الفصل 58 :
حتى بعد أن خرجت من الغابة، لم أستطع التخلّي عن تلك الفكرة.
‘هل أُفْرِطت في التفكير؟’
لكن، هل هناك شيء آخر يمكن أن يفسّر الوضع الحالي؟
‘في البداية، ظننته نوعًا من الوفاء كونه رفيقًا.’
حين غاب هيميل لبعض الوقت، كنا نلتقي كل يوم. وخلال الرحلة مع ولي العهد خارج العاصمة، بقينا ملتصقين طوال الوقت.
كانت فترةً لا بد أن تنشأ فيها مشاعر الألفة. وفوق ذلك، خانني ولي العهد واثنان من أصدقائي الذين وثقتُ بهم، فلا بد أنني بدوت في نظره مثيرةً للشفقة.
لذا، قراره بمرافقتي قد يُفسَّر كنوعٍ من الوفاء…
‘لكن، أليس غريبًا أنه عاد؟’
قال إنه سيفعل كل ما أطلبه، بل حتى ناداني بـ سيّدتي.
فيلّيون الذي أعرفه، لم يكن أبدًا ليقول مثل هذا الكلام.
ربما حين فقد ذاكرته كان سيقولها، لكن الآن، أليس قد استعاد جزءًا من ذكرياته حتى سن السابعة عشرة؟
فوق ذلك، هو ليس من النوع الذي يعود بعد أن يُقال له ‘لا حاجة لك’. هو يملك كبرياءً لا يُستهان به.
هل يمكن أن يكون السبب هو تأثير اللعنة وفقدان الذاكرة؟ إن كان الأمر كذلك، فعودته غير منطقية.
ألم يكن أول من رآه عند استيقاظه هو دايل؟ إذًا، لو كان هناك تأثير، لكان يجب أن يكون نحو دايل.
‘وعلى ذكر دايل… لم يذكره منذ زمن، أليس كذلك؟’
يا إلهي. اكتشفت أمرًا غير طبيعي آخر.
فيلّيون لم يعد يكترث بدايل. حتى بعدما تلقى صفعةً منه قد ناداه بـ سيّدي… الآن يبدو أنه نسيه تمامًا.
وكأنه لا يهمه إن عاد دايل إلى الحياة أم لا، وكأنه على استعدادٍ لمرافقتي حتى القارة الشرقية!
‘ثمّ هناك ذلك الحاجز…’
داخل الحاجز الذي فُكّ بكلمة مرورٍّ عبثية، كانت كل أغراضي محفوظة.
تمامًا كما تركتها قبل خمس سنوات حين غادرتُ الغرفة. لم يُصبها الغبار، بل حُميت بسحر حافظ.
تم تعيين كائن غامض يُدعى ‘حارس البوابة’ لحراستها، وتم تعزيزها بعدّة حواجز وهمية، بل واستُخدم جسد شيطان لاستدعاء وحوش لحمايتها.
مع أنه لم يكن يملك أي رغبةٍ في التملك الماديّ!
لو جمعنا كل هذه الأمور معًا…
‘هل كان يحبّني منذ خمس سنوات؟’
حاولت أن أبحث عن أسبابٍ أخرى، لكن لم يخطر ببالي شيءٌ آخر.
بصراحة، فكرت بذلك حين دخلت الحاجز، لكنني كنت مشغولةً جدًا فلم أتمكن من التعمّق في الأمر.
لكن مع كل ما يجري الآن، لا يمكنني إلا أن أعود للتفكير فيه.
ربما، لأنه أحبني حينها، فهو الآن لا يريد أن يبتعد عني.
‘هل حقًا سرق الكتاب المحرّم ليعيدني للحياة؟’
أن يُحبّني إلى هذا الحد… لا أقول إنني تأثرت، بل كنت مصدومةً حتى فقدت الكلمات. لماذا لم يُحسن إليّ وأنا على قيد الحياة؟!
كم سنةً حاولتُ التقرّب منه؟!
ثم، حتى لو كنتَ قد أحببت شخصًا، هل من المعقول أن يستخدم من أجله كتابًا محرّمًا؟! إنه كتابٌ ‘مُحرم’! مُحرم، يعني لا يُستخدم!
هذا يعني أنه يجب ألا تستخدمه، فلا تستخدمه!
“ريكس، لقد وصلنا.”
بينما كنت أُكزّ على أسناني غارقةً في الذكريات التي انبثقت كالبانوراما، تحدث فيلّيون فجأة.
رفعت رأسي، فظهرت منازل مغمورة بالظلام.
أولى المدن على الطريق الذي رسمته قبل الانطلاق.
“ماذا سنفعل؟”
لكنني لم أحدّد ما إذا كنا سنبيت هناك أم لا. كانت هذه أول مرة أُطارد فيها، لذا لم أكن واثقةً من القرار.
فلنلخّص الوضع.
مطاردونا لا بد أنهم لا يزالون غارقين في النوم. أسرعهم قد يستيقظ صباح الغد، وأبطؤهم بعد الظهر.
إذًا، أمامي خياران:
إما أن نواصل السير الآن لنبتعد قدر الإمكان بينما هم نائمون، أو أن نرتاح ونحفظ طاقتنا.
في البداية فكرت أنه من الأفضل أن نستغل الليلة الأولى لنبتعد قدر الإمكان. لكنني أدركت أن الفرص للراحة لاحقًا ستكون نادرة.
حين يعلم ولي العهد بهروبي، سيصدر أمر ملاحقة في كافة أنحاء المملكة، وسنُجبر على التخييم طوال الرحلة.
قد تكون هذه آخر ليلةٍ ننام فيها في سريرٍ حقيقي.
‘حتى الخيول بحاجةٍ للراحة. لقد ركضت طوال نصف اليوم.’
فكرت في تبديل الخيول بكل مدينة، لكن في وضعنا الحالي، حيث يجب أن نخفي هويتنا، من الصعب البيع أو الشراء.
التجار قد يتذكرونني أو يتعرفوا على فيلّيون ويكشفوا أمرنا.
وضغطت على رأسي المتألّمةً بيدي، ثم التفتّ إلى فيلّيون.
“دعنا نسترح الليلة. ونغادر صباحًا باكرًا.”
توجهنا إلى نُزل متواضع في زاوية المدينة.
فيلّيون لم يكن ليرحب بالأمر، لكن ما باليد حيلة، علينا التوفير قدر الإمكان.
ولم يكن الداخل بالسوء المتوقع. الجدران والأرضية الخشبية بدت قديمة، لكنها نظيفة ومحافظة عليها.
وبينما كنا نتلفّت عند المدخل، اقتربت منا امرأةٌ تبدو أنها صاحبة النُزل.
“أوه، زوجان جميلان! أنتما في رحلة عسل؟”
“آه… نـنعم…”
“كم مضى على زواجكما؟”
فقدت النطق للحظة.
حقًا، في هذا الوقت المتأخر، رجل وامرأة يدخلان معًا؟ لا بد من إساءة فهم الموقف.
ابتسمت محاولةً إخفاء ارتباكي.
“لم يمض وقتٌ طويل.”
“ذكرتني ببداية زواجي مع زوجي. كنتُ صغيرةً في مثل عمركِ.”
وظلت تتحدث بحماس لبعض الوقت، قبل أن تدلنا على غرفتنا.
كنا قد ناقشنا مسألة استخدام غرفةٍ واحدة. قلنا إن الأفضل أن نبقى معًا تحسبًا لطارئ. كما أنه سيوفر المال.
“لكن لم نتفق على دور الزوجين!”
رغم أنني لم أصحّح سوء الفهم، إلا أنني شعرت بالحرج حين دخلنا الغرفة.
وحين غابت خطوات السيدة، تحدثت كأنني أبرر الموقف:
“لا يمكنني استخدام الهوية التي كنت أستعملها مع ولي العهد، أليس كذلك؟ سيتعقّبنا.”
“نعم، معكِ حق.”
قالها بوجه هادئ للغاية، وكأنه يقول ‘أنا لا أرى في الأمر مشكلةً من الأساس.’
أحيانًا، أتساءل إن كنت أنا من يبالغ في كل شيء.
‘هل ينوي حقًا مرافقتي إلى القارة الشرقية؟’
تظاهرتُ بترتيب حقيبتي، بينما نظرتُ بطرف عيني إلى فيلّيون وهو يغسل وجهه في حمّام الغرفة.
قد لا يكون الأمر بصعوبة استخدام كتابٍ محرم لإعادتي، لكنه ليس بالأمر العادي أيضًا.
وقد لا يعود بعدها أبدًا. أما أنا، فلا أرغب بالعودة للقارة الغربية مجددًا. ذكرياتي السيئة كثيرة.
لكن فيلّيون… لعلّ الأمر مختلفٌ بالنسبة له.
‘ربما لن يرافقني حتى النهاية. قد يرغب برؤية عائلته بعد استعادة ذكرياته.’
وحين وصلت إلى هذه النقطة، وجدت نفسي أتوصّل لاستنتاج.
سنبقى معًا لبعض الوقت بعد الآن. لكن عندما نصل إلى الميناء، يمكننا الافتراق بأجواء ودّية. سأقول له ‘شكرًا لوصولك معي’، وسنضحك ونفترق.
وربما أقطع وعدًا فارغًا بلقائنا مجددًا يومًا ما.
“لكن إن أصرّ على مرافقتي حتى النهاية…”
ماذا سأفعل؟ لا أعلم. وجهي يزداد احمرارًا.
‘لعلّي أترك التفكير لذلك الحين.’
… أعلم أنني أبدو مترددة. لكنني حقًا لا أعلم ما يجب علي فعله!
تنهدتُ تنهيدةً ثقيلة من الضيق، وفي تلك اللحظة، دخل فيلّيون الغرفة.
أغلقت الحقيبة، ووقفت قائلة:
“نم أولًا.”
بدت عليه علامات عدم الفهم، فأضفت شرحًا:
“اتفقنا أن نأخذ نوبة حراسة بالتناوب. نم الآن، وسأوقظك بعد خمس ساعات، وحينها سيكون دوري في النوم.”
كنا قد ناقشنا ذلك في الطريق، فقد يستيقظ مطاردونا أبكر مِما توقعت.
لكن فيلّيون، حتى بعد أن رتّبتُ له الفراش، لم يتحرك. وقال بوجه جاد:
“لا بأس، لا أحتاج إلى النوم.”
“هاه؟”
“استريحي كما تشائين. سأقوم بالحراسة.”
“ما هذا الكلام؟ نسّقنا أن نتناوب.”
“لست متعبًا.”
“الخيول نفسها قد سقطت من التعب! لا تتعنت، نم الآن، لا وقت نهدره.”
“لكن…”
“نَمْ. هذا أمر.”
ظننت أنه سيمانع، لكنه استجاب فعلًا. تنهد بعمق، ثم دخل تحت الغطاء.
أمرٌ مدهش فعلًا. لو تحدّث إليّ الحصان اليوم قائلاً: “
‘أنتِ فعلاً أسوأ فارسة، تعلمين؟’، ما كنت سأُصدم بقدر هذا المشهد.
لكنه لم ينم مباشرة. كان يُحدّق بي بعينيه البنفسجيتين الجميلتين.
شعرتُ أنه قَلِقٌ بعض الشيء.
“…هل تود أن أمسك يدك؟”
خرج الكلام من فمي دون تفكير.
فيلّيون أومأ.
ما هذا الجنون؟ ومع ذلك، جلست على السرير إلى جانبه.
مددت يدي، فأمسك بها وابتسم بخفة، لا أعلم ما الذي يفكر فيه.
حتى ضحكته أصبحت مألوفة. كان جامدًا في البداية، لكنه تغيّر تمامًا بعد أن خرج من الحاجز بمفرده.
مرّ عليّ طيف وجه فيلّيون الذي كنت أعرفه مراتٍ عديدة.
وقلبي أخذ يخفق بقوة. لأن فيلّيون الذي أعرفه، دائمًا ما يفعل ما لا أتوقعه.
وخصوصًا حين يرمقني بتلك النظرات…
“إن كنتِ ما زلتِ ترغبين في الرحيل بمفردكِ… وفي إرسالي للنوم ثم الهرب منّي…”
ثم ماذا؟
“فمن الأفضل أن تتخلي عن تلك الفكرة الآن.”
قطبت جبيني قليلاً.
“…هذا يعني لن أتمكن من دخول الحمّام في الخمس ساعات القادمة؟”
“سأدعكِ تذهبين. وسأنام جيدًا أيضًا.”
قال ذلك بعينيه المُتعبتين، وابتسامةٍ خفيفة تعلو ملامحه.
وفي اللحظة التالية، أمسك بيدي بقوة أكبر.
“لكن، إن تركتِني، فستتعبين أكثر يا ريكس.”
“أتعب أكثر؟”
“لأنكِ ستُلاحقين من شخصٍ آخر أيضًا. وربما ليس شخصًا واحدًا فقط.”
يعني ذلك أنه سيستخدم كل الوسائل، وربما يتعاون مع ديلّايك أو إلفيرت ليجدني مجددًا.
أمرٌ مُرهق، بل مُرعب.
“…لَن أتركك.”
‘على الأقل، ليس قبل الوصول إلى الميناء.’
سحبت الغطاء نحوه، وقلت:
“نم بسرعة.”
ربّتُ على كتفه برفق، فابتسم فيلّيون.
ثم شدّ على يدي وهمس:
“أثق بكِ.”
وما لبث أن أغمض عينيه، ليسود الغرفة صوته الهادئ في نومه.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 58"