكونت ديلاريك إلى جواره.

 

بهذه السهولة…

 

“غريب… لا تحتاج إلى مساعدتي إطلاقًا، ومع ذلك…”

 

تمتمتُ بضيق، لكنّ الكونت لم يُجب، بل بدأ يفكُّ أزرارَ قميصه ببطء، وهو يتمتم بتعويذة، ثم وضع كفَّه على صدره.

 

‘انظر يا فيليون… ذلك الجدُّ الذي قلتَ إنّك تثق به، يُعطيك الآن مُنومًا ويمحو ذاكرتك.’

 

اكتفيتُ بالسخرية في قلبي. ولم أفعل أكثر من ذلك.

 

إذ إنّ الكونت لم يسمح لي حتّى بالاقتراب. رفضَ تمامًا طلبي بأن أظلَّ معه للحظاتٍ من دون تدخّل.

 

كان ذلك يثيرُ غضبي حقًّا.

 

ومع ذلك، لم أرغب في الاندفاع لإيقاظ فيليون.

 

‘الكونت شخصٌ يضع فيليون في المقام الأوّل.’

 

وقد قال فيليون نفسه إنّه لا يقوم أبدًا بما يؤذيه.

 

إذن، كلُّ ما يفعله الكونت هو من أجل فيليون.

 

‘كما تثق أنتَ في عائلتك… سأثق أنا أيضًا في عائلتك.’

 

سأؤمن بأنًّ هذا هو الخيارُ الأفضل لك.

 

كي تتمكّن من العيش بسعادة.

 

“……لقد انتهى الأمر.”

 

قال الكونت وهو يرفع يده.

 

ظلَّ فيليون نائمًا، وصدره يعلو ويهبط بخفّة.

 

اقتربتُ منه كما لو كنتُ مسحورة، ولم يمنعني الكونت هذه المرّة، فتمكّنتُ من الوقوف إلى جانبه.

 

ولأوّل مرّة، أنا التي أمسكتُ يده بدلًا من أن يكون هو المبادر دائمًا.

 

وفكّرتُ…

 

‘كان من الجيّد أنّني لم أكشف أنّني رايلي فولكس.’

 

لو أنّني كشفتُ هويّتي، ورويتُ له كلَّ ما حدث بيننا في الماضي، ثمّ أخبرتُه بمشاعري، وقَبِلَ بي…

 

ثمّ أصبحت تلك الذكريات حكرًا عليّ وحدي…

 

لكان الأمر أشدَّ ألمًا من الآن، ولما استطعتُ كبح دموعي، وربّما تمسّكتُ به رافضةً الرحيل، إلى أن يجرّني الكونت بعيدًا.

 

إنّه لأمرٌ جيد… أنّني سأظلّ أحتفظ وحدي بذكرياتنا معًا.

 

إنّه لأمرٌ جيد… أنّني سأظلّ أتذكّر وأحنّ.

 

“فيليون.”

 

شكرًا لأنّكَ وافقتَ على مرافقتي.

 

رغم قسوة كلماتي، فقد كنتُ سعيدةً جدًّا حين عدتَ إليّ.

 

شكرًا لأنّكَ وعدتَ بأن تظلَّ معي حتّى النهاية.

 

شكرًا لأنّكَ حميتني وأنا نائمة.

 

شكرًا لأنّكَ منحتني مكانةً خاصّة لديك.

 

“فيليون.”

 

شكرًا لأنّكَ أحببتني… حقًّا، شكرًا.

 

“فلنفترق… ولا نلتقِ مجدّدًا أبدًا.”

 

 

 

《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》

 

═════• •✠•❀•✠ •═════

الترجمة: فاطمة 

حسابي ✿

《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》