الفصل 68 :
“لا، لا، لقد بالغتُ كثيرًا في كلامي. أعتذر.”
لم أستطع قول أيّ شيء.
كذلك ظلّ الكونت صامتًا لبعض الوقت، يربّت على جبهته وكأنّه يحاول جاهدًا تهدئة مشاعره، قبل أن يطلق عدّة زفراتٍ طويلة.
“لم أتوقّع أنّكِ تحملين مثل هذه الأفكار.”
وبعد أن كسر الصمت الطويل، أطلق الكونت تنهيدةً أخرى، كما لو أنّه يمرّ بأمرٍ بالغ الغرابة.
“حين جئتُ إلى هنا… كنتُ أظن أنَّ حديثنا سيسير على نحوٍ جيد. لم يخطر ببالي أبدًا أنّكِ ستتّبعين ذاك الإصرار السخيف لفيلّيون.”
“…..”
“ذلك لأنّكِ كنتِ تكرهين فيلّيون.”
مسح بيده جانب فمه ثمّ وجّه نظره إليّ.
“هل تغيّرت مشاعركِ نحوه بعدما قضيتِ وقتًا معه؟”
كان يحدّق بي بعينيه البنفسجيتين اللتين تشبهان عيني فيلّيون، كما لو أنّه يخترقني بنظراته.
“أم أنّكِ كنتِ تنوين استخدامه كرهينة؟ أو مقايضته مع العرش الإمبراطوري لتنجين بحياتك…”
“ليس كذلك.”
هززتُ رأسي نافيةً.
“لم أفكّر بذَلك ولو قليلًا.”
عندها تنفّس الكونت بعمق من جديد.
ورغم الجوّ المثقل بالشدّة، راودني فجأةً شيءٌ ساخر: ‘سوف يشقّ الأرض تحت قدميه من كثرة التنهد’.
كما ساورتني رغبةٌ في مغادرة هذا المكان فورًا.
لكن يبدو أنَّ الكونت لم يكُن ينوي إطلاق سراحي بسهولة.
وبعد تنهيدةٍ أخرى، قال:
“كما تعلمين، فيلّيون هو وريث الدوق إلفيرت.”
“…..”
“إخوته يحاولون الحدّ من نفوذه، لكن قلب الدوق حُسم أمره بالفعل. فيلّيون سيكون الدوق القادم. هذا منصب لا يجرؤ أحدٌ، حتى الإمبراطور نفسه، على المساس به.”
“…..”
“ومع ذلك، تريدين أخذه معكِ؟”
ثمّ حدّق بي مرّةً أخرى.
“هل ستُحطّمين بيدكِ هذا المستقبل المشرق؟”
“… إنّ إرادة فيلّيون هذا…”
“صحيح، ذاك الفتى قال إنّه يريد الذهاب معكِ. لكن أليس فيلّيون الآن غير كامل؟”
وأشار إلى صدغه قائلًا: “ذاكرته لا تتجاوز عمر السابعة عشرة. وأظنّ أنّكِ أكثر من يعرف كم كان متهوّرًا وعديم النضج حينها.”
“…..”
“هل ستتبعين رغبة فتى في السابعة عشرة، قضى السنة والنصف الأخيرة عبدًا لشخصٍ ما؟”
بصراحة، رغبتُ في الاعتراض على ذلك.
صحيح أنّ ذاكرته غير مكتملة، لكن هذا لا يعني أنّ عقله معطوب. سبق أن قلتُ له شيئًا مشابهًا، لكن تجاهل إرادته بهذه الطريقة ليس مقبولًا.
ولكن…
“وماذا لو استعاد ذاكرته بالكامل لاحقًا؟”
تجمّدتُ عند سماع ما لم أتوقّعه.
“تعيشان معًا في القارّة الشرقيّة، ثمّ فجأةً، في يومٍ ما، يستعيد كلّ ذكرياته؟”
“…..”
“فيرغب في العودة إلى القارّة الغربيّة، لكن فات الأوان، فلا يستعيد منصب الدوق، بل ويكتشف أنّ والديه قد ماتا. هل تستطيعين تحمّل ذلك؟”
“…..”
“وهل يمكنكِ أن تنظري إلى ذلك الفتى الحزين الذي يلومكِ، وتقولين له بكلّ فخر: هذا ما كنتَ تُريده؟”
“…..”
“فيلّيون من الأساس لم يحاول إنقاذكِ.”
توقّف الكونت فجأةً، ينظر إليّ بوجهٍ يحمل مسحةً من الدهشة، ثمّ مرّر يده بعنف في شعره، وزفر بعمق قبل أن يقول:
“في الأصل، لم أنوِ شرح الأمر، لكن يبدو أنّني مضطر الآن. فيلّيون لم يحلم بإعادتكِ إلى الحياة، ولم يسرق الكتاب المحرّم.”
كان واضحًا أنّه يحاول الإيحاء بأنّه زلّ لسانه، لكن داخلي شعر بشيءٍ غريب، كما لو أنّه تظاهر بالخطأ لفتح هذا الحديث عمدًا.
“الشخص الذي سرق الكتاب المحرّم كان شخصًا آخر. فيلّيون حاول منعه، لكنه اتُّهم زورًا.”
“…..”
“فيلّيون لم يكُن يحبُّكِ.”
لم يكن عليّ تصديق كلّ ما قاله.
فهذا الرجل هو نفسه من أراد محو ذكريات فيلّيون ليمسك به، لذا يمكنه أن يكذب دون أن يرفّ له جفن.
لكن ليس كلّ ما قاله كان خاطئًا.
فمن قراءتي للرواية، كنتُ أعرف أنَّ فيلّيون رغم كثرة شجاراته مع عائلته، لم يكرههم قط.
حين قدّمني إلى والديه، كان متوتّرًا على غير عادته، وحين رآهم يعيشون بسلامٍ معي، ابتسم بسعادة.
لكن إن ذهب معي…
‘وإن مات والداه ولم يبقَ له أحد، هل سأتحمّل ذلك؟’
فكّرتُ في ذلك وأنا أعضّ شفتي.
“رايلي فولكس.”
ناداني كونت ديلاريك مجدّدًا.
“في الحقيقة، طيلة الخمس سنوات الماضية، كنتُ أشفق عليكِ من أعماق قلبي. لا أعلم كيف عشتِ قبل ذلك، لكن نهايتكِ كانت تضحيةً نبيلة بحقّ.”
“…..”
“حتى بعد موتكِ، ظلّ اسمكِ يتردّد على الألسن، فشعرتُ بالأسى. وحتى حين تشوّهت سمعة فيلّيون بسبب جريمةٍ لم يرتكبها، وارتبط اسمكِ بها، لم أكرهكِ.”
“…..”
“لكن حين علمتُ أنّكِ حيّة، شعرتُ بالخيانة. لم تكُن تضحيةً نبيلة، بل هروبًا كالجبناء. بل وشعرتُ ببعض الإهانة من ذلك الخداع. لكن الآن وأنا أراكِ…”
مسحني بنظرهِ من أعلى إلى أسفل، وقال:
“كم مضى منذ هربتِ من وليّ العهد؟”
لم أكن متأكدة. لو حاولتُ الحساب بدقّة، ربما استطعتُ، لكنني لم أملك الطاقة لذلك الآن.
كلّ ما فكّرتُ به هو أنّ وقتًا طويلًا قد مضى.
“لقد تغيّر وجهكِ كثيرًا. هيميل قال الشيء نفسه، لقد نحفتِ كثيرًا عمّا كنّا نعرفه.”
“…..”
“قرّرتُ إبقاء فيلّيون هنا بسبب حالتكما. أنتما نبلاء، ولا يمكن لحياة الهروب أن تدوم طويلًا بالنسبة لكما.”
“…..”
“سأضمن لكِ حياةً مريحة في القارّة الشرقيّة. أنا أستطيع خداع الإمبراطوريّة بالكامل.”
زفرتُ بخفوت.
كلمة المظهر ضايقتني كثيرًا.
رغم طول حديث الكونت، كان في داخلي بقايا من التمرّد، وقد أُطفئت بسكب الماء البارد عليها.
بدأ مزاجي يهبط، ونظرتُ نحو الأسفل، فرأيتُ العباءة التي أرتديها.
رغم أنّني نفضتها كثيرًا، كانت حافّتها متّسخة، وحذائي مغطّى بالتراب، وحتى جواربي كنتُ قد خاطتُها قبل أيّامٍ بسبب ثقب.
في المقابل، كان فيلّيون الذي زارني قبل قليل في هيئةٍ نظيفةٍ تمامًا.
لم يكن مرتديًا ملابسه السوداء المعتادة، بل ثيابًا بيضاء فاخرة، تلمع لو وقعت عليها أشعة الضوء.
وبدا مرتاحًا جدًّا فيها.
رغم أنّه لم يفعل شيئًا يُذكر، كان من السهل معرفة ذلك من تصرّفاته وتعبيراته.
الآن، من المحتمل أنّه ينام بهناء على سريرٍ كبير ومريح.
‘لكنني الآن أستوعب الأمر جيّدًا. بدأتُ أعتاد على هذا المكان.’
‘كانت هناك مسحةٌ من الغرابة، لكنها بدأت تضيق شيئًا فَشيئًا.’
بعد برهة، تمكّنتُ أخيرًا من النطق.
“سأفكّر في الأمر.”
ولم يخطر ببالي شيء آخر أقوله.
***
في الحقيقة، حين أتذكّر الأمر، أراه مثيرًا للسخرية.
أن أقول “سأفكّر في الأمر”… أيُّ تفكيرٍ هذا وأنا في وضعي الحالي؟
كان حديثي مع كونت ديلاريك طويلًا، لكن هدفه كان واحدًا: أن أرحل إلى القارّة الشرقيّة دون فيلّيون.
قال إنّه اقتراح، لكنّه في الواقع كان أقرب إلى الإخطار. سواء ساعدته أم لا، فهو سيمحو ذكريات فيلّيون على أيّ حال.
وبذلك لم يبقَ أمامي سوى خيارين:
إمّا أن أرحل بهدوء كما قال، أو أن أخبر فيلّيون بكلّ ما في الأمر ونهرب معًا سرًّا.
لكنّني كنتُ أعرف أيّ الخيارين أخطر.
إن هربنا معًا وأمسك بنا الكونت لاحقًا، فسيسلّمني إلى وليّ العهد.
ولن يستطيع فيلّيون إنقاذي، فبقوّته السحرية الحالية لن يتمكّن من هزيمة كونت ديلاريك.
وليس هذا مجرّد توقّعٍّ مبالغٍ فيه، فقد رأيتُ في عينيه برهةً من البرود حين قال إنّه يشفق عليّ.
لم تكن تلك نظرة شخصٍ يتأثّر بحال الآخر، بل نظرة من يستخفّ به.
رأيتُها مرّةً أخرى في نهاية حديثنا.
قبل أن يغادر الغرفة، أوقفته وسألته:
-“هل يمكنني الخروج قليلًا إلى المدينة عند الفجر؟”
-“ولماذا؟”
-“لقد دفعتُ مسبقًا أجرة النزل، وأودّ أن أحضر الحصان الذي تركته هناك…”
-“هل من الضروري الذهاب؟ تسك، ما قيمته بضعة نقود؟”
بالنسبة له كانت تافهة، لكن بالنسبة لي كنتُ بحاجةٍ إلى كلّ قرش.
في النهاية، حصلتُ على الإذن، وشكرته عليه.
لكن حين غادرتُ القصر عند الفجر، شعرتُ بإهانةٍ جارحة لكرامتي.
‘آه، لم أشعر بهذه الإهانة منذ زمن.’
سعدتُ قليلًا حين التقيتُ بالخيول، لكن حين عدتُ معها إلى القصر، عاد الاكتئاب لقلبي.
بالطبع، الخيول بدت سعيدةً بالحظيرة الواسعة في القصر.
“نعم… المال يعجبكنَّ أيضًا، أليس كذلك؟”
جلستُ على مقعدٍ عند مدخل الحظيرة وأسندتُ رأسي إلى الحائط.
لا أعلم كم من الوقت بقيتُ أحدّق في الخيول دون حراك.
ثمّ فجأة، شعرتُ بوجودٍ يقترب من خلفي.
غطّاني فيلّيون ببطانية على كتفي، وسأل:
“لماذا أنتِ هنا؟”
(لأنّ جدّك وغد…) -لكنني لم أقل ذلك.
“شعرتُ بالملل.”
“لقد أحضرتِ الخيول، أليس كذلك؟”
“نعم، ذهبتُ في الصباح.”
“كان عليكِ إيقاظي لأذهب معكِ.”
صحيح، كان يمكنني ذلك.
فحتى وإن كان السرير مريحًا، لو خرجتُ حتى باب الغرفة لربما شعر فيلّيون بوجودي ونهض فورًا.
لكنّني لم أفعل، لأنّني كنتُ بحاجةٍ إلى وقتٍ لأفكّر وحدي.
“ليس شيئًا.”
ولأنني لم أستطع قول المزيد، اكتفيتُ بابتسامة باهتة.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 68"