006
كان المكان الذي أُزيحَت منه السجادة قد أُعيد ترتيبُه بالكامل خلال هَذا الوقت.
عندما دخلتُ الغرفة وفتحتُ الباب، رأيتُ ثيو جالسًا على الأريكة.
“ما الأمر؟”
“أنا قلقٌ على أُختي، لا أكثر.”
“أنتَ لا تُجيد سوى الكلام.”
بِمُجرد أنْ عدتُ إلى المنزل وبدأنا نتبادل حديثًا هادئًا، شعرتُ بالتراخي. ارتسمت ابتسامةٌ لا إرادية على وجهي.
كان الوقت قد تأخر، ويبدو أنّ إستيل قد عادت إلى منزلها. وإلا لكان الاثنان قد انتظراني معًا.
أثناء وقوفي، كانت الخادمات يخلعنَ معطفي ويُنظمنَ الحليّ.
“هل عادت إستيل؟”
“نعم، قالت أنْ أُبلغكِ بأنْ ترتاحي جيدًا. قالت إنّكِ لا تبدين بخير.”
“أنا؟”
أملتُ رأسي باستغراب. هل شحُب وجهي كثيرًا بسبب الذكرى التي استيقظت فجأة؟
هزّ ثيو كتفيهِ بلا مُبالاة.
“لَمْ تخبرني بالتفاصيل. لكنها قالت إنها ستعود غدًا.”
“هل آخُذها في نزهةٍ غدًا، رُبما……”
سرتُ نحو قيو وأنا لا أزال أرتدي الشال.
وحين اقتربتُ مِن الأريكة، رأيتُ شيئًا موضوعًا على الطاولة المنخفضة.
‘يبدو كأنّه كتاب……’
شحُب وجهي. الكتاب الموضوع أمام ثيو كان دفتر يومياتي.
“أنتَ، ما هَذا؟”
أسرعتُ نحوه وانتزعتُ الدفتر، ثم رفعتُه عاليًا حتى لا يُمكنه أنْ يأخذه مني.
صحيح أنّه لَمْ يتعدَّ الصفحات الأولى، ولَن يتمكن مِن فهم شيءٍ حتى لو قرأه، لكنني أصبحتُ متوترةً للغاية.
ألَمْ تكُن الجملة الأولى عن أنْ إستيل أصبحت قدّيسة؟ كيف أُفسّر ذَلك؟ هل أقول إنها مُجرّد أوهام؟
لكن إستيل ستُصبح قدّيسةً حقًا في يومٍ ما، ألَن يشكّ ثيو حينها؟
“لا تُخبرني إنّكَ فتّشتَ في دُرجي؟”
الخطة التي خطرت ببالي كانت أنْ أُظهر انزعاجي بدلًا مِن التبرير.
عند سماع نبرة صوتي الحادّة، حرّك ثيو يديهِ بارتباك لينفي.
“لا، لقد نفذت أوراق الرسائل لديّ، فجئتُ لأستعير بعضها، فوجدتُ هَذا الدفتر… لَمْ أكُن أعلم أنّه شيءٌ ثمين. آسف.”
“تقول إنكَ جئتَ تستعير أوراق رسائل، ومع ذَلك فتّشتَ جميع الأدراج؟”
عندما طرحتُ سؤالي، بدت على ثيو ملامحُ الظلم الشديد.
“لا، فتحتُ الدرج الأول فقط!”
“ماذا؟”
“على أيِّ حال، أنتِ دائمًا تضعين كُل شيءٍ في الدرج الأول.”
عندما فكرتُ في الأمر، وجدتهُ على حق. كنتُ منهمكةً في ترتيب الأمور بعد استدعاء داميان، ويبدو أنني وضعتُ دفتر اليوميات مع أوراق الرسائل دوّن قصد.
‘…لكن، قال إنهُ ظنّه دفتر ملاحظات؟’
ضيّقتُ عينيّ.
“ألَمْ تفتحه؟”
عند سؤالي، بدا تدثيو في حيرة.
“هل كتبتِ فيهِ شيئًا؟ لمْ أجد فيهِ أيِّ شيء.”
كدتُ أفلت الدفتر مِن الصدمة.
أنزلتُ يدي وفتحتُ الدفتر. كانت عبارة “يوميات روزالين مور” مكتوبةً على الصفحة الأولى بوضوح.
“أتقول إني لَمْ أكتُب فيهِ شيئًا؟”
“ظننتُ أنهُ جديد. وكنتُ سأطلبه منكِ إذا لَمْ تكوني ستستخدميه.”
قالها صيو بنبرةٍ مملوءةٍ بالاستياء. انكمشت حاجباهُ على شكل رقم ثمانية، ورفع يدهُ إلى صدره كأنّه يُدافع عن نفسه.
هل هو حقًا لا يرى ما كُتب؟ هل يُمكن أنْ تكون هَذهِ العبارة مرئيةً لي فقط؟ فكّرتُ للحظة، ثم فتحتُ الصفحة الأولى وناولتها له.
“هل ترى هَذا؟”
وأشرتُ بيدي الأخرى إلى العبارة بلُطف. كانت يدي التي تحمل الدفتر قد بدأت تؤلمني، لكن لَمْ يكُن هُناك مجالٌ للاهتمام بذَلك.
“العبارة المكتوبة هُنا.”
ضيّق ثيو عينيه، ثم قطّب حاجبيهِ فجأة.
“…أأنتِ تمزحين الآن؟ أم تُحاولين السخرية مني؟”
“ألا تراها؟”
“آه، لَمٌ تعُد هَذهِ المزحة مُضحكة، توقفي.”
هزّ ثيو رأسه وأرجع جسده إلى الوراء.
“مثلما كنتِ تفعلين في الطفولة، تتظاهرين أنّ شيئًا ما موجود، ثم تفاجئينني بهِ.”
رفع ثيو رأسه ونظر إليّ باشمئزاز. لَمْ يكُن يبدو كأنه يُمثّل. أومأتُ برأسي وأغلقتُ الدفتر.
“كما توقعت، لَمْ يعُد للمزاح طَعمٌ بعد أنْ كبرنا.”
“بما أنكِ بدأتِ بالمزاح مِن اللحظة التي وصلتِ فيها، يبدو أنكِ شفيتِ تمامًا، أليس كذَلك؟ كان عليَّ أنْ أُخبر ‘
إستيل ألا تقلق.”
تمتم ثيو ساخطًا. جلستُ بهدوء على المقعد المقابل له، ثم وضعتُ دفتر اليوميات على الطاولة.
“على أيِّ حال، لا يُمكنني إعطاؤه لكَ. كنتُ أُخبّئه لأجل استخدامي.”
عندما أدركتُ أنْ ثيو لا يستطيع رؤية ما كُتب، شعرتُ كأنَّ قلبي سقط في مكانه.
راودتني رغبةٌ في استدعاء إحدى الخادمات على الفور وسؤالها إنْ كانت ترى العبارة، بل وحتى أنْ أُصرخ في وجهها.
لكنني كنتُ أعلم أنَّ أيَّ تصرفٍ إضافي سيجعلهم يقلقون عليّ.
رُبّما تصل إلى أذُنَي داميان أخبارٌ تُفيد بأنّني قد أصبحتُ غريبةَ الأطوار. فقد تدحرجتُ على الدرج، ولعلّه يظنّ أنّني أُصبتُ في رأسي.
سأتحقّق مِن ذَلك لاحقًا إنْ أُتيحت الفرصة.
وبينما كنتُ أُرتّب أفكاري، توقّف ثيو عن التذمّر ونظر إليّ.
تلكَ العينان الحمراوان كبتلات الورود، اتّجهتا ناحيتي.
عينا ثيو، اللّتان كانتا تبدوان ساذجتَين حتى قبل قليل، أصبحتا حادّتَين فجأة.
“إذًا، لماذا دعاكِ سموّ الأمير؟”
“لِتقديم موعد الزفاف قليلًا.”
أجبتُ بهدوء، فقفز ثيو مِن مكانهِ وكأنّه صُعق. وقد انفتحَت عيناه على وسعهما لدرجة أنْ حِدّة نظراتهِ تبدّدت وعاد إلى ملامحهِ الذهول.
“ما الذي تقولينه؟ هل هو قرار جلالة الإمبراطور؟”
“كلا، لقد قرّرتُ ذَلك مع سموّ وليّ العهد. وقرر كلٌّ منّا إقناع والدَيه على حدة.”
“… لِماذا؟”
سأل ثيو بنبرةٍ تدلّ على أنّه لا يفهم شيئًا حقًا.
“ألَمْ تكوني تتفادينه لأنّكِ لا تعرفين ما الذي يدور في رأسه؟”
كان ثيو يعلم كيف كنتُ أتجنّب الحديث عن الزواج كلّما طُرح، فقد سبق وأخبرتُه هو وإستيل بأنّني لا أعلم ما الذي يفكّر فيه وليّ العهد، وأنَّ اختياره لي يبعثُ في نفسي القلق.
لكن هَذا لا يعني أنّني كنتُ أنوي التهرّب مِن الزواج إلى الأبد.
حتى في ظلّ فقدان ذاكرتي، كنتُ سأقوم بذَلك يومًا ما. ففي الرواية الأصلية، أنا أيضًا تزوّجتُه.
“لكن لا يُمكنني تأجيله إلى الأبد. فأنا خطيبتُه. كما أنَّ الشائعات السخيفة في المجتمع الراقي منتشرةٌ منذ فترة.”
فقد انتشرت الأقاويل حول سوء العلاقة بيننا، بسبب بلوغ كلَينا سنّ الزواج دوّن إقامة حفل الزفاف.
صحيح أنَّ علاقتنا لَمْ تكُن جيّدةً حقًا، لكن إنْ فُسخت الخطوبة، فستكون كارثة.
فهو كان قاسيًا حتى حين كنّا مُجرّد عائلة.
“هل هو مَن أقنعكِ يا أُختي؟”
سأل ثيو بنظرةٍ مُريبة حتى النهاية، إذ بدا أنّه لا يستطيع تصديق تحوّلي المُفاجئ بسهولة.
وكان ردّ فعلهِ طبيعيًا. فقد هزَزتُ رأسي بينما أُحكم لفّ الشال حولي.
“همم؟ لا، أنا مَن اقترحتُ ذَلك. طالما أنّه سيحدُث على أيِّ حال، رأيتُ أنّه مِن الأفضل أنْ أنتهي منهُ سريعًا. وقد خطرت لي هَذهِ الفكرة عندما رأيتُ وجهه.”
رفعتُ يدي وغطّيتُ إحدى وجنتَيّ كما لو كنتُ أشعر بالحرج. كانت تلكَ الوجنة التي لمسّها داميان اليوم.
ومع دفء لمستهِ التي لا تزال عالقةً في وجهي، ظهرت أمامي بوضوح خصلاتُ شعرهِ السوداء المنسدلة وعيناه البنفسجيتان.
“فسموّه وسيم، أليس كذَلك؟”
“هوف…”
ارتجف جسد ثيو وكأنّه شعر بالقشعريرة جرّاء كلامي، وحرّك فمَه كأنّه سيقول شيئًا لكنه تراجع في النهاية وهزّ رأسه.
“… حسنًا، كفى. لا تتحدّثي أكثر. افعلي ما ترينهُ مناسبًا يا أُختي.”
“حسنًا، سأفعل.”
ابتسمتُ لثيو ابتسامةً خفيفة، فلوّح بيدهِ، وكأنّه يريد طردي مِن أمامه ثم وقف مِن مكانه.
وفي طريقه نحو الباب، توقّف فجأةً.
“يا أُختي.”
“نعم؟”
تلاقَت نظراتنا. وكانت ملامحهُ غامضة، وكأنّه هو نفسه لا يستطيع فهم مشاعره.
“… إنْ حدث شيءٌ ما، أخبريني.”
كانت عيناه، بدلًا مِن أنْ تكونا حمراوين كلون الدم، تُشبهان وردة أيّار المتفتّحة للتوّ.
‘لقد رأيتُ دموعًا كثيرة تتجمّع في تلكَ العينين،’
والآن، ها هو قد كبر لدرجة أنّه يفكّر في القلق على أُخته.
“بالطبع لا يوجد شيء. بل أخبر إستيل أنْ نذهب في نُزهةٍ غدًا.”
هززتُ رأسي بخفّة، ومددتُ يدي نحو دفتر يوميّاتي.
وكان ملمسُه باردًا تحت أطراف أصابعي.
***
“هل أنتِ بخير؟”
كان الهواء عليلًا كما يليق بنهاية الصيف، لكن أشعةُ الشمس كانت لا تزال حارقة. فأغلقتُ مظلّتي المزيّنة بالدانتيل.
كانت إستيل تضع بونيهًا أصفرَ لطيفًا، وتُشبك يديها معًا وتنظر إليّ بقلق.
“بالطبع أنا بخير. لقد تعافيتُ بسرعة بعد أنْ نِلتُ قسطًا مِن الراحة.”
أشرتُ بكتفيّ بلا مُبالاة، لكن إستيل لَمْ تستطع أنْ تُخفي قلقها بسهولة. فأمسكت بيدي بشدّة.
“ومع ذَلك، لا تُجهدي نفسَكِ قدر الإمكان.”
“حسنًا، حسنًا.”
“أنا جادّة.”
وعندما نظرتُ إلى عينيها الزرقاوَين اللامعتَين، وخزني ضميري رغم أنني كنتُ بخيرٍ فعلًا.
فأشحتُ ببصري عنها وصعدتُ العربة على عجل.
“الجوّ جميلٌ اليوم.”
أطلق ثيو صفيرًا وهو يصعد إلى العربة بعدي.
وعندما سحب الستائر، ظهرت السماء الزرقاء الصافية بوضوحٍ أكبر.
“سنذهب اليوم إلى بحيرة لافينيه. لقد سمعتُ أنّهم استأنفوا جولات القوارب بعد تحسُّن الطقس.”
“حقًا؟”
بمُجرّد أنْ رفعتُ إصبعي، أضاء وجه إستيل بابتسامةٍ مشرقة.
وكأنّ السماء المُلبّدة بالغيوم انقشعت فجأة. فصفّقت بيديها.
“كنتُ أتمنّى الذهاب إليّها بشدّة!”
“لَمْ نستطع الذهاب المرة الماضية بسبب موسم الأمطار. وبعدها ارتفع منسوب المياه، فَلَمْ يستطيعوا تشغيل القوارب بسبب التيارات.”
ردّ عليها ثيو بلُطف. ورغم أنّه يبدو مُخيفًا أحيانًا حين يتصرّف هَكذا، فإنَّ رؤيتهما معًا جعلتني أشعر بالسرور.
‘السندويشات، أدوات الطعام، عصير التوت الأحمر، والمفرش… لقد أحضرتُ كلّ شيء.’
لقد كنتُ على أتمّ الاستعداد. وكنتُ متشوّقةً للنزهة تمامًا مثل إستيل.
فما إنْ أبدأ بالتحضير لحفل الزفاف وأدخل إلى القصر الإمبراطوري، لَن أستطيع الخروج في نزهاتٍ كهَذهِ مُجددًا.
ولهَذا، كانت هَذهِ النزهة بمثابة الخروج الأخير بالنسبة إليّ.
ورُبّما بالنسبة لهما أيضًا.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《التليغرام》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"