كان الأمر أشبه بشعور أنّ أحدهم أعاد بعنفٍ إثارة قلبي الذي بالكاد هدأ.
‘يا لي من غبيّة.’
الكونت فولكس ليس إنسانًا يلتزم بتلك الوعود التافهة.
لابد أنّه سخر في داخله، فرِحًا بأنه تمكّن من توفير المال.
ذلك هو الكونت فولكس. كان يستمتع بخداع الآخرين، وإذا ما نجح الأمر شعر بسعادةٍ صادقة، وظلّ يستعيد ذلك مرارًا.
‘أن أصدّق مثل هذا الإنسان….’
لكن ربّما لم يكُن لديهم خيارٌ آخر.
كيف لفقيرٍ بسيط أن يعرف بحقيقة نبيلٍ يُصرّ على إخفاء هويته؟
ثم إنّه كان الطبيب الوحيد الذي قال إنّه يستطيع إنقاذي بعدما تخلّى عنّي كلّ الأطباء. كوالدين، لم يكن أمامهما سوى التمسّك بذلك الأمل.
‘لا، توقّفي.’
لِمَ أدافع عنهما؟
على أيِّ حال، لقد قبضا المال منذ البداية. لقد سلّماني بيديهما إلى الكونت.
وبعد أن انتقلتُ إلى يد الكونت، كنتُ……
“لا بد أنّ كل هذا يبدو لك كأعذار.”
“…… نعم، يبدو كأعذار.”
رغم أنّي حاولت الردّ ببرود، إلا أنّ غيل ابتسم.
“وكيف عشتِ كل تلك الفترة؟”
“كنتُ محتجزةً في القبو. إن لم أنهِ الدراسة التي كلّفني بها الكونت في وقتها، لم يكن يُسمح لي حتى بشربة ماء.”
“هل بقيتِ هناك طوال الوقت؟”
“عندما بلغت الخامسة عشرة جئتُ إلى برج السحر. كنتُ الأذكى بين الأطفال المحتجزين، فاختارني الكونت. أما الآخرون، فأغلب الظن أنّه استخدمهم كموادّ تجارب.”
“…… نعم، إذن يبدو حقًا كالأعذار.”
“…….”
“كنتُ أظن أنّي عانيت كثيرًا، لكن لا مجال للمقارنة معكِ.”
نعم، لقد بذلتُ كل جهدي.
تودّدتُ للكونت بكل أشكال التملّق والمداهنة كي أنجو بحياتي.
وبفضل جهودي تلك استطعتُ مغادرة القبو والصعود إلى برج السحر. وحتى بعدما ظهر فيليون وأخذ مني المرتبة الأولى، ظللتُ فخورةً بقدراتي.
‘والآن…….’
حدّقتُ في حذاء غيل البالي.
كان سرواله الغامق قد بَلِي عند الركبتين.
وفوق ذلك، تداخلت صورة بيته العتيق. أجواؤه الباهتة التي لم تلائم أبدًا أدوات المائدة التي أهداها فيليون ظلت عالقةً بذهني. وأصابع نيريسا المرتجفة وهي تقدّم لي الشاي……
كان الأمر مؤلمًا للغاية.
“لن أذهب إلى حفل التنصيب.”
تنفّس غيل بخفوتٍ ثم واصل كلامه.
“من البداية، أنا وأمي لم ننوِ الذهاب. خفنا أن نُشعركِ بالانزعاج.”
“…….”
“حفل التهنئة لا ينبغي أن يُلطَّخ إلا بالفرح.”
لم أُجب.
لا أعلم. لا أعرف حتى ما الذي أريده أنا نفسي. لم أستطع أن أرتّب مشاعري بسهولة.
فبينما كنتُ أضغط على جفوني المبلّلة بحرارة الدموع، قال:
“لكن إن لم يكن الأمر يُزعجك…… فهل نستطيع أن نتناول العشاء معًا لمرةٍ واحدةٍ فقط؟”
“…….”
“أمي قالت إنها تودّ أن تراكِ لمرةٍ أخيرة.”
كان شديد الحذر على عكس ضحكاته السابقة، وامتلأت عيناه الزرقاوان بالقلق وهو يراقبني.
لم أستطع أن أتحمّل النظر أكثر، فأنزلتُ بصري. وبعد صمتٍ طويل، بالكاد تملّكت نفسي وأومأت بالموافقة.
***
كانت أول فكرةٍ خطرت لي:
‘أيعقل أنني قد أعود إلى هذا البيت؟’
استقبلتنا نيريسا عند المدخل.
“أهلاً! رايلي! وأهلاً بكَ أيضًا يا فيليون!”
“شكرًا على الدعوة.”
“بل أنا من يشكركما على المجيء!”
ثم مدّت يدها لتقبض على يدي، لكنها سرعان ما أدركت الأمر فتراجعت بخجل خطوةً إلى الوراء.
وبعد لحظة صمتٍ قصيرة، ابتسمت مجددًا وقالت:
“الطعام على وشك أن يجهز. هل تنتظران قليلاً؟”
وضع فيليون صندوق الهدية المخصّص للويد جانبًا، ثم تقدّم قائلاً:
“سأساعدكِ.”
“أوه، حقًا؟ هذا لطفٌ كبيرٌ منك!”
ومن طريقة قبولها السريعة أدركتُ أنّ الأمر لم يحدث للمرة الأولى.
‘ولهذا كان كل مرةٍ يزعم أنّه قد تناول طعامه بالفعل.’
لم أشأ أن أتطفّل أكثر، فتراجعت وجلستُ على المائدة مثل آلةٍ صدئة لا تدري ما تفعل.
وفي تلكَ اللحظة، نزل غيل من الطابق الثاني ومعه لويد وطفلةٌ صغيرة.
انحنت الطفلة لي بأدب كما فعل لويد من قبل.
“هذه شقيقتي الصغرى. ريتا.”
“مرحبًا!”
“مرحبًا. أنا رايلي. أعمل مع والدكِ في نفس المكان.”
هكذا اتفقنا قبل المجيء. فأنا لا أنوي العودة إلى هنا ثانية.
“لم أكن أعلم أنّ الآنسة فولكس ستأتي إلى بيتنا!”
“وأنا أيضًا لم أكن أعلم.”
رحّب بي لويد ببهجةٍ جعلت الجو أخفّ وطأة.
أما ريتا، فكانت تُحدّق بي بعينيها الكبيرتين دون أن تصرخ أو تنفر.
لكن عندما قدّم لها فيليون الطبق أمامها، عبست.
“أنا لا أحبّ الجزر…….”
“عليك أن تأكليه اليوم.”
“ألا تستطيع أن تأكله بدلاً مني؟”
“لا. لقد وعدتِني المرة الماضية.”
ظننتُ أنها ستبدأ بالصراخ، لكنها لم تفعل سوى التذمّر.
وعندما نظرتُ إلى غيل باستغراب، رفع كتفيه وكأنّه يقول: ‘حتى أنا لا أعرف كيف يجيد التعامل معها هكذا.’
وحينما التفتُّ، أبصرتُ فيليون يقف بجوار نيريسا يساعدها في الطهو، في منتهى اللياقة.
صوته المهذّب وهو يقول: “دعيني أفعل هذا.” بدا مختلفًا تمامًا.
أهذا نفس الفتى الذي كان يتصرّف بوقاحةٍ حتى مع جدّه؟
“آنسة فولكس؟ لِمَ تبتسمين؟”
“آه، فقط شعرتُ أن فيليون لطيفٌ جدًا.”
ما إن أجبتُ لويد، حتى صاحت ريتا:
“فيليون لطيفٌ دائمًا! لقد اشترى لي دمى كثيرةً جدًا!”
“حقًّا؟ لكنه عندما قابلني أول مرة لم يكن لطيفًا أبدًا.”
“لكن لماذا؟ رايلي جميلة! إنها الأجمل بعد جدتي وأمي وعمّتي!”
فأسرّ لويد في أذنها:
“ريتا. في مثل هذه المواقف عليكِ أن تقولي إنها الأجمل على الإطلاق.”
“ولماذا؟”
“لأن الآنسة فولكس ثريّة.”
“إذن أنتِ الأجمل على الإطلاق!”
ابتسم غيل بخجل.
“هاها… أظن أنني تحدثتُ عن المال أمامهما كثيرًا فالتقطا الأمر.”
“أكثر من مجرد مرةٍ أو مرتين على ما يبدو.”
“الوقت الراهن صعبٌ كما تعلمين.”
عندها أدركت أنّ عبارات لويد ما هي إلا انعكاسٌ لحديث غيل نفسه.
سرعان ما اكتمل الطعام. وكان كله من الأطباق التي أحبها.
شعرتُ بأنهم يبالغون في إرضائي، لكن ريتا ورود تناولا الطعام بشهية أيضًا. لعلّ أذواقنا متشابهةٌ بحكم القرابة.
كان شعورًا غريبًا.
“هل الطعام مناسبٌ لذوقكِ؟”
“نعم. إنه لذيذ.”
ابتسمت نيريسا بفرح.
“هناك المزيد، قولي فقط إن أردتِ. يمكنكِ أن تأكلي قدر ما تشائين.”
لكننا لم نُطل الحديث بعدها.
فقد لذتُ بالصمت، غير قادرةٍ على إيجاد الكلمات.
أما نيريسا، فبدت كأنها تبحث عن كلامٍ لتقوله. وكان غيل يرمقنا قلقًا، وفيليون يراقب الجو.
وعندما بدأ الجو يثقل، قال لويد فجأةً.
“اليوم حصلتُ على مئةٍ من مئة في المدرسة!”
“حقًّا؟”
“نعم! ولم يحصل أحدٌ غيري على العلامة الكاملة!”
ابتسم الجميع، وتحوّل الجو.
كان صوته المرح يذيب الجمود، حتى إنني ابتسمتُ بدوري.
لكن ريتا تمتمت بحزن:
“أنا لا أريد الذهاب إلى المدرسة… لا أريد أن أدرس…….”
“عليكِ الذهاب. هناك ستجدين أصدقاء كثيرين.”
“لكن فيليون قال إنه لم يذهب إلى المدرسة!”
فما كان من الجميع إلا أن نظروا إليه في آن واحد، فتلعثم قائلاً:
“أنا لم أذهب إلى المدرسة، بل إلى برج السحر. وهناك أيضًا كان عليّ أن أدرس.”
“صحيح. برج السحر مكانٌ يحتاج إلى جهدٍ عظيم! ريتا، لن تستطيعي تحمّل ذلك.”
عندها أطرقت ريتا بحزن، ثم سألتني بخجل:
“هل ذهبتِ أنتِ أيضًا إلى برج السحر يا رايلي؟”
“نعم.”
“وهل يجب أن ندرس كثيرًا هناك أيضًا؟”
“آه… نعم، ربما.”
“ورغم ذلك ذهبتِ؟”
ابتسمتُ.
“نعم. فأنا أحبُ السحر حقًا.”
“لكن الدراسة مملة.”
“هناك دروسٌ ممتعةٌ أيضًا.”
حقًّا، لم أكن أشعر بالتعب حين كنتُ أدرس السحر.
حتى في القبو المظلم، لم يكن التعلم بحد ذاته شاقًا عليّ.
رغم كرهي الشديد للكونت، كنتُ أنغمس في الكتب ناسِيةً كل شيء.
كنتُ أحمدُ موهبتي في كل مرةٍ أنجو فيها.
حتى إنني كنتُ أتمتم أحيانًا بشكرٍ لحاكمٍ لا أؤمن به.
وعندما كنتُ أملّ، كنتُ نادرًا ما أتذكر أن أشكر والديّ أيضًا.
“وهكذا… كان الأمر محتملاً…….”
لأنكما منحتماني قوة السحر.
لأن بفضلها استطعت أن أتحمّل قدري القاسي.
كنتُ أتمنى لهما العيش بخير.
ولم يخطر ببالي قط أنّهما كانا ينتظران عودتي.
“أنا أيضًا أريد أن أمارس السحر!”
“إن أكلتِ كثيرًا من الجزر، ستستطيعين.”
“لا! إذن لا أريد!”
ضحك لويد وهو يمازحها، وربّت غيل على رأسها بحنان.
أما أنا، فكنتُ أحدّق في وجهي المنعكس في الكأس أمامي، متخيّلةً وجه أبي الذي ظلّ ينتظرني في هذا البيت.
***
رافقتنا نيريسا حتى باب المنزل.
“شكرًا لقدومكما اليوم.”
أومأتُ برأسي فقط، غير قادرةٍ على الكلام. كنتُ ما زلتُ مطرقة البصر حين فاجأتني بخطوةٍ نحو يدي، فأمسكت بها.
“آه، المعذرة.”
ثم تراجعتُ بسرعة.
“لكن… لدي ما أريد قوله.”
ظللتُ صامتة. فأخرجت من جيبها قلادةً صغيرة ذات سلسلةٍ فضية، بدت قديمةً جدًا. وعندما فتحتُها، وجدتُ بداخلها زمردةً صغيرةً بحجم ظفر الإصبع.
“هذه…….”
“إنه هدية جدتكِ عندما وُلدتِ. قالت إنها اشترتها لأن لونها يشبه لون عينيكِ.”
“…….”
“كنتُ أظن أنني علّقتها حول عنقكِ يوم رحلتِ. لكن بعد مدة، وجدتها مصادفةً وأنا أنظف البيت. وقتها شعرتُ برعبٍ شديد، وظللتُ أبحث عن طفلةٍ تضع هذه القلادة.”
ابتسمت نيريسا بخفة.
أما أنا، فكنتُ أحدّق في الزمردة المتلألئة وسألت:
“لِمَ… لم تبيعوها؟”
صحيح أنّ قيمتها ليست عظيمة، لكنها كانت كافيةً لمساعدة نيريسا. فقد ربّت أبناءها الثلاثة وحيدة، وكان بوسعها أن ترتاح من العمل شهرًا على الأقل لو باعتها.
“كيف لي أن أفعل ذلك؟ هذه القلادة تحمل حظّك.”
“…… حظّي؟”
“نعم. في مسقط رأسي، تُعتبر أول هديةٍ يتلقاها الطفل من شخصٍ غير والديه رمزًا للحظ. ويُقال إن من يحتفظ بها تحالفه السعادة.”
ابتسمت بلطف وأضافت:
“ولذلك كنتُ أتمنى أن أعيدها إليكِ إن التقينا مجددًا.”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 128"