الفصل 118 :
كان طَعمُ الخمرِ الذي شربتُه بعد وقتٍ طويلٍ في غايةِ اللّذّة.
وربّما لأنَّ حالتي كانت جيّدة، فقد شربتُ أكثر من المعتاد من دون أن أسكر. بل وصمدتُ أطول من المرتزقة الضّخام.
لكن، وعلى الرّغم من كلّ ذلك القدر من الشّرب، لم يتحسّن مزاجي ولو قليلًا.
لأنَّ فيليون، حتّى عندما عاد إلى الغرفة، لم يتفوّه بكلمةٍ واحدةٍ معي.
بل حافظ على المسافة بيننا طوال الطّريق الذي سرنا فيه معًا.
لو رآنا أحد، لظنَّ أنّنا مجرّد غريبَيْن يسيران متجاورَين، لا رفيقَين في رحلةٍ واحدة.
وما كان من كلامٍ بيننا إلّا جملةٌ واحدةٌ فقط، قالها قبل أن نفترق.
“ادخلي. نلتقي غدًا.”
ثمّ استدار بسرعةٍ ورحل.
ظللتُ أحدّق به وهو يبتعد، ثمّ فجأة فتحتُ فمي وناديته.
“فيليون.”
كان فعلًا متهوّرًا، لا أستطيع أن أفسّره إلّا بأنّه تأثير الخمر.
ولهذا التفت إليّ، لكن لم تخرج من فمي أيُّ كلمة.
فقط ظللتُ أحدّق في عينيه البنفسجيّتَيْن، ثمّ هززتُ رأسي أخيرًا.
“……لا، لا شيء. ليلةٌ سعيدة.”
دخلتُ غرفتي، وألقيتُ جسدي على السّرير، وأطلقتُ تنهيدةً طويلة.
ومضى وقتٌ طويل، من دون أن أشعر بعودته أو حتّى طرقه على الباب.
أعدتُ شعري إلى الخلف بعشوائيّة، ثمّ زفرتُ مرّةً أخرى.
***
وكما توقّعت، زارني صداعَ السُّكر في اليوم التّالي.
أنا نادرًا ما أعانيها، لكن هذه المرّة كانت أشدّ من المعتاد. ربّما لأنّني فوق السّفينة، فامتزج الأمر بدوار البحر، فاشتدّ وجعي.
‘آه… معدتي أيضًا سيّئةٌ جدًّا…….’
شعرتُ أنّ بقائي في الغرفة سيزيد حالتي سوءًا، فغسلتُ وجهي وخرجتُ إلى السّطح.
وما إن لامستني النّسائم الباردة حتّى شعرتُ أنّني أتنفّس من جديد. كان الصّباح باكرًا، والجوّ هادئًا، إذ لم يتواجد كثيرون بعد.
‘لو أتناولتُ شيئًا دافئًا الآن لكان رائعًا.’
وبينما أنا مسترخية، شعرتُ بخطواتٍ تقترب.
“استيقظتِ باكرًا؟”
كان بايون، الذي ضرب ظهري بكوعه البارحة في السّهرة.
جلس إلى جانبي معظم الوقت في ذلك المكان أيضًا.
لكن، وقد التقينا مرّةً أخرى في وضح النّهار، انتابني شيءٌ من الحرج أكثر من الألفة. كما يحدث عادةً حين ترى شخصًا شاركك جلسة خمر، في اليوم التّالي.
“آه، نعم…… وأنت أيضًا.”
“شربتِ كثيرًا، أأنتِ بخير؟”
“حالتي ليست جيّدةً جدًّا، لكن سأتجاوز الأمر.”
أسندتُ ظهري إلى السّياج، عازمةً على البقاء هناك إلى حين وقت الفطور.
غير أنّ بايون جلس إلى جانبي أيضًا.
‘هاه؟’
ظننته سيقول: “اراكِ لاحقًا”، ثم يرحل. لكنّه بدا وكأنّه ينوِي البقاء.
ربّما هو الآخر يريد استنشاق الهواء النّقي لطرد صداع الخمر. لكن في الحقيقة كنتُ أتمنّى لو يجلس في مقعدٍ آخر.
فحالتي لم تسمح لي بعد بخوض أحاديث طويلةً مع أحد. وما كنتُ أشعر بألفةٍ كبيرة معه أصلًا.
حتى حديث البارحة، لم يكن ذا أهميّة……
―”آنسة، ما هو نوعُكِ المثالي إذن؟”
عادت فجأةً تلك الذّكرى إلى خاطري. نعم، كان سؤال ذلك الرّجل. سألني بهدوء بينما كان أحد المرتزقة يصخب بالكلام.
وجوابي حينها كان:
― “شخصٌ كثير الكلام.”
― “عفوًا؟”
― “شخصٌ لا أشعر معه بالحرج أبدًا، ويكون ممتعًا إلى حدّ أن يمرّ الوقت من دوّن أن نشعر.”
لكنّه لم يكن جوابًا صادقًا. لقد رمَيتُ تلك الكلمات فقط لأنّني كنتُ منزعجةً من فيليون الذي حافظ على مسافةٍ منّي طوال الوقت.
‘لا بدّ أنّني كنتُ قد سكرتُ فعلًا. كيف تفوّهتُ بمثل هذا الكلام…….’
“لماذا هذا التّعبير على وجهكِ؟”
مسحتُ وجهي بيدي، ثمّ التفتُّ إليه.
“ذاك…… الكلام الذي قلتهُ البارحة.”
تأمّل قليلًا ثمّ تذكّر بسرعة.
“آه، عن النّوع المثالي؟”
“انسَه.”
“ماذا؟”
“لم أكن بعقلي حينها.”
“لا بأس، برأيي لا يوجد ما يدعو لاعتباره زلّة كلام…….”
“قلتُ لك انسَه.”
“نعم.”
وحين نظرتُ إليه بحدّة، أشار بإصبعيه إلى فمه كأنّه يغلقه بسحّاب. يبدو أنّه يعرف كيف يُطيع.
فأعدتُ بصري نحو البحر.
“على ذكر ذلك، ماذا قال هيميل عنّي؟”
“……ألم نذكر ذلك البارحة؟”
“تأمّلتُ في الأمر ووجدتُ أنّ ذلك الجزء تحديدًا لم نتحدّث فيه. كان الجوّ صاخبًا، فنسيتُ أن أسألكِ.”
حاولتُ أن أستعيد ذكرى ليلة الأمس. لكن كلّ ما بقي في ذهني هو شرب الخمر.
“لا شيء مهمّ…… ماذا كان…… آه، قال إنّك أحيانًا تجرح قلب شريكتكَ لأنّك تلتفتُ كثيرًا إلى ما يقوله الآخرون…….”
“لكن لم يكن أمامي خيارٌ آخر…….”
“قال هيميل إنّه ليس من الضّروري المبالغة في ذلك. وإنّ عليك أن تولي اهتمامًا أكبر لشريكتك.”
“هاه، صحيح أنّه قال ذلك. وماذا أجبتِ أنتِ؟”
“قلتُ إنّه أفضل من أن تُسبّب المشاكل للآخرين…… لكن إن لم تكُن قادرًا على التّمسّك بموقفك، فلا أدري لماذا ترتبط أصلًا، أيُّها الأحمق…… آه!”
غطّيتُ فمي بيدي وحدّقتُ به.
“ماذا قلتُ للتوّ؟”
“قلتِ أحمق.”
“أعتذر. لستُ بعقلي.”
“أأنسى هذا أيضًا؟”
“نعم، انسَه.”
“نعم، سأفعل.”
أعاد حركة السّحّاب على فمه مرّةً أخرى. فتسلّل ابتسامٌ إلى شفتيّ رغمًا عنّي.
“شكرًا لك.”
كنتُ أهمّ بالعودة إلى البحر بنظري حين رأيتُ بايون يتجمّد فجأة وعيناه تتّسعان بدهشة.
“ما بك؟”
“ذاك…… أوّل مرّة أراكِ تبتسمين.”
حككتُ عنقي خجلًا.
“……هذا من أثر السُّكْر.”
“لكن حالتكِ أمس كانت أسوأ بكثير.”
اقترب منّي قليلًا وهو ينحني للأمام ليتأمّل وجهي، فما كان منّي إلّا أن تراجعتُ خطوةً إلى الوراء. ولشدّة تضايقي عقدتُ حاجبَيّ، لكنّه اكتفى بابتسامةٍ رقيقة، ثمّ أشار خلفي.
“ذاك الشّخص كان ينظر إليكِ بغضبٍ شديد.”
أدرتُ رأسي ببطء، ولم يكن مفاجئًا أن أرى فيليون.
لكنّ عيوننا لم تتلاقَ. بدا أنّه خرج للتوّ إلى السّطح، وانشغل في حديثٍ عابر مع أحد المرتزقة، ثمّ مضى جانبًا حتّى غاب عن ناظري.
……من دون أن ينظر إليّ ولو مرّةً واحدة.
“أتشاجرتما؟”
“لو تشاجرنا لكان أفضل بكثير.”
“هل يمكن أن أسألكِ ما الأمر؟ ربّما أستطيع المساعدة―”
لكن فجأة دوّى صوت الأجراس.
“وحش! وحشٌ في البحر!”
سمعتُ صيحات الاستغاثة، وفي اللحظة التي رفعتُ رأسي نحو البرج لأرى البحّارة، اهتزّت السّفينة بقوّة.
“آه!”
سقط الجميع على السّطح. حتّى بايون ركع على ركبتيه، وأنا فقدتُ توازني وسقطتُ أرضًا.
لكن فيليون وحده لم يسقط.
“هل أنتِ بخير؟”
متى أتى؟ كان إلى جانبي يسندني.
رفعتُ بصري إليه بدهشة. أهذا هو نفسه الذي يتجاهلني دائمًا، ويهرع إليّ الآن بهذه السّرعة؟
“هل أصبتِ؟”
“يؤلمني قليلًا…… لا، ليس مهمًّا. الوحوش أوّلًا!”
سحبتُ جسدي بسرعة نحو السّياج، وإذا بثلاثة ظلالٍ تشبه أسماك القرش تلوح في البعيد.
كنتُ قد رأيتُ تلك الكائنات من قبل. تهاجم السّفن بضربها حتّى تُغرقها، ثمّ تلتهم البشر.
“إنّها قادمةٌ مرّةً أخرى!”
وما إن قيل ذلك حتّى اندفعت الوحوش عبر المياه بسرعة هائلة.
فأسرعتُ باستدعاء سِحري.
دوّى صوت ارتطامٍ هائل حين اصطدمت الوحوش بالحاجز الذي نشرتُه.
وتوالت الاصطدامات مرارًا. ثمّ أخذت أعدادها بالازدياد، إذ كانت من الكائنات التي تصطاد جماعة.
“أأنتِ ساحرة؟”
سمعتُ صوتًا يقترب من خلفي. كان قائد السّفينة، الذي لمحتُه عند الصّعود أوّل مرّة.
“نعم. كيف حال السّفينة؟”
“لحسن الحظ، لم تُثقب. شكرًا لسرعة تدخّلك.”
انحنى لي قليلًا، ثمّ قال:
“رجائي أن تُبقي الحاجز قائمًا حتّى ننتهي من التّصدّي للوحوش. وبعدها سنختار من بين الرّجال من يستطيع القتال، ونُنزلهم إلى القوارب…….”
لكن فيليون قطع كلامه.
“سأنزل وحدي.”
“……ماذا؟”
“أنا وحدي كافٍ.”
ألحّ القبطان عليه بالسّؤال مرارًا، لكن فيليون كان حاسمًا. يمكنه أن ينهي الأمر وحده.
“حين أُعطيكِ الإشارة، أزيلي الحاجز. مفهوم؟”
أمسكتُ بيده بسرعة.
“ألن…… أذهب معك؟”
“لا داعي.”
ابتسم قليلًا، ثمّ نظر إلى يدي الممسكة بيده، وربّت عليها بخفّة، كأنّه يتحسّر على تركها.
“لن يستغرق الأمر طويلًا.”
وسرعان ما ركب القارب، وأُنزل إلى البحر حسب أوامر القبطان.
وكان كما قال.
***
مجزرة.
لا أجد تعبيرًا أصدق من هذا لوصف ما جرى.
بمجرّد أن لامس القارب سطح الماء، جرح فيليون ذراعه ليلفت انتباه الوحوش بدمه.
فانجذبت إليه، وتراجعَت عن الحاجز. ثمّ اصطفّت في ثلاثة صفوف استعدادًا للهجوم.
وما إن اندفعت دفعةً واحدة، رفعتُ الحاجز.
سبعة وحوش، كلّها ضخمةْ بحجم البشر، هجمت دفعةً واحدة على فيليون.
لكن لم يصله واحدٌ منها.
“يا إلهي.”
بمجرّد أن تخطّت الوحوش مكان الحاجز، تفتّتت إلى أشلاء.
“ماذا…… ماذا يحدث؟”
بدا الأمر كأنّها مرّت في خلاطٍ غير مرئي، أو كأنّ عشرات السّيوف تتحرّك وحدها لتقطّع أجسادها.
القافز منها لينهشه، والذي ارتفع نصفه ليهزّ القارب الصّغير، كلّها صارت قطعًا متناثرة.
وتناثرت الأشلاء على سطح البحر.
وبين رذاذ المياه المتناثر، تحوّل البحر من حول فيليون إلى بقعةٍ حمراء قانية.
وساد الاضطراب بين النّاس.
“يا للعجب، أيُّ سحرٍ هذا؟”
حتّى أنا، لم أرَ شيئًا كهذا في حياتي.
‘هذا جنون.’
لقد أزال من رأسي صداع السُّكْر كلّه دفعةً واحدة.
‘أنت لم تكن تستعمل مثل هذا السّحر مِن قبل!’
‘سأسألك بالتّأكيد ما هو. حتّى إن كان من فرع سحرٍ لا أستطيع استعماله، سأسألك!’
واندفعت الوحوش التي في الصّفّ الثّاني، وكانت أكبر حجمًا وأسرع. لكن النّتيجة لم تختلف.
بمجرّد أن أشار بيده في الهواء، انطلقت أصواتٌ حادّة، وتقطّعت الأجساد إلى أشلاء.
ارتطمت الأجساد المتساقطة بالماء، فتناثر الرّذاذ في كلّ اتّجاه.
“رفيقكِ…… ساحرٌ عظيم حقًّا.”
قال بايون ذلك بذهول، حين كان فيليون قد عاد بالفعل إلى السّطح.
كان نصف جسده مبتلًّا، فخلع معطفه المبتلّ وسرح شعره للخلف بيده.
فتجمّد الجميع في صمت، مبهورين بمظهره.
وما إن نظرتُ حولي حتّى أدركتُ أنّ كلّ العيون مسمّرةً عليه.
تحت أشعّة الشّمس، كان جبينه المستقيم وأنفه المرتفع يلمعان، وقطرة ماء واحدة انحدرت من شعره على امتداد عنقه حتّى اختفت عند صدره.
تقدّمت فتاةٌ بخطواتٍ متردّدة، ومدّت نحوه منشفة.
“ت، تفضّل…… هذه منشفة…….”
“شكرًا.”
أخذها فيليون ومسح بها وجهه، فابتسمت الفتاة بسرورٍ شديد.
أمّا أنا، فعضضتُ على شفتي بشيءٍ من الضّيق، وفي تلك اللحظة بالذّات، رفع فيليون رأسه ونظر نحوي.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 118"