الفصل 6 :
“أنتَ… أنتَ حقًا لا تعرفني؟”
لعلّ نظراتي كانت جادّةً للغاية، إذ بدأ فيليون يُفكّر بتأنٍّ.
“أكنّا قد التقينا في الزقاق في المرة الماضية؟”
“لا.”
“أم في الحانة؟”
“ولا هناك.”
“هل ربما في دار المزاد… لا، عفوًا.”
ما الذي كان يفعله في دار المزاد حتى أوقفَ نفسَه؟
عمومًا، هَذا الأحمق لا يزال محاطًا بالكثير مِن النساء، على ما يبدو.
“أعتذر. لا أتذكّركِ على الإطلاق.”
في تلكَ الأثناء، يبدو أنَّ دايل قد عاد.
“هيا نتحرّك الآن!”
“إذًا سننطلق.”
عندما تحدّثت بريدين، التفت إليها فيليون، واضطررتُ مجددًا إلى تركه يمضي.
لكنّي لم أستطع أنْ أتبعه. كنتُ مذهولةً للغاية، فلَمْ أملك سوى أنْ أحدّق في ظهره وهو يبتعد.
فيليون إلفيرت، لا تقُل إنكَ…
“فقدتَ… كلّ ذاكرتكَ؟”
***
“نعم، يُقال إنّه مصابٌ بفقدان ذاكرة.”
قالت بريدين ببساطة وهي تُنزل الأمتعة مِن العربة.
بعد عودة دايل، وصلنا إلى قرية ما في المساء.
كان النُّزُل مليئًا بالمرتزقة مثلنا، أتوا لاصطياد الوحوش، لكن لحُسن الحظ، تمكّنا مِن الحصول على غرفة.
وبمجرّد أنْ دخل هيميل إلى غرفته ليأخذ قسطًا مِن الراحة، سألتُ بريدين بخفوت.
“هل فقد ذاكرته فعلًا؟ لماذا؟”
“يقول إنّه لم يكُن يعرف شيئًا منذُ أن التقيناه. دايل أراد أنْ يسلّمه إلى الحرس، لكن فيليون ترجّاه أنْ يأخذه معه وقال إنّه سيفعل أي شيء.”
“قال إنّه سيفعل أيَّ شيء…؟ هو؟”
نظرتُ إليهِ بذهول، فرأيتُ فيليون ودايل يقفان معًا.
كانا يتبادلان الحديث دوّن أنْ يصعدا فورًا. لَمْ أتمكّن مِن سماع صوتهما.
‘أتفهّم أنَّ دايل يتصرّف مع فيليون بلا احترام.’
ففيليون هو مَن يحمل الأمتعة، وكان يقف وهو يُنكس رأسه بأدبٍ شديد.
لم يسبق لي أنْ رأيتُ فيليون يتصرّف بهَذهِ الطريقة مع أيِّ شخصٍ آخر.
فحتى مع كبار برج السحر، أو مع جدّه من جهة أمّه، أو حتى مع معلمه الكبير سيريوس، كان دائمًا يتصرّف بتكبّر.
“لكنّه ليس غبيًا تمامًا. يبدو أنّه فقط فقد ذكريات ماضيه. لا يزال يعرف الكثير من الأمور. وهو بارعٌ جدًّا في استخدام السيف أيضًا.”
“بارعٌ… في السيف؟”
“نعم. يستطيع القتال حتى مِن دونه، لكنّه يُصبح خارقًا عندما يستخدمه. رأيتُه يُقاتل وحوشًا تُحاصرُه بمفرده ويفتك بهم، كان مشهدًا خياليًّا بحق…”
“لماذا!!”
صرختُ دوّن أنْ أشعر، فالتفت إليّ الجميع في الإسطبل، بما فيهم فيليون ودايل.
نظرت إليّ بريدين بعينين مُتفاجئتَين، ومع ذَلك أجابتني بلطف.
“لأنّه… تعلّم ذَلك قبل أن يفقد ذاكرته. وتلكَ المهارة راسخةٌ في جسده.”
صحيح! أعلم أنّه تعلّم استخدام السيف. فقد كان شخصًا يُجيد كلّ شيء، ويُجيد استخدام جسده.
لكن، لحظة! إنْ كانت هناك مهارةٌ انطبعت في جسده، أليس مِن المفترض أنْ تكون السحر؟ ما هو عنوان الرواية أصلًا؟!
إنّهُ سيد برج السحر! سيد برج السحر!!
‘أنْ ينسى السحر أيضًا!’
شعرتُ برغبةٍ في الركض إليه وصفعه على ظهره.
أيُّها الأحمق! كيف أهملتَ دماغك حتى نسيت كلّ ذلك؟! أنتَ تملك طاقةً سحرية هائلة!
أنا مَن ستُجنّ مِن شدّة الأسى! تلكَ القدرة الثمينة! أيُّها الأبله!
“هل تعرفينه؟”
“لا!”
لكن، لم أكُن أرغب في أنْ أكون مَن يُعيد إليه ذكرياته.
كنتُ أشعر أنَّ فقدانه لتلكِ القدرة السحرية خسارةٌ عظيمة، وفي الوقت نفسه كنتُ أحتقره قليلًا على ما أوصله إلى هذه الحالة.
صحيح أنَّ مشهد انحنائه لشخصٍ أضعف منه أثار في قلبي قليلًا، قليلًا جدًا مِن الشفقة…
‘لكنّ عينيه لم تُظهر أيَّ أثرٍ لمعرفة مَن أكون.’
مهما قلتُ، فلَن يصل إليه شيء.
‘وقبل كلّ شيء، أنا خرجتُ مِن الرواية الأصلية أصلًا.’
إنْ كان لا بدّ لشخص ما أنْ يُعيد ذاكرته، فذَلك سيكون دور إيريون حتمًا.
لا أعلم ما الذي حدث بينهما، لكنّ الرواية الأصلية قد كُتبت أنّهما سيتزوجان في النهاية.
لذا، لا حاجة لي بأنْ أتدخّل. ستنقذه إيريون يومًا ما.
“حقًا لا تعرفينه؟”
“لا أعرفه إطلاقًا.”
“همم، صحيح؟”
أومأتُ برأسي مجددًا.
لو علمت بريدين أنَّ ذلك الرجل هو فيليون إلفيرت، لسلّمته إلى برج السحر فورًا.
ورغم أنّني في حاجةٍ ماسّة للمال… إلّا أنّني لَمْ أرغب في دفع فيليون إلى الهاوية مقابل ذَلك.
كشخصٍ تجسد في شخصية، لديّ على الأقل هَذا القدر مِن الوفاء.
“فقط، كح، كنتُ أتساءل. فقط فضولٌ عن سبب اتباعهِ لدايل إلى هذه الدرجة.”
“صحيح، أنا أيضًا استغربتُ الأمر في البداية. ظننتُ أنّه تعرّض لغسيل دماغ باستخدام المخدّرات أو السحر.”
“……”
“لكن تبيّن أنّ الأمر ليس كذلك أبدًا. إنّه فقط يُخلص لدايل بإخلاصٍ أعمى. لو طلب دايل منه أنْ يُلقي بنفسه مِن فوق جرف، لفعلها.”
“هل يطلب منه مثل هَذهِ الأوامر؟”
“لو احتاج إلى ذَلك، فسيفعل.”
“……”
“ما أقول إلّا أنّه حظٌّ سيّء. لقد تعلّق بدايل تحديدًا.”
…لكن، في النهاية، هَذا ليس مِن شأني.
إيريون ستتدبّر الأمر.
وربّما ما يحدث الآن هو جزءٌ مِن فصل إضافي لَمْ أقرأه في الرواية. أو قرأتُه ونسيتُه!
لا داعي لأن أقلق على الإطلاق…
“ربّما هو نوعٌ مِن الصدمة النفسية.”
قالت بريدين فجأة.
“دايل لم يكُن أوّل مَن التقى به الكلب الأسود. لقد كان هناك مَن عامله بلُطف، ومَن حاول مساعدته. لكنّه تعلّق بدايل فقط.”
“لماذا…؟”
“أظنّ أنَّ صاحب الكلب الأسود السابق كان يُشبه دايل كثيرًا.”
بصوتٍ منخفض للغاية.
“قد لا يكون مالكه. ربما كان مِن العائلة أو الأصدقاء… أو، ربما حبيبة.”
فكّرتُ مباشرة في إيريون.
قبل خمس سنوات، كانت إيريون، ملكة المرتزقة، قد أصبحت أكثر قوّةً وصلابة… لكنّها لَمْ تكُن تشبه هَذا المنحط دايل بأيِّ شكلٍ مِن الأشكال.
ألوان الشعر الوردي والأحمر مختلفةٌ تمامًا. حتى لو فقد ذاكرته، فهو ليس أحمقًا ليخلط بين الأمرين.
في الواقع، لون شعره يُشبه إلى حدٍّ كبير لون شعر عائلة فولكس…
‘ماذا؟’
تجمّدتُ في مكاني.
شعرٌ أحمر. نظّاراتٌ كبيرة بتصميم ريفيّ. والمهنة؟ ساحر. هَذا لا يُشبه إيريون.
بل يُشبه تمامًا…
‘رايلي فولكس قبل خمس سنوات…’
في تلكَ اللحظة، تردّدت في ذهني أصواتٌ سمعتُها قبل أيام:
— يقولون إنّه استخدم سحرًا محرّمًا ليُنقذ رايلي فولكس.
— ذَلك لأنّ فيليون إلفيرت كان يُحبّ رايلي فولكس، أليس كذلك؟
وفي الواقع، قالت بريدين أيضًا.
“على أيِّ حال، قبل أنْ يفقد ذاكرته، كان لدى الكلب الأسود شخصٌ عزيزٌ عليه. وأظن أنَّ ذلك الشخص قد تخلّى عنه.”
“……”
“ثم بدأ الكلب الأسود يبحثُ عنه… إلى أن…”
ضربت بريدين مؤخرة رأسها بخفة. وكأنها تصف شعورًا بضربةٍ عنيفة على الرأس.
“ولهَذا السبب، فهو يُطيع دايل مهما قال. ربّما يخاف أنْ يُتخلّى عنه مجددًا.”
يتخلّى عنه؟
أنا لَمْ أتخلَّ عنه. لأنّه لَمْ يكُن لي أصلًا.
وفوق ذَلك، إنْ أردنا الإنصاف، فالبادئ بالخيانة كان فيليون هو مَن…
“هل أنتِ بخير، ريكس؟ تبدين شاحبة.”
“أه؟ أ-آه… لا، أنا بخير.”
أنا بخير. لا يوجد سببٌ لأكون بخيرًا.
كما قلت، لَمْ أُلقِ به. لَمْ نكُن عائلة ولا أصدقاء، وبالتأكيد لسنا حبيبين.
لكن، رغم ذَلك، لَمْ أستطع التخلّي عن التفكير في فيليون.
كنتُ أعضّ شفتي مِن شدّة الضيق، وفجأة…
تذكّرتُ شيئًا.
…قبل دخول إيريون إلى برج السحر بقليل.
في ذلك اليوم أيضًا، أصرّ فيليون على أنّني أُحبّه. وأنا كالعادة أنكرت.
ثم طال الحديث بيننا قليلًا.
— كما أقول دائمًا، أنا لا أحبّكَ! لأنّكَ أبعد ما تكون عن نوعي المفضّل!
— نوعكِ المفضّل؟
— نعم!
— وما هو نوعكِ المفضّل؟
كان يُحدّق بي بوجهٍ جدّي، على غير عادته. فقرّرتُ أنْ أُجيبه بجدّية أيضًا.
— الشخص الذي يُصدّق كلّ ما أقول.
— هَذا كلّ شيء؟ بسيطٌ جدًّا…
— وأيضًا، الشخص الذي يُوافقني في كلّ شيء مهما قلت. مِن دوٍن اعتراض، ويرى أنَّ آرائي هي الأهمّ دائمًا.
— هاه، أتبحثين عن عبد؟
— وماذا في ذلك؟ هل لديكَ اعتراض؟
ولأكون واضحة، في ذَلك الوقت والآن أيضًا، هَذا ليس حقًّا نوعي المفضّل.
كنتُ فقط أُلفّق كلامًا لأنفي عنه ما قاله مِن أنّني أحبّه.
ذَلك الافتراض السخيف بأنَّ “رايلي تُحبّ فيليون”.
— وقبل كلّ شيء، يجب ألّا يفرض رأيه عليَّ. مثلما تفعل الآن.
— ……
— ولو كان مُجرد مزاح، فإنني أكرهه! لا أريدُه أبدًا!
قلت ذَلك بابتسامة واثقة.
— ما رأيكَ؟ ألسنا مختلفين تمامًا؟
— مممم…
ابتسم هو الآخر.
— سنرى ذَلك لاحقًا.
وكانت تلكَ الجملة تبدو لي في حينها كأنّه يقول:
“أتظنين أنّكِ ستُقاومين الوقوع في حبّي؟”
وقح.
لكنها لم تكُن جملةً تستحق أنْ أتذكّرها بهَذا الشكل.
ففيليون كان وقحًا بهَذا الشكل طوال خمس سنوات، لهَذا نسيت.
ولكن، ماذا لو…
ماذا لو أنَّ فيليون لَمْ ينسَ ذَلك اليوم؟
‘لا يكون السبب في اتباعه لدايل… هو هذا؟’
في لحظة من الذهول، وضعتُ يدي على فمي أُخفي صدمتي.
فجأةً، دوى صوتٌ عنيف:
“قلها، بسرعة.”
كان دايل يُحدّق بفيليون بنظرةٍ حادّة.
“هل أضربك أكثر حتى تعود إلى رشدك؟”
***
كان دايل نويان ينوي الصعود إلى غرفته فورًا.
فاليوم كان مُرهقًا بشكلٍ خاص، ولم يكُن يهمّه ما الذي يفعله هيميل، كان يريد فقط أنْ ينام.
لكنّه لم يكُن ليتردّد لحظة لو لم تكُن تلكَ الفتاة الشقراء بجانب بريدين تُلقي عليه نظراتٍ غريبة.
بل الأصح، كانت تُحدّق في الكلب الأسود.
حتى حين عاد من قضاء حاجته، وجدها تُحدّق فيه.
“كنتَ معها قبل قليل. عن ماذا تحدّثتُما؟”
المشكلة كانت أنَّ عبده ظلّ صامتًا على نحوٍ غريب.
مرّر يده في شعره بضيق، وما إنْ نظر إلى الفتاة الشقراء مرّة أخرى حتى تلاقَت أعينهما.
كانت ملامحها توحي بأنّها على وشك الإغماء مِن شدّة الصدمة.
دايل، وقد شعر بشيءٍ مِن الحرج، أخفى يده التي صفع بها الكلب الأسود خلف ظهره.
عندها فقط، بدأ فيليون يتحدّث:
“سألتني عن سبب وجودي هنا.”
“…ثم؟”
“وسألتني إنْ كنتُ أتذكّرها.”
تنفّس دايل بعمق.
“ما هَذا؟ هَذا يحدُث طوال الوقت. توقّعتُ شيئًا أكثر جدّية.”
في خلال عامٍ مِن امتلاكه للكلب الأسود، اقترب منه الكثير مِن الأشخاص.
أحيانًا بدافع الشفقة، وأحيانًا برغبةٍ في امتلاكه.
كثيرون أبدوا اهتمامهم به.
وكان فيليون دائمًا يرفضهم جميعًا بلا تردّد.
وفي إحدى المرات، حين أزعجوه كثيرًا، طلب منه دايل أنْ يُخفي وجهه، ففعل دوّن أنْ ينطق بكلمة.
لذا، لم يشعر دايل بأنَّ هَذا اللقاء يُشكّل تهديدًا.
بل شعر أنَّ الكلب الأسود تجاوز حدوده هذه المرة.
“أتراك حافظتَ على السرّ وكأنّه شيءٌ خطير؟ هِذا يُثير أعصابي.”
“أعتذر.”
كان دايل يُفكّر فيما إذا كان عليه أنْ يركله أمام الناس أم لا…
لكن فيليون أضاف فجأة.
“لكن… هَذهِ المرّة، لَمْ يكُن الأمر كذبة.”
دايل اتّسعت عيناه في دهشة.
“هل التقيتَ ريكس إيميل مِن قبل؟”
“لا، لا أتذكّر شيئًا. ولكن…”
قال ذَلك، ثم التفت ببطء نحو المرأة الشقراء.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 6"