[السّنة الشّمسيّة 106، الثّاني والعشرون من ديسمبر.
أرسلوا شخصًا إلى نزل «حارس البئر» في مدينة كالت بحلول الظّهر.
هناك ستكون الأميرة ناتانيا تنتظر عائلتها.
إلى صاحب السّموّ الدّوق العزيز ميرمجاندي.]
حدّد المُرسِل المجهول تاريخًا معيّنًا، ولم يبقَ سوى ثلاثة أيّام حتّى ذلك اليوم.
لكنّ الرّسالة التي يُفترض أنّها من خاطف الأميرة كانت تحمل نقاطًا مشبوهة أكثر من واحدة أو اثنتين.
فهي لم تطلب فدية، بل أخبرتهم بلطف بزمان ومكان لقاء الأميرة.
نظر نيكولاس إلى مَن في المكتبة ثمّ كسر الصّمت.
“سأذهب أنا.”
“… أنتَ؟”
:يجب أن أذهب لأحضر نات.”
قال جين:
“أخي، هل تُصدّق محتوى هذه الرّسالة حرفيًّا؟ أنا قلق من أن يكون لكاتبها نية خفيّة أخرى. ماذا لو لم تكن نات هناك؟ ألم يكن هناك الكثير من البلاغات الكاذبة حتّى الآن؟”
ضحك ثيودور بسخرية.
“يكفي أن نأخذ قوّات مسلّحة معنا. مدينة كالت تُدار من قِبل التابع جايس، فسيكون كافيًا أن نطلب تعاونه.”
هزّ نيكولاس رأسه وهو يستمع إلى حديثهما.
“كالت مدينة تتبع الدّوقية رسميًّا، وأخذ فرقة فرسان معنا لن يُنقص إلّا من هيبة العائلة. سأذهب أنا ونائب القائد فقط. أرجو موافقتك، يا أبي.”
وقف نيكولاس منتظرًا ردّ الدّوق.
قبض كايل بقوّة على ذراع الأريكة وعبس بوجه خشن.
كانت نوبة عصبيّته المزمنة القديمة على وشك أن تعاوده.
فتح الدّوق عينيه على وسعهما وتمتم:
“… يا للحمقى. من أين ورثتم كل هذا العجز ؟”
بسبب السّهر ليلة كاملة، بدا الدّوق أكبر سنًّا ممّا هو عليه. قال موجّهًا كلامه لابنه:
“سيضحك علينا العالم كلّه. هيبة سقطت إلى القاع وتحطّمت… وها أنتم الآن تحاولون استعادتها. لا داعي لانتظار ذلك التّاريخ. الآن فورًا، أرسلوا الفرسان إلى كالت وأعيدوا ناتانيا.”
صرخ الدّوق صرخة دوّت جدران المكتبة:
“الآن!!”
عبس نيكولاس.
لو كان قد ذهب إلى دُورن أسرع قليلًا، لكان قد أمسك بذيل الخاطف.
كانت الملكة ولابيير يبديان قد أعطت موقفًا سلبيًّا تجاه البحث عن الأميرة، مجرّد تظاهر بالامتثال لأمر الملك دون غيره.
في تلك اللّحظة، طرق أحدهم باب المكتبة.
ركض شنييل ليستقبل الطّارق غير المدعوّ.
كان القادم هو غريك، الضّابط المباشر لنيكولاس ونائب القائد، ذو الشّعر الأخضر الطّويل المربوط حزمة واحدة.
قال غريك بصوت جافّ:
«جئتُ لأبلّغ الدوق الصغير بـ أمر عاجل، فـأعتذر عن الإزعاج.»
تغيّر وجه الخادم فجأة عندما تسلم الورقة من غريك وأظلمت ملامحه.
«ما الأمر، يا غريك؟»
تقدّم نيكولاس وسألهما. تردّد شنييل ثمّ قال بصوت مرتجف:
«إنّه… إنّه…»
«تكلّم.»
«في نهر كالت… يبدو أنّهم رأوا… جثّة الأميرة. يقولون إنّ قطّاع طرق هاجموا منذ أيّام.»
«…!»
أشار نيكولاس إلى شنييل أن يخفض صوته.
لحسن الحظّ، لم يصل صوت الخادم إلى داخل المكتبة.
نظر الخادم إلى نيكولاس نظرة مختلفة هذه المرّة، لأنّه لم يبدُ أيّ اضطراب يُذكر عند سماع خبر موت أخته.
للدّقة، نيكولاس لم يصدّق الخبر فحسب.
كان لديه سبب آخر لتفكيره ذاك.
خطّ الرّسالة المجهولة التي فتحها الدّوق كان مختلفًا عن خطّ الورقة التي جاء بها غريك.
همس نيكولاس:
«أعطني إيّاها واخرجا كلاكما. لا تذكرا أمر الورقة لأحد، مفهوم؟»
«لكنّ، سيدي الصّغير، إن كان هذا صحيحًا…!»
«نيك! مَن جاء إليك حتّى تأخذ كلّ هذا الوقت؟»
سمعت صرخة كايل سّريع الغضب.
خرج غريك وشنييل من المكتبة بعد أن نظروا حولهما بحذر.
دفع نيكولاس الورقة التي أحضرها غريك داخل جيب صدريّته بقوّة ثمّ عاد إلى المكتبة.
* * *
«فقدتم الأميرة…؟»
«نعتذر، صاحب السّموّ. رأيناها تسقط من جوادها أمام أعيننا مباشرة، لكن بعد ذلك…»
«كان أمري لكم واحدًا فقط… لم أكن أعلم أنّه صعب إلى هذا الحدّ.»
«وقع الحادث أمام الوجهة مباشرة. عندما اقتربنا من ضفّة النّهر كان الطّقس سيّئًا، وتعرّضنا لهجوم مفاجئ من العدوّ أثناء التّنقّل…»
«لستُ هنا لأسمع الأعذار الآن.»
قاطع كريستوفر كلام فريدكين.
كان قد أنفق مؤخّرًا من خزينة الدّولة وماله الخاصّ بكثرة لشراء طلب من نقابة.
خطّط لتوصيل الأميرة حتّى حدود الدّوقية فقط ،حتّى لا يثير أيّ شكوك…
‘اللّعنة!’
سبّ كريس في سرّه وفتح عينيه بحدّة.
«مَن مِنكم كان آخر مَن رآها؟»
التفت اثنان من الفرسان اللّذان كانا واقفين مكتوفي الأيدي في الوقت نفسه.
تقدّم صاحب النّظرة أخيرًا إلى الأمام وتكلّم:
«أنا رأيتها، جينجر فاغنر، صاحب السّموّ.»
«تفاصيل الحادث؟»
«كانت معي، ففزع الحصان من سهم فسقطت. عندما عدتُ إلى المكان، كان فرسان لا تنتمي لأيّ جهة قد اقتحموا المكان وأخذوها بالفعل.»
«هل تتبّعتَهم حتّى النّهاية؟»
سأل كريس بصوت خالٍ من التّعبير وهو يُرخي عينيه ببرود. تابع جينجر كلامه وهو يغرز نظره في الأرض كأنّه يتألّم:
«نعم، تتبّعتهم… لكنّنا انشغلنا بمواجهة كمين في مكان آخر ففوّتنا الفرقة الرّئيسيّة لقطّاع الطّرق.»
«… فوّتنا، إذن.»
«أعتذر، صاحب السّموّ. كلّ شيء بسبب خطئي. إن عاقبتموني فسأقبل العقوبة برضا.»
ظهر شعر كريس الأشقر المبلّل بالعرق من تحت خوذته.
عبس حاجباه المستقيمان.
ارتسم القلق والتّفكير في عينيه العنبريّتين.
‘من الصّعب أن تكون تلك الأميرة العمياء لا تزال حيّة. أن يحدث هذا عندما اقتربت من حدود الدّوقية… كانت الشّخص الوحيد في عائلة ميرماجندي الذي يمكن التّفاهم معه. لقد أصبح الأمر مؤسفًا.’
أغلق الأمير عينيه لحظة ثمّ فتحهما وقال:
«جينجر فاغنر، ليس لك أن تقرّر ذلك بنفسك. عندما نعود إلى العاصمة ستكون لك عقوبة منفصلة، فاعلم ذلك.»
حدّق كريس في قمّة رأس جينجر البنيّة.
كان واضحًا أنّ أحدهم زرع جاسوسًا هنا.
لم تفارق هذه الفكرة رأس كريس بسهولة.
* * *
«لا أعلم. ما زلتُ لا أستطيع أن أتخيّل شكلك أبدًا.»
كان قلبي يخفق بقوّة وكأنّه سينفجر، لكنّني تكلّمتُ ببرود مصطنع.
كانت هذه أوّل مرّة ألمس فيها وجه شخص بجرأة، فلم أعرف كيف أتصرّف.
أمّا ديفون فلم يتغيّر لون وجهه قطّ وأومأ برأسه فقط.
«كان الأمر مستحيلًا كما توقّعتُ إذن.»
ظهرت على وجنته الجانبيّة التي نظرتُ إلى خارج الكهف علامات خيبة أمل.
خيبة أمل…؟ فكّرتُ أنّ هذا أمر غريب حقًّا وفركتُ يديّ دون سبب.
‘لو استطعتُ أن ألمس وجه كريس أيضًا…’
تذكّرتُ الأمير الذي رأيته آخر مرّة في الكوخ.
ظهره الهادئ وهو يرحل إلى ساحة معركة لا يُعلم متى يعود منها كان يؤلم القلب حقًّا.
شعرتُ بالأسف، ثمّ انتفضتُ فجأة.
لحظة.
منذ متى أحببتُ بطل القصّة؟ شعرتُ بالارتباك من هذا الشّعور المفاجئ.
في الأصل، كانت ناتانيا تُحبّ كريس من طرف واحد، فهل تأثّرتُ بذلك؟
لم يكن لديّ أيّ مشاعر تجاه كريس، فكان الأمر محيّرًا تمامًا.
هززتُ رأسي لأفيق ثمّ صفعتُ خدّي بيدي.
صوت «چاك» (صفعت خدها) جعل ديفون ينظر إليّ بعينين متفاجئتين.
«ماذا تفعلين الآن؟»
«آه… كنتُ غافلة من النّعاس. قد يتقوّس فمي لو نمتُ في مكان كهذا.»
لم يرتح حاجباه رغم إجابتي.
نظر إلى خدّي الذي انتفخ قليلًا باستغراب ثمّ قال بعد لحظة:
«لديّ سؤال آخر.»
انتظرتُ كلامه بهدوء.
«النّساء النّبيلات يعتبرن العفّة أغلى من الحياة عادة، أليس كذلك؟ لهذا لم يُزوّجك الدّوق من أحد؟»
تردّدتُ أكثر أمام موضوع أريد تجنّبه أكثر من السّابق.
«فقدان بصري في سنّ العاشرة كان السّبب الأكبر. أيّ نبيل سيُريد زوجة عمياء؟ حتّى لو عشتُ عزباء طوال حياتي فأنا أتفهّم ذلك.»
«… هكذا إذن.»
واصل ديفون الصّمت دون كلام إضافيّ، ثمّ سألني دون أن ينظر إليّ مرّة أخرى:
«سؤال أخير. ما فعلتِه في البرج يومذاك، كان لأنّكِ تريدين العودة إلى البيت حقًّا؟»
كان يقصد اليوم الذي قبّلنا فيه بعضنا.
شعرتُ بطريقة ما أنّه يعرف الإجابة مسبقًا ويريد التّأكد فقط.
التعليقات لهذا الفصل " 26"