الفصل 45 :
“لقد كان هناك قاتل لم يمت، فاستطعنا استجوابَه وانتزاعَ اعترافٍ منه. لكن يبدو أنّه عانى كثيرًا، فمات سريعًا بعد ذلك.”
“يبدو أنّ السيّد الشاب باتريك جاء إلى هنا بنفسه. قال للخدم إنّه ذاهب إلى المرحاض، ثم تسلّل خارجًا.”
“…ربّما لم يكن السيّد الشاب يعلم أنَّ السيّد فيليون كان ينام أحيانًا مع الكونت.”
رغم أنّه كان يستمع إلى تقارير رجال جدّه، لم يستطع فيليون التّوقّف عن تذكُّر تلك البطّانية الملطّخة بالدّماء. لم تغادر تلك الصّورة ذهنه.
مع أنّه لم يرها إلّا للحظةٍ خاطفة قبل أن تسحبَه والدته بعيدًا.
“سمعتُ أنّ ابنة الكونت فولكس تُظهر تفوّقًا في برج السّحر. ويُقال إنّها مناسبة لتكون رئيسة البرج القادمة.”
“لهذا ربّما أرادوا التّخلّص من السيّد الشّاب قبل أن يُصبح تهديدًا.”
والدة فيليون وجدُّه لم يستطيعوا هم أيضًا التّعافي من الصّدمة بسهولة.
خاصّةً الجدّ، فقد وقع في اكتئابٍ شديد بسبب شعوره الهائل بالذّنب. كثيرًا ما كان يبكي وهو يُمسك بفيليون.
“أعتذر، فيليون. لقد عرّضتُكَ للخطر…”
“لا تبكِ يا جدّي.”
“كان ينبغي أن أكون أكثر حذرًا…”
ومنذ ذلك اليوم، لم يتوقّف الكونت فولكس عن إرسال القتلة.
ورغم أنّه سبق وأن تعرّضوا لحادث، ولم تقع مذبحةٌ أخرى، إلّا أنّ أفراد عائلة ديلاريك أصبحوا منهكين نفسيًّا، وهو أمرٌ طبيعيّ.
والدا فيليون، اللذان كانا يتشاجران كلّما التقيا، لم يتشاجرا هذه المرّة، بل تناقشا سويًّا بهدوء.
حتى والده الذي كان دومًا هادئًا، صار يضغط على أسنانه غضبًا.
“لو لم يكن هناك فولكس فقط…”
تلك الكلمة فولكس، ذلك الكائن الغامض الذي لطالما رُمي به في خلفيّة وعيه، بدأ يأخذ شكلًا واضحًا في داخله شيئًا فَشيئًا.
وتعلّم فيليون السّحر ليبقى على قيد الحياة.
كان ذلك هو الطّريق الوحيد لحماية نفسه، ولطمأنة عائلته.
لقد امتلك موهبةً عظيمة، وبفضل الإجراءات الأمنيّة المشدّدة، لم يَعُد القتلة يظهرون، لكنّ قلبه لم يعرف الطّمأنينة ولو لمرّة.
تعلّم السّحر وهو يضغط على أسنانه، تحت وطأة ضرورة البقاء حيًّا.
حتى عندما امتدحته العائلة على إنجازاته المذهلة، وحتى عندما بدأت خالاته المزعجات يرينه فخرًا للعائلة ويغفرن له غروره ويعبدنَه.
لم يُرخِ فيليون حذرَه ولو للحظة.
‘لا يجب أن يروني سهلًا.’
فولكس كان عدوًّا، وكان خصمًا، وكان هدفًا للانتقام.
وبهذا الشّعور، دخل برج السّحر.
في اليوم التّالي، اقتربت منه تلك الفتاة قائلة:
“مرحبًا؟ أنا رايلي فولكس.”
***
كان قد سمع كثيرًا عن رايلي فولكس من أقاربه.
شَعرٌ أحمر مُبعثر كأنّه احترق، وبشرةٌ شاحبة كالأشباح.
عيناها المرفوعتان من الزّاويتين تُضفيان عليها جوًّا باردًا، وطولها الزّائد قليلًا جعلهم يقولون إنّها تشبه ساحرةً تأكل الأطفال في الأساطير.
لكن…
‘إنّها صغيرة.’
رغم أنّها أطول قليلًا من أقرانها، إلّا أنّها كانت أقصر منه بكثير.
وعيناها حين تلاقتا بعينيه لم تُشبها الطّحالب، ولم تشعراه بالنّحس. لم يكن صوتها حادًّا كمَن يخدش السّبّورة.
“أعلم أنّ عائلتَينا ليستا على وفاق، لكنّي أودّ أن نكون على علاقةٍ جيّدة. أنا جادّة.”
“…تريدين التّقرّب منّي؟”
“نعم.”
لكنّ الأمر أزعجه.
منذ أن مات ابن عمّه الصّغير في غرفته، لم ينعم فيليون بلحظة راحة.
كان يخاف أن ينام فلا يستيقظ، وكان يرتعد من القلق أن يُقتل والداه أو جدّه أثناء حمايته. كان ينام كأنّه يُغمى عليه.
هذا القلق تحوّل لاحقًا إلى هوسٍ بالسّحر، وبهذا استطاع أن يصل إلى مستوى والدته في السّحر وهو في الخامسة عشرة فقط.
وأوصى جدّه ألّا يخبر أحدًا بأنّه يدرس السّحر.
خاصّةً فولكس.
-“أليس من الأفضل أن تكون هزيمتهم على يدي أكثر إذلالًا حين لا يتوقّعون ذلك؟”
وقد تأخّر عمدًا في دخول برج السّحر مقارنةً بأقاربه، رغم أنّ العائلة لم تكن تفتقر إلى الأساتذة الماهرين.
لكنّ الطّريق لم يكن سهلًا. فقد واجه أحيانًا حواجز لم يستطع اجتيازها رغم موهبته الكبيرة وقوّة سحره الفطريّ.
وكان يتذكّر فولكس في كلّ مرّةٍ يواجه فيها تلك العوائق. يتذكّر غرفة النّوم الملطّخة بالدّماء.
كيف… بعد أن فعلوا هذا…
كيف لها أن تتصرّف بكلّ هذه البراءة.
وتجرؤ على قول هذا الكلام…
“الأشخاص الذين أُبقيهم قريبين نوعان فقط. إمّا أقوى منّي، أو يطيعون أوامري.”
لم يكن ينوي أن يقول شيئًا، لكنّ كلماته خرجت بسخريّة.
رغم أنّها قالت إنّها صادقة، لم يصدّقها، لذا لم يشعر بأيِّ ذنب.
كان على وشك أن يبتعد، لكنّها قالت:
“وماذا لو كنتُ أقوى منك؟”
أشار فيليون بصمتٍ برأسه نحو ساحة التّدريب. لم يُرِد التّحدّث معها أكثر، فعمّ الصّمت طريقهما.
لم يشعر بالخوف ولا القلق. الكلّ كان يقول إنّه لا يوجد من يُجاريه بين أقرانه، وهو نفسه كان واثقًا من ذلك.
وفي ذلك النّزال…
كاد فيليون أن يخسر لأوّل مرّة في حياته.
“أ… كيف؟”
قالت رايلي فولكس وهي تجثو على ركبتيها بوجهٍ غير مصدّق. وكان فيليون يشعر بالمثل. كيف…
‘كيف حدث هذا؟’
لقد حُسم النّزال بلحظةٍ واحدة من الحُكم الصّائب.
كلّ شيءٍ آخر كان متساويًا: كمّيّة السّحر، استخدامه، التّصميم، وسرعة التّفعيل.
لكن فيليون تظاهر بالهدوء.
‘لا يجب أن يروني سهلًا.’
خشية أن يُلاحظ الآخرون الفارق الطّفيف بينهما، بالغ في إظهار الغطرسة.
لكي تشعر هي، وكلّ من ينتمي إلى فولكس، بالإذلال.
“لا أستطيع استخدامكِ حتى كخادمة. أنتِ ضعيفةٌ جدًّا.”
لكنّ ذلك الارتباك لم يَدُم طويلًا.
فمنذ ذلك اليوم، خاض مع رايلي فولكس عشرات النّزالات، وفاز بها جميعًا.
‘يبدو أنّ ذلك اليوم كان يومًا محظوظًا جدًّا لها.’
لكن حتّى بحظّها ذاك، لم تستطع هزيمته. وثقته بنفسه كانت تتضخّم يومًا بعد يوم.
والأغرب من كلّ ذلك، أنّ رايلي فولكس ظلّت تقترب منه رغم كلّ تلك الإهانات.
“مرحبًا؟ فيليون. الطّقس سيّئ اليوم، أليس كذلك؟”
“هل تستطيع أن تشرح لي هذا إن كان لديك وقت؟”
“لقد صنعتُ هذه الكعكات بنفسي، أرجوك جرّب واحدة!”
رغم أنَّ باقي أفراد فولكس كانوا سيلومونها، إلّا أنّها كانت تعرف دائمًا متى يكون وحده، فتظهر أمامه.
حتّى إن تجاهلها، كانت تجلس بجانبه وتتابع الحديث بهدوء.
وبذلك عرف عنها أنّها تُفضّل التّطبيق العمليّ على النّظريّ، وأنّها تُصبغ شعرها بالأحمر كلّ شهر وتكره اللون رغم ذلك، وتُحبّ الطّعام الحار.
وعرف أيضًا أنّها تكره الكونت فولكس.
“الكونت فولكس لن يهتمّ حتّى لو مُتّ. وأنا أيضًا، لن أحزن إن مات.”
لكنّ فيليون لم يُصدّقها.
“أليس من الأفضل أن تدرسي بدلًا من تضييع الوقت هنا؟”
كلّ ما تقولُه تَمثيل، مجرّد خداع.
بكلماتها الطيّبة، ستُقنعه، ثمّ تطعن قلبه بابتسامةٍ بريئة.
فيليون كان يراها مقزّزة.
“لا تُكلّمينِي. إنّه أمرٌ مزعج.”
“هل ظننتِ حقًّا أنّي سأأكل هذا؟ أنتِ من فولكس.”
“كنتُ أظنّ أنّكِ فقط غبيّة، لكن يبدو أنّكِ حمقاء أيضًا.”
وقد عزّز هذا الموقف فشلُها المستمرّ في هزيمته.
حتى لو وُلدت من جديد، فلن تهزمه رايلي فولكس.
ذلك الإحساس بالتّفوّق جعله يُعاملها بازدراء.
ثمّ، بعد عامٍ ونصف على دخوله البرج…
في ذلك اليوم، كان في طريقه إلى غرفة أحد الأساتذة ليسأله عن شيءٍ لم يفهمه.
في ذلك الحين، لم يكن يخفي جهده، فقد أراد من رئيس البرج، سيريوس، أن يرى كفاحه ويعترف به.
وبحماسةٍ، اقترب من الغرفة…
“يبدو أنّ رايلي تُحبّ فيليون، أليس كذلك؟”
خرجت أصواتٌ مألوفة من الباب المفتوح قليلًا.
“لكن فيليون لن يبادلها ذلك أبدًا.”
“لقد اختارت خصمًا صعبًا جدًّا.”
“من قال إنّ المشاعر تُختار؟”
كانوا أساتذة يُدرّسون الطّلاب. فتوقّف فيليون واستمع.
“يا للأسف.”
ما أتعسها من جملة.
‘كلّها خدع لكسب التّعاطف.’
أوه، أهي تفعل هذا لتجعل الآخرين يشفقون عليها؟
يا لها من مزعجة…
لكنه سمع شيئًا لم يتوقّعه.
“ربّما لهذا، صرنا لا نستطيع تقييمها كما من قبل. في الماضي، لم يكن الأمر هكذا.”
ثمّ جاءت الجملة التي لم تخطر بباله يومًا.
“أليس كذلك؟”
“بلى. تُهان يوميًّا تقريبًا من فيليون، وعلاماتها دائمًا أقلّ منه. لا بدّ أنّها تُعاني كثيرًا.”
“لذا أعطيتُها هذه المرّة فرق درجةٍ واحدة فقط.”
“لكن بالتّأكيد، لصالح فيليون، أليس كذلك؟”
قصّةٌ، لم يشكّ فيها أبدًا…
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 45"