الفصل 11
قبل عدّة ساعات، عندما أُعيد الزمن إلى الوراء.
كان داميان يُحدّق طويلًا في روزالين التي كانت تُلوّح له بيدها.
زاوية فمها المرتفعةٌ بشكلٍ متكلّف، ونظراتها التي كانت تُثبّت عليه كما لو كانت مسمّرة.
كانت مختلفةً تمامًا عن لقائهما الأوّل، ومع ذَلك، كان يشعر في كلّ مرّةٍ يرى فيها وجهها، وكأنَّ مشاعرهُ عند اللقاء الأوّل تعود إليّه مِن جديد.
ابتسامةٌ تجعل قلب الإنسان يخفُق مِن مُجرّد رؤيتها، وتُورّد الخدّين مِن شدّة الحرارة.
“ما اسمُك؟”
“…داميان.”
“أأنتَ ذَلك الفتى؟”
حين سمع ذَلك الكلام، لَمْ يشعر سوى بالضيق.
طفلةٌ تصغرهُ بسنتين تنظر إليّه بوجهٍ بريء دوّن أنْ تُخفي أنّها تعرفه، كان ذَلك أمرًا مزعجًا للغاية.
كان الابن الوحيد للدوق الحالي، الذي خُلع من ولاية العهد بسبب طبيعته الوحشية، رغم كونه الابن البكر للإمبراطور السابق.
بسبب طمع والده الذي لَمْ يُرِد التخلّي عن السّلطة الإمبراطوريّة، كان داميان يُجبر على حضور جميع المناسبات الرسميّة، لكن لَمْ يكُن أحدٌ يجرؤ على الاقتراب منه.
لا الكبار، ولا الصّغار.
الكبار كانوا يتهامسون عن والده وهم ينظرون إليّه، أمّا الصغار فكانوا يتجنّبونه بشكلٍ طبيعيّ.
رغم أنّهم ظنّوا أنّهم يتهامسون، إلّا أنّه كان يسمع جيّدًا كلماتهم التي تقول إنَّ ‘الولد مثل والده، لا بُدّ أنّه وحشيّ أيضًا’.
ولأنّه كان دوقًا، لَمْ يجرؤ أحدٌ على إظهار الازدراء صراحة، لكنّ الأطفال لَمْ يكونوا ماهرين بما يكفي لإخفاء الاحتقار في نظراتهم.
ورغم رؤية والده لتلكَ الأوضاع، إلّا أنّه استمرّ في دفعهِ إلى الاختلاط ببقيّة الأطفال مِن أجل تحقيق أطماعه.
وكأنَّ عرش الإمبراطوريّة المخلوع سيعود إليّه بذَلك.
لكن في الحقيقة، العرش قد عاد فعلًا، وبهَذا استطاع أنْ يُمسك بها.
صحيحٌ أنَّ هَذا لَمْ يُنسِه كلّ شيء، لكنّه كان كافيًا لبعض الغفران.
“روزالين…”
ربّت داميان برفقٍ على خدّها ثم ابتسم.
ومع إنزال الستائر، حلّ الظلام في داخل العربة.
***
عاد ثيو وإيستيل قُبيل المساء.
وما إنْ وصلا، حتّى قرعا باب غرفتي.
“ما الأمر؟”
كان الاثنان يقفان أمام الباب حاملَين كيسًا ورقيًّا كبيرًا. كانت عينا إيستيل تتلألآن.
“افتُتح مخبزٌ جديد في السوق، ويقولون إنّه لذيذٌ جدًّا!”
عند سماعي لكلامها، رأيتُ أنَّ الكيس مليءٌ بالخبز والحلوى.
ابتعدتُ قليلًا عن الباب، ودخل ثيو وإيستيل إلى الغرفة دوّن أيِّ تردّد.
“ومَن الذي أخبركِ بذَلك؟”
“في الحيّ الذي أسكنه، هُناك فنّانون رائعون. ومِن بينهم، بعض مَن زاروا صالونًا فنّيًّا…”
“صالون؟”
عندما سألتها، بدأت إيستيل تتحدّث وهي تفتح الكيس الورقيّ.
“هل تعرفين الكونتيسة لورين؟”
لا أعرف الكونتيسة، لكنّي أعلم أنَّ الكونت توفّي قبل بضع سنواتٍ بسبب مرضٍ مزمن.
ولمّا لَمْ أتفوّه بكلمة، تابعت إيستيل الحديث وهي تُخرج الحلوى:
“لقد أصبحت أرملةً في سنٍّ صغيرة، لكنها تدعو النّاس الموهوبين مِن العامّة إلى صالونها. أليست طيّبة؟”
كان الصالون بمثابة معرضٍ صغير يُقام في غرف الاستقبال أو الصّالونات الخاصّة بالنبلاء.
لكنّ معظم المعروضات تكون مِن هوايات النبلاء.
‘أنْ يكون هُناك مَن يدعم الفنّ بإخلاص… هَذا مُفاجئ بعض الشيء.’
لو نجح صالون الكونتيسة لورين، فقد يتوسّع مشروع دعمها للعامة مِن الطبقة الدنيا.
وإنْ حصل ذَلك، فربّما أجد مساحةً أتنفّس فيها بعد أنْ أتخلّى عن النّسب واللقب.
بدأتُ أُساعدهما في ترتيب الوجبات الخفيفة.
وعندما جاءت الخادمة وقدّمت الشاي، بدأ ما يشبه حفلة شاي صغيرة وراقية.
جلستُ بهدوء وأنا أُحدّق في ثيو وإيستيل أمامي، ثمّ سألتُ بنبرة هادئة:
“إيستيل، سوف تدخلين إلى القصر بعد زفافي مُباشرةً، صحيح؟”
“أظنّ بعد أسبوع؟”
أجاب ثيو بدلًا عنها.
أسبوعٌ واحد.
لو جاءت أبكر قليلًا، لكنتُ وجدتُ عذرًا ما لأتفقّد كتفيها.
‘كيف يُمكنني رؤية الندبة على كتف إيستيل؟’
تناولتُ قطعةً مِن كعكة الباوند وأنا أسترجع محتوى اليوميات. على ما أذكر، كُشف الأمر عندما أُهديت إيستيل ثوبًا، أليس كذَلك؟
إذًا، عليّ أنا أيضًا أنْ أُهديها ثوبًا.
‘لكن، ما الذّريعة المناسبة لذَلك؟’
في تلكَ اللحظة، وقعت عيناي على وليمة الحلوى المُزدانة فوق طاولة الشاي. هل أُقدّم الهدية كردّ جميل على هَذهِ الحلوى؟
لا وقت للتردّد. تحرّكتُ فورًا.
“إيستيل، هَذا الخبز لذيذٌ للغاية! ألَمْ يكُن الأمر مُرهقًا أثناء شرائه؟”
“آ، لا! بفضل ثيو تمكّنا مِن شرائه بسرعة.”
وضعت إيستيل الشوكة بسرعة ولوّحت بيديها على عجل، بينما بدا ثيو فخورًا بنفسه وهو يجلس بجانبها.
أجل، أجل. لوّحتُ لثيو بإيماءة خفيفة، ثم التفتُّ إلى إيستيل وقلت:
“لكن بما أنّكِ أحضرتِ لي شيئًا لذيذًا، أودّ أنْ أُقدّم لكِ شيئًا في المقابل.”
“هَذا كله مِن نقود ثيو! لا بأس، أنا بخير.”
قالت إيستيل وهي تضحك بمرحٍ دوّن أنْ تعرف ما بداخلي.
كان ثيو يبتسم حتى بدا وكأنَّ طرفي شفتيهِ سيخترقان السقف.
لكنّي لَمْ أستسلم وقلت:
“مع ذَلك، أريدُ أنْ أُعطي كما أُعطيتُ، لا بأس في ذَلك، أليس كذلك؟”
وبعد عدّة مشاحنات، انتهى الأمر بانتصاري.
في تلكَ الأثناء، تقرّر إقامة الزفاف بعد أسبوعين. طلبتُ مِن داميان تقديم الموعد قدر الإمكان مِن خلال البلاط الإمبراطوري.
وبفضل ذَلك، أصبحتُ مشغولةً جدًا لدرجة أنني لَمْ أجد وقتًا لالتقاط أنفاسي بسبب ضيق الجدول.
زفافٌ يستمر لثلاثة أيّام. عدد الفساتين التي يجبُ أنْ أرتديها وحدهُ يبلغ خمسة عشر فستانًا.
ومع ذَلك، كانت هَذهِ النسخة المُبسّطة مِن الزفاف بسبب قصر فترة التحضير.
‘زفاف.. إذًا.’
أغلقتُ الكتيّب الذي صُنع بعناية.
لأجل خمسة عشر فستانًا، كان عليّ اختيار ستّين فستانًا.
شعرتُ بالقرف. هل كان الأمر دائمًا بهَذهِ الصعوبة؟
في حياتي السابقة، كنتُ طالبةً جامعيّة لا علاقة لها بالزواج. لَمْ أُشارك سوى بضع مرّاتٍ كضيفة في حفلات زفاف.
لكن، القول بأنني لَمْ أحلم أبدًا بحفل زفافي سيكون كذبًا.
مع ذَلك، لَمْ أتوقّع أبدًا أنْ أتزوّج عدوي.
تنفّستُ بعمقٍ بيأس، ثمّ مررتُ يدي بشعري ورفعتُه إلى الخلف.
“هل انتهيتِ مِن الاستعداد؟”
“نعم.”
رفعتُ ذيل الفستان قليلًا وانحنيتُ برأسي.
حتى وأنا أنظر إلى الأرض، شعرتُ بنظرات والدي وهي تتفحّصني مِن الأعلى.
كان يتفقد إنْ كنتُ أُظهر سلوكًا يليق بأميرةٍ متوجة.
‘شخصٌ لا أشعر نحوه بأيِّ مودة.’
أنا، وثيو، وإستيل، وحتى روزالين الأصلية في القصة، كنّا جميعًا نجد صعوبةً في التعامل مع دوق مور.
وكان ذَلك أمرًا طبيعيًا. كيف للمرء أنْ يشعر بالمودة تجاه شخصٍ يتصرّف بهَذهِ الطريقة؟
كانت والدتي، كما أتذكّرها، امرأةً أكثر لطفًا.
صعب عليّ تخيّل أنْ شخصًا كهَذا وقع في حبّها مِن النظرة الأولى وسعى للزواج منها.
“هممم.”
أصدر والدي صوتًا قصيرًا. واتخذتُ مِن ذَلك إشارة لرفع جسدي المنحني.
ولا أعلم متى دار بجسده، لكنني رأيتُ ظهره أمامي.
كنتُ أشعر بالغثيان أصلًا مِن التفكير بلقاء داميان، ولا أعلم إنْ كنتُ سأعاني مِن عسر الهضم إنْ أكلت.
‘كيف سأقابل وجهه؟’
إنْ لَمْ أتصرف كفتاةٍ واقعةٍ في الحب، سأثير الشبهات فورًا مُجددًا.
ولا يُمكن تأجيل الزفاف أكثر مِن هَذا.
شعرتُ بالغثيان، وبدأ لون وجهي يفقد إشراقه تدريجيًا.
“…عودي سالمة.”
عندما أدرتُ رأسي قليلًا، رأيت ثيو يقف مودّعًا. كان يُلوّح بيدٍ واحدة كطفل، لا كأبن دوق.
“أجل.”
عندما رددتُ عليه، ابتسم ثيو ابتسامةً عريضة. وبدأ الغثيان الذي في داخلي يهدأ قليلًا.
نعم، يجب أنْ أتحمّل لأجله.
لأجل إنقاذ ثيو وإستيل.
فقط عليَّ أنْ أتحمّل قليلًا حتى أصل إلى نهاية سعيدة.
وإذا ما قام ثيو وإستيل بتطهير أرض الموت، فرُبما يُمكننا الانتقال للعيش في إمبراطوريّةٍ أخرى.
أيُّ إمبراطوريّةٍ ستجرؤ على رفض الأبطال؟
سأتحمّل حتى ذَلك الحين.
أغمضتُ عينيّ بقوّة، ثمّ فتحتهما مِن جديد.
وسرعان ما لحقتُ بوالدي إلى خارج البوابة.
***
كانت العربة تسير بهدوء على الطريق الممهّد جيدًا.
كنتُ أُحدّق في المشهد الخارجي الذي غطّاه ضوء أزرق باهت.
والدي الجالس مُقابلي لَمْ يتفوّه بكلمة لمدّة طويلة. كانت العربة في طريقها إلى القصر الإمبراطوري.
بالأمس، وصلتنا رسالة دعوةٍ لحضور عشاءٍ رسميّ.
إقامة مأدبة قبل الزواج لتوطيد علاقة العائلتين أمرٌ شائع. لَمْ أكُن أعلم أنهم سيُقيمونها رغم ضيق الوقت، لكن بما أنَّ الأمر يخصّ العائلة الإمبراطوريّة، فلَمْ يكُن غريبًا جدًا.
دارَت العربة حول سورٍ حجريّ مرتفع وتوقّفت عند البوّابة الجانبيّة.
فتح الحراس البوّابة الحديديّة فور أنْ رأوا شعار العربة.
ومع فتح البوّابة، شعرتُ بتوتّرٍ طفيف. سأقضي العشاء بأكمله وأنا أُمثّل مشاعر الحبّ تجاه داميان.
وسأُجسّد فتاة نبيلة رقيقة يبدو عليها أنّها ستموت إنْ تأجّل الزفاف حتّى يوم واحد.
“لا تفقدي كرامتكِ.”
صوتٌ منخفض جاء مِن الجهة المقابلة. نظرتُ إلى والدي، وكانت عيناه الذهبيّتان، المُختلفة عن عيوننا، تحدّقان بي بوضوح.
حتى في هَذهِ اللحظة، لَمْ يجد ما يقوله لي سوى هَذا. أنزلتُ رأسي.
“نعم….”
كان الردّ بنبرةٍ مترددة بعض الشيء. وماذا عساي أنْ أفعل؟ إنْ تأجّل الزفاف، فسيكون هو أوّل مَن يقع في مرمى داميان.
سأبذل جهدًا للحفاظ على كرامتي كما قال، لكنّ التظاهر بالوقوع في الحب أكثر أهميّة مِن الكرامة.
لَمْ أكُن أطلب التفهّم. ابتسمتُ ابتسامة صغيرة.
*الفصول متقدمة على قناة التيلجرام*
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"