003
[بَينَما كانت رُؤيتي تَختفي شيئًا فَشيئًا، رأيتُ مِن بعيد وجهًا مألوفًا.]
في قلب ذَلك الخراب، حيثُ تهدّمت الجدران والأعمدة، كان رجلٌ ذو شعرٍ أسود يقترب، يبتلعُ حتّى ضوء الشمس الساطع.
في الرواية، كانت إستيل وثيو يُدرِكان تمامًا أنّهما سيموتان. قبل دُخول القصر القديم، طلبَ ثيو مِن إستيل أنْ يَهرُبا معًا.
قائلًا إنّه في يومٍ ما – وإنْ لَمْ يكُن الآن – ستظهر قدّيسةٌ جديدة لتحلّ محلّها.
وأنَّ القارّة ستبقى على ما يُرامٍ حتّى ذَلك الحين.
لكنّ إستيل، بسذاجتها، أقنعت ثيو بالعكس.
قالت إنّها إنْ هربت الآن، فسيموت عددٌ أكبر مِن الناس، وإنّها لا تَستطيع العيش وهي تحمل عبءَ تلكَ الدماء طَوال حياتها.
وفي النهاية، قبِل ثيو، أخي الصغير العزيز، بكلمات إستيل المحبوبة.
وهًنا، يُطرح السُّؤال.
ما الذي كنتُ أفعله – أنا – في الوقت الذي كان فيهِ إخوتي يُصارعون هَذهِ الهُموم، مع أنّه كان ينبغي أنْ أُوقِفَ داميان؟
هل يُعقَل أنّني لَمْ أكُن أعلم بما أدركه إخوتي؟
حين وصلتُ في التفكير إلى هَذهِ النقطة، بدأ العَرق يتصبّبُ مِن يدي، ووقفَ شَعري مِن الرُّعب.
ثيو، بطل الرواية، أيِّ أخي الأصغر مني بثلاث سنوات، فقدَنا والدتَنا بسبب المرض حين كان في الخامسة مِن عمره.
“أُختي، أُمي لَمْ تعُد هُنا.”
لا أعلم كيف وصل إلى غرفتي، أو إنْ كان الظلام المُغطّي للممرّ، أو الدروع الواقفة بصمتٍ، قد أرعبه.
لكنّ ثيو الذي أيقظني بيدَيهِ الصغيرتين في منتصف الليل، لَمْ يقل شيئًا سوى تلكَ الجملة.
“أُختي، أُمي لَمْ تعُد هُنا……..”
ذَلك الطفل الذي بَكى هَكذا، سيفقد حياتَه في أرض الموت.
مع الشخص الذي يُحبّه. دوّن أنْ يُغمِض عينيه، بسبب الخيانة.
“…لِماذا؟”
لَمْ أستطع تصديق أنّ الابتسامات التي رأيتُها منهم، والنظرات الدافئة، والدفء الذي شعرتُ بهِ حين لامَسوني، ستزول بسبب داميان.
أسرعتُ في فتح الكتاب مِن جديد.
كان عليّ التأكّد مِمّا إذا كنتُ – في الرواية – قد فشلتُ في إقناع داميان، أم أنّني لَمْ أُحاول أصلاً.
الفرق بين الحالتَين كبير. فالحلّ سيختلفُ بناءً على ذَلك.
عليّ أنْ أُراقبه اليوم، أُزيل الإجابات الخاطئة، وأجد الحلّ الصحيح.
بحسب المذّكرة، سيتم إرسال إستيل وثيو بعد شهرين أو ثلاثة مِن الآن.
ولإنقاذهما، عليَّ أنْ أُقنع داميان مهما كلّف الأمر. بكُلّ الوسائل الممكنة.
وإنْ لَمْ يُجدِ الأمر نفعًا…. فعليّ أنْ أجدَ حلًّا آخر.
***
في غرفة الجلوس، كان صوت المياه المُتساقطة مِن نافورةٍ بالخارج يتسلّل مِن النافذة المفتوحة.
رفع الرجلُ رأسه عن الكتاب القديم الذي كان يقرؤه، حين سمع صوت الطرق على الباب.
ومن تحت شعرهِ الأسود القاتم، ظهرت عيناه اللامعتان مثل حجر الجمشت.
“ادخل.”
رنّ صوته الناعم المُفعم باللُّطف في أرجاء الغرفة. ولكن، مَن فَتح الباب لَمْ يكُن الخادم الذي كان في الخارج، بل الخادم الخاص الذي كان يُراقبه بصمتٍ مِن داخل الغرفة كظلٍّ ساكن.
تقدّم الخادم العادي بعد أنْ أدّى التحيّة، وسلّم رسالته إلى سيّده.
“جاء الردّ مِن دوقيّة موور.”
ورغم أنَّ الخادم سلّمه الرسالة، إلّا أنَّ الخادم الخاص لَمْ يتراجع، بل اقترب أكثر منتظرًا أنْ يفتح سيّده الظرف.
وبرغم قُرب المسافة المُفرط، لَمْ يُبدِ الرجل أيِّ انزعاج وهو يُخرج الرسالة.
[ إلى سموّ الامير داميان.
أعتذر لإقلاقكم. ولحُسن الحظّ، لَمْ تتدهور صحّتي كما ظننتم….]
ما جاء بعد ذَلك كان بأسلوبٍ رسميٍّ وجاف. زفر الرجل تنهيدةً حزينة، ثمّ طوى الرسالة بعنايةٍ ووضعها بين صفحات الكتاب الذي كان يقرؤه.
وفي تلكَ اللحظة، خَفَتَ بريق عينيه كما لو أنّه انطفأ، ثمّ عاد سريعًا إلى اللون البنفسجيّ المُشرق.
ولحُسن الحظّ، لَمْ يُلاحِظ أحدٌ ذَلك. وبعد أنْ كتب ردّه بدقّة، سلّمه إلى الخادم العاديّ.
“جهّز العربة أيضًا، وأذهب أيضًا.”
راقب الخادم الخاص كُلّ شيء: ما كتبه سيّده، وخروج الخادم العاديّ مِن الغرفة.
ثمّ عاد الصمت، ولَمْ يبقَ في الغرفة سوى صوت المياه الجاري.
أدار الرجل ناظرَيه نحو الخادم الخاص الذي لا يزال يُراقبه.
“إلى متى ستبقى؟”
“….”
أطبق الخادم شفتيه بصمت. كما يليق بخادمٍ وفيّ، لَمْ ينبس ببنت شفة. لكن، لو أنَّ ذَلك الولاء كان موجّهًا لي، لكان خيرًا.
على أيَّ حال، لَمْ يعُد داميان يتوقّع شيئًا. كلّ ما يفعله هو صقل نصلِه بلا توقّف.
عاد إلى مكتبه، وفتح كتابًا بعنوان «تاريخ المملكة القديمة».
في مأدبة الطعام، سيتصرّف الإمبراطور وكأنّه لا يعلم شيئًا، مُحاولًا التحقّق مِمّا إذا كان مهتمًّا بالسياسة أو السُّلطة.
وحينها، سيكون هَذا الكتاب الذي يقرأه عُذرًا نافعًا.
‘لا، هَذا إنّني مُهتمٌّ فقط بالمغامرات والحكايات القديمة.’
كان الجواب دائمًا مُعدًّا سلفًا. أحيانًا كان الأمر يُشعِرُه بالضيق، لكن أمام شخصٍ يُعاني مِن جنون الاضطهاد، كان مِن الأفضل أنْ يبدو غبيًّا.
‘لكن، على الأقل اليوم… روزالين ستأتي.’
كان ظرف الرسالة الذي أرسلتهُ روزالين ذهبيًّا، كأنّه شَعرُها. ملمسهُ كان ناعمًا أيضًا، حتى أنّه رفع الظرف ليشمّه رغم وجود الخادم إلى جواره.
رائحة الورود الصيفية النضرة ملأت صدره حتى أعماقه.
‘… ألَمْ تَشعُر بالقرف؟’
الابتسامة التي رآها في صغره، اليد التي مُدَّت إليّهِ.
الدفء الذي انتشر في كفهِ، وشَعرُها الذهبي المُتطاير كأشعة الشمس الساطعة، وعيناها الحمراوان المُفعمتان بالحياة أكثر مِن ورود أيار.
[لا أعلم، في رأيي، أنتَ شخصٌ جيدٌ بما فيه الكفاية.]
تلكَ الكلمات التي لَمْ يذكُرها سوى شخصٌ واحد، هي التي جعلته يستمر في الصمود.
‘حتى إنْ لَمْ تستطِع روزالين أنْ تتذكرني إلى الأبد، لا بأس.’
حتى وإنْ نَسِيَته، وحتى وإنْ استبدل الدوق شخصًا آخر في مكانه.
أنزل داميان الرسالة مُجددًا. كان قلبهُ يخفق بعنف، وشعر بأنَّ وجنتيهِ قد احمرّتا. لَمْ يكُن قادرًا على إبعاد أصابعهِ عن الرسالة وكأنّها قد التصقت بها.
‘إنْ استطعتُ تحمُّل هَذا قليلًا بعد، ستبقى إلى جانبي إلى الأبد.’
***
لا أعلم كم كان الردّ سريعًا، لكن بعد أنْ انتهيتُ مِن الاستعداد، كانت العربة التي ستأخذُني واقفةً أمام البوابة الأمامية.
وبينما كنتُ أمشي متثاقلةً، خرج ثيو وإستيل مِن غرفة الجلوس وأخذا يلحقان بي وهما يتذمّران.
“أُختي، لا زلتِ مريضة، إلى أين أنتِ ذاهبة؟”
“صحيح، عليكِ أنْ تستريحي أكثر بعد. أعتقد أنَّ سموّ وليّ العهد سيتفهّم الأمر إنْ أعدتِ الحديث معه.”
لكن، لا أظنّ أنَّ مِن يقتلُ عائلة زوجته دوّن أنْ يرفّ لهُ جفن، سيكون شخصًا مُتفهّمًا.
مِن المضحك أنَّ هذين الطفلين المُتذمّرين سيُصبحان بعد مدّةٍ وجيزة القدّيسة والفارس اللذين يحميان الإمبراطورية.
“أنا مَن قرّرتُ الذهاب. سأعود لاحقًا.”
رددتُ عليهم بخفّةٍ، فسكتا.
استمرّا في النظر إليّ بقلق، لكن كان مِن السهل تجاهل ذَلك.
صعدتُ إلى العربة، ونظرتُ بصمتٍ إلى المقعد الفارغ أمامي.
كان شعوري مُعقّدًا للغاية. لَمْ يكُن اليوم ذا فائدةٍ تُذكَر.
فاليوم في مذكّرات روزالين لَمْ يُكتب.
أيِّ أنَّ روزالين التي كتبت اليوم لَمْ تكُن على علمٍ بما في نفس داميان.
‘هل يُعقَل؟’
أثناء هَذا، وصلت العربة بسرعةٍ أكبر مِما توقّعت، فَلَمْ أستطع إكمال القراءة.
فكّرتُ بقراءة المذكرات داخل العربة، لكن دوار التنقل…
‘أنا ذاهبةٌ إلى العاصمة لأخفي هَذا، لا لأزيد مِن احتمال انكشافه.’
لذا في النهاية، تخلّيت عن محاولة فكّ رموز المذكرات، وبدأتُ تحليل الرواية كما كنتُ أخطّط.
وبينما استبعدتُ المشاهد الرومانسية قدر المستطاع وركّزتُ على تسلسل الأحداث، بدأت ألاحظ نقاطًا كنتُ قد أغفلتها.
بحسب الرواية الأصلية، فإنَّ إستيل ستنتقل للعيش معنا بعد شهرٍ مِن الآن.
وذَلك مِن أجل الترتيب المُسبق للزواج وتسهيل الأمور.
حتى أنَّ والدي – تايغريس مور – تزوّج سابقًا مِن والدتي التي كانت مِن عائلةٍ نبيلة مِن مرتبةٍ أدنى، وتجاوزا فارق المكانة. لكن على الرغم مِن أنَّ رتبة والدتي متدنّية، إلّا أنَّ النبلاء يختلفون كثيرًا عن العامة الذين لا يملكون ألقابًا.
المشكلة أنَّ إستيل ستستيقظُ بصفتها قدّيسةً في نهاية ذَلك الأسبوع.
وبسبب ذَلك، سيتلقّى ثيو وإستيل أمرًا إمبراطوريًّا، وسيتدرّبان لمدّة شهرٍ فقط قبل أنْ يُرسلا إلى أرض الموت.
كانت إجراءات غير عادلةٍ البتّة، لكن بفضلها توطّدت العلاقة بين العائلة الإمبراطورية وعائلة الدوق.
‘لكن ذَلك… كان شكليًا فقط.’
العلاقة التي بدت هادئةً انهارت بعد ثلاثة أسابيع فقط.
والسبب أنَّ الإمبراطور وزوجته ووالدي قُتلوا أثناء مأدبة عشاءٍ إثر حادثةٍ شنيعة.
تبيّن لاحقًا أنّهم قُتلوا مسمومين، ومِن تلكَ اللحظة، بدأ دور داميان يزداد في الرواية.
‘كان داميان بدأ يظهرُ بوضوحٍ منذُ تلكَ النقطة.’
وبسبب المهمة، لَمْ يصلهما الخبر إلا مُتأخرًا، وحينها، كانت مراسم الجنازة قد انتهت بالفعل.
حتى مراسم تتويج داميان وزفافي منه.
‘بصراحةٍ، لَمْ أشعر يومًا بمشاعرٍ عاطفية تجاه والدي…’
فوالدنا – تايغريس مور، والدُ ثيو وأنا – كان مِن المؤيدين المتشدّدين للإمبراطور.
وقد كان صارمًا معنا كأبنائهِ بنفس الشكل، فَلَمْ يكُن هُناك مجالٌ لنشوء مشاعر تعلّقٍ تجاهه.
حتى في جنازة والدتي، لَمْ يسمح إلّا بالتصرف بما يليق بالنبلاء.
أما الآن، وبعد أنْ استعدتُ ذكريات حياتي السابقة، فالأمر أشدُّ وضوحًا.
‘أفهم الآن سبب تصرّف والدي. لقد كان مجرّد شخصيةٍ بهَذا الطابع.’
شخصيةٌ بلا دور مهم، وُجِدَت فقط مِن أجل إبراز صفات الأبطال وتقدُّم القصة.
لكن، مع ذَلك، كان موتهُ غامضًا إلى حدٍّ يُصعّب تجاهله.
السبب الأول، أنَّ العائلة الإمبراطورية أعلنت القبض على القاتل مُباشرةً، واتّضح أنه لَمْ يكُن سوى خادمٍ صغير في البلاط.
والسبب الثاني، أنّهُ اعترف بجميع التهم فورًا، وأُعدم في الحال.
كيف يُمكن لخادمٍ بسيط أنْ يقتل الإمبراطور والدوق دوّن جهةٍ تقف خلفه، ويعترف بجريمتهِ مع علمه بأنّها ستقوده إلى الإعدام؟
ومع ذَلك، طُويَت القضية بهَذهِ البساطة.
‘مِن الواضح أنَّ القاتل الحقيقي هو داميان.’
فالشخص الوحيد القادر على ارتكاب مثل هَذهِ الجريمة وطَمسِها دوَن أنْ يُحاسَب، لا يُمكن أنْ يكون سوى داميان.
وبحسب الرواية، فإنني في تلك المرحلة كنتُ في عزلة.
فوالدي مات، وشقيقي كان في أرض الموت.
ومذكرات روزالين لَمْ تتضمّن سوى تفاصيل ما قبل إرسال ثيو وإستيل، لذا لا أملك أدنى فكرةٍ عمّا كنتُ أفكّر فيه في ذَلك الوقت، ولا عن نيّة داميان الحقيقية.
مُنذ متى بدأ داميان يُخطّط لقتل والدي؟
‘ربّما كان يخشى أنْ يُفضح أمرَ قتله لأبي، لذا قرّر التخلّص مِن ثيو وإستيل لاحقًا.’
لو كانت المذكرات مفيدةً الآن…
وبينما كنت أغوص في التفكير، كانت العربة تنطلق بهدوءٍ لتتجاوز بوابة القصر الإمبراطوري.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《التليغرام》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
في مشكلة حالياً في الموقع تتعلق بأرشفة الفصول الجديدة بعد نشرها، وراح يتم حلها قريباً إن شاء الله.
وكإجراء احتياطي نرجو منكم الاحتفاظ بنسخة من الفصل بعد نشره على الأقل لمدة يومين أو ثلاثة أيام، لو صار أي خلل مفاجئ.
كما نوصي بمراجعة الفصل المنشور خلال هذه الفترة للتأكد من ظهوره بشكل سليم، ومن عدم حدوث أي خلل تقني أو أرشفة خاطئة.
نعتذر عن الإزعاج، وشكراً على صبركم وتعاونكم الدائم
— إدارة الموقع Hizo Manga
التعليقات لهذا الفصل " 3"