الفصل 23: متخصص في البقاء
كان صوت جريان الماء في جدول الكهف وصوت المطر خارجًا يتداخلان، ومع ذلك كانت أنفاسنا مسموعة بوضوح.
كانت قطرات الماء السّاقطة من السّقف تبرد جبهتي قليلاً، لكنّ ذلك لم يدم طويلاً.
كان وجهي يحترّ، وكأنّني سأنفجر إن استمرّ الأمر هكذا.
انعكس منظر رجل وامرأة جالسين ملتصقين في بركة الماء.
مرّت أيّام الحبس في البرج أمام عينيّ كشريط سريع.
كانت مثل هذه العناقات يوميّة حينها، لم أتوقّع أن أعيشها مجدّدًا.
كان أسلوبه الجريء لا يزال محرجًا.
لو أخبرني فقط بنيّته الحقيقيّة في مطاردتي.
في النّهاية، دفعتُ رأسي إلى صدره.
‘ديفون….. برد أو غيره، سأموت اختناقًا إن استمرّ الأمر.’
كان فستاني قد فقد وظيفته منذ زمن بسبب الرّجال، وكان ديفون يرتدي قميصًا رقيقًا، فكُنّا نشعر بحرارة بعضنا كاملة من خلال العناق.
مع عودة الدّفء إلى جسدي الّذي كان يرتجف، بدأتُ أسحب مؤخّرتي إلى الخلف قليلاً للعودة إلى مكاني.
نظر ديفون إليّ بهدوء وقال:
“لونك عاد. جسدك لم يعد باردًا، لن تصابي بالبرد الآن.”
تنفّستُ الصّعداء ظنًّا أنّه سيتركني، لكنّ صرخة انفجرت من فمي فجأة.
كان ديفون قد رفعني فجأة بعد أن جمع ملابسي الرّثّة.
«ما، ماذا تفعل…!»
جلستُ مديرةً ظهري له مذهولة وصحتُ.
بدا ديفون وكأنّه سيعانقني فورًا.
لكنّ المكان كان هادئًا.
بعد قليل، تمّ تمرير شعري إلى كتف واحد بيد خرقاء.
شعرتُ بفراغ في رقبتي فحاولتُ تغطيتها بيدي، عندها سمعتُ صوتًا أخفض من المعتاد.
“هل أنتِ بخير؟”
سأل دون مقدّمات، فعبستُ.
“ماذا؟”
“…كتفك. تبدين مُتألِمةً جدا.”
عندما قال ديفون ذلك، شعرتُ فجأة بتيبّس في رقبتي.
منذ سقوطي عن الحصان أمام السّدّ، كان من الصّعب الحفاظ على توازن جسدي.
إن قال القاتل ذلك، فالإصابة كبيرة بالتّأكيد.
لكنّني لا أرى، فلا أعرف مدى خطورة الحالة.
ابتلعتُ تنهّدي وقالتُ:
“هل هي خطيرة جدًّا؟”
“نعم. من الأفضل عدم استخدام كتفك الأيمن لفترة. لو كُنّا قرب دورن، لجلبتُ أعشابًا.”
” أولئك الرّجال الّذين حاولوا الاعتداء عليّ… هل تعرف من هم؟”
سألتُ ظنًّا أنّه ربّما عرف عباءة خيوط الفضّة التي كانت معهم.
تردّد ديفون قليلاً ثمّ سأل:
“تريدينني أن أتحقّق؟”
“إن أمكن. هل يجب دفع أجر؟ يمكنني دفع أيّ مبلغ.”
ظننتُ أنّه سيقبل طلبي فورًا.
لكنّه كان هادئًا دون ردّ واضح.
أملتُ رأسي نصف إمالة وسألتُ مجدّدًا:
“أليست نقابة الظّلام تفعل مثل هذه الأمور عادة؟”
“بالطّبع، في دورن يمكن شراء معظم الأشياء بالمال. نحن لسنا مكتب تحقيقات في زقاق خلفيّ.”
صورت القصّة الأصليّة مدينة دورن في جنوب غرب المملكة بهذا الشّكل.
مكان يُحدّد فيه التّرتيب بالقوّة فقط، وتسود فيه الفوضى.
لا يُعتبر غريبًا وقوع عشرات الجرائم يوميًّا أو إجراء صفقات غير قانونيّة في وضح النّهار.
تحكم النّقابة المدينة، وتنقسم النّقابة إلى خمسة فروع.
يمثّل الإيريبوس كلّ فرع، وهم يبيعون صكوك الغفران للمجرمين ويجمعون ثروات هائلة.
يقال إنّ أعضاء نقابة دورن يعيشون حياة بائسة كالحيوانات في أرض صيد.
كنتُ أتساءل عن نوع الأشخاص الّذين يصلون إلى القمّة في مثل هذا المكان القاسي. قلتُ فجأة:
“هل تعرف من سلّح أولئك الأوغاد؟ ماذا لو عرفك أحدهم؟ لا، هل نحن آمنون هنا أصلاً؟”
قال ديفون بلا مبالاة:
“تركتُ القناع في حقيبة الأمتعة، لكنّ كلّ من رأى وجهي اليوم مات. لم أترك أثرًا حول نهر كالت. فلا تقلقي عليّ.”
سمعتُ كلامه ثمّ فتحتُ فمي قليلاً فجأة.
الآن، من يقلق على من…!
حاولتُ الالتفات لنفي كلامه، لكنّني توقّفتُ.
كان الرّجل يبتسم صامتًا بوجه مشرق.
شعرتُ بإحساس سيّء من سلوكه غير المعتاد.
قال ديفون:
“كلامك سابقًا. سأقبله. سأوصلك إلى المنزل.”
“آه… حقًّا؟”
نسيتُ شكواي المزعومة وفرحتُ.
قال ديفون جالسًا على صخرة مستوية بفخذين مفتوحتين،
وكأنّه لم يبتسم أبدًا، مشدود الشّفتين:
“لكنّ لديّ بعض الأسئلة لكِ.”
رمشتُ عينيّ منتظرةً كلامه.
“ما الصّفقة التي عقدتها مع كريستوفر باسيليون؟ ما الشّروط التي جعلته يعيدك إلى إقليم الدّوق؟”
مع اسم البطل الّذي نسيته مؤقّتًا، أحنيتُ رأسي وقالتُ:
“نوع من العقد.”
“عقد… هل يتعلّق بالزّواج؟”
“بالعكس. بالطّبع الأمير كريس وسيم مشهور في المملكة، ومتعدّد المواهب لدرجة لا يعجز عن شيء…”
عندما أنهيتُ كلامي بغموض، هدأت الأجواء فجأة.
كان ديفون يحدّق في بركة الماء بوجه مظلم.
نظرتُ إلى وجهه الجانبيّ سرًّا.
تساءلتُ عن سبب تعبيره ذاك. تحدّثتُ إليه بنبرة خفيفة:
“لماذا؟ هل تخشى أن لا أتزوج لأنني عمياء؟”
“لم أقصد ذلك.”
اتّسعت عيناه السّوداوان.
بعد تفكير قصير، قرّرتُ إخباره بجزء من العقد.
المهمّ العودة سالمةً إلى المنزل ومناقشة الأمر مع العائلة.
يجب تلبية طلبات ديفون قدر الإمكان.
“اتّفقتُ على عدم الكشف عن طلب الاغتيال من النّقابة من قبل الأمير الثّاني. التّفاصيل سرّية بموجب بند الحفاظ على السّرّ.”
سألتُ ديفون الّذي يحجم عن الكلام للتّأكيد:
“هل هذا كلّ ما تريد سؤاله؟”
“همم… لا.”
توقّف قليلاً ثمّ فتح فمه مجدّدًا.
“لم أقصد التّسمّع، لكنّني سمعتُ صدفة في المخزن أنّك لستِ عذراء.”
“آه! ذلك…”
“هل لديكِ حبيب الآن؟”
أردتُ فهم مقصده، لكنّني جلستُ مديرةً ظهري له فلم أرَ تعبيره.
‘كانت مجرّد كذبة ارتجاليّة.’
ربّما فهم صمتي خطأ، فتمتم ديفون بهدوء:
“يبدو سرًّا أيضًا.”
لمَ يهتمّ بذلك؟
هل يحبّني حقًّا؟
أنقذني عدّة مرّات، لكنّه قد يغيّر رأيه في أيّ لحظة.
أجبتُ ديفون بمزيج من الكذب:
“أحبّ شخصًا آخر، لكنّني لستُ في علاقة. لا أعرف لمَ تهتمّ…”
“سمعتُ أنّ النّبلاء يعقدون زيجات سياسيّة كثيرًا. لديكِ خطيب بالتّأكيد. لذا لا تريدين منصب وليّة العهد؟”
حرّكتُ شفتيّ.
شرح سبب تخلّي عن عضويّة العائلة الملكيّة يتطلّب الحديث عن العقد.
عندها، لامَسَت يد حذرة جرح كتفي.
حاولتُ الوقوف غير قادرة على تحمّل الإحراج، فقال بصوت قاسٍ:
“يبدو أنّ لمس شخص غير نبيل مثلي مرعب لكِ.”
فتحتُ عينيّ على اتّساعهما.
يبدو أنّه يظنّني مثل دوق ميرماجندي، عنصريّة دم.
كان والدي يؤمن منذ القدم بأنّ النّبلاء فوق رتبة إيرل يجب أن لا يختلط دمهم بدم دنيء، وعلّم ذلك لنا نحن الإخوة.
بالنّسبة لي الّتي انتقلتُ، كان مجرّد هراء.
هززتُ رأسي بقوّة.
“لا! ليس كذلك…!”
“إذن ابقي هكذا. إن لم تريدي التّجمّد هنا بسبب التمييز الطبقي.”
غضبتُ وخرجتُ من حضنه وصحتُ:
“أنا مختلفة عن أبي! ونيكولاس أيضًا.”
“العلاقات الدّمويّة لا تنقطع بسهولة. مهما أنكرتِ، ستفكّرين وتتصرّفين مثلهم دون وعي.”
أدخل ديفون يده في طرف ثوبي وبحث عن الجيب الدّاخليّ.
ثمّ أخذ الزّجاجة الموجودة فيه.
“وحمل مثل هذا خطير، يا آنسة …. شعرتُ بذلك منذ المرّة السّابقة… شخص أصيب بالعمى بالسّمّ لا يخاف شيئًا.”
“لو لم تُقيّد يداي، لكنتُ هربتُ بذلك السّمّ.”
هزّ ديفون رأسه.
“على أيّ حال، هو ملكي أصلاً، سآخذه.”
سمعتُ صوت وضعه الزّجاجة وقلتُ:
“انتهت الأسئلة؟ أعدْني إلى كالت قبل نهاية الأسبوع. شخص من عائلتنا سيأتي لاستلامي.”
“بالطّبع. بما أنّكِ تعفين عنّي، يجب أن أتبع كلام الآنسة .”
تأكّدتُ من ردّه، فلمستُ الحصى عند قدميّ بيدي.
تحرّكتُ بالتّلمّس وجلستُ عند الجدار.
ناداني ديفون وأنا أجلس بعيدًا عنه.
التعليقات لهذا الفصل " 23"