ثم تمدّدَ بجانبي وربّتَ على ما بين حاجبيه وهو يقول:
“بالفعل…… الأمر مُتعب.”
طوال الأشهرِ الماضية، كنّا نرافقُ زعيمَ النقابة إلى حفلاتٍ أو مؤتمراتٍ علمية بشكلٍ شبهِ يومي.
في البداية كان الأمرُ ممتعًا. فقد أثار شغفي رؤيةُ سحرٍ جديد. ولا شكّ أن فيليون كان يشعرُ بالأمرِ نفسه.
لكن حتى المتعةُ إذا هاجمتك بلا توقّف تُصبح مُرهِقة.
كان لدينا بعضُ الإجازات، لكنّي كنتُ أنام فيها طوال الوقت. وإن شعرتُ أنّي ارتحتُ قليلًا، اقتحمَ زعيمُ النقابة غرفتي ليُخبرَني بأن نبحثَ استراتيجيّة المؤتمرِ العلمي التالي.
هل لدينا ساحرٌ آخر يساعدُنا؟
للأسف، لا.
فزعيمُ النقابة كان شبهَ وحيدٍ داخل نقابةِ السحرة.
لأنّه لم يكن ساحرًا أصلًا.
‘مَن كان يظنُّ أنّ منصبَ زعيمِ نقابةِ السحرة يُورَّثُ في العائلة مباشرةً؟’
ليس الأمر كبرج السحرة حيث يقرّر الشيوخ. بل هو منصبٌ تنتقلُ وراثتُه مثل العرش.
والمشكلة أنّ الزعيم الحالي لم يكن لديه موهبةٌ في السحر، فتركَ العائلة منذ زمنٍ بعيد وعاش تاجرًا.
ولذلك، حين ماتَ جميعُ إخوته في حوادث، ووصل المنصبُ إليه، وقع في حيرةٍ لا تُوصَف.
كان يطمعُ في المنصب.
فهو منصبٌ توارثَه أفرادُ عائلتِه لسنوات، وكانت هناك وصايا من إخوته، فأرادَ أن يقومَ به على أكملِ وجه.
لكنّه ليس ساحرًا.
حتى إن كان قد سمع الكثير خلال أسفاره كتاجر، فهو في نظر سحرةِ النقابةِ العظماء لا يتجاوزُ مستوى طفلٍ صغير.
وفي أثناء انشغاله بالتفكير في حلٍّ لهذه المشكلة.
التقى بنا حين زرنا النقابة لأول مرة.
‘حسنًا، لا يمكن القول إنّ الأمر كان حظًّا فقط. فقدرته على إدراك مستوى قوّتِنا رغم أنّه غير مختص هي أيضًا مهارة.’
فهو، بعد أن جالَ كثيرًا بين الناس، أصبح واثقًا من “عينه في تقييم البشر”، وقال إنه، منذ أن رآنا، شعرَ مباشرةً أنّه يجبُ ألا يُفلتَنا.
ثم حين تناولنا الطعامَ معه ازدادتْ قناعته…….
‘ومنذ ذلك الحين وهو يجرّنا معه ليواجهَ سحرةَ النقابة.’
وكما قلت، كان الأمر ممتعًا في البداية.
فسحرةُ النقابة كانوا يستخفّون بالزعيم علنًا، ويقلّلون مِن شأننا نحن أيضًا باعتبارنا رفقاءَه.
وكانت متعةُ اكتشاف الثغرات في بحوثهم…… ومتعةُ النظر إلى وجوههم المصدومة…… عملًا لا يملّ المرء منه أبدًا.
‘قال الزعيم إنّ الأمور ستصبحُ أهدأ بحلول الشهر القادم…… فهل سنصمدُ حتى ذلك الحين؟’
أطلقتُ زفرةً دون أن أشعر، فرأيتُ فيليون وقد أغمض عينيه.
‘هل نامَ بالفعل؟ أوّل مرةٍ أراه مُتعبًا هكذا.’
عدّلتُ وضعيّة جلوسي قليلًا ونظرتُ إليه.
الرموشُ الطويلة، وجسرُ أنفٍ مرتفع، وشفتان رقيقتان دخلَت إلى مجال بصري واحدةً تلو الأخرى.
وبالنظر إليه هكذا، بدا وكأن شيئًا من ملامحه القديمة ما زال ظاهرًا.
“حقًّا، ما زلتُ أشعر بالأمر وكأنّه غريب…….”
أغربُ ما في الأمر هو علاقتي الحالية مع فيليون.
في الحقيقة، لم نفعل شيئًا “كالعشّاق” بحقّ. كنا مشغولين للغاية.
ومع ذلك، أينما ذهبنا أصبحوا ينظرون إلينا كزوجَين.
وكلّما وصلتُ إلى مبنى النقابة سمعتُ قولهم: “السيد فيليون ليس بجانبكِ اليوم؟”.
في الماضي كنتُ سأردُّ عليهم: “ولماذا تسألونني عنه؟”.
لكنّني الآن أقول بخجل: “سيأتي قريبًا.” وكأنّ ذلك أصبح عادةً.
ثم أتفاجأ مجددًا. فقد مرّ وقتٌ كافٍ لنقول إنّنا نواعد بعضَنا منذ فترة، لكنّي لا أزال أشعر بالخجل!
“هل السبب وجهُه……؟”
حتى حين كنتُ أكرهه، كنتُ في داخلي أعترف بوسامتِه.
إنّه ليس وسيمًا فحسب، بل رائعٌ جدًّا.
فحتى البارحة، حين ارتدى ملابسَ مختلفة قليلًا في طابعها…… شعرتُ بأنّي…… مُنبَهِرة.
“……فيليون.”
وخزتُ خدَّه بإصبعي.
فقد لاحظتُ أنّ شفتيه ترتفعان قليلًا.
“أنتَ لست نائمًا، صحيح؟”
“أنا نائم. تابعي.”
“أتَابِع ماذا؟”
“الكلام الذي كنتِ ستقولينه. لو أمكن، أتمنى أن تقولي إنّي وسيمٌ جدًّا.”
“تسمعه من الجميع كل يوم.”
“كلامُكِ أنتِ هو المفضّل عندي.”
وبطريقةٍ ما، كان يمسكُ يدي.
“……قلتُ إنّ ملامسة ما فوق الحاجة ممنوعة في السكن.”
وهذا منطقي. فسكنُ النقابة هنا ليس ملتصقًا بالمختبرات مثل برج السحرة، بل هو أشبهُ بسكنٍ جامعي.
داخله يشبه فندقًا، والعزلُ الصوتي ممتاز، ولا يوجد في هذا الطابق سوى غرفتي وغرفة فيليون.
لكن إن بدأ الجميعُ يتساهلون فستعمّ الفوضى.
“إنّها مجردُ مصافحة. نفعلها حتى مع الغرباء.”
ابتسم فيليون بخفّة.
لكن لماذا يشبّكُ أصابعَه بي؟ هذه ليست مصافحة.
“إنّك وسيم.”
ثم سألتُ باستغراب:
“ما بك؟ لماذا هذا الوجه؟”
“لا شيء. كنتُ أريد سماعه…… لكنّ الأمر يُشبه أن يُقدّم لك أحدهم هديةً دون مناسبة…….”
“ماذا يعني هذا؟”
“هناك مثلٌ شائع في القارّة الشرقية.”
ثم شدّني فيليون وأخذني بين ذراعَيه.
“قلتُ إنّ الملامسة فوق الحاجة ممنوعة…….”
“هذا مجردُ حضن. وقد تفعلُه مع شخصٍ تراهُ لأول مرة إن شعرتَ براحةٍ نحوه.”
أسند جبينَه على كتفي وهمس.
وبما أنّ صوته ضعيف، فلابدّ أنّه مُتعبٌ حقًّا.
ربّتُّ على كتفه قليلًا، فازداد قربًا. وهذا…… يعني…….
‘إنّه مُتعب، صحيح؟’
أنا أيضًا مرهقةٌ جدًّا، ونعسانةٌ بشكلٍ لا يُصدَّق.
لكنّ قربَه بهذه الدرجة يجعلُني…… أفكّر…… بأشياء أخرى.
“رايلي.”
“نعم؟”
“أذناكِ احمرّتا.”
بل لاحظ أيضًا.
ثم همس عند أذني:
“رايلي، في نهاية هذا الأسبوع…….”
وفي تلك اللحظة.
قعقعة!
انفتح الباب فجأةً.
“فيليوون! هل أنتَ هنا؟!”
دخل زعيمُ النقابة بحماسٍ وهو يلوّح بزجاجةِ نبيذ.
“أوه! رايلي هنا أيضًا! كنتُ أنوي مناداتكما! ماذا كنتما تفعلان؟”
“……لا شيء.”
كان صوت فيليون، الجالس تحت السرير، قاتمًا بشكلٍ مخيف.
أما أنا فكنتُ مستلقيةً على السرير متظاهرةً بقراءة كتاب.
……ولو تأخّرنا لحظةٍ واحدة فقط، لحدثت كارثة.
“ما الذي جاء بك إلى هنا؟”
“لقد انتهى مؤتمرُ اليوم بنجاح! علينا الاحتفال!”
“ها…….”
“همم؟ ما بكما…… أها! لحظة!”
أشار إلينا زعيمُ النقابة واحدًا بعد الآخر.
هل يعقل أنّه أدرك……؟
“نسيتُ أنّكما لا تحبّان النبيذ الأبيض! انتظرا قليلًا، سأعيده!”
وأغلق الباب بقوّة، فأطلقتُ تنهيدةً طويلة.
نظر إليّ فيليون وقال:
“إن قتلتُ هذا الرجل، هل ستكونين معي؟”
كان هذا أقسى مزاحٍ قاله فيليون مؤخرًا.
***
أما جدول الأيام التي لا يوجد فيها مؤتمرٌ علمي فهو كالتالي غالبًا:
استيقاظ ـ عمل ـ بحث ـ عودة ـ نوم.
والبحث عادةً ما أقوم به مع فيليون.
يعني أننا، من الناحية العملية، لا نفترق إلا حين ننام.
لكن في الأسبوع يومًا واحدًا لا ألتقي فيه فيليون إطلاقًا، وهو يومُ اجتماعنا مع نقابة المرتزقة.
ولا ينبغي أن أتغيّب عن هذا الاجتماع.
فبسبب خبرتي الواسعة في عمل المرتزقة، يفضّلني أفرادُ تلك النقابة كثيرًا.
‘صحيحٌ أنّني مشغولةٌ جدًّا…… لكنّي في الحقيقة أستمتع بالأمر.’
لذلك، كنتُ في ذلك اليوم أعود إلى نقابة السحرة بابتسامة.
وكان زعيمُ النقابة بجانبي يبدو وكأنّه سيطير من شدّة الحماس.
“هل أنتَ سعيدٌ إلى هذا الحد؟”
“طبعًا! هذه العروض نادرًا ما تأتي من نقابة المرتزقة! وكلّه بفضلك يا رايلي! لن أنسى لك هذا أبدًا!”
“لقد أدّيتَ دورك جيّدًا، سيدي الزعيم.”
“كلا، لم يكن ذلك ممكنًا لولاكِ. هيا بنا! علينا التجهّز للحفلة!”
“آه، لستُ متحمّسةً لذلك الجزء.”
كنتُ أحاول تهدئتَه حين لاحت لي ملامحٌ مألوفة في طرف بصري.
‘ماذا……؟’
وقبل أن أتأكّد منهم، كانوا قد دخلوا مبنى النقابة.
انتظر…… لا تقل……
“سيدي الزعيم، تعال بسرعة.”
“همم؟ ما الأمر؟”
“أسرِع.”
سحبتُه وركضتُ إلى داخل المبنى.
وفي ردهة النقابة، لم يكن هناك سوى عددٍ قليل من السحرة المتأخرين.
ورأيتُ فيليون، وهو يقطّب حاجبيه.
وأمامَه…… رجلٌ ضخمٌ مسنّ.
وفتاةٌ تبدو في عمرنا تقريبًا.
“هاهاها، فيليون يمزح بالتأكيد. يستحيل أن ينسى اسم خطيبته.”
قالت الفتاة:
“أرجوك…… قل إنّه مزاح، صحيح؟”
“قلتِ…… اسمُكِ……”
داعبَ فيليون ذقنه وهو يقول:
“كان…… ليمبو؟”
“إنّه بريجيت!”
“آه، فليشيه.”
“قلتُ بريجيت! يا أحمق!”
عند سماع الاسم، عاودتني ذكرى باهتة لشخصٍ ما.
حدّقتُ فيها لأتأكّد…… وفي تلك اللحظة التقَت عيناي بعيني الرجل المسن.
التعليقات لهذا الفصل " 130"