الفصل 27 : 

 

أدركتُ في وقتٍ متأخّرٍ حقيقةً شديدة الأهميّة.

 

وليّ العهد لم يتعرّف عليَّ، لم يعرف أنّني رايلي فولكس.

 

في الواقع، كان عليَّ أن أقلق بشأن هَذا قبل دخولي، لكن ظهوره المفاجئ أربكني لدرجة أنّني نسيتُ ذلك تمامًا.

 

هل سبق لي أنْ التقيتُ وليّ العهد؟ لا. لكنّني رافقتُ كونت فولكس عدّة مرّاتٍ إلى العاصمة. حتى إن لم أره، كان مِن الممكن أنْ يكون قد رآني مرّةً واحدة على الأقل.

 

‘على أيِّ حال، من الواضح أنّه لم يتعرّف إليّ.’

 

لو كان قد تعرّف إليّ، لما قدّم لي مثل هذا العرض. لقد عشتُ في برج السّحر لما يقارب عشر سنوات.

 

“إذا كان الشرط أن أُعالج بريدين أوّلًا، فأعتذر، فهذا غير ممكن. كما قلتُ، لا أريد التورّط مع أيِّ ساحرٍ من برج السّحر في هذا الأمر.”

 

لكن، بعد انتهاء الاستكشاف، وفي حال لم يكن لبرج السّحر أيُّ اهتمامٍ بهذا الجانب، فإنّه سيطلب رسميًّا مساعدة البرج. هذا كان رأي وليّ العهد.

 

لم يكن هناك ما لا يُفهم، وكان شرحه ودّيةً. بقي القرار قراري وحدي. آه، ما الذي عليّ فعله؟

 

“لا بأس إن لم تجيبي اليوم. فقط أخبريني قبل موعد الانطلاق، لذا خذي وقتكِ بالتفكير. آه، ويمكنكِ التّواصل معي عبر البارون كروديس.”

 

ولحسن الحظ، لم يكن وليّ العهد يستعجلني في الجواب. نهض من مكانه ورتّب ملابسه بخفّةٍ قبل أن يستدير.

 

أوقفتُه حين كان على وشك مغادرة غرفة الاستقبال.

 

“هل يمكنكَ أن تخبرني المزيد عن ذلك الأثر؟”

 

عندها، التفت إليّ وهو يبتسم.

 

“آسف، لكن هذا كلّ ما لديّ من تلميحات.”

 

ثمّ سُمِع صوت فتح الباب، ولم يبقَ في غرفة الاستقبال سوى أنا وحدي.

 

نظرتُ بشرود إلى ظهر وليّ العهد وهو يغادر المكان برفقة عددٍ كبير من مرافقيه. قبل قليل فقط.

 

‘كان هناك صمتٌ غير طبيعي.’

 

شعرتُ أنَّ ذلك الصّمت وكأنّه تلميحٌ مقصود، وكأنّه أمرٌ مدروس.

 

بدأتُ أرتّب في ذهني الحديث الذي دار بيني وبينه. حين سألني هيميل والبارون، أجبتُ باختصار، بينما كنتُ أفكّر بجدّ.

 

قال إنَّ عليه فعل ذلك دون علم برج السّحر.

 

وإنّه لا يريد أن يكون له أيَّ علاقةٍ بالسّحرة، بل ويريد إخفاء وجود الأثر نفسه.

 

‘أشعر وكأنّه يجب أن يتجنّب حتى ذِكر ذلك الأثر بتفصيل.’

 

إن كان يجب تجنّب أعين برج السّحر، وحتى الحديث عنه يُعتبر أمرًا حساسًا، فهل من الممكن أنّه…

 

‘فيليون؟’

 

***

 

ظلّ فيليون ينصت بصمت، ثمّ أومأ برأسه.

 

“يبدو أنّكِ على حقّ.”

 

“أليس كذلك؟ فكّرتُ كثيرًا في أشياء أخرى أثناء العودة… لكن في النّهاية، لا توجد أشياء كثيرة قد تثير اهتمام كلٍّ من وليّ العهد وبرج السّحر في الوقت نفسه.”

 

وليّ العهد قد يهتم بأشياء كثيرة. مثل الحروب مع الدول الأخرى، أو الشؤون الداخليّة، أو النبلاء… بل وحتى الطّقس الماطر الآن قد يكون أحد مصادر قلقه، فهو وليّ العهد بعد كلّ شيء.

 

أمّا اهتمام برج السّحر فهو محدودٌ جدًّا. السّحر والسّحرة فقط.

 

وأكثر ما يهمّ برج السّحر في الوقت الحالي هو…

 

“أعتقد أنَّ في ذلك الأثر يوجد كتابٌ محرَّم.”

 

“هل كنتُ أنا من أخفاه قبل أن أفقد ذاكرتي؟”

 

“من يدري؟ سبق وقلتُ لك، ربّما تكون تلك تهمةً باطلة.”

 

بدت على فيليون علامات التفكير، لكنّه هزّ رأسه في النهاية. لا شيء ما تزال ذاكرته لم تعد.

 

“على أيِّ حال، أظنّ أنَّ وليّ العهد يعتقد أنّك أنتَ من أخفى الكتاب المحرَّم في ذلك الأثر. وإلّا، لما كان مضطرًّا للقيام بكلّ هذا خفيةً عن أعين البرج.”

 

في الوقت الحالي، لا يوجد شيءٌ قد يثير اهتمام برج السّحر أكثر من الكتب المحرّمة.

 

فحتى رئيس البرج قد غادر موقعه ليطارد فيليون بنفسه.

 

“ما الذي يخطّط له وليّ العهد بعد أن يحصل على ذلك الكتاب، يا تُرى؟”

 

“ربّما يريد أن يجعلنا مدينين له. في الحقيقة، برج السّحر لم يكن متعاونًا مع العائلة الإمبراطوريّة طوال التاريخ.”

 

“أحقًّا؟”

 

“نعم، حتى في الحروب، كانوا يلتزمون الحياد في الغالب. وهناك العديد من قادة البرج الذين عصوا أوامر الإمبراطور.”

 

“هل لم يحاول الإمبراطور أبدًا تهديدهم بعائلاتهم؟”

 

“حين يحدث ذلك، يضحّون بعائلاتهم. بعض قادة البرج السابقين لا تزال ألقابهم منقرضةً بسبب هذا.”

 

لكن هذا لا يعني أنّه لم يكن هناك قادةٌ برج أوفياء للإمبراطور. هؤلاء أصبحوا أعمدةً في حروب توسيع الإمبراطوريّة.

 

‘وجميعهم قُتلوا على يد أقرب النّاس إليهم.’

 

يمكن القول إنّها كانت نتيجةً طبيعيّة. فبرج السّحر ليس حكرًا على سكّان الإمبراطوريّة. وهناك كثير من السّحرة من أصولٍ إمبراطوريّة يصرّون على حيادية البرج.

 

‘رئيس البرج الذي قُتل قبل 300 عام، تبيّن أنَّ القاتل كان ابنه.’

 

ولا أحد يريد أن يلقى نفس هذا المصير، ولهذا، فإنَّ أغلب من يتولّى منصب رئيس البرج يُعلن الحياد. وخلال الثلاثمئة سنة الماضية، احترم الأباطرة هذا القرار.

 

لكن كان هناك من أراد كسر هذا التّوازن.

 

‘الكونت فولكس،’

 

راعيّ الطّموح، أراد تحويل البرج إلى ملكيّةٍ خاصّةٍ به.

 

لكن بما أنّ من يتولّى قيادة البرج يتخلّى تلقائيًّا عن وراثة عائلته، فقد حاول أن يجعل من شخصٍ شديد الطّاعة له قائدًا للبرج.

 

‘وقد اختارني أنا.’

 

لا أعلم ما هو هدفه النّهائيّ، لكن إن سارت الأمور كما أراد، لما تجرّأ الإمبراطور على تجاهله.

 

خلال سنواتٍ عديدة، بذل الكونت فولكس جهدًا كبيرًا للسيطرة على البرج.

 

كان يتبنّى كلّ من يملك موهبةً في السّحر، ويرسله إلى البرج، ويُكثر من عدد النّاس التّابعين له، ونجح في كسب تأييد الشيوخ واحدًا تلو الآخر. كانت العمليّة تسير بسلاسةٍ تامّة.

 

لو لم يكن فيليون إلفيرت موجودًا…

 

‘كان مذهلًا بحقّ.’

 

هو بطل الرّواية بعد كلّ شيء. لكنّني، وأنا من رأى قدراته بعينيّ، لا أملك إلّا أن أُعجب به.

 

كان دائمًا متفوّقًا، ومتقدّمًا على الجميع. كان جدارًا لا يمكن لأحد تجاوزه.

 

‘والآن، ها هو يُعدّ لي الشّاي.’

 

حتى الحلوى التي أعجبتني سابقًا، لا أعلم متى اشتراها، لكنّه وضعها بجانب إبريق الشّاي.

 

انفصلتُ عن هيميل قبل مجيئي إلى هنا. عندما أخبرته أنّني سأحدّث الكلب الأسود بنفسي، ابتسم برضًا وأفسح لي المجال.

 

…مع أنَّ تعابير وجهه كانت تقول بوضوح إنّه يسيء الفهم مجدّدًا، لكن لم يكن لديّ خيار هذه المرّة. لا يمكنني الحديث عن فيليون أو الكتاب المحرّم أمام هيميل.

 

جلس فيليون أمامي وسأل:

 

“هل تعتقدين أنَّ وليّ العهد يخطّط لحرب؟”

 

“ربّما فقط خطّة، فالأجواء على الحدود ليست مستقرّة مؤخرًا، كما سمعت. وصحّة جلالة الإمبراطور تتدهور أكثر فأكثر.”

 

“إذًا هو يريد العثور على الكتاب المحرّم أوّلًا، ثمّ استخدامه كورقة ضغطٍ لإصدار أوامر للبرج.”

 

“أجل، هذا أقرب تفسيرٍ منطقيّ…”

 

تناولتُ فنجان الشّاي الذي يتصاعد منه البخار وهمست:

 

“لكنّ ملامحه طيّبة جدًا، لدرجة أنّني أشكّ أنّه من النوع الذي يفعل هذا.”

 

ذلك الطّعم الحلو جعلني أشعر براحةٍ كبيرة.

 

حتّى وإن تم استضافتي في منزل البارون، إلّا أنّني كنتُ أشعر وكأنّني سأتوعّك من شرب الماء فقط، نظرًا لكون الطّرف الآخر هو من هو.

 

لكن هذا المكان مختلف. كنتُ أرتاده كثيرًا.

 

أن أشعر بالرّاحة قرب فيليون؟ يبدو أنّني عشتُ طويلًا لأرى هذا اليوم، فعلًا.

 

“…هل هو وسيم؟”

 

“أجل، وسيمٌ للغاية. الشّائعات كانت صحيحة.”

 

“أيُّ شائعات؟”

 

“أنَّ وليّ العهد إن أراد، يُمكنه إسقاط جميع نساء العالم. سمعتُ هذا الكلام منذ صغري مرّة. فقط تجاهله كما أفعل.”

 

ثمّ ارتشفتُ رشفةً أخرى. الرائحة طيّبة، والحرارة مثاليّة.

 

سأحرص على أن أتناوله ببطء. وضعتُ الفنجان وقلت:

 

“على أيِّ حال، أنوي قبول عرض وليّ العهد.”

 

ارتفعت حاجب فيليون الأيسر في تلك اللحظة.

 

“لأنّه وسيم؟”

 

ما هذا الكلام؟

 

“لا.”

 

“في هذا التوقيت، من الطبيعي أن يُفهم كلامكِ بهذا الشّكل.”

 

قال ذلك بتذمّرٍ وهو يشيح بنظره عنّي. بدا وجهه غير مرتاحٍ نوعًا ما.

 

لكن، لا بأس، سيتجاوز الأمر.

 

“أنا فقط أُكمل المهمّة التي كنتُ أنوي القيام بها أصلًا. إن انسحبتُ الآن، سيكون عليّ دفع غرامة.”

 

وليّ العهد لم يذكر هذا، لكن بما أنَّ عقدًا قد كُتب، فلا بدّ أن يُدفَع، بل وربّما عليّ دفع حصّة بريدين أيضًا، أي مرّتين. وهذا كثير على ظروفي الحاليّة.

 

لهذا، أخبرتُ هيميل بذلك قبل أن أغادره.

 

وليّ العهد أعطاني مهلة، لكنّ الأمر لا يحتاج إلى تفكيرٍ طويل. لا يمكنني رفضه حرصًا على سمعة بريدين. والأجر كذلك جيّد.

 

‘على عكس ما ظننته في البداية، بأنّني فقط سأضع الملعقة على مائدة جاهزة، تبيّن أنَّ هناك عملًا فعليًّا يجب عليّ القيام به.’

 

لكن لديّ ثقة في قدرتي على فكّ الحاجز.

 

حتى وإن كان حاجزًا صنعه فيليون، فلا بأس. الحواجز هي المجال الوحيد الذي أستطيع الزّعم فيه أنّني أضاهيه!

 

ربّما لا أتمكّن من كسره فورًا عند رؤيته، لكن إن أُعطيتُ أسبوعًا، فسأتمكّن من فكّه فورًا!

 

“أعتقد أنّها مهمّةٌ يُمكنني إنجازها. وبما أنَّ وليّ العهد هو من أوكلني بها، فلا قلق من أن يُماطل في دفع الأجر.”

 

“…….”

 

“بالطّبع، الأفضل أن أتمكّن من علاج تحجّر بريدين قبل موعد تنفيذ المهمّة…”

 

حتى أثناء حديثي، كان فيليون ينظر إلى مكانٍ آخر. لا يبدو أنّه ينوي إعطائي نتائج بحثه بأيِّ شكل.

 

سرق الكتاب المحرّم، وها هو الآن يخفي نتائج أبحاثه. يبدو أنّه أعلن نفسه ملكًا للّصوص.

 

‘هل عليّ أن أستخدم وصفتي الخاصّة مباشرة؟’

 

… فكّرت بذلك فعلًا، لكنّني أخشى أن يكون الألم شديدًا جدًّا.

 

كما أنّني قلقة من طول مدّة تغيّر طبيعة الجسد السّحريّ.

 

إن لم تستقرّ طاقتي قبل موعد المهمّة، فستكون كارثةً حقيقيّة. وسأخسر أيِّ أملٍ في تلقي دعمٍ من وليّ العهد أيضًا.

 

“مهما قلتَ، سأقوم بهذه المهمّة. من الغريب أصلًا أنّك تعارض. فهذا يصبّ في مصلحتك أيضًا.”

 

حينها فقط، التقى نظري بنظر فيليون. كان يطلب توضيحًا بنظراته، ففتحتُ فمي.

 

“لا أعلم الهدف الدّقيق، لكن ما أعرفه هو أنَّ وليّ العهد سيُعلم برج السّحر فور حصوله على الكتاب المحرّم. وإن تأكّد موقعه، فلن يظلّ البرج يطاردك أكثر من ذلك.”

 

“……هل هذا يعني أن يتمّ سحب المكافأة المعلنة عليّ؟”

 

“على الأقل، لن تبقى مئة مليار.”

 

سيعود السّحرة رفيعو المستوى فورًا إلى الإمبراطوريّة. فرئيس البرج يطارد فيليون تحديدًا بسبب ذلك الكتاب المحرّم.

 

وبعد أن قلتُ كلّ ما عندي، عدتُ لأتناول فنجان الشّاي من جديد. وبينما أستمتع بعطره العميق…

 

“سأذهب معكِ أيضًا.”

《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》

═════• •✠•❀•✠ •═════

الترجمة: فاطمة 

حسابي ✿

《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》