كان ليون واحدًا من الرجالِ ذوي الحضورِ الأضعفِ بين مرافقي وليِّ العهد.
وليس الأمرُ أنّه كان ضعيفَ البنيةِ أو نحيلَ الجسد، بل إنّ المقصودَ أنّه كان هادئًا في الغالب مقارنةً بالآخرين الصاخبين ‘الذين كانوا – على الأرجح – يحاولون التقرّبَ منِّي’.
لم ألحظه جيّدًا إلّا حين انضمَّ إيان إلى المجموعةِ حديثًا.
أتذكرون ذلك اليومَ الذي خشيتُ فيه أن يقومَ فيليون بكسرِ ساقِ إيان، فقررتُ أن أشاركه الغرفةَ؟
كانت الغرفةُ في الأصل مخصّصةً لفيليون، لكن ليون كان فيها.
أذكر أنّه، على خلاف عادته في الاكتفاءِ بهزِّ رأسه بضعَ مرّاتٍ على كلام الآخرين، اتّسعت عيناه دهشةً ونظر إليَّ مطوّلًا حين سمع أنني سأشارك فيليون الغرفة.
كان واضحًا أنّ ملامحه تقول: ‘كيف يمكن لرجلٍ وامرأةٍ أن يتقاسما الغرفة…؟’ لكنّه لم يُلقِ علينا محاضرةً أو اعتراضًا.
“إلى هنا تنتهي آخرُ المستجدات عن مواقعِ فرقِ المطاردة.”
لذلك، كنتُ أسمع صوتَ ليون لأوّل مرّة منذ قرابة شهر.
وكانت هذه أوّل مرّة منذ زمنٍ نتبادل فيها حديثًا وجهًا لوجه، إذ إنّ شفتَيه في المرةِ السابقة لم تكونا متورّمتَين أو مضروبتَين.
هل كان هذا من فعل فيليون؟ لا بدَّ أنّه كان مؤلمًا بشدّة.
“هل لديكِ أيُّ أسئلةٍ أخرى؟”
“آه، لا. على كلّ حال، قلتَ إنّ في الشرق عشرة أشخاص؟”
“وسيزداد العددُ أكثر. الجميع يتوقّع أن تفرّي إلى القارّة الشرقيّة…”
كنتُ أتوقّع ذلك، لكن سماعَه منه مباشرةً أشعرني بالإحباط قليلًا.
‘حتى لو توجهتُ شمالًا، فهناك ميناء، لكن سيكون علينا الالتفافُ كثيرًا للوصول إليه.’
ومع ذلك، فذلك الخيارُ يبدو أفضل بكثير، إذ إنّ ما ذكره عن الميناء الشرقي يجعل القبضَ علينا فورَ وصولنا أمرًا غير مستبعَد.
“وماذا عن النبلاءِ في الشرق، أولئك الذين يتعاونون مع وليّ العهد…؟”
كان ليون يعرف أشياء كثيرة أخرى أيضًا، لأنّه المسؤولُ عن الاتصالات.
وبفضله عرفتُ تفاصيلَ كثيرة عن مرافقي وليِّ العهد الذين لم أكن مقرَّبةً منهم، وتعلّمتُ كيف أميّز الحمامَ الزاجل الخاصّ بوليِّ العهد.
“إلى أين ستذهب أنت الآن؟”
“سأتوجّه جنوبًا للخروج من الإمبراطوريّة. لكن بما أنّ سموَّه سيرسل من يراقبني، فلن أستطيع العودةَ إلى مسقط رأسي…”
قال ليون أيضًا إنّه منذ صغره كان يتنقّل بين بلدانٍ عدّة ويعمل في مهنة المرتزقة، وإنّه يعرف لغاتٍ كثيرة، ولهذا أصبح مسؤولًا عن الاتصالات.
أمّا الجميلُ الذي قدّمه له وليُّ العهد، فكان – كما هو الحال مع الآخرين – المال. فقد أنقذه وليُّ العهد قبل أن يُباع عبدًا لتجّار الرقيق في القارّة الشرقيّة، بعدما خُدع على يدِ أحدِ أصحاب العمل.
“لكن، لن ألتقي بسموِّ وليِّ العهد مجددًا أبدًا.”
وعندما رأيتُ وجهَه الشاحبَ الخاليَ من الحماس، تذكّرتُ حديثًا دار بيني وبين فيليون قبل أن نأتي إلى هنا.
– “كنتُ أظنّ أنّ احتمالَ خيانةِ ليون لوليِّ العهد كبير، فقد كان دائمًا يبتعدُ خطوةً عن كلّ شيء، وكأنّه مستعدّ للهرب أوّلَ من يهرب عند وقوع الخطر. والناسُ الذين يتشبّثون بالحياة هكذا، هم غالبًا كذلك.”
ويبدو أنّ سببَ تأخّرِ التحقيق معه كان رفضَه الشديد تقديم أيّ معلومات تتعلّق بوليِّ العهد.
وقد أصرَّ على أن يكتفي بإعطاءِ وعدٍ بعدم ملاحقته لنا مجددًا، فاضطررنا – على ما يبدو – لاستخدامِ شتّى وسائل التهديد.
لكن هذه الطرق لم تنجح مع دميان أو مع الآخرين.
… وبما أنّ هذه الوسائلَ وحتى ما تلاها لم تترك أيّ أثرٍ واضح، فقد اقتنعتُ أخيرًا وخرجتُ من النُّزل مع فيليون.
ولم يبقَ أمامنا الآن إلّا ليون.
“أرجوكِ… صدّقيني…”
قالها ليون بصوتٍ خافتٍ يائس، وعيناه القلقتان تتساءلان: ‘لن تقتليني بعدما أعطيتكِ ما تريدين، أليس كذلك؟’
قيلَ إنّ عمره قريبٌ من عمرنا، لكنّي، وبصراحة، لم أكن سأستغرب لو قيل إنّه أكبرُ منّا بعشرِ سنوات.
لا بدَّ أنّ المشقّة التي عاشها منذ صغره تركت بصماتها عليه.
“حسنًا.”
أومأتُ برأسي ومددتُ يدي إليه.
“لكن قبل ذلك، أعطني يدك.”
ألقى نظرةً سريعة على فيليون الواقف خلفي، ثم تردّد قليلًا قبل أن يمدَّ ذراعه.
لمّا لامستُ معصمه وأطلقتُ قدرًا بسيطًا من طاقتي السحريّة، ظهر أثرٌ أحمرُ على جلده قبل أن يختفي سريعًا.
وعندما نظر إليَّ متسائلًا، قلتُ:
“لقد تركتُ عليك لعنة.”
“لكِـ… لكنكِ وعدتِ أن تطلقي سراحي…!”
“لا تقلق. ستعيش حياتك طبيعيًّا، ولن يمنعك ذلك من عملك كمرتزق. بل ستنسى بمرور الوقت أنّ هناك لعنةً أصلًا.”
ثم شددتُ قبضتي على معصمه.
“لكن، إن تحدّثتَ عنّا، ستموت.”
“…..”
“ولا حتى بالتلميح. الشرطان هما: أوّلًا، أن يخطرَ أحدُنا على بالك. ثانيًا، أن تعبّرَ عن ذلك بالكلام، مهما كان الشخص أو الظرف. إذا تحقّق الشرطان، ستموت.”
“…..”
“يبدو أنّك لا تصدّق أنّ هذا ممكن.”
أشاح ليون بنظره وقال:
“كنتُ قد سمعتُ أنّكِ لا تجيدين سوى سحر العناصر…”
“قلتُ ذلك فعلًا.”
هززتُ كتفي.
“لكن ألم أذكر أيضًا أنّ السحرةَ المتخصّصين في السحر العقلي لا يبوحون غالبًا بقدرتهم هذه؟”
“حين نلتقي مجددًا، سأرفعها عنك. وحتى ذلك الحين، عِشْ جيّدًا… ولا تنسَ أن تدعو لسلامتنا.”
لم يُبدِ أيَّ موافقةٍ أو رفض.
نهض متمايلًا، وانحنى قليلًا، ثم غادر.
راقبتُ ظهره المبتعدَ طويلًا، حتى سألني فيليون فجأة:
“كنتِ تكذبين، أليس كذلك؟”
“… اكتشفتَ الأمر بسرعة.”
“هذه ليست سوى تعويذةِ منعِ ضياع الأطفال، التي يضعها الأهل عندما يخرج أولادهم للعب. وهي تختفي بعد ساعات.”
“صحيح، فأنا أصلًا لا أجيد السحر العقلي كثيرًا.”
لمستُ نظارته قليلًا.
“وأفضلُ ما أجيده هو هذا.”
وبما أنّ فيليون لا يعرف أنّ ‘رايلي فوكس’ لا تستطيع استخدام السحر العقلي أصلًا، فقد استطعتُ قول ذلك بأريحيّة.
كنتُ في أيّام برج السحرة أُخفي عن الآخرين أنّني لا أستطيع سوى سحر العناصر، وكان ذلك مرهقًا أحيانًا.
ولماذا أخفيتُ الأمر؟ لأنّه لم يكن من الحكمة أن أُفصحَ عن نقاط ضعفي أمام الأعداء. ولو عرفوا، لسخروا منّي بالتأكيد.
“لكن، هناك فعلًا لعنات من هذا النوع. وحتى لو سأل الساحرُ الكبيرُ عن حقيقتها، فلن يستطيع نفي وجودها تمامًا.”
“أنا لم أسمع بها من قبل.”
“ذاك لأنّ ذاكرتك لم تكتمل بعد. هي تعويذةٌ معقّدة نادرًا ما تُستعمل، لكنّك ستتذكّرها لاحقًا. من المستحيل أن الكونت ديلاريك لم يعلّمكَ إيّاها.”
“وكيف تعرفين أنتِ بها؟”
“في الماضي… رأيتُ شخصًا أعرفه يستخدمها.”
وكان ذلك الشخص هو الكونت فوكس نفسه.
‘كان يفرض هذه اللعنة على أتباعه لإخفاء تجاربه البشريّة.’
ولكي أتفادى تلقّيها، اضطررتُ إلى التودّد إليه بكلّ طريقةٍ ممكنة، وبشكلٍ يثير الشفقة لمن يجهل السبب.
وقد نجحتُ في الهرب من دون أن يكتشف أمري، وسلّمتُ جميع الوثائق المتعلّقة به إلى إيريون.
‘مع أنّ تعويذته كانت أعقد بكثير من تلك التي شرحتُها لليون.’
كانت صعبةً لدرجة أنّني استسلمتُ وفشلتُ في فهمها.
حتى الكتب التي بحثتُ فيها لم تُفدني، مِما جعلني أعتقد أنّها من ابتكاره هو.
“على أيِّ حال، لن يقلقنا ليون لفترة. فلو حاول طلبَ إزالة اللعنة، لاضطرّ لذكرنا، وبالتالي سيحقّق الشرط ويموت، لذا لن يفعل.”
وبحلول ذلك الوقت كان قد ابتعد حتى صار نقطةً صغيرةً في البعيد، ولم يلتفت ولو مرّة.
“فلنرحل نحن أيضًا.”
وغادرنا المدينة معًا، على أمل أن نلتقي بـ ليون مجددًا “بسلام”.
***
قمنا بتعديل خطّة الهروب إلى الشمال، إذ كان من المؤكّد أنّ مرافقي وليّ العهد ينتظروننا عند الميناء الشرقي، كما أنّ الشمال هو المنطقة الوحيدة التي لا أقاربَ لوليّ العهد فيها.
‘فالشمال معروفٌ منذ القدم بقوّة استقلاله، وقد يتجاهلُ طلبَ المساعدة من وليّ العهد حتى لو وصل إليه.’
وسار طريقنا نحو الشمال كما كان من قبل؛ نقطع المسافاتِ على الخيل نهارًا قدر الإمكان، ونتناوب الحراسة ليلًا.
تخلّينا عن النُّزل، ومع أنّ البردَ كان يزداد يومًا بعد يوم، فقد جعلنا الأمرَ محتملًا باستخدام تعويذاتِ التدفئة.
كما أنّ قوى فيليون السحريّة كانت تعود إليه شيئًا فَشيئًا.
“أن تتمكّن من هذه الدرجة من التدفئة الآن يعني أنّك تعافيتَ كثيرًا، أليس كذلك؟”
“لا، هذا لا يتعدّى جزءًا صغيرًا من طاقتي.”
لم يكن راضيًا، فيما كنتُ أتساءل: ‘كم تبلغ طاقته الكاملة إذن؟’
وبما أنّ ذاكرته لم تعد كما كنّا نأمل، فقد وصلنا إلى الشمال دون أحداثٍ كبيرة.
وفي اليوم الأوّل هناك، قرّرنا المبيت في نُزل بمدينةٍ كبرى، إذ كنّا بحاجةٍ ماسّة لراحةٍ تحت سقف.
خصوصًا أنا، فقد كنتُ أتوقُ إلى حمّامٍ حقيقي، أمّا فيليون – الذي نشأ في بيئةٍ مرفّهة – فالأمرُ له أوكد، وإن لم يُظهره.
وقع اختيارُنا على نُزلٍ في زقاقٍ جانبيّ.
وحالما فتحنا الباب، رحّبت بنا امرأةٌ شابّة في عمرنا تقريبًا بصوتٍ مفعمٍ بالحيويّة.
لا بدَّ أنّها صاحبةُ المكان.
“أهلًا بكم!”
رغم أنّ مظهر النُّزل كان قديمًا، فقد كان نظيفًا ومُعتنًى به، حتى المنضدةُ الخشبيّةُ البالية بدا أنّها لُمّعت بعناية.
تحدّثتُ معها قليلًا عن وجودِ أماكن في الإسطبل، وعن الحمّام المشترك، وعن سعر الغرفة.
“سنتشارك الغرفة.”
“آه، إذن أنتما زوجان.”
“نـ… نعم، صحيح.”
تظاهرتُ بالسعال لأخفي توتّري، إذ لم أعتد على تمثيل دور زوجة فيليون.
“وماذا عن الطعام؟”
“هل يمكن أن نتناول شيئًا الآن؟ فنحن جائعان قليلًا.”
قلتُ ذلك من غير قصد، بعدما أمضينا أكثر من أسبوعٍ على الطعام الجافّ، لكن ما إن نطقتُ به حتى خطر لي أنّ فيليون قد لا يوافق.
فالتفتُّ أنظر إليه، لكنّه كان منشغلًا بفحصِ قاعة الطعام والردهة للتأكّد من عدم وجود أيّ مطاردين، ولم يكن قد سمع كلامي.
فشدَدته قليلًا.
“أليس كذلك؟”
لكن كلمة ‘عزيزي’ لم أستطع قولها، رغم يقيني أنّها ستكمل المشهد التمثيليّ.
ولحسن الحظ، التفت إليّ من دون الحاجة إليها.
وكان ذلك حين شعرتُ بالغرابة… آه، صحيح!
‘لقد دخل من دون نظارته!’
كان قد نزعها في التخييم بدعوى أنّها مزعجة، وطال الأمر حتى نسيتُ الأمر بدوري.
وحين التفتُّ، رأيتُ – كما توقّعت – أنّ الشابّة كانت تحدّق في ملامحه اللافتة، وعيناها تتحرّكان بينه وبيني بسرعة.
هل يمكن أن يكون…
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 61"