ما أعرفه عن سنّ اليأس هو أنّه يظهر عادة في الخمسينات، ومن أعراضه الرئيسية الاكتئاب، والتقلّبات المزاجيّة الشديدة، والانفعال، والقلق.
باستثناء العمر، كانت تصرّفات فيليون تتطابق تمامًا مع تلك الأعراض.
أول ما ظهر من الأعراض كان الاكتئاب.
“ما بالُ وجهك؟”
في الصباح الباكر، رأيتُ فيليون جالسًا في قاعة الطعام، فزفرتُ بضيق.
كان يجلس أمام طاولةٍ فارغة دون حتى كوب ماء، يضغط على جبهته كما فعل الليلة الماضية، وقد بدا عليه الاكتئاب بوضوح. لو كان هذا مشهدًا في مانهوَا، لكان هناك غيمةٌ سوداء فوق رأسه.
وصدر صوته بعد ذلك خافتًا للغاية، كما لو كان يتلاشى.
“…لا شيء.”
حتى حين امتلأت المقاعد حوله من قِبل أعضاء الرحلة الذين جاؤوا لتناول الإفطار، لم يتغيّر تعبيره.
ظننتُ أنه ليس في وعيه، فطلبتُ الطعام نيابةً عنه من تلقاء نفسي، فأكله من دون تردّد. حتى حين جلستُ أمامه لم يهرب مثلما فعل بالأمس.
لكن، ما تغيّر هو أنّه بدأ يُحدّق بي طويلاً أثناء الطعام.
“ما الأمر؟ هل عَلِق شيءٌ على وجهي؟”
“لا شيء.”
أجاب من جديد بنفس النبرة الكئيبة. لم يبدو لي وكأنّه لا شيء، فعبستُ، وحينها مدّ إليّ رغيف الخبز الذي لم يلمسه.
“…هل تُريدين هذا أيضًا؟”
“أريد!”
ابتسم حينها. كانت تلك تقلباتٍ مزاجيّة. لحظةً جديدة جعلتني أفكّر في سنّ اليأس مجددًا.
وثالث الأعراض، الانفعال، ظهر في فترة ما بعد الظهر.
“ريكس.”
حدث ذلك عندما وصلنا إلى قريةٍ صغيرة أثناء الرحلة. نزلنا من على الخيول للراحة، فبدأتُ أتمطّى قليلاً، وإذا بإيان يقترب وهو يحمل باقةً من الزهور الصفراء.
“هدية. أنتِ تحبين هذا النوع، أليس كذلك؟”
كانت باقةً بسيطة، على ما يبدو من صنع أحد سكان القرية، لكنها كانت جميلةً وزاهية. ارتسمت على وجهي ابتسامةٌ تلقائية.
“شكرًا لك. أنتَ تتذكّرتها إذًا.”
بعد تبادل بعض الكلمات القصيرة مع إيان، عدتُ إلى مكاني، فوجدتُ فيليون يعبس وهو يحدّق في ظهر إيان. ونظراته إلى الزهور لم تكن لطيفةً كذلك.
“ألا تحب الزهور؟”
“…..”
“على الأقل تحمّلها قليلًا. لا يمكنني رميها بعد لحظاتٍ فقط من استلامها كهدية.”
سألني بصوت خافت:
“هل سبق أن تلقيتِ زهورًا من ذلك الرجل؟”
“نعم.”
“متى؟”
حدث ذلك عندما كنا أطفالًا. في بداية تعارفنا، تحديدًا في اللقاء الثالث، جاءني إيان بباقةٍ كبيرة من الزهور الصفراء، وقال إنّه تذكّرني فور رؤيتها، وكان يبتسم بفرح.
ولهذا أحب هذا النوع من الزهور. فهي جميلة، لكنّها أيضًا أول هديةٍ زهور تلقيتها في حياتي، لذا فهي ذكرى مميّزة.
ولم أظن أنَّ إيان سيذكر ذلك.
“في الماضي.”
أجبتُه بإيجاز. لم أستطع شرح كلّ شيء.
لكنّ أجواء فيليون ازدادت سوءًا. يبدو أنَّ الغيوم السوداء فوقه بدأت تُطلق البرق أيضًا.
لكن صوته ظلّ لطيفًا رغم ذلك.
“ما الذي تحبينه أيضًا؟”
بدأتُ أذكر له الأشياء التي أحبها واحدًا تلو الآخر: الكعك المحشو بالفواكه، والمادلين التي كنت أخبزها كثيرًا أثناء مكوثي في المختبر، ولحم البقر الذي أشتريه فقط عندما أملك الكثير من المال…
“هذا أعرفه مسبقًا.”
“ليس لديّ شيء آخر يخطر على بالي الآن. …لحظة، لا تقل إنّك منزعج لأنّي أخذتُ رغيفك في الإفطار؟”
لم يُجب. لقد ابتسم حين أعطاني إياه، فهل ندم عليه الآن؟
لهذا في العشاء أعطيته القليل من طعامي على مضض، فعاد ليبتسم مجددًا.
لكنّه لم يأخذه، وهذا ما بدا غريبًا أيضًا.
‘هل هو فعلًا سنّ اليأس؟ لكن، في مثل هذا العمر؟’
والعرض الرابع، القلق، رأيتُه في المساء.
“ريكس.”
تزامن ذلك مع لحظةٍ جاء فيها إيان ليتحدّث معنا. كنتُ أقتاد الحصان نحو الإسطبل، فالتفتّ إليه.
“ما الأمر؟ هل استدعاني سموّه؟”
“لا. فقط أردتُ رؤيتكِ.”
نظر إلى الحبل في يدي وضحك.
“أنتِ لا تجيدين ركوب الخيل، أليس كذلك؟”
“…مالذي تتحدث عنه؟ أنا الآن أجيد ركوبها!”
“كنتِ تقولين أنّكِ لن تتفاهمي مع الخيول أبدًا، خاصةً بعد ذلك الحادث…”
“هل جئتَ لتُسخر مني؟”
ضحكه المتواصل كان يشي بذلك.
استمرّ الحديث خفيفًا ومرحًا، وعندما ودّعته كنتُ أبتسم بلا قصد.
ثمّ التقيتُ بعيني فيليون.
“…ما ذاك الحادث؟”
“آه، في الماضي…”
في الحقيقة، أول مرّةٍ حاولتُ فيها ركوب الخيل كانت برفقة إيان. يومها تلقّى إيان هديةً من الكونت فولكس، وكان الحصان أبيضَ مهيبًا.
طلب مني أن أركبه، لكنّ الحصان رفضني تمامًا. لم يأكل حتى القش الذي أعطيته له، وحدّق بي بغضب، فبادلته النظرة غيظًا.
ضحك إيان حينها بشدة. حتى الكونت فولكس أبدى ابتسامةً نادرة. أما أنا، فقد كنتُ أغلي من الداخل.
لكن لا يمكنني قول كلّ ذلك، لذا قلتُ:
“لم تكن حادثةً كبيرة.”
“…مع ذلك، أودّ أن أعرف.”
“فقط، الخيول لم تكن تحبّني، فرفضتني عدّة مرات. هذا كلّ شيء.”
نظر فيليون إليّ، ثمّ إلى الحصان، بالتناوب.
“لم ألاحظ أيَّ شيء…”
“الآن اختلف الوضع. لم أتوقّع أن يتذكّر إيان شيئًا كهذا.”
ومن هنا، بدأ قلق فيليون.
كنتُ متأكدةً أنّه القلق. سواءً أثناء العشاء، أو حين تمشّينا معًا، بدت نظراته وكأنّه مطاردٌ بشيءٍ ما. وكان الأمر يزداد سوءًا كلّما لمح إيان.
وفي اليوم التالي، حين اجتاحتنا عاصفةٌ شديدة، جلس بجانبي في العربة وهو كئيبٌ مثلما كان عندما نقلنا دايل المتحوّل إلى حجر.
حتى حين قرّرنا البقاء في المدينة ريثما تتوقّف الأمطار، لم تتحسّن حالته.
فذهبتُ إليه وسألتُه بعد تفكير طويل:
“أنت، تكره إيان؟”
في الفناء الخلفي للنزل، كان يجلس على كرسي قديم يحدّق في المطر. التفت إليّ حين سألته، فجلستُ إلى جانبه على كرسي آخر وسألتُ مجددًا:
“هل تكرهه؟”
“يبدو ذلك.”
“ما هذا الجواب؟”
“هذه أوّل مرةٍ أشعر فيها بمشاعر قوية تجاه أحد.”
“…لا تقل إنّه حب؟”
حدّق بي فيليون بنظراتٍ لاذعة. نعم، لقد أهانني بعينيه. مزاحي فشل تمامًا.
بعد لحظة، تنفّس بعمق وقال:
“تتذكّرين ما قلتِه سابقًا عن أنّني لا أهتم بالآخرين؟ أعتقد أنّه صحيح.”
كان يقصد اليوم الذي تبعني فيه إلى القصر المهجور.
“لم أفكّر في ذلك من قبل، لذا لم أكن أعلم.”
الآن أتذكّر.
‘قال إنّه عاش طوال حياته يفعل ما يطلبه منه دايل. وأنّه كان سعيدًا لأنّه لم يكن بحاجةٍ للتفكير بقراراته.’
إذًا، هل هذه هي المرّة الأولى التي يشعر فيها بـ الكراهية؟
إذا حسبنا بناءً على الذكريات التي يمتلكها، فهو لا يختلف عن طفلٍ عمره عامٌ واحد. يبدو منطقيًّا.
كان انطباعي الأوّل عنه: ‘كلّ البشر سيئون عدا دايل!’ لكنّ الواقع أنّه كان فقط غير مهتم.
“فهمت.”
“وأنتِ؟”
“هاه؟”
“أنتِ… ماذا تظنين بشأن ذلك الرجل؟”
كانت نبرته تحمل توترًا، فشعرتُ أنا أيضًا بنوعٍ من القلق. لكن لا حاجة فعليّة للتفكير في الأمر بعمق.
“أنا؟ لا يوجد سببٌ يجعلني أكرهه. إنّه صديقي.”
لطالما كنتُ خائفة من التحدّث مع أحد عن رايلي فولكس، لكن إيان خفّف عني هذا الشعور، وجعلني أشعر براحة.
حقًا، مشاركة الذكريات مع الآخرين أمرٌ رائع. لا يوجد الكثير مِمّن يمكنني الحديث معهم هكذا براحة.
“حتى لو كنتُ أنا أكرهه؟”
“أوه… ليست مشكلةً كبيرة، أليس كذلك؟ اهتمامكَ بالناس ميّال أصلًا إلى الكراهية، إن أردنا التصنيف.”
“إذًا سأبقى على هذه الحال، أليس كذلك…؟”
“ربما.”
ثمّ شعرتُ بالحيرة. ما الذي يقصده بـ هذه الحال؟
إيان يتحدّث معنا أحيانًا؟ لكنّنا لا نتحدّث معه كثيرًا أساسًا. آه، هل يقصد أنّه منزعج حتى من ذلك القليل؟
“أأساعدك كي تتقرّب منه؟”
“أرفض.”
تلقّيتُ ردًا قاطعًا، فربّتُّ على كتفه بخجل.
“إن عرفتَه جيدًا، ستجده شخصًا طيّبًا.”
لكنه لم يُجب.
***
كان فيليون يعيش أسوأ حالاته النفسيّة على الإطلاق.
صحيح أنَّ قلبه كان يرق قليلاً حين يشعر أنَّ ريكس تهتمّ لأمره، لكنّ الحزن العميق كان يغمره فورًا بعد ذلك.
والسبب كان واضحًا:
‘تتذكّر كلّ شيء.’
بينما هو، لم يتذكّر شيئًا.
بدأ يتهرّب من ريكس شيئًا فَشيئًا.
كان الأمر أثقل على صدره من يوم اكتشف فيه أنّها لم تكن تحبّه سابقًا.
ولم يستطع حتى النظر إليها.
ولهذا لم يبقَ طويلًا في الفناء الخلفي.
تذرّع بالإرهاق وترك ريكس وحدها، ثمّ عاد إلى غرفته. ظلّ يتقلّب في الفراش ساعاتٍ دون أن يغمض له جفن.
وحين نزل لملء إبريق الماء، التقى بإيان صدفة.
لم يتبادلا سوى التحية بالنظرات، لكنّ مزاجه ساء أكثر.
‘يبدو منتصرًا.’
بالرغم من أنَّ إيان لم يكن يعلم ما في داخله، شعر بذلك دون سبب.
عاد إلى غرفته حاملًا الإبريق الثقيل، وجلس بجانب النافذة.
كانت الأمطار لا تزال تتساقط بغزارة.
ثمّ سمع صوت ريكس فجأة:
“آه، إيان. هل تعرف أين ذهب فيل؟”
“لا أعلم. لم أره في الطابق الأول.”
‘كذب. لم تمرّ دقيقة على فراقنا، ومع ذلك يكذب بهدوء.’
ابتسم فيليون بسخرية.
‘يبدو أنّه يكرهني هو الآخر.’
“ألا تعتقدين أنّكِ تتبعين فيل كثيرًا؟”
“ماذا؟”
“لا أظنّكِ سمعتِ حتى كيف…”
فردّت ريكس بحدّة:
“لا يمكن أن يحدث شيء كهذا.”
يا له من ردٍّ واضح. ابتسم فيليون ابتسامةً باهتة.
“أنا فقط قلقٌ عليكِ.”
“لا داعي لقلقك. يمكنني حماية نفسي جيّدًا.”
وكانت بنفس القدر باردة.
ثمّ فجأة، سأل إيان:
“هل تحبّينه؟”
توقّف رأس ريكس عن الحركة وهي تبحث عن فيل.
“أنتم تشاركتم الغرفة من قبل، أليس كذلك؟ هل أنتما مقرّبان؟”
كان بإمكانها أن تردّ بصرامةٍ كما فعلت سابقًا، لكن، وللمفاجأة، بدأت تفكّر بجدّية.
توترت يد إيان من التوتّر، وكذلك فيليون.
“لا أحبّه، فقط…”
وكان فيليون يعلم ذلك أيضًا.
لكنّ المشكلة كانت فيما بعد تلك الجملة.
إن لم يكن حبًّا، فما كانت كلّ تلك المشاعر واللّطف الذي تلقّاه منها طوال الوقت؟
“لأنّه… يبدو مثيرًا للشفقة قليلًا.”
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 36"