الفصل 15 :
كانت تبكي.
ليس هُنا، بل حين كانت تتمنى أمام التّمثال. مضى أكثر مِن ثلاثين دقيقة، لكن يبدو أنَّ آثار الدموع ما زالت باقية.
لكنها لَمْ تكُن في حالةٍ تسمح لها بالشرح.
كان مِن الضروري أنْ تغادر المكان فورًا.
نزعت يدها مِن يده بالقوة واستدارت.
“سأذهب أولًا.”
وبعد أنْ خرجت إلى الرواق، بدأت تمشي بسرعةٍ تكاد تكون جريًا.
غادرت المستشفى، واجتازت الساحة المكتظّة بالناس، وواصلت السير حتى وصلت إلى مكانٍ هادئ.
تأكّدت مِن عدم وجود أحدٍ حولها، ثمّ انهارت على أقرب مقعدٍ كأنّها تسقط.
‘لَمْ يكُن يُحبّني.’
رغم كلّ تلك المسافة التي قطعتها، ما زال وجهها يشتعل خجلًا.
نعم، حتّى حين تعيد التفكير، تبدو الفكرة سخيفة. لَمْ يكُن ينبغي لها أنْ تُصدّق ذَلك، حتّى لو قالها العالم كلّه.
‘آآآه، كم هو محرج.’
حتى قوله إنّه اعتبر دايل سيّده، لا ينبغي أنْ تستند فيه إلى مشاعرها. ربّما كان دايل يعامله بلطف في السابق.
وأمّا سرقة الكتاب المحرّم… تبًا، لا بدّ أنَّ هناك سببًا آخر. كيف لها أنْ تعرف ما يدور في رأسه؟
حتى جدّه لا يعرف كيف يفكّر، ويُعاني بسببه كلّ مرة.
“بل ربّما هَذا أفضل.”
رغم أنّها تشعرُ بالإحراج حدّ الجنون، فإنّها تشعر بالتحرّر أيضًا.
هي لَمْ تؤثّر في حاضره بأيَّ شكل. ويمكنها أنْ تتحرّر تمامًا مِن شعور الذنب.
الدّين الوحيد المُتبقّي لها الآن هو إنقاذ حياته مِن ميديرا. وهو ليس دينًا بسيطًا، طبعًا.
‘وذَلك سيتحقّق بمُجرد أنْ يُشفى دايل.’
في الحقيقة، كانت تتساءل إنْ كان مِن الجيّد تركه قرب دايل، لكن يبدو أنَّ ذَلك لَمْ يعُد مِن شأنها.
لقد فكّرت كثيرًا بشأن فيليون. كانت تتصرّف بحذرٍ لأنها لَمْ تستطع إيذاء شخصٍ أحبّها.
‘لكن كلّ ذَلك انتهى الآن.’
ستعود إلى حالها القديم، تشتمه وتستغلّه كما تشاء.
وحين تنتهي مِن عملها، ستعود مباشرةً. ولَن تُفصح عن أنّها “رايلي فولكس”.
…لأنّ فيليون يكرهها.
‘كلّما تذكّرت، أشعر بالغضب. لماذا شعرتُ بالذنب حين هربت؟ لَمْ يكُن حبه لي مبرّرًا لما فعله بي!’
ذَلك الوغد، فيليون إلفيرت.
“أريدُ العودة إلى القارة الشرقية بأسرع وقت…”
تنهدت بعمق.
***
إجراءات الخروج مِن المستشفى كانت بسيطة.
“رفيقتكَ دفعت تكاليف العلاج، لذا لا داعي لأيِّ شيء آخر. فقط وقّع هنا واكتب اسمك.”
أخذ الكلب الأسود القلم مِن الممرضة وراجع الأوراق.
رغم أنّه لَمْ ينَم سوى عشر دقائق، إلا أنَّ الفاتورة كانت كبيرة. وتحتها توقيع ريكس.
‘دفعت هَذا وغادرت؟’
بينما هي نفسها تعيش في نُزلٍ بالكاد يصلح للسكن.
“عذرًا… هل هُناك ما يُثير الريبة، سيّدي؟”
“لا، لا شيء.”
هزّ الكلب الأسود رأسه وحرّك القلم. لَمْ يكن بوسعه استخدام اسمه الحقيقي.
“سيّد فيل، هل أصبحتَ بخيرٍ الآن؟ رفيقتكَ كانت قلقةً جدًّا عليك.”
“…هل كانت تبكي؟”
“لَمْ أرَ ذَلك بنفسي… لكن بدا الجو كذَلك. كانت قلقةً بحق. وبقيت إلى جانبك طوال الوقت.”
أرادت الممرضة مواصلة الحديث، لكنّه أومأ برأسه فقط وغادر المستشفى.
كان غارقًا في أفكاره، حتى لَمْ يسمعها جيدًا.
حين وصل إلى المنزل، كان الليل قد حلّ.
خلع معطفه وانهار على الأريكة وأطلق زفرةً طويلة.
إذن…
‘أنا حقًا فيليون إلفيرت.’
مدّ الكلب الأسود، أو بالأحرى فيليون، يده إلى شعره يمرّره بعصبيّة.
رغم أنَّ الأمر ما زال يبدو غير معقول، لَمْ يعُد بإمكانه إنكاره. الذكريات التي عادت إليه كانت بلا شك ذكريات فيليون إلفيرت.
المشكلة أنَّ هَذا الشخص، فيليون إلفيرت، مطلوبٌ للعدالة.
ما دام هَذا الجسد عليه مكافأة قدرها ١٠ مليارات، فهو لا يستطيع رؤية عائلته أو أصدقائه. مَن سيقاوم مبلغًا كهَذا؟
لكن تلكَ المرأة…
‘لقد كان بوسعها تسليمي إلى برج السحر وأنا فاقدٌ للوعي.’
تكرّرت كلماتها في ذهنه.
― ثق بي، فيليون. يُمكنني مساعدتك. صدّقني وانتظرني. أنا لَن أؤذيكَ أبدًا. وماذا عنّي؟ ألا تتذكّرني؟
― ألا… تتذكّر بعد؟
هل يُمكنني الوثوق بها…؟
‘لا.’
ربّما كانت تُخادعه لتكسب ثقته، فقط كي تُطيح به لاحقًا. وقد لا يكون هدفها المال أصلًا.
هي الشخص الوحيد الذي أخبره بهويّته بشكلٍ مباشر، ومع ذَلك ظلّ الشك يساوره.
على ما يبدو، فيليون إلفيرت كان شخصًا معقّدًا في الأصل. فابتسم بسخرية مِن نفسه.
‘لكن لا يُمكنني قطع علاقتي بها.’
هناك احتمالٌ أنّها شخص طيّبٌ حقًّا.
وفوق ذَلك، هي الوحيدة القادرة على حلّ لعنة التحجّر. لا يُمكنه التخلّي عنها بسهولة.
‘سأراقبها أكثر.’
وبعد أنْ رتّب أفكاره بصعوبة، توجّه فيليون إلى سريره.
وعَد نفسه بأنَّ يكون ألطف معها، على الأقل أكثر مِمّا كان عليه مِن قبل.
لكن عند الظهر في اليوم التالي.
“في ماذا تحدّق؟”
تفاجأ فيليون وهو يرى ريكس تدخل المنزل.
كانت ترتدي ملابسها المعتادة، وفي توقيتها المعتاد. ومع ذلك…
أليس هناك شيء غريبٌ في الأجواء؟
“تنحَّ. تزعجني.”
ودفعت كتفه بخفة وهي تدخل، لكن طريقتها كانت حادّةً وفظّة للغاية.
هل حدث لها شيءٌ سيّئ في طريقها؟
قرّر فيليون ألّا يُعير الأمر أهميّةً كبيرة، ثمّ ناولها الظرف الذي كان قد جهّزه مسبقًا.
“ما هذا؟”
“فاتورة المستشفى.”
“مِن أين لكَ بالمال أصلًا؟”
“الأمر العجيب هو ألّا أملكه. لقد عملتُ كمرتزق لحوالي سنة.”
رغم أنّه كان يتصرّف أحيانًا باندفاع، فإنَّ دايل لَمْ يكُن سيّدًا سيّئًا، وبهَذا استطاع فيليون أنْ يدّخر قدرًا لا بأس به مِن المال.
وهَذا المبلغ كان مجرد جزءٍ منه. لكن ريكس راحت تتأمّل الظرف وفيليون بنظراتٍ مريبة. هل ظنّت أنّه سرق المال؟ آه، صحيح.
لَمْ يخبرها بهَذا بعد.
“شكرًا على ما فعلتهِ البارحة.”
لكنّ ريكس خطفت الظرف كأنّها تنتزعه منه.
“هممم.”
“هل يُمكنني مساعدتكِ في شيء؟”
“لا.”
وضعت الظرف في حقيبتها وتوجّهت نحو التمثال.
ثمّ أخرجت أوراقها وبدأت الغوص في البحث، لكن بالنسبة إلى فيليون، بدا أنّها تتعمّد تجاهله تمامًا، كأنّها غاضبةٌ منه بشدّة.
هل كان بسبب ما حدث البارحة؟ لأنّه لَمْ يتذكّر شيئًا عن ريكس؟
هل كان ذَلك سببًا كافيًا لكل هَذا الغضب؟
“هل يمكنكَ أن تتوقف عن التحديق؟ الأمر مزعج.”
“…أليس هناك أيُّ شيءٍ يُمكنني فعله؟”
“لا.”
حتى وهي تتحدث، لَمْ تلتفت إليه مرّةً واحدة.
حكّ فيليون مؤخرة رأسه بضيق ثمّ استدار. وبينما كانت نظراته تتجوّل دوّن هدف، وقعت على ما كان قد أعدّه صباحًا.
فكّر في التراجع، لكنه قال لنفسه:
“بما أني اشتريت كُل شيء بالفعل…”
فرك لسانه بسخط وتوجّه إلى المطبخ.
رغم الضجيج الذي كان يصدر منه، فإنَّ ريكس لَمْ تنظر إليه مرّة. وهَذا ساعده على التركيز أيضًا.
بعد ساعة، اقترب فيليون مِن ريكس وهي تتثاءب.
“فلنتناول الغداء. لقد أعددته.”
وأشار إلى المطبخ، فتبعته ريكس وعلامات الدهشة على وجهها. وما إنْ رأت المائدة المُعدّة جيّدًا حتى قالت:
“أأنتَ مَن فعل هَذا كلّه؟!”
ردّة فعلها كانت أعنف مِمّا توقّع.
“هل هَذا بسبب دايل؟ هل هو مَن أمرك بتعلّم الطبخ؟!”
“لَمْ أتعلّمه تحديدًا، لكنّي كنتُ مُعتادًا عليه. كأنّي كنت أعرفه منذُ البداية.”
“كنتَ تعرف؟”
“على الأرجح. فالمهارات تُعلّم بالجسد لا بالرأس. لَمْ أتعلّم المبارزة أيضًا، لكنّي أُجيدها.”
وكان بارعًا فعلًا، سواء في المبارزة أو في الطهي. حتى دايل الذي لا يعجبه شيء كان يثني عليه بلا توقف.
لهَذا ظنّ أنَّ الأمر سيُعجب ريكس أيضًا.
رغم أنّها ما تزال تشكّ به، وسلوكها اليوم يثير أعصابه، إنّهما سيظلان على تواصل، لذا لا بأس ببناء علاقةٍ مريحة بينهما.
وليس لأنّه انزعج مِن رؤيتها تبكي البارحة. بالتأكيد لا…
لكن في تلكً اللحظة، شعر فيليون بشيءٍ غريب في ريكس.
“كنتَ تعرف الطبخ؟”
نظرت إليه بعينين مشحونتين بالغضب. قبضتا يديها كانتا ترتجفان.
“ومع ذَلك لَمْ تطبخ لي ولو مرة؟!”
“…نعم؟”
“لطالما كنتَ تأكل مِن طبخي! حتى حين أخبركَ أنْ تأكل في مكانٍ آخر، تتجاهلني! وحتى لو وضعتُ ألف حاجزٍ حول مختبري، تتسلّل وتأخذ الطعام الذي أعدّه!”
“ريكس؟”
“وفوق كلّ هَذا، كنتَ تُعطي ملاحظات! هَذا مالح! هَذا حلو! حتى صرتَ تطلب أصنافًا بوقاحة! ولَمْ تغسل الأطباق مرّةً واحدة! والآن؟!”
“……”
“أنتَ نذل. تعيشُ فقط لتُزعج الناس، كاذب، ظالم، وغدٌ شرير.”
حسنًا، يبدو أنّني كنتُ شخصًا سيّئًا في الماضي.
لكن الاستماع إلى كل هَذا دوّن ردّ بدأ يُغضبه هو أيضًا.
‘كنتُ أحاول فقط فعل شيءٍ لطيف…’
كان على وشك أنْ يقول: “لا تأكلي إذًا”، لكن ريكس سبقته وجلست على الكرسي وأمسكت بالملعقة.
وضعت ملعقة مليئة في فمها وبدأت تمضغ، ثمّ تمتمت:
“لماذا هو لذيذ…”
أكلت كلّ شيء بتلذّذ. حتى ما قدّمه لها فيليون مِن طبقهِ الخاص.
“ولماذا هَذا أيضًا لذيذ… مقرف.”
لا يُعلم إنْ كانت تذمّ أو تمدح، لكن على الأقلّ، لَمْ ترفض الطعام.
وشعر فيليون بالرضا لذَلك.
وسألها بابتسامةٍ خفيفة دوّن أنْ يشعر.
“هل كنتُ حقًا كذلك؟”
“نعم. مجنون.”
“لماذا لَمْ تأكلي في الخارج إذًا؟ كان سيوفّر عليكِ عناء الطبخ.”
“ها، في الخارج؟ كنتُ مشغولةً بالهرب مِن عائلة فولكس، متى سأجدُ وقتًا لأتناول الطعام؟”
توقّفت يد ريكس فجأةً.
وكذَلك يد فيليون.
في ذَلك الصمت الثقيل المُفاجئ، تلاقت نظراتهما.
ثمّ تقلّصت حاجبا ريكس قليلًا وقالت:
“أخرس وكُل طعامك.”
راود فيليون سؤال: “كيف آكل إذا أغلقتُ فمي؟” لكنه لَمْ ينطقه.
كان مرتبكًا مِن كلامها السابق.
‘هل كانت تتعرّض للمضايقة؟’
هل قالت إنها عاشت فقط في القارة الشرقية لتُخفي ماضيها المؤلم؟ وإذا كانت عائلة فولكس…
‘لا يُمكن… مِن قِبل رايلي فولكس؟’
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 15"