9
81ⵌ
“هاف… هاف… هاه.”
في خضمّ الصمت، تردّد صوت تنفّس لوران الثقيل متزامنًا مع وقع خطواته المنتظمة. في الواقع، بدأت أشعر بالتّعب أنا أيضًا، لكن صعود لوران المزعج جعله أقلّ وضوحًا.
“تش، تش.
كيف أصبحتَ عشيق الإمبراطورة الليليّ بهذا الجسد؟”
“هاه؟! أ-أنا آسف، لا، أنا…”
يبدو أنّني لم أكن الوحيدة التي انزعجت من تنفّس لوران، فالإمبراطور الذي كان يتقدّمنا في الصعود، وبّخه.
لكنّ مضمونه كان حادًّا لدرجة أنّ لوران، الذي رفع رأسه بطبيعيّة، كاد يتعثّر ويسقط، لولا أنّ كاسيون أمسكه بضيق.
“كان الأمير الأوّل يتمتّع بلياقة بدنيّة ممتازة منذ الطفولة.
وجهيكما متشابهان إلى حدّ ما، لكن كلّما نظرتُ إليك، قلّ الشبه بينكما.
بدأتُ أتساءل إن كنتُ قد خُدعت أثناء المحاكمة.”
“لا! أنا، أقسم، هاه، ق-قلت الحقيقة فقط… هاه.”
“أغلق فمك.
لو علمتُ أنّ الأمر سيكون هكذا، لأحضرت فارسًا ليحملك.”
“أوه…”
أغلق لوران فمه، وقد أصبح أكثر وعيًا بحضور الإمبراطور، لكنّ أنفاسه الخشنة عبر أنفه استمرّت في الخروج.
رفعتُ رأسي لأنظر إلى ما تبقّى من الدّرج. يبدو أنّنا صعدنا حوالي ثلثي الطّريق.
“كنت أعلم أنّ الإمبراطورة لا تحبّني، لكن حتى لحظة المحاكمة، لم يخطر ببالي أنّ الأمير الأوّل قد لا يكون ابني.”
“…لكن جلالتك، لم تبدُ متفاجئًا إطلاقًا أثناء المحاكمة.”
“لم أتفاجأ ذلك اليوم لأنّني تأكّدت من كلّ شيء قبل المحاكمة مباشرة. لكن حين علمتُ بالأمر للمرّة الأولى، صُدمت بشدّة. كما قلت، كان الأمير الأوّل يشبهني في جوانب عديدة، باستثناء ملامح وجهه، لذا لم يخطر ببالي هذا الاحتمال. ولهذا سألتُ الدّوقة من قبل: أيّهما تختارين؟ الأمير الأوّل أم الثاني؟”
لكن، رؤيته يمزح معي حتى في مثل هذا الظّرف جعله يبدو هادئًا على غير المتوقّع بالنّسبة لمن ادّعى أنّه صُدم.
وبما أنّه كان شخصًا مات مبكّرًا في القصّة الأصليّة، لم أكن أعرف عنه الكثير، ولهذا كنت حذرة في التّعامل معه. عدم قدرتي على قراءة أفكاره زاد من توتّري.
“آه، لا تصنع هذا التّعبير، يا دوق. قالت الدّوقة إنّك الأفضل. والآن سيُصبح الأمير الثّاني وليّ العهد، وأنت مقرّب منه، أليس كذلك؟ لدينا ما يكفي من الشّائعات في العائلة الإمبراطوريّة حاليًّا، ولا نحتاج إلى علاقات معقّدة بين وليّ العهد، والدّوق، والدّوقة.”
لم أستطع فهم النيّة الحقيقيّة للإمبراطور الذي كان يطلق المزاح في موقف قد تنفجر فيه ثورة يائسة من الأمير الأوّل.
وعندما اقتربنا من الطّابق الأخير، جمعتُ تنّورتي مرّة أخرى ونظرتُ إلى كاسيون. كان يحدّق بي أيضًا، بشفاه مضمومة بصمت.
في الصّمت الذي عاد، لم يتردّد سوى صوت لوران اللاهث.
“الوضع الحالي مؤسف للغاية. حاولت جاهدًا منع نشوب حرب أهليّة بسبب وراثة العرش أثناء حياتي، تشه. لم أكن أعلم أنّ الأمير الأوّل عاطفيّ إلى هذه الدّرجة ويسهل التّلاعب به. يبدو أنّ هناك أمورًا كثيرة فاتتني.”
“هذا غير صحيح، يا صاحب الجلالة.”
“كفى مجاملة، يا دوق. لكن، حتى وإن جاء متأخّرًا، يجب أن أعرف كلّ شيء… أعلّق آمالي على حوار بين الإمبراطورة وذلك الرّجل. لقد تكلّم إلى حدّ ما أثناء المحاكمة، وآمل أن يفعل ذلك مرّة أخرى الآن.”
وحين صار لوران يزحف تقريبًا على أطرافه الأربعة، وبدأ نفسي يثقل قليلًا، وصلنا أخيرًا إلى قمّة البرج.
بعد صعود العديد من الدّرجات، ظهر أمامنا فضاء يكفي لعدّة أشخاص، وفي نهايته باب حديديّ متين. بدا وجه لوران متوتّرًا قليلًا وهو يلهث، بعد أن رأى القفل على الباب الحديديّ.
“كليك. كلانك. طَخ.”
“حسنًا إذًا، تفضّل بإجراء حوار عميق مع حبيبتك القديمة، ولا تكترث لنا.”
أخرج الإمبراطور مفتاحًا خشنًا من جيبه، وفتح القفل وأزال السّلاسل، لكنّه لم يفتح الباب، واكتفى بالإيماء.
وإذ أدركت أنّ الإمبراطور ينوي ترك لوران يدخل وحده إلى الغرفة، أسرعتُ بسحب كاسيون للوقوف خلف الإمبراطور.
الغرفة ستكون صغيرة على أيّ حال، وإذا فُتح الباب، فسيسهل سماع أصوات الحديث حتّى ولو كانت خافتة.
“…يذكّرني هذا بمكان لقائنا السّريّ القديم.”
لوران، الذي ظننتُ أنّه قد يتردّد في مواجهة الإمبراطورة وحده، بدا بعقليّة مختلفة، إذ تقدّم بخطًى متأنّية وتعبير خفيف على وجهه.
تمامًا كما في أحد تلك الأيّام قبل أكثر من عشرين عامًا، بدا المشهد وكأنّني أتطفّل على لقاء سرّيّ بين عشيقين.
“كريييك–”
“…”
“مرحبًا، ليوني.”
“لوران.”
للحظة، تساءلت من كان ينادي، لكن سرعان ما أدركت أنّه اسم الإمبراطورة، من ردّها الفوريّ. لقد كانا عاشقين حقًّا.
“حسنًا… من الغريب قول هذا هنا، لكن مرّ وقت طويل.”
“ألم نلتقِ في المحكمة؟”
“لا، ذلك… لم تبدُ كما عرفتك آنذاك. بدوتِ وكأنّك ‘جلالة الإمبراطورة’.”
“الشّخص الذي تعرفه لم يتغيّر.”
“لا، تغيّرتِ. المرأة التي أعرفها كانت وحيدة وفارغة، تنتظرني. تتشبّث بدفئي التّافه.”
“لم أظنّ أنّ رجلاً بلياقة بدنيّة هزيلة مثلك سيتسلّق هذا البرج العالي فقط ليسخر منّي. هل أنت غاضب لهذه الدّرجة لأنّني أقمت علاقة غير شرعية معك وأنجبت منك ولدا وخدعتك؟”
واو… الحديث مباشر جدًّا. من الواضح أنّ الإمبراطورة تعلم أنّ الإمبراطور والآخرين يقفون خارج الباب، ومع ذلك لا تتردّد بالكلام.
في الواقع، متى تردّدت يومًا في الحديث؟
في هذا الجانب، يبدو أنّ الإمبراطور والإمبراطورة يشكّلان ثنائيًّا مثاليًّا.
“أنت تعرفين أكثر من أيّ شخص آخر، ليوني، أنّني رجل تافه. ولهذا اخترتِني. لستُ ساذجًا لأغضب من هذا.”
“لم تبدُ كذلك عندما تحدّثت في المحكمة.”
“ذاك، ذاك… إحم، كان مختلفًا!”
نظر لوران نحونا تلقائيًّا، والتقت أعيننا. هل هو مجنون؟ لماذا ينظر إلينا وهو يقول ذلك؟
“ادخل فحسب. لم يعد لديّ ما أخفيه.”
كما هو متوقّع، الإمبراطورة، التي لاحظت وجودنا خارج الباب، تكلّمت دون اكتراث. ومن صوت السّلاسل الخفيف، بدا أنّ يديها أو قدميها مقيّدتان بشيء ما.
“…يقولون إنّ الأمير الأوّل… ابننا، فرّ بمساعدة عائلتك.”
“لستُ متفاجئة.”
“لماذا فعلتِ ذلك، ليوني؟ لا أظنّ أنّك أحببتِني كفاية لتنجبِي طفلي. لقد كنتِ تحتقرين مشاعري تجاهك حينها.”
“صحيح… لا أحبّك.”
نبرة الإمبراطورة البطيئة والمملّة ترتدّ على جدران الحجر البارد. لو كانت للأصوات درجات حرارة، لما وُجد صوتٌ أبرد من هذا.
“لكنّي لا أحبّ صاحب الجلالة أيضًا. أليست تلك طبيعة الزّيجات التّعاقديّة؟”
شهق لوران بصوت مسموع، مدركًا أنّ الإمبراطور خارج الباب، لكن الإمبراطورة واصلت كما لو لم يحدث شيء.
“لقد كرهت العائلة الإمبراطوريّة، لوران. منذ طفولتي، التي لا أذكرها، تربّيتُ على الخضوع للعائلة الإمبراطوريّة بتعليمات من عائلتي، لأصبح الإمبراطورة، وهذا ما أصبحت عليه كما أراد الجميع.”
“…”
“التمرّد شيء يجب أن تتعلّمه لتراه، يا لوران. نشأتُ مثل دمية، لا أفهم إحباطي المتزايد، ولا كيف أتخلّص منه. ثمّ فجأة، سمعتُ أنّ النّبيلات يخرجن بملابس غريبة دون خدم، وشعرت برغبة في تجربة ذلك بنفسي.”
“…وكنتُ أنا هناك.”
“نعم. ربّما لأنّني تربّيتُ كإمبراطورة مستقبليّة، طوّرت حسًّا جماليًّا؟ كنتَ أنت أكثر ما لفت نظري في ذلك الشّارع.”
“ش-شكرًا لك.”
…هل يتغازلان مجدّدًا الآن؟ رمقتُ لوران بنظرة حادّة، بينما كان يحكّ مؤخرة رأسه بإحراج. لكن لوران، بدلًا من انتزاع معلومات من الإمبراطورة، بدا مأخوذًا بحكايتها الاعترافيّة.
“حين أفكّر في الأمر الآن، لم تكن سوى انحراف شبابيّ يفعله الجميع. مجرّد حقيقة أنّني تصرّفت بإرادتي، دون أن يعلم أحد، كانت مثيرة.”
“ليوني…”
“هل ستصدّقني إن قلتُ إنّني لم أقصد؟ لم يكن تمرّدًا على عائلتي التي جعلتني إمبراطورة، ولا انتقامًا من الإمبراطور اللامبالي.
أردت فقط أن أترك أثرًا واحدًا لنزوة شبابيّة في الحياة السّجنيّة التي كنت على وشك عيشها.”
“…”
“هذا كلّ شيء. ذلك الطّفل ليس خطيئتي، بل خياري الوحيد.
حتّى وأنا أعلم أنّه أنانيّ وخادع، فإنّ رؤيتي له حين أختنق كانت تمنحني القدرة على التّنفّس.”
“بدلًا من الكذب، كان يمكنكِ إنجاب طفلي، ثمّ اتّخاذ عشيق.
كنتُ سأسمح بذلك.”
الإمبراطور، الذي دخل الغرفة بدلًا من لوران العاجز عن الكلام، قال ذلك للإمبراطورة.
فأجابته، دون أيّ دهشة، بصوتها الرتيب نفسه:
“لم أكن أعلم، يا صاحب الجلالة.”
“لم تكوني تعلمين؟”
“نعم.
ببساطة لم أعلم.
كنتُ صغيرة جدًّا، وأفقي ضيّق.
هكذا تربّيت.”
“كلانك.” ارتدّ صوت السّلاسل مرّة أخرى.
“لو أنّ المربّيات والخادمات، أو حتّى عائلتي، منحوني هامشًا بسيطًا، أو لو تأخّر زواجي من جلالتك لسنتين أو ثلاث، ما كان ليمتدّ ضيق أفق طفولتي لهذه الدرجة.”
وقفت الإمبراطورة وتقدّمت، والتقت عيناها بعينيّ.
“بدلًا من إنجاب طفل، لكنت سعيتُ لحياتي الخاصة حتّى لو اضطررت لقتل زوجي وعائلتي، كما فعلت الدّوقة.
الشّخص الذي أحسده أكثر هذه الأيّام… هي الدّوقة.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
82ⵌ
“لا علاقة لأسيليا بموت عائلتها أو الماركيز.”
قبل أن أتمكّن من الرّد، أجاب كاسيون، الذي بدا أكثر غضبًا منّي، بنبرة حادّة. سواء كان ذلك بسبب الغضب أو لأن مكانتها قد انخفضت بسبب حبسها، فقد تحدّث بنبرة غير رسميّة، لكن لم يشر أحد إلى ذلك.
“فلنقل إنّ هذا صحيح.”
رفعت الإمبراطورة حاجبًا واحدًا، كما لو كانت تسخر من مضمون كلام كاسيون لا من أسلوبه. حين التقت أعيننا مجدّدًا، بدت وكأنّها تغار منّي فعلًا… كان شعورًا غريبًا.
“مع أنّ ظروف الإمبراطورة مؤسفة، لا يمكنني تسليم التّاج إلى الأمير الأوّل، الذي لا يحمل دمي. فلا تشعري بخيبة أمل كبيرة.”
تحدّث الإمبراطور بتعبير ونبرة لا تنمّ عن الشّفقة أبدًا، بينما كان يطوي ذراعيه. كان موقفه غير مبالٍ إلى درجة جعلتني، رغم أنّني لا علاقة لي بالأمر، أشعر بالأذى.
إن كان أحدهم قد تربّى فقط ليكون شريكًا لشخص كهذا، وكان هذا هو موقف شريكه، فمن الطّبيعي أن يشعر بالإحباط.
ومع ذلك، هذا لا يبرّر أفعال الإمبراطورة.
“مع هذا، لقد أدّيتِ واجباتك كإمبراطورة لأكثر من عشرين عامًا، لذا إن أخبرتِنا بمكان هروب الأمير الأوّل، فقد أكون ميّالًا لتخفيف عقوبتك. أو ربّما الفيلا التي أخفته عائلتك فيها.”
“……”
“كما قلتِ، لقد تربّيتِ على أن تُوقَّري منذ ولادتك. أليس من المزعج أن تبقي في مكان كهذا دون وصيفات؟ ربّما لا تحملين الكثير من المودّة للأمير أيضًا، لذا دعينا لا نصعّب الأمر على بعضنا.”
“……”
“ليون، فلنُصلح أخطاءك حتى الآن. أخبرينا بأي شيء تعرفينه.”
تناوب الإمبراطور ولوران على محاولة إقناع الإمبراطورة الصّامتة.
بعد أن رفعت بصرها قليلًا نحو السّقف الحجريّ البارد، أغمضت الإمبراطورة عينيها وهزّت رأسها.
“ما الذي يظنّ جلالتك أنّ ذلك الطّفل فعله؟”
“لا أعلم، ولهذا أنا أسأل.”
“كيف لي أن أعرف ما لا يعرفه جلالتك؟”
نظرت الإمبراطورة مجدّدًا إلى الحاضرين في الغرفة، ثمّ ركّزت نظرها نحوي، خارج الباب. لماذا تستمرّ بالنّظر إليّ؟
“كلّ ما أفعله هو ‘تقوية البلاط الدّاخلي كإمبراطورة’. ماذا يمكن أن أعرف غير ذلك؟ لم أتعلم أو أفكّر في شيء آخر.”
“لكن ليون! إنّه… ابنك.”
“لم تفهمني، لوران.”
“……”
“لقد تعلّمت كيف أُربّي الإمبراطور القادم كإمبراطورة، لكنّي لا أعرف كيف أُعامل ابنًا كأمّ. كيف لي أن أعرف إلى أين ذهب ذلك الطّفل، الذي لا يمكنه حتّى أن يصبح إمبراطورًا؟”
“ليون.”
“فيلات العائلة؟ كيف لي أن أعرف عنها؟ لم أغادر يومًا قصر العاصمة الذي وُلدت وتربّيت فيه، ولا القصر الإمبراطوريّ. من علّمني كانوا يأتون إلى غرفتي، والمرّة الوحيدة التي خرجت فيها كانت حين التقيت بك، لوران. كيف لي أن أعرف ما وراء العاصمة؟”
تمتمت الإمبراطورة بذلك بينما كانت تمرّر يدها على جدار البرج الضيّق، ثمّ توقّفت حين شدّها القيد عند كاحلها إلى أقصى مسافة. نحو متر واحد فقط من السّرير الصّغير القاسي. تلك هي المسافة الوحيدة المتاحة لها.
“أليس غريبًا؟ هذا المكان الضّيق والمختنق… لكنّي لا أشعر بعدم الرّاحة. حياتي في الأصل لم تكن مختلفة كثيرًا عن هذا.”
“يبدو أنّكِ تتخلّين عن حريّتك لحماية الأمير الأوّل.”
“لقد أسأتَ فهم كلماتي، يا جلالة الإمبراطور. لكن لا بأس.”
عادت إلى السّرير، وجلست عليه بخشونة أمام الإمبراطور.
ثمّ ابتسمت بسعادة خفيفة على هذا التصرّف غير اللائق الذي لم تكن لتجرؤ على فعله حين كانت إمبراطورة.
“خلاصة القول، لقد جئتَ كلّ هذه الطّريق، لكن ليس لديّ ما أقوله. إلى أين يمكن أن يهرب أمير زائف رُبّي على يد أبوين مزيّفين… وحده يعرف.”
“يا إمبراطورة. إن غادرت الآن، فلن تحصلي على فرصة أخرى.”
“قد يكون من الممتع جدًّا أن أراقب من هذا البرج ما إن كان ذلك الطّفل سيتمكّن من دخول القصر مجدّدًا وأخذ مكانه. أمور كهذه لم تكن ضمن بروتوكولات البلاط الإمبراطوريّ.”
“ربّما يمكنك التحمّل الآن. لكن بعد شهر، أو شهرين، أو بعد أكثر من عام، ستندمين على هذه اللّحظة.”
“هذا ألطف ما قلتَه لي منذ زواجنا. لكنّي أشعر بحريّة كبيرة في هذا البرج الضيّق حدّ الكفّ…”
“……”
“ضرب القيود حتّى تتكسّر قدماي، وتمزيق الخبز اليابس بيديّ، كلّه بملء إرادتي. أجد في الأمر متعة غريبة.”
“تسك. كان عليّ أن أزوّج الدّوقة للأمير الثّاني منذ البداية. يا للأسف.”
وبينما نقر لسانه بأسى، ذكر الإمبراطور اسمي بشكل مفاجئ، ما جعل وجه كاسيون يعتم. حاولت تهدئته فورًا، فربّتُّ على ظهر يده بهدوء، دون أن أُلفت الأنظار.
“سيكون البلاط الدّاخلي مشغولًا لبعض الوقت دون إمبراطورة. دوق، أعتمد عليك في تقديم العون الكبير مع الأمير الثّاني.”
“…نعم، يا جلالة الإمبراطور.”
“أغلقوا الباب الحجريّ.”
لم تكن هناك حتّى كلمة وداع بسيطة. استدار الإمبراطور والإمبراطورة دون أن يتبادلا النّظر، بينما وقف لوران وحده بوجه حزين، يُراقب الباب وهو يُغلق ببطء.
“ليون…! قولي شيئًا…!”
“…وداعًا.”
دون أن تردّ على توسّلات لوران الحزينة، بدت الإمبراطورة وكأنّها قالت شيئًا بصوت خافت جدًّا قبل أن يُغلق الباب. لكن الصّوت كان خفيفًا وقصيرًا إلى حدّ جعل من الصّعب تمييزه وسط صوت إغلاق الباب الصّخريّ والضّجيج الذي تلاه حين أُحكم القفل.
“يا جلالة الإمبراطور، لو استطعنا إقناع ليون، أعني الإمبراطورة، قليلًا بعد…!”
“تسك تسك. يبدو أنّك لا تعرفها جيّدًا أنت أيضًا. حتّى لو قطعنا ذراعيها وساقيها، فلن تتفوّه بكلمة عن الأمير الأوّل.”
حتى عند ذكر سيناريو قطع أطرافها، شحب وجه لوران بشدّة. أمّا الإمبراطور، فقد بدأ بالنّزول مسرعًا بلا مبالاة، تتطاير عباءته، كما كان حين وصل.
“لقد أضعنا وقتنا فقط.”
رغم أنّه كان يسير بسرعة معتدلة في طريق الصّعود، إلا أنّه لم يكلف نفسه ذلك عند النّزول.
حين كنت أرتجف قليلًا من بردٍ غير مفسَّر بينما أراقب آثار الإمبراطور تختفي، أحاط كاسيون كتفيّ بذراعه.
“…فلننزل يا أسيليا.”
لم أرغب في البقاء في هذا البرج البارد أكثر.
—
“لقد رتّب جلالة الإمبراطور أن تُناقشي الوضع الحاليّ مع سموّ الأمير الثّاني.”
حين نزلنا من البرج، لم يكن هناك أثر للإمبراطور، وكان أحد الخدم في انتظارنا ليُبلّغنا بالرّسالة.
شعرت ببعض الذّهول. أليس هذا مجرد تخلٍّ عن المسؤوليّة؟ أم أنّه غير مبالٍ فعلًا رغم أنّ حربًا أهليّة قد تندلع؟ أحاط كاسيون كتفيّ بذراعه برفق.
“لا داعي للذّهاب فورًا، أليس كذلك؟ أخبروهم أننّي سأذهب بعد أن أوصل زوجتي إلى مقرّ الدّوق.”
“ماذا؟ لماذا أنا؟”
رغم أنّه دوق، تحدّث كاسيون بلا تردّد إلى الأمير، وأدخلني العربة الإمبراطوريّة، ثمّ دفع لوران معها.
لماذا تحاول إبعادي فجأة؟
“ينبغي أن ترتاحي في مقرّ الدّوق مع لوران. على أيّ حال، سنتحدّث فقط عن البحث عن الأمير الأوّل.”
“آه…”
إن كان الأمر كذلك، فلا شيء أقوله. حتّى الآن، كنت أقدّم النّصائح بناءً على القصّة الأصليّة، لكنّي لا أعرف شيئًا عن الحروب.
القصّة الأصليّة التي التوَت تمامًا بسبب تأثير الفراشة صدمتني من جديد.
“قد يستغرق الأمر بعض الوقت، لكن لا تغادري مقرّ الدّوق تحت أيّ ظرف. إن أمكن، حاولي تجنّب التّجوّل في الحديقة أيضًا. سأنبّه الفرسان… آسف، أسيليا.”
“ما الّذي تعتذر عليه؟ سأبقى في غرفتي وسأكون حذرة.”
يبدو أنّ كاسيون قلق من تعرّض مقرّ الدّوق لهجوم، على الأرجح لأنّنا السّبب الرّئيسيّ في سقوط الأمير الأوّل والإمبراطورة.
قد يكون من الأفضل ألّا أسبّب ضررًا بمحاولات المساعدة في وقت كهذا. ربّما من العمليّ أكثر أن أبحث عن أماكن اختباء أو طرق هروب داخل مقرّ الدّوق.
“حتّى لو ساعدت عائلة الإمبراطورة، فلن تكون قوّة الأمير الأوّل كبيرة. قد يدعمه بعض النّبلاء سرًّا… لكن بما أنّ من تبعوه سابقًا كانوا من المدافعين الشّرسين عن نظام الطّبقات، فمن غير المرجّح أن يستمرّوا في دعمه بعد أن فقد دمه الإمبراطوريّ.”
“صحيح. نحن فقط بحاجة للاستعداد لأيّ موقف، لكنّنا ما زلنا نمتلك الأفضلية.”
“لذا لا تجهدي نفسكِ أيضًا. لم تسمعي إجابتي بعد، أليس كذلك؟”
“…صحيح. هذا صحيح.”
ابتسمت له، وأنا ألمس الخنجر الجديد المخفيّ داخل فستاني. كاسيون، الذي كان يُبدي ملامح صارمة، ابتسم بدوره وأجابني.
قبل بضع ساعات فقط، كنّا في موعد غارق في أجواء خجولة، نفكّر في كيفيّة الاعتراف.
“يبدو أنّك تماطلين في الأمر، لكن لا بدّ أنّني مُخطئ، أليس كذلك، أسيليا؟”
“حسنًا، ما رأيك أنت؟”
ضحكت بصوت عالٍ وأنا أُمازحه عمدًا، لكن قلبي كان ثقيلًا.
فحَتّى أنا، التي لا أعرف شيئًا عن الحرب، كنت قادرة على توقّع أنّ كاسيون، بطل الحرب والمقرّب من الأمير الثّاني، سيكون في طليعة الحرب الأهليّة.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
83ⵌ
“…أوه! أليس ذاك كاسيون هناك؟!”
“هاه؟ يبدو أن أحدهم يقترب… لديكِ عينان حادّتان، سيّدتي.”
بعد أن أوصل لوران وأنا، أمر كاسيون الفرسان بتعزيز الحراسة في قصر الدّوق.
بينما انشغل الفرسان، وانهمك الخدم في تقوية الأبواب والجدران، لم أفعل شيئًا سوى التّجوال ذهابًا وإيابًا في ممرّات القصر.
وبينما كنتُ غارقة في التّفكير، أسير في نفس المساحات مرارًا وتكرارًا، وجدت أنّ الشّمس قد غربت دون أن أشعر. وعندما أخبرتني بيا بأن أعود إلى غرفتي لأرتاح، نظرت من النّافذة مرّة أخرى، فرأيت كاسيون.
“قال لي أن أتوخّى الحذر، لكنّه يتجوّل وحيدًا.”
“هيه، الوضع مختلف مع دوقنا، أليس كذلك؟ ألم يكن اصطحاب الفرسان معه سيقيّد حركته فحسب؟”
“مع ذلك، أظنّ أنّ وجود شخص واحد معه على الأقلّ سيكون أفضل…”
“لا تقلقي بلا سبب، وبدّلي ملابسك الآن. بما أنّ الدّوق قد عاد، فستتناولان العشاء معًا، صحيح؟ لقد تخطّيتِ الغداء أيضًا!”
“لا تقولي ذلك أمام كاسيون.”
الآن بعد أن فكّرت في الأمر، ما زلت أرتدي نفس الملابس التي كنت فيها عندما ذهبنا إلى القصر. لم أبدّل ملابسي، ولم أجلس حتّى.
لكنّني لم أرغب في أن يعلم أحد بأنّني كنتُ شاردة لساعات من دون أن أبدّل ملابسي منذ وصولي إلى القصر، لذا ركضت بسرعة إلى غرفتي وبدّلت إلى ملابس مريحة.
“بسرعة، بسرعة! آه، لن أتمكّن من إزالة المكياج.”
“يا إلهي، لهذا السبب طلبتُ منك أن تدخلي لتستريحي منذ وقت سابق.”
“هذا أيضًا ممنوع أمام كاسيون!”
لا أريد أن أقلق كاسيون، الذي عاد تَوًّا من لقائه بالأمير الثّاني.
نقرت بيا بلسانها وهي تراقبني أكافح داخل قميص النّوم الذي التفّ حول جسدي بينما كنت أرتديه على عجل. ثمّ سحبت الفستان بسرعة، وأرخَت شعري، ونظرت إليّ نظرة جانبيّة.
همم، هذه النّظرة لا تبعث على الثّقة. لن تذهبي لإفشاء السّرّ، أليس كذلك؟
“بيا، لا تتبعيني. فقط انزلي للأسفل، وتناولي عشاءك مبكرًا، وارتاحي.”
“الدّوق أمرني بألّا أبتعد عنك في الوقت الحالي.”
“لا بأس، لأنّ الدّوق سيكون معي! هيا، اذهبي الآن. لقد كنتِ واقفة وتتبعينني طوال اليوم؛ لا بدّ أنّك متعبة.”
لم أتمكّن من التّوجّه إلى غرفة الطّعام إلّا بعد أن دفعتُ بيا، التي كانت ترفض بشدّة ترك جانبي، نحو جناح الخدم.
ولحسن الحظ، لم يكن كاسيون قد وصل بعد، ربّما كان يأخذ وقته ليبدّل ملابسه ويغتسل.
“يبدو أنّ الطّقس يبرد مجدّدًا، لذا أعددتُ اليوم أطباقًا دافئة وناعمة في الغالب.”
“شكرًا لكِ. تبدو شهيّة اليوم أيضًا.”
هل الأمر حقًّا لمجرّد أنّ الطّقس بارد؟ رفعت إبهامي إعجابًا بحدس الطّاهي الذي حضّر أطعمة سهل هضمها، ربّما حرصًا على المعدة في ظلّ الوضع المعقّد. وفي تلك اللحظة، دخل كاسيون بعدما أنهى استعداده بسرعة.
“مرحبًا بك! لا بدّ أنّك متعب، كاسيون.”
“لقد عدتُ من حديث، ليس وكأنّني بذلت مجهودًا كبيرًا. أراكِ تنتظرين رغم أنّني طلبتُ منك أن تتناولي العشاء أولًا.”
كما توقّعت، هو يوبّخني… لكن، لماذا يتجنّب النّظر إليّ؟
“أحم. يبدو الطّعام لذيذًا اليوم أيضًا.”
“…”
بل وجلس محدثًا سعالًا مفتعلًا. يا إلهي. لم أتناول أعواد الطّعام، واكتفيتُ بالتّحديق فيه بعينين نصف مغمضتين.
“…أسيل. لقد تأخّر الوقت. ألستِ جائعة؟”
“همم~”
“…ما الأمر؟ سيبرد الطّعام. إن لم تُعجبك القائمة، يمكنني استدعاء الطّاهي.”
“جرّب فقط أن تناديه.”
“…”
“…”
هل تحاول التّملّص من الأمر بإلقاء اللّوم على الطّاهي المسكين؟ أعلم أنّها ليست من آداب الطّاولة، لكنّني أسندتُ ذقني إلى يدي، وواصلتُ التّحديق فيه. كاسيون، الذي كان يتظاهر بتناول الطّعام بينما يتجنّب نظري، لم يصمد طويلًا وأدار رأسه قليلًا.
“حسنًا… لم يحدث شيء مميّز.”
“أهكذا؟ إذًا، لماذا لا تزال تتجنّب نظري؟”
“حاولتُ فقط إقناع الأمير الثّاني بألّا يتصدّر الاجتماع. من الواضح أنّ الأمير الأوّل لا يسعى للنّصر في الحرب، بل يبحث عن فرصة لاستهداف الأمير الثّاني أو الإمبراطور. على المعنيّين أن يتوخّوا الحذر، في كلّ الأحوال.”
رؤيتي له يتحدّث مطوّلًا على غير عادته تُشير إلى أنّه مدرك لذنبه. كتمتُ إحساسًا وكأنّ شرايين وجهي ستنفجر، وابتسمتُ بعمق.
“صحيح. بصراحة، يمكننا الانتصار في هذه الحرب فقط عبر إخفاء جلالة الإمبراطور وسموّ الأمير الثّاني وحمايتهما. لكن لا يبدو أنّ جلالته يريد للأمور أن تطول.”
“…هذا صحيح.”
“إذًا، سيضعون أيّ شخص يمكنه أن يحلّ محلّ الأمير الثّاني في المقدّمة، أليس كذلك؟”
“…”
“أوه، ويا للمصادفة، هناك بطل حرب هو أقرب أعوان الأمير الثّاني!”
“…أنا آسف. قرّرنا البدء في البحث صباح الغد.”
“بحث فقط؟ ألن تكون أنت من يمسك به أيضًا؟ أنت بنفسك قلت إنّ القتال المباشر هو تخصّصك، لا الكمائن، وإنّ الأمير الأوّل لا يملك مفرًّا سوى الهروب.”
حين رمقته بنظرة حادّة، مبدّلة ملامح وجهي المبتسمة فجأة، خفَض كاسيون رأسه أكثر فأكثر.
قبل بضع ساعات فقط، قلت لي ألّا أفرط في القلق لأنّك لم تسمع إجابتي بعد! حتّى لو كان خصمك شبه مهزوم أصلًا!
“لا تقلقي، أسيل. الأمر ليس غرورًا، بل أنا واثق حقًّا من أنّه سيكون من الصّعب عليّ أن أخسر حتّى لو تعمّدت ذلك.”
“أنا أعلم أنّك ماهر؛ لقد رأيت ذلك بنفسي. وأعلم أيضًا أنّ الوضع الحالي ليس حربًا كبيرة تستحقّ القلق. أعلم أنّها مجرّد مطاردة لهارب، لكن لا أستطيع ألّا أقلق!”
هذه المرّة، تعمّدتُ أن أتجنّب نظر كاسيون وبدأتُ أملأ فمي بالطّعام بسرعة. وبينما أبتلع على عجل كما لو لأُخفّف توتّري، دفع كاسيون كوب ماء نحوي بابتسامة خفيفة.
“لماذا تقلقين؟”
“لا تحاول الحصول على إجابة خلسة بعد أن ارتكبتَ شيئًا مزعجًا.”
“كما قلتُ من قبل، أليس هذا أشبه بالحصول على إجابة بالفعل؟”
“إن واصلت التّصرّف هكذا، كن على علم بأنّك عندما تطلب إجابة حقيقيّة، قد تسمع شيئًا غير متوقّع. إجابتي مرنة، كما تعلم.”
“أوه، إذًا عليّ أن أنتقي كلماتي جيّدًا.”
“وإن كنتَ تريد إجابة، فعليك أن تحذر على جسدك أيضًا من الآن فصاعدًا.”
رغم استمراري في توبيخه، كان وجه كاسيون يبدو أكثر ليونة لسبب ما. وشعرتُ أنّ غضبي واستيائي قد بدآ يتلاشيان أمام ملامحه تلك.
في الحقيقة، أعلم أنّ هذا هو المسار الطّبيعي للأمور. حتّى لو لم يأتِ كاسيون معتذرًا، كانت النّتيجة متوقّعة سلفًا.
من ذا الّذي سيدفع شخصًا آخر للمقدّمة بينما يملك بطل حرب كأقرب معاون له؟
لكن، ومع علمي بذلك، كنت مستاءة من أنّه تصدّى للمهمّة بنفسه… مشاعري قد نمت أكثر ممّا يجب. الآن، لم أعد قادرة على التّحدّث، لأنّ تلك المشاعر قد تورّمت إلى حدّ لا أستطيع تحمّله إن لم أعبّر عنها.
“أسيل. ألا يمكنكِ فقط أن تخبريني؟ أظنّ أنّني سأُحسن التّصرّف لو شجّعتِني.”
“هذا إعلان موت، لذا لا.”
“إعلان ماذا؟”
أريد أن أقول إنّني أحبّه أيضًا، وأن أرجوه ألّا يُصاب ولو بأذى بسيط وأن يعود سالمًا. لكن، أليس الاعتراف للحبيب مع التّفكير في أسوأ سيناريو كليشيهًا مبالغًا فيه ومقدّمة لموت أحدهم؟
أنا لستُ من النّوع الّذي يفكّر بهذه الطّريقة عادة، والمهمّة ليست بالصّعوبة أصلًا، لكنّني لا أريد ترك أيّ احتمال ولو ضئيل.
“فقط كُل بسرعة! كنتَ تقول إنّ الطّعام سيبرد، لكنّك لم تأكل شيئًا بعد. وقلتَ إنّك ستخرج للبحث غدًا، لذا عليك أن تأكل جيّدًا.”
“حسنًا.”
“بعد أن ننتهي من الطّعام، دعنا نذهب إلى غرفتك. سأنام معك.”
“فهمتُ ذلك أيضًا.”
“…تشش.”
أتذكّر حين أتيتُ إلى هذا القصر لأوّل مرّة، وناديتُ جميع الفرسان لتحيّتهم. وقتها، كان وجهه يحمرّ لمجرّد ذِكر ذهابي إلى غرفته.
كان من الممتع حينها أن أُحرج كاسيون البريء على غير المتوقّع، وذلك لم يكن بعد وقت طويل من توقيع عقدنا. أمّا الآن، فقد أصبح يردّ دون أن تتغيّر ملامحه.
كما أنّه تغيّر، هل تغيّرتُ أنا أيضًا؟ هل أصبحتُ مشاعري تظهر بوضوح كما تظهر مشاعره؟
“لم يعد الأمر ممتعًا.”
“إذًا، ألن ننام سويًّا؟”
هل أصبح يمازحني الآن؟ من أين تعلّم هذا البرود المفاجئ؟
“سننام مع خطّ مرسوم بيننا. يجب أن أُمسك بك بإحكام كي لا تهرب غدًا. في النّهاية، أنت من حاصرتهم جميعًا، لذا إن كان الأمر عاجلًا، يمكنك إرسال أحد آخر للإمساك بهم، أليس كذلك؟”
“تلك ستكون أقوى قيود في العالم.”
قطّب كاسيون حاجبيه مقلّدًا الخوف، وبدأ يتناول طعامه الّذي أصبح باردًا قليلًا.
ومع ذلك، وكأنّ الدّفء الّذي عمّ لحظة دخولنا الغرفة بعد العشاء والدّردشة سويًّا كان مجرّد كذبة، عندما استيقظتُ في اليوم التّالي، لم أجد أمامي سوى فراغ بارد.
هذا كثير حقًّا.
“…كان بإمكانك على الأقل أن تودّعني.”
ولم أكن قد نمت أكثر من اللازم، فهل كان من الضّروري أن يرحل بهذه السّرعة؟ شعرت وكأنّه قد تسلّل عمدًا بينما كنت نائمة، فمددتُ يدي حزينًا ألامس مكانه الفارغ في السّرير، والّذي لم يحتفظ حتّى ببقايا حرارته، حين لاحظتُ ورقة على الطّاولة بجانب السّرير المقابل لي.
[ 📜- ضشعرتُ أنّني لن أستطيع الرّحيل إن رأيتُ عينيكِ مفتوحتين تودّعانني. سأكتب لكِ رسالة.]
كانت خطّه ألطف بكثير من المذكرة الّتي تركها عندما خرج للبحث عن لوران، لكنّها جعلتني أعضّ شفتي رغم ذلك. نهضتُ من السّرير حافية القدمين، وسحبتُ السّتائر جانبًا، فرأيت عدد الحرس في قصر الدّوق أقلّ من المعتاد، على الأرجح لأنّهم رافقوه.
“…قوله إنّه سيكتب رسالة يعني أنّه سيتأخّر، أليس كذلك.”
لم أكن أعلم أنّ انتظار مستقبل خالٍ من أيّ أثر للحبكة الأصليّة سيكون بهذا الصّعوبة.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
84ⵌ
“سيّدتي، أحضرتُ الحلوى من المتجر الذي تزورينه كثيرًا. ألا تنوين حقًّا تناولها؟”
“…بيا، تناوليها أنتِ.”
“أنتِ لم تأكلي جيّدًا منذ أيّام!”
“ليس لدي شهية لأكل .
سأتناول العشاء كما يجب.”
لا يمكنني فعل شيء.
منذ أن استعَدتُ ذاكرتي، كانت أيّامي تمرّ بسرعة تحت تأثير إرادتي، لكنّ هذا الإحساس بالعجز هو الأوّل من نوعه… وهو كئيب.
الكثيرون، ومنهم بيا، أكّدوا لي أنّه لا داعي للقلق، وأنّ كاسيون لن يُصاب ولو بخدش، لكنّ سبب هذه الكآبة يبدو مختلفًا قليلًا.
بالطّبع، أنا قلقة على كاسيون بقدر ما أحبّه.
لكنّي أعلم أيضًا، جيّدًا، أنّ كاسيون لن يتعرّض للخطر، ما لم يُظهر الأمير الأوّل فجأة قدرة جنونيّة، وأنا أثق به لهذا الحدّ.
مع ذلك، فإنّ حقيقة أنّني لا أستطيع أن أكون ذات فائدة في هذا الظّرف… هي ما يُغذّي هذا الاكتئاب.
إنّه أشبه…
“أشبه بأنّني عدتُ إلى ما قبل استعادة ذاكرتي.”
كأنّني محبوسة في غرفة صغيرة، أنتظر أن يفتح أحد أفراد العائلة الباب، دون أيّ خطط أو أفكار. شعرتُ وكأنّي عُدتُ إلى ذلك الوقت الذي كنتُ فيه عاجزة وخجولة.
وحيدة، ومُحاطة بنفس الإحساس بالعجز كما في ذلك الحين، شعرتُ أحيانًا وكأنّ القصّة الأصليّة لم تكن سوى وهمٍ من اختراعي، نسجَه عقلي حين فقد توازنه في تلك الغرفة.
عقلي يُدرك أنّ ذلك غير صحيح، لكن مشاعري تقول العكس. وكأنّ حتّى الوقت الذي قضيته مع كاسيون لم يكن سوى حلم.
“…هذا لا يصحّ.”
وأخيرًا، بعد وقتٍ طويل، نهضتُ من السّرير لأُكرّر ما فعلتُه في الأيّام الماضية.
“آه، إذا كنتِ ستتحرّكين، فعليكِ أن تأكلي قبل ذلك…”
تنهدت بيا بعمق، وكأنّها تعرف تمامًا إلى أين أنا ذاهبة، ما أشعرني ببعض الذّنب.
هذا لا يُشبهني حقًّا. هل كلّ ما يمكنني فعله هو التّسكّع خلف كاسيون وأثرثر حول القصّة الأصليّة؟
حتّى لو لم أكن أعرف القصّة، وحتّى لو لم أمتلك أيّ معلومات، فأنا بنفسي يجب أن أكون كافية.
—
“أوه، سيّدتي، لديكِ موهبة!”
“هيا، لا داعي للمُجاملات غير الضّروريّة.”
“لا، حقًّا! لا تتعلّمي فقط تقنيّات الخنجر… الدّوق سيعود قريبًا. اطلبي منه أن يشتري لكِ سيفًا خفيفًا طويلًا.”
التمرين هو حقًّا أفضل وسيلة لتهدئة العقل القلق! ماكسي، الذي كان يُدرّبني على استخدام الخنجر ويُنازلني منذ أيّام، أظهر وجهًا جادًّا.
“لستُ بحاجة إلى التّملّق، سأجتهد على أيّ حال. أنا من طلب هذا التّدريب، في النّهاية.”
“لماذا لا تُصدّقينني؟ عادةً، يصف النّاس المُثقّفون مستخدمي السّيوف بالجهلة، لكن فنّ السّيف يتطلّب حاسّة وفهمًا أيضًا. سيّدتي، لديكِ حاسّة هجوم طبيعيّة، حتّى دون تدريب!”
هل كان هذا صدقًا وليس مُجاملات؟ حككتُ مؤخرة رأسي وقد بدأ الخجل يتسلّل إليّ من جرّاء حماسته.
كان شعري، المربوط للأعلى من أجل التّدريب، مبلّلًا قليلًا بالعرق، لكن هواء اللّيل البارد منع الإحساس بالخنقة.
“لكنّني أريد تعلّم الدّفاع…”
“حسنًا، أليس أفضل دفاع هو الهجوم؟ أوصي بتوجيه ضربة حاسمة أولًا ثمّ الهرب.”
“ربّما… لا يمكنك صدّ السّيوف أو السّهام بخنجر، في النّهاية.”
“هذا ما أقوله. لنكتفِ بهذا اليوم.”
“هاه؟ بالفعل؟”
“…سيّدتي، أرجوكِ لا تُقلّدي سيّده الدّوق في هذا أيضًا.”
عبّرتُ عن خيبة أملي وألمحتُ إلى أنّني أستطيع التّدريب أكثر، لكن حين رأيتُ تعبيره، علمتُ أنّني لا أستطيع الإلحاح.
ضحكتُ على تعليقه حول تشابهي مع كاسيون، ثمّ سرتُ نحو منطقة الاستراحة في أحد أطراف ساحة التّدريب، حيث قدّم لي ماكسي زجاجة ماء كان قد أعدّها.
“الترطيب مهمّ أيضًا.”
“شكرًا لك. لقد أعددتَ كلّ هذا رغم الطّلب المتأخّر.”
في أثناء توجّهي للتّمرين، وصلني خطاب من كاسيون يُفيد بأنّهم وجدوا أثرًا للأمير الأوّل.
أشعرني ذلك ببعض الارتياح، ورفع من معنويّاتي، وكون بيا كانت تتنهّد طوال الوقت، فقد طلبتُ حصّة تدريب مسائيّة خفيفة بعد عشاء بسيط.
ورغم أنّ الجلسة كانت غير مجدولة ومتأخّرة، إلّا أنّ التّحضيرات كانت متقنة، وإن كانت أبسط من اليوم الأوّل.
ربّما ظنّ ماكسي أنّني قد أحمل السّيف مقلوبًا، بعد أن رأى كيف كنت أركب الحصان لأوّل مرّة.
“لكن سيّدتي، أنا جادّ بشأن موهبتك. الآن بعد أن فكّرتُ في الأمر، لقد كنتِ دائمًا جيّدة في كلّ شيء، عدا ركوب الخيل… كان استثناءً صغيرًا. هاها. يحتاج الإنسان إلى بعض النّقاط البشريّة، أليس كذلك؟ انظري إلى سيّدي! أليس مزعجًا لكونه جيّدًا في كلّ شيء؟”
يا له من وقح ينتقد سيّده أمام زوجته!
في الماضي، ربّما كنت سأردّ بأنّه لا يهم، بل هو لطيف، لكن رؤية كاسيون وهو يُصبح أكثر سلاسة وبراعة مؤخرًا… جعلتني أُقرّ بأنّه أصبح مزعجًا قليلًا، فأشحتُ بنظري.
“لنضع كاسيون جانبًا، لكن فيمَ كنتُ جيّدة؟ أوه، إن كنتَ تتحدّث عن الجمال، فهذا صحيح.”
“عذرًا؟”
“لن تُنكر ذلك، أليس كذلك؟ إن فعلتَ، فسيتوجّب عليّ التّحقّق ممّا إذا كانت عيناك أصيبتا في التّدريب.”
“آه، لا. بالطّبع، أنتِ جميلة، سيّدتي! فقط، حديثكِ السابق كان غير متوقّع.”
حديثي السّابق؟ ماذا قلتُ؟
“ما الذي قلتهُ…؟”
“هل أنتِ جادّة؟ واو، ما الذي يحدث هنا؟”
“هيا، يجب أن تخبرني. ماذا؟ لماذا؟”
“…كلاكما يُعاني من تدنٍ في تقدير الذّات في جوانب غير ضروريّة…”
“عمّ تهذي؟”
بينما كنتُ أشرب الماء وأُرتّب مظهري، تمتم ماكسي، الذي كان يُنظّف حولنا. هل كان يتذمّر من استدعائه ليلًا؟
“حسنًا، لنذهب إلى غرفتكِ الآن. سأرافقكِ.”
“أوه؟ نبرتكَ غير رسميّة قليلًا، أليس كذلك؟ هل أنا مُخطئة في أنّك تخاف من بيا أكثر منّي؟”
كان واضحًا لماذا يُصرّ ماكسي على مرافقتي إلى غرفتي، رغم أنّنا في قصر الدّوق. قبل أيّام، حين عدتُ وحدي بعد التّدريب، أجرجر المناشف والعتاد على كتفي وبتصرّفٍ غير لائق، كانت بيا غاضبة إلى درجة أن شعرها انتصب.
‘كيف تتركون السيّدة تعود وحدها في هذا الوقت؟ حتّى لو كنّا داخل القصر! أين الشّهامة؟ ألا يجب أن تحمل عنها هذه الأغراض؟’ كان توبيخها لا يُحتمل.
ضحكتُ وأنا أتذكّر وجه ماكسي، الذي أصبح شاحبًا كما لو كان يُدرّبني على ركوب الخيل، بينما نسير في ممرّات القصر.
“لا، لم يكن الأمر مخيفًا قليلًا فحسب. حتّى الآن، عندما أتذكّر، أشعر أنّ طبلة أذني ستنفجر. آه، الجوّ مُظلم، انتبهي لخطواتكِ.”
“شكرًا. بالمناسبة، هل كان هذا الطّريق مظلمًا هكذا دائمًا؟ يبدو أنّ الأضواء انطفأت في الأمام، كأنّ هناك تيّار هواء من مكان ما.”
تعثّرت قليلًا، فأمسكني ماكسي سريعًا. كانت ساقاي ضعيفتين قليلًا من التّمرين، لكن الغريب أنّ الممرّ بدا مُظلمًا بشكل غير طبيعي.
وفي تلك اللّحظة، توقّف ماكسي وأمسكني.
“لحظة، سيّدتي.”
“همم؟”
“شش.”
تغيّر سلوك ماكسي فجأة، ووقف أمامي وهو يُراقب ما حوله، فأدركتُ غريزيًّا أنّ ثمّة خطرًا، وسحبتُ خنجري.
“كما هو متوقّع، أنتِ بارعة، سيّدتي.”
“لكن يبدو أنّك لم تكن بارعًا منذ لحظة، ماكسي.”
“…أعتذر عن ذلك. رجاءً، لا تُخبري سيّدي بهذا.”
يبدو أنّ هناك شيئًا غير طبيعيٍّ في طريقنا إلى الغرفة. بدأنا بالانسحاب بصمت نحو طريق آخر، لكن لم يكن هناك مخرج سوى العودة لساحة التّدريب… وساحة التّدريب طريق مسدود.
“سيّدتي، هل تحسّنت مهاراتكِ في ركوب الخيل خلال شهر العسل؟”
“ليس هذا وقت المزاح حول مهاراتي في الرّكوب.”
“ليس مزاحًا. أعتقد أنّكِ ستضطرّين للهروب على ظهر حصان.”
حصان؟ لكن هذا في الجهة المعاكسة تمامًا من الإسطبلات. ولماذا يُحاول إخلائي للخارج بدلًا من استدعاء الفرسان؟
“هناك طريق مختصر يستخدمه الخدم. يؤدّي إلى مخزن الطّعام، ومنه باب للخارج، حيث يُوجد حصان صغير يُستخدم للطّوارئ. سيكون من الصّعب أن يركب شخصان.”
“هل من الضّروري أن أخرج؟ ألا يمكننا استدعاء التّعزيزات؟”
“كما لاحظتِ على الأرجح، يبدو أنّ قتلة قد تسرّبوا. إن كان الأمير الأوّل، الذي لم يعد يملك سلطة، قد لجأ إلى هذا الحدّ، فالأمر ليس بسيطًا. وإن أُصبتِ بخدشٍ فقط أثناء الخروج، فإنّ رأسي سيُقطَع.”
اللعنة… هل كان عليّ أن أُركّز على ركوب الخيل بدلًا من تدريب الخنجر؟
“لا داعي للذّهاب بعيدًا، فقط اختبئي لبعض الوقت، وسأُحضر الزّملاء… سيّدتي!”
ألقى ماكسي بنفسه للأمام ليصدّ شيئًا. لم أستطع الرّؤية بوضوح بسبب الظّلام، لكنّني سمعتُ صوتًا معدنيًّا ورأيتُ خنجرًا يسقط عند قدمي. فجأة، سال العرق البارد من جسدي.
هناك قتلة هنا أيضًا.
“سأتكفّل بالحماية! اركضي مباشرةً في هذا الطّريق!”
كان ماكسي يحميني وهو يسحب شيئًا أشبه بالزّينة من خصره ويضعه على فمه. تردّد صوت حادّ وقويّ. آه، لم يكن زينة، بل نوع من الأبواق.
طَنين— صوت اصطدام…
“آه!”
لكن صوت المعادن وأنفاس ماكسي المتثاقلة صدرت من خلفي، فعضضتُ شفتي بقوّة. هل سيتمكّن باقي فرسان قصر الدّوق من الوصول قبل أن يقع ماكسي في الخطر؟
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
85ⵌ
“أنا أكره أن أقول هذا، ولكن!”
طاخ–
“بعد أن تمّ الاعتداء عليّ عدّة مرّات، لم يعد الأمر مخيفًا كما في السّابق.”
“لا تعتادي على مثل هذا الأمر!”
كان ماكسي يقطع طريق القتلة، لكنّ بعضهم ظلّ يحاول الإمساك بقدميّ بعناد حتّى بعد سقوطهم، لذا ضربت رؤوسهم بمقبض خنجري.
لقد شعرتُ براحة أكثر ممّا شعرتُ بها حين اضطررتُ لضرب أخي، أو حين ضربتُ أولئك المعتدين أثناء بحثي عن لوران.
يبدو أنّ هذه المهارة تتحسّن بالممارسة. عليّ حقًا أن أتعلّم فنون السيف من كاسيون لاحقًا.
“من هذا الطّريق! هناك باب خلف مخزن الطّعام!”
“أوه……”
كنت أظن أنّ غرفة تخزين صغيرة ومعتمة ستظهر عندما فُتح الباب الخشبيّ المتين، لكن مخزن الطعام في القصر كان فسيحًا بشكل مفاجئ.
“إن فكّرت في الأمر، فأنا ممتنّة لخدم الدوق والطّاهي. لا بدّ أنّ إدارة هذا المكان أمرٌ شاق.”
“عادةً ما نكون ممتنّين لسيدتنا الكريمة والرّقيقة، ولكن ليس في هذه اللّحظة بالذّات. هل يمكنكِ التّركيز على الهروب، من فضلك؟”
“حسنًا، لا يبدو الأمر عاجلًا إلى هذا الحدّ، أليس كذلك؟”
وما إن كنت على وشك أن أمدح كفاءة الفرسان، حتّى سمعنا دويّ اقتحام المتسلّلين من خلال الممرّ الذي عبرناه للتوّ.
على خلاف أولئك الواحد أو الاثنين الذين تسلّلوا عندما مررنا، بدا أنّ عددهم قد ازداد الآن، مع أصوات أقدامهم ونداءاتهم التي تناديني بطريقة لا تبدو عاديّة. يبدو أنّ القتلة الذين كانوا مختبئين في أرجاء القصر قد بدؤوا بالتّجمّع إثر صوت بوق ماكسي.
بالطّبع، معظمهم قد لقوا حتفهم على يد فرسان القصر، لكن قد يكون عددهم الحاليّ أكثر ممّا تستطيع ماكسي وحدها التّعامل معه.
“……أتراجع عن كلامي.”
من دون تردّد، اعترفت بسخافة كلماتي، وركضت نحو الباب الخلفيّ للمخزن الواسع. أصوات الدّخلاء كانت تقترب أكثر مع كلّ ثانية.
“سيّدتي، من هذا الطّريق!”
بانغ–
كان الباب الخلفيّ، حرفيًّا، مجرّد باب خلفيّ بسيط. باب صغير في زاوية المخزن الكبير، وقد دفعني ماكسي خارجه بسرعة بعدما اكتشفته.
“آه…!”
لكن ما إن خرجنا، حتّى لم أرَ سوى حصان صغير لدرجة أنّه يمكن اعتباره مُهرًا.
نعم، مُهر. كنت قد سمعت أنّه حصان صغير، لكن…
“أين بقيّة الخيول…!”
“لدينا واحد فقط لأنّه يُستخدم فقط للرّحلات العاجلة إلى القرية لجلب المؤن.”
عندما التفتُّ، رأيت ماكسي يخرج من الباب ويدفعني مجدّدًا من ظهري. وبفضل إلحاحه، وجدت نفسي على ظهر الحصان من دون أن أدرك.
“أعلم أنّ مهاراتك في الرّكوب ضعيفة، سيّدتي، لكن هذا الحصان الصّغير يجب أن يكون مناسبًا!”
“انتظر لحظة…!”
“سألحق بكِ قريبًا!”
“ماكسي!”
كانت أصوات المتسلّلين تقترب فعلاً الآن. ويبدو أنّهم سمعوا أصواتنا أيضًا، إذ كانوا يصرخون بشيء ما باستمرار.
“اذهبي إلى القصر الإمبراطوريّ في الوقت الحالي! صاحب السّموّ الأمير الثّاني أو جلالة الإمبراطور سيتولّيان أمركِ!”
“انتظر…!”
مددتُ يدي على عجل، لكنّ ماكسي كان أسرع في صفع مؤخّرة الحصان لجعله ينطلق. فانطلق الحصان بسرعة، حتّى إنّي لم أمتلك وقتًا لأشعر بالخوف من الرّكوب. ورأيت ماكسي يسحب سيفه للحظة، قبل أن يختفي عن الأنظار.
“آه، تبًّا!”
خرجت الشتيمة منّي بشكل غريزي، لكن الحصان كان قد انطلق بالفعل، ولم يعد بإمكاني العودة. كنتُ أعلم جيّدًا مدى أهمّيّتي في هذا الظّرف.
ما السّبب الآخر الذي قد يدفعهم لمهاجمة قصر الدوق، بل وتقسيم قوّاتهم من دون إشراك مجموعة الأمير الأوّل؟
لقد جاؤوا لاختطافي لإخضاع كاسيون، الذي كان يقود المشهد، وهم يعلمون أنّ الأمير الثّاني لن يتدخّل. ففي النّهاية، لم يكن بإمكانهم هزيمة كاسيون بالقوّة وحدها.
“وأنا أعرف كاسيون، قد يوافق حتّى على مبادلتي بالأمير الثّاني.”
كان واضحًا من نظرة عينيه. وهذه النّظرات يصعب إخفاؤها عن الآخرين.
كنتُ أظن أنّ الأمير الأوّل قد انهار نفسيًّا بعد المحاكمة، لكن لم أتخيّل أبدًا أن يصل به الأمر للتّخطيط بخبث إلى هذا الحدّ.
“ووه– ليس ذلك الاتجاه! توقّف قليلاً! توقّف!”
عندما خرج الحصان من الممرّ القصير خلف قصر الدوق واتّجه بعادةٍ إلى سوق العاصمة أمام القصر الإمبراطوري، سحبتُ اللّجام بتوتّر لأُوقفه.
بعيدًا، خلف الأشجار، كان بإمكاني رؤية قصر الدوق مضاءً على غير العادة في هذه السّاعة. يمكنني الانتظار هنا والعودة إذا بدا أنّ كلّ القتلة قد تمّ القبض عليهم، أو إذا خشيتُ مواجهة قتلة فارّين، أذهب إلى القصر كما اقترحت ماكسي. ولكن…
“الرسالة قالت بوضوح إنّه سيتبّع أثر الأمير الأوّل هناك…”
تمتمتُ لنفسي وأنا أحاول استجماع أفكاري، على الرّغم من أنّه لم يكن هناك من يسمعني. لقد كنتُ مشوّشة إلى درجة أنني أحتاج للكلام بصوت عالٍ لأُرتّب أفكاري.
“حسنًا. فلأذهب إلى كاسيون، لا إلى القصر.”
سأضطرّ للرّكوب طوال اللّيل، لكن حدسي يخبرني أنّ هذا هو الطّريق الصّحيح.
“هيّا بنا! لننطلق! لا، لا، الجهة الأخرى…!”
تغيير الاتجاه كان صعبًا، لكنّني لم أعد أخاف من الحصان. كلّ ما أفكّر فيه هو الوصول إلى كاسيون بأسرع ما يمكن.
الذّهاب إلى القصر كان أقصر وأقلّ خطرًا، لكنّني سأقضي وقتًا طويلًا قبل مقابلة الأمير الثّاني أو الإمبراطور، ثمّ إيصال خبر سلامتي إلى كاسيون.
وخلال ذلك الوقت، لا أعلم ما القرار الذي قد يتّخذه كاسيون المتردّد، وقد يُحدّد مصير الحرب بلحظة ضعف واحدة، لذا لا وقت للتّردّد.
“أتساءل إن كان هناك طريق يمكنني التسلّل عبره إلى حيث معسكر كاسيون.”
كنت قلقة قليلًا رغم أنّني أركب من دون خطّة.
كنت أظنّ أنّ حماية نفسي هي أولويّتي القصوى، لكن ها أنا أختار طريقًا خطيرًا بهذه السّرعة.
“ما كان ينبغي أن أنتقد أبطال القصص لأنّهم حمقى.”
كنت أتساءل دومًا لماذا يلقون بأنفسهم في النّار ويواجهون المتاعب طواعية، لكن الآن بعد أن أصبحتُ في نفس الموقف، أدركت أنّه لا يوجد خيار آخر.
لم أرد أن يخلق كاسيون أيّ وضع قد يُعتبر نقطة ضعف بعد الحرب الأهليّة، كما أنّني لم أرد له أن يقلق عليّ.
وبما أنّ كاسيون كان يرسل لي دائمًا تفاصيل دقيقة في رسائله، إلى درجة أنّني كنت أقلق من تسريب معلومات عسكريّة، كنت أعلم أين هو معسكره. فقط، إن لم يكونوا قد غيّروا موقعهم في الأيّام الماضية، وإن لم أصادف قوّات العدوّ في طريقي…
“لنذهب أسرع!”
لم يعد خوف الطّريق اللّيليّ أو ركوب الخيل عائقًا.
بحركاتٍ شبه مستقرّة، ضربتُ لجام الحصان الصّغير وانطلقت به في الاتّجاه المعاكس للقصر الإمبراطوريّ.
“…لكن، هل سيكون لوران بخير؟”
بعد أن رتّبتُ أفكاري العاجلة، تذكّرت شخصًا كنت قد نسيته. لوران لا بدّ أنّه ما يزال في قصر الدوق.
بالطّبع، حتّى لو أخذوه كرهينة، فهو لا يملك أيّ قيمة عند كاسيون.
كما أنّ المحاكمة كانت قد انتهت، فلم تكن هناك ضرورة ملحّة لبقائه معنا كزوجين.
وبشكلٍ بارد، حتّى لو مات في الهجوم، فلن نخسر شيئًا. لكن من باب الإنسانيّة، ولأنّنا قضينا وقتًا في بناء علاقة، حتّى وإن كانت كراهيّة مشوبة بالعاطفة، فقد بدأتُ أقلق عليه متأخّرة.
“هل سيحميه الفرسان…؟”
لوران لم يكن مرحّبًا به كثيرًا من قِبل سكّان قصر الدوق من البداية. كان متطفّلًا، يثرثر بلا معنى، ويظلّ يلتصق بالقصر. لكنّه أصبح شاهدًا مهمًّا في المحاكمة، ومن الواضح أنّ النّاس كانوا يتغاضون عنه لأنّنا نحن، الزّوجان، كنّا نرعاه.
أقلق ما إذا كان الفرسان سيُعطون أولوية لحمايته بدلًا من الدفاع عن القصر.
“كان يجب أن أتحقّق من حاله قبل المغادرة.”
لا، لكن حتّى لو هربنا معًا، كنّا سنتركه خلفنا في النّهاية لأنّه لم يكن هناك سوى حصان واحد. لقد هربنا من الممرّ المؤدّي إلى الغرف، لذا لم يكن بمقدورنا الذّهاب إلى غرفة لوران أصلًا.
فرسان الأمير الأوّل بالتّأكيد لن يُكنّوا مشاعر طيّبة تجاه لوران… لا يسعني إلّا أن أرجو أن يكون بخير.
“دعنا نسرع أكثر قليلًا!”
حثثتُ الحصان، أضرب لجامه وأنا أركب بمهاراتي الرّكبيّة المتعثّرة على طريق اللّيل الغريب المؤدّي إلى خارج العاصمة. كان القصر الإمبراطوريّ وقصر الدوق يبتعدان عن نظري أكثر فأكثر، وشعرت بقلق متزايد.
“آه. أوف.”
لحسن الحظّ، لستُ ضعيفة في تحديد الاتجاهات. كنتُ أظنّ أنّه لن تكون هناك مشكلة في العثور على المكان الذي ذكره كاسيون في رسالته، لكن عندما بدأتُ أخترق الطّريق الغابيّ إلى الأطراف، أخذت الأغصان التي لا أراها في الظّلام تضربني وتلسع أجزاء متفرّقة من جسدي.
“آه! كلّ شيء مزعج حقًّا!”
في النّهاية، أخرجت خنجري مجدّدًا ولوّحت به عشوائيًّا وأنا أتقدّم.
أن أركب حصانًا بيد، وألوّح بالخنجر باليد الأخرى وأنا أعدو في اللّيل؟ في هذه المرحلة، ألا ينبغي لي أن أتخلّى عن لقب “فارسة مبتدئة”؟ عليّ أن أتباهى بهذا أمام كاسيون.
“فقط انتظر قليلاً بعد!”
يجب ألّا يستسلم كاسيون أبدًا لأيّ خداع أو يُطلق سراح الأمير الأوّل! لا أريده أن يحمل أيّ وصمة سلبيّة أخرى لا تليق به.
“أنا قادمة!”
صرختُ بصوتٍ عالٍ، فبدّد صراخي القلق من الطّريق اللّيليّ وهذا القرار. قد يبدو الأمر غريبًا، لكنّ حدسي عادةً لا يُخطئ.
الذّهاب إلى كاسيون بدلًا من القصر لا بدّ أنّه القرار الصّائب. فقوّة الحبّ دائمًا ما تنتصر!
تابعتُ ركضي نحوه، حتّى وأنا أغرق في أفكار محرجة بعض الشّيء. وبحلول تلك اللّحظة، كانت معالم القصر الإمبراطوريّ وقصر الدوق قد اختفت تمامًا عن ناظري.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
86ⵌ
“ها هي!”
واو، نصر بشري. عملٌ جيد، أسيليا.
يبدو أن الأمر استغرق 24 ساعة كاملة بدون طعام أو نوم للوصول إلى المنطقة القريبة التي ذكرها كاسيون في رسالته.
بسبب ذلك، كان الحصان الصغير الذي ركبتُه يكاد يفرز الرغوة من فمه، لكن لم يكن هناك مفر.
بعد كل هذا العناء، كان الجو هادئًا، ولم تكن هناك آثار ظاهرة، لكن عندما تسلقت إلى مكان أعلى، استطعت رؤية المعسكر ليس ببعيد.
حتى من بعيد، استطعت أن أعرف أنني وصلت إلى المكان الصحيح برؤية علم عائلة الدوق. لا أصدق أنني ركبت حصانًا وحدي طوال الطريق إلى وجهتي.
“هذه هي قوة الحب. انتظر فقط، كاسيون.”
أنا متسخة قليلاً بنفس الملابس التي ارتديتها في تدريب الخنجر أمس، لكن من يهتم؟ الأولوية هي أن أخبرهم أنني بخير.
كان من المقلق أن معسكر كاسيون بدا هادئًا بشكل غريب، لكنني تجاهلت حدسي عمدًا.
“لا يمكنني الاقتحام بتهور. الجانب المقابل لابد أن يكون معسكر الأمير الأول… أين… آه، قد يكون من الجيد الدخول من ذلك الجانب الخلفي، لكن إلى أين يؤدي الطريق؟”
كنت أرى المعسكر، لكن لم أستطع رؤية الطريق بوضوح للدخول بأمان من الخلف دون مواجهة جنود الأمير الأول. شكّلت درعًا بيدي وتوجهت إلى حافة الجرف، وأنا أغمض عيني لأبحث في الأسفل، لكن الأشجار كانت كثيفة جدًا في الوسط لمنع رؤية الطريق.
“آه، الأرض المرتفعة أمامي…”
صوت حفيف—
بينما أطلقت قدميَّ وانحنيت أكثر لأرى أسفل، سمعت صوت أوراق شجر خافت جدًا.
وكان خلفي مباشرة.
بغريزتي، رميتُ نفسي نحو ظهر الحصان الذي ركبتُه.
“تش!”
مع صوت نقر غريب للسان، أصدر الحصان الصغير صهيلًا وتشنجًا كأنه يتألم. غير مدركة لما حدث، تحركت زاحفة بعيدًا لأتجنب أن أُجرّ في صراع الحصان، وفي الوقت نفسه سقط الحصان المسكين من الجرف.
حدث ذلك في لمح البصر، دون وقت للصراخ، ورأيت سيفًا مغروسًا بعمق في جانب الحصان وهو يختفي إلى الأسفل.
“من أين أتيت؟ من مظهرك، أنت لست جنديًا…”
لحسن الحظ، لا يبدو أن الآخر يعرف أنني الدوقة. لكن للأسف، لا يبدو أيضًا أنه من جنود كاسيون. من هذا الجرف، يمكنني على الأقل رؤية معسكر كاسيون…
“أنا… من سكان قرية قريبة! كنت أجمع الأعشاب في الغابة عندما سمعت ضجيجًا…”
تظاهرت بالخوف والارتباك، متلعثمة وأثني جسدي. لحسن الحظ، الحصان الذي ركبتُه صغير، لذا لا ينبغي أن يكون من الصعب التظاهر بأنني امرأة من أسرة مدنية.
إذا كنت محقة، فلا بد أن يكون الآخر كشافًا من جانب الأمير الأول.
“أرى ذلك. أنت حقًا لا تبدين كجندية. اقتربي.”
“نعم، سيدي. أرجوك، فقط أرحمني. لا أعرف شيئًا…”
حتى وأنا أقول هذا، لم يخفض الآخر حذره، محافظًا على سلاحه مرفوعًا. تقدمت مترددة نحوه. وعندما رآني أبدو خائفة، لوّح الرجل بسيفه بمكر. نعم، اتركي حذرك يزداد.
“لا تخافي كثيرًا. اقتربي. يجب أن أفتش جسدك لأتأكد من أنك لست جاسوسة.”
لماذا يوجد هذا العدد الكبير من الرجال الوقحين في هذا العالم؟ لكن بالنسبة لي، أصبحت أفكار هذا الرجل القذرة وعدم حذره فرصة. تظاهرت بعضّة شفة ونظرت حولي، لكن مع وجود الجرف خلفي والرجل أمامي، لم يكن يبدو أن هناك مكانًا للهرب.
لكن إذا لم يكن هناك طريق، ألا يمكنك صنع واحد؟ أمسكت بخنجري بأقصى ما أستطيع سرًا.
“مظهرك وسخ، لكن وجهك جميل جدًا لتكوني امرأة من الريف.”
“إذا، إذا كنت قد أخطأت، فارجوك ان تسامحني. أنا حقًا تابعت الضجيج فقط.”
“هذا يعتمد عليك. هذه منطقة عسكرية مهمة. اقتربي…”
حان الوقت الآن. بينما واصل الرجل يدور بسيفه بغطرسة، انقضيت نحوه بخنجري، كما لو أنني أغوص في حضنه.
“آه!”
رغم أنه كان غير منتبه، إلا أن الرجل لم يُطعَن إلا بخدشة من خنجري، لم تُغرس. لقد استهدفت نقطة حيوية.
لكن كما علمني ماكسي، لم يكن هجومِي لشلّ الخصم، بل فقط لكسب وقت للهرب. فاستغليت لحظة ارتجاف الرجل من الألم وبدأت أجري بسرعة.
“أيها الوغد المجنون!”
عندما وصلت، كنت على ظهر الحصان، لذا فقط أسفل ظهري تألم، لكن الطريق كان وعراً جدًا. ومع ذلك، كنت أسمع خطواته تلاحقني من الخلف، فلم يكن هناك وقت لأراقب قدميّ.
طقطقة—
“آه!”
في النهاية، حدثت الكارثة. بعد أن تعثرت عدة مرات أثناء الركض، انزلقت قدمي وسقطت متدحرجة للأمام. لم يكن هناك وقت لأشعر بالألم.
بشكل غريزي، حاولت النهوض والزحف إلى الأمام من مكاني الساقط، لكن ظلًا أُطلِقَ خلفي. لا.
“يا له من إزعاج من أجل أمر تافه!”
“انتظر…!”
لا. لا!
لا يمكنني الموت هنا. ولكن حتى وأنا أشعر بشكل غريزي بأن الوقت فات، نطقت بكلمات كنت أعلم أنها لن تنفع.
هل يجب أن أتدحرج إلى الجانب لتفادي السيف؟ لكن أكثر ما استطاع جسدي المتجمد فعله هو رفع ذراعي لحماية وجهي.
“كاسيون…!”
ناديتُه دون تفكير. هل لأنني أردت قدومه؟ لا، ليس كذلك. فقط خطرت على بالي. يجب أن أصل إليه. يجب أن أخبره أنني بخير.
“آه!”
تمامًا حين كانت الدموع على وشك السقوط، سقط شيء بجانبي مع صوت طرقات، مع صرخة موت. عندما فتحت عيني التي أغلقتها دون وعي، رأيت سيف الرجل الذي رفعه لذبح حلقي وهو الآن يدحرج على الأرض.
“كا…”
“دوقة. ماذا تفعلين هنا؟”
ليس كاسيون.
بسبب الضوء الخلفي الخفيف، لم أتمكن من رؤية وجهه في البداية، لكن عندما انحنى ليمد يده لي، رأيت وجهه. غريب.
نهضت دون أن أمسك بيده، متراجعة قليلاً.
“من أنت؟”
سحب الرجل يده المحرجة وصفّر. لماذا لا يستطيع أحد منهم أن يغلق فمه؟ نقرات الألسنة، الصفارات. هل ينظرون بازدراء إلى الناس؟
“تبدين مختلفة تمامًا عما رأيتك عليه في الحفل.”
“سألتك من أنت.”
“هل ستعرفين لو أخبرتك؟ أنا فقط من جانب الأمير الثاني.”
“أثبت ذلك.”
رفعت خنجري مجددًا وأشرته إلى الرجل، فردّ برفع يديه. نادرًا ما أفشل مرتين، كما تعلمين.
الآن بعد أن تعرّفت أكثر، ربما أستطيع ضرب نقطة حيوية في الرجل أمامي إذا لزم الأمر. ربما لقراءة هذه النية في عينيّ، أبدى الرجل تعبيرًا متألمًا.
“أليس هذا مبالغًا فيه؟ لقد أنقذت حياتك، دوقة. قتلت ذلك الجندي من جانب الأمير الأول لأنني من جانب الأمير الثاني.”
“قلت أظهر لي الدليل.”
“ما الدليل الأفضل من هذا… أنا لست من يتحرك علنًا، لذا ليس لدي أي شارة. أما ملابسي… ها، حقًا.”
بينما استمر في التفوه بالكلام الفارغ، اقتربت وضغطت الخنجر على عنقه.
“أنت قبيح وتتحدث كثيرًا.”
“قبيح؟ ألا معاييرك مرتفعة جدًا؟ على الأقل أنا فوق المتوسط.”
“قلت تتحدث كثيرًا.”
وضعت المزيد من القوة في اليد التي تمسك بالخنجر، فظهر خط سطحي على رقبة الرجل. الآن وقد عبس حاجباه، اعترف الرجل أخيرًا بعد تفكير.
“…دوقة، لقد دُعيت إلى مأدبة حضرة الإمبراطور بعد زواجك مباشرة، أليس كذلك؟ كان هناك خدعة صغيرة مع البروشيتا ذلك اليوم.”
“….”
“لكن صاحب السمو الأمير الثاني تدخل لمنعها. أعتقد أنك أعطيته تلميحًا؟ ومع ذلك، لتوجيه الموقف في اتجاه أفضل، اضطررنا للعب خدعة صغيرة من جانبنا أيضًا.”
“لا تقول لي…”
“كنت أنا من تلاعب قليلاً بالكانابي الخاص بكِ ذلك اليوم.”
“تلاعب قليلاً؟ لقد سممته!”
“لم يكن سمًا مميتًا، أليس كذلك؟ أوه.”
لم تُسرّ الظروف التفصيلية لذلك اليوم خارج المعسكر. الرجل كان بالفعل جاسوسًا من جانب الأمير الثاني، وتم إثبات ذلك، لكن الغضب تدفق بداخلي، وضغطت الخنجر بقوة أكثر. تراجع الرجل أخيرًا لتجنبه.
“ماذا؟ أنقذت حياتي؟ ألا ينبغي أن نتحدث أولاً عن كيف عرضتها للخطر من البداية؟”
“هيا، طلبت الدليل، وقدمتُه، دوقة. هل يمكنك لطفًا وضع ذلك الخنجر بعيدًا؟ أنا في صفك.”
“أنت تحب قول أننا في نفس الجانب. أنت من جانب الأمير الثاني، أليس كذلك؟”
“أليس هذا هو نفس الشيء؟”
“تعرف جيدًا أنه ليس هو نفسه تمامًا.”
رغم غضبي، لم أستطع إبقاء هذا الجمود قائمًا إلى الأبد. تنهدت بصوت مسموع ليسمع، وأبعدت الخنجر. اقترب الرجل مجددًا.
“الأهم، دوقة، لماذا أنت هنا حقًا؟ سمعت أنك هربت من مقر الدوق، لكن حدث ضجة لأنك لم تذهبي إلى القصر الإمبراطوري.”
“ما هذه الضجة في يوم واحد فقط؟”
“حسنًا، نحن أناس نراهن بحياتنا على سرعة المعلومات.”
نظرت إلى الرجل من رأسه إلى أخمص قدميه، ولاحظت ملابسه الداكنة التي لا تبرز. موضوعيًا، بدلاً من كونه قبيحًا، كان وجهه عاديًا وشائعًا. إن وجدته، لديه تعبير لطيف ومحبب.
كان من نوع الوجوه التي لا تُتذكر بسهولة، لكنها تجعل المرء يميل إلى المساعدة إذا طلبت معروفًا — مناسب جدًا لجاسوس.
“صحيح. حتى مع معلوماتك السريعة، لم تعرف أين أنا. فلماذا أنت هنا؟ يبدو أنك كنت تحاول دخول معسكر زوجي. هل لديك رسالة من الأمير الثاني؟”
لأول مرة، أبدى الرجل عاطفة حقيقية ردًا على كلامي. وبينما كان يحكّ خده بتعبير مرتبك قليلاً، بدأت عيناي تضيقان.
“لا… هل يحتاج رسالة من الأمير الثاني إلى أن تكون بهذه السرية؟ عندما تذكرت كيف سممتِ الكانابي، أنت نشطة ومتسرّبة للغاية. قد تفعل أشياء للأمير لم يأمر بها حتى.”
“دوقة…”
“ما الذي قد يساعد الأمير في الوضع الحالي؟ طريقة لاستئناف القتال بينما الدوق، زوجي، قد توقف عن مهاجمة الأمير الأول.”
الرجل، الذي كان يناديني بتعبير قلق، اعترف بالحقيقة تحت هيئتي الباردة. رغم أنني توقعت ذلك تقريبًا، ثار الغضب في داخلي.
“…أنت على حق.
كنت سأرسل رسالة تقول إن الدوقة محمية في القصر الإمبراطوري.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
87ⵌ
كما هو متوقّع، حين قيلت تلك الكلمات، لم أتمالك نفسي من تجميد ملامحي. تمامًا كما في حادثة السّم، يفعلون ما يحلو لهم دون رادع.
“عثورك عليّ هنا كان مصادفة، أليس كذلك؟ إذًا كنت تنوي إرسال رسالة كاذبة.”
“…أعتذر. بما أنّ الدوق لم يُحرّك ساكنًا، لم يكن لديّ خيار آخر.”
“هل كانت هذه وجهة نظر سموّ الأمير الثّاني؟”
“لا، لقد كانت خطّتي وحدي.”
لا بدّ أنّ خبر الهجوم على مقرّ إقامة الدّوق قد وصل الآن إلى معسكر كاسيون. من المؤكّد أنّ ذلك أجبرهم على إيقاف القتال مؤقّتًا، وهذا الرّجل، الرّاغب في أن يتقدّم الأمير الثّاني على حساب الأوّل، كان يحاول طمأنته بأخبار زائفة عن سلامتي رغم أنّه لا يعرف أين أكون.
“هاه. لا بدّ أنّ سموّ الأمير الثّاني سعيد. لديه الفرسان الذين يخوضون الحرب دون أن يلوّث يديه، والجواسيس الذين يتآمرون من الخلف.”
“انتبهي لكلامكِ، دوقة.”
“ولِمَ؟ ألن يُعزّز ذلك من فرصة الأمير الثّاني في اعتلاء العرش؟ هل ستتّهمني بالخيانة وتقتلني؟”
“…تستطيعين كراهيتي كما تشائين، لكن أتمنّى فقط ألّا تتغيّري في مشاعركِ تجاه سموّه.”
رغم قوله ذلك، ظلّ نظره حادًّا وباردًا وهو ينظر إليّ. ومع أنّ الوقت لم يكن مناسبًا، فإنّني وبّخته بنبرة ساخرة.
“كما لو أنّني سأحمل مشاعر أخرى نحوه. أنت من عليه أن يراقب كلامه.”
“دوقة.”
“ماذا؟ ألم تقل إنّ السّبّ مسموح لك؟”
كنت غاضبة للغاية، لكنّ ذلك لم يكن أكثر الأمور إلحاحًا في الوقت الحالي. نزعتُ الأوساخ عن ملابسي الملطّخة بالدّم من الزّحف أثناء الهروب، وربطت شعري من جديد بعد أن تفرّق.
“مع ذلك، كرفيقة شاركتكم حتّى بشرب السّم من أجل خطّتكم، ألا يمكنك على الأقل أن تأخذني إلى معسكر كاسيون أثناء وجودك هنا؟”
“كان ذلك قصدي حين أنقذتكِ. وإذا ثبتت صحّة الرّسالة، فهذا يخدم مصلحتي أيضًا.”
آه، كلّ كلمة يقولها تثير أعصابي.
“أليس لديك حصان؟”
“ركبت واحدًا للوصول إلى هذه المنطقة، لكنّنا من هنا يجب أن نسير على الأقدام إن أردنا التسلّل إلى معسكر الدّوق دون أن يلاحظنا الأعداء. اتبعيني.”
بعد ذلك، ساد الصّمت. ثمّ صمت آخر، وصمتٌ أكثر.
بين الفينة والأخرى، كان يظهر جنود من معسكر الأمير الأوّل، على ما يبدو في دوريات استطلاع، لكن الرّجل أمامي كان يتكفّل بهم قبل أن ينتبهوا إلينا. عدا مسائل السّلامة، لم تكن بيننا أيّ علاقة ودّية تبرّر الحديث.
وحين بدأت أشكّ إن كنّا نسير فعلًا نحو الوجهة الصّحيحة وسط مسارات الغابة المتعرّجة، تحدّث الرّجل أخيرًا.
“ألا تريدين معرفة اسمي؟”
“هل من الضّروري أن أعرفه؟”
أنا لا أهتمّ حتّى. لمَ عليّ ذلك؟
“ومع ذلك، فأنا الشّخص الذي كاد يودي بحياتك. ألا تشعرين بالخوف؟”
“كفّ عن هذا الهراء بشأن الخوف، وتوقّف عن مناداتي بـ’أنتِ’ بهذه البساطة. لن أسمح لك بذلك مرّة أخرى.”
“وإن لم تسمحي، ماذا ستفعلين يا سيّدتي؟”
هذا الرّجل، بحقّ…
“هل تنوي استخدام القوّة ضدّ امرأة رقيقة؟ بالطّبع، سأقدّم تقريرًا بكلّ ما تفعله.”
“إن تغاضينا عن أنّ ما رأيته بعيد كلّ البعد عن ‘الرّقة’، هل ستُبلّغين الدّوق؟”
“كلا.”
الرّجل الذي كان يسير أمامي محاولًا فتح حديث دون أن ينظر إليّ توقّف والتفت نحوي بوجهٍ متحيّر. فضربتُ ظهره دافعة إيّاه إلى الأمام لأواصل كلامي.
“سأُبلّغ سموّ الأمير الثّاني.”
“ماذا؟!”
دفعته بغيظ وهو يقرّب وجهه من وجهي بانفعال بدلًا من أن يتقدّم في الطّريق. ما خطبه بحقّ؟
“في الإمبراطوريّة، لا يعلو على بيت الدّوق إلا العائلة الإمبراطوريّة. عدم استخدامك ألقاب الاحترام معي يعادل طمعك في السّلطة الإمبراطوريّة.”
“لا، كيف تُفسّرين الأمور بهذه الطّريقة…”
“سأُبلغ سموّ الأمير الثّاني بأنّك غير راضٍ وتطمع في السّلطة الإمبراطوريّة. وبعدها… أنت تعرف ما سيحصل، أليس كذلك؟”
أنا أعلم أنّها مبالغة سخيفة أيضًا. لكنّني هدّدته وأنا أرفع كتفيّ متظاهرة بالجهل. ثمّ رفعت إصبعي مشيرة إلى وجهه المتباهِي، وكان من الطّريف أن عينيه ركّزتا على طرف إصبعي.
“أفعالك قد تكون من أجل سموّ الأمير الثّاني، لكنّها أيضًا تجاوز لصلاحياتك. وإذا أضفتُ بعض الزّيت على النّار؟ ألن يبدو الأمر وكأنّك تتصرّف من تلقاء نفسك لأنّك غير راضٍ عن أوامر الأمير؟”
“هاه…”
“إن لم تُرِد أن يتخلّى عنك سموّ الأمير الثّاني العزيز عليك، فمن الأفضل أن تُصبح أكثر حرصًا في كلامك وتصرفاتك. على الأقلّ معي.”
بعد أن رميت عليه نظرة صارمة وهو متجمّد في مكانه، ضربتُ ظهره مجدّدًا. وقد آلمتني ضربة يدي أيضًا، لكن بدا أنّ الصّدمة وصلت جيّدًا.
“الآن، أخرس وابدأ بالمشي مجدّدًا.”
—
“أوه، هناك…!”
“سيّدتي، انتظري لحظة!”
بعد ذلك، أغلق الرّجل فمه بالفعل. ومع ذلك، أصبح أكثر انتباهًا، فكان يُبعد الأغصان الّتي تعترض طريقي، بل وقدّم يده حين صادفنا بعض التّلال الصّغيرة في الغابة. وبالطّبع، لم أقبلها.
عندما كنّا عند حافة الجرف، كانت الشّمس في أوجها، لكن حين بدأت الأرجاء تكتسي بلون أرجوانيّ خافت، ظهرت الخيام والرّايات غير بعيدة أمامنا.
مفعمة بالحماس عند رؤيتها، جمعت ما تبقّى في قدميّ من قوّة، لكن الرّجل الّذي كان يسير أمامي بخطوة واحدة فقط وقف فجأة وسدّ طريقي.
“ما الأمر! أليست تلك هي؟!”
“بلى، لكن لا تتقدّمي بعد! ماذا لو هوجمتِ بسبب تهوّركِ؟ دعيني أتقدّم لأُعلن أنّ الدّوقة وصلت بنفسها. أرجوكِ، انتظري قليلًا قبل دخولكِ.”
بمجرّد أن سمعت “بلى”، هممت بالاندفاع مجدّدًا، لكن الرّجل أمسكني من ذراعي بسرعة. نعم، ما يقوله منطقي، لكن…
“دعني. يؤلمني ذلك.”
“آه…”
سحب يده بسرعة كما لو لامس جمرة، وحكّ رأسه بحرج حين أشرت له بذقني. يُقال إنّ الحمّام يبدو أشدّ إلحاحًا حين يكون المرء قريبًا منه – ومثله تمامًا، فحين أصبحت الخيام أمامي مباشرة، ازدادت لهفتي بشكل يفوق ما شعرت به أثناء النّزول.
“ما الّذي تنتظره؟ أسرع واذهب.”
“آه! نعم. من هنا، من فضلكِ، اختبئي خلف هذه الشّجرة، وسأعود في أسرع وقت ممكن.”
ما خطبه؟ ربّما لأنّنا وصلنا، أصبح أكثر تهذيبًا من ذي قبل. على أيّ حال، اختفى بهدوء ودخل المعسكر بسرعة.
لكنّ هذا لم يكن المهمّ. وقفتُ خلف شجرة كبيرة ومددت عنقي، أبحث عن كاسيون الّذي لا بدّ أنّه في مكان ما هناك.
غير أنّ كاسيون لم يكن ظاهرًا في أيّ مكان، وعلى الرّغم من أنّ الشّمس لم تغب بعد، كان المعسكر ساكنًا بشكل مريب. قيل إنّه لم يتحرّك أبدًا، بل كان هناك جنديّ جالس أمام إحدى الخيام، ينحت قطعة من الخشب بلا مبالاة.
“أوه… لقد عاد بسرعة.”
وقف الجنديّ الكسول فجأة، وأخفى منحوتته خلف ظهره فور رؤية الفرسان يندفعون إلى الخارج، وخرجتُ أنا من خلف الشّجرة حين رأيت الرّجل واقفًا بجانبهم.
“دوقة! أوه، يا ألهي! شكرًا لله! شكرًا جزيلًا!”
انطلق الفارس الّذي بدا أعلى رتبة من البقيّة لاستقبالي، ووجهه يشعّ فرحًا أقرب إلى البكاء.
“كيف وصلتِ إلى هنا… لقد تعرّض مقرّ الدّوق للهجوم. لا، أوّلًا، لنُدخلك! أرجوكِ، تفضّلي بالدّخول! يبدو أنّكِ مصابة…”
“اهدأ، إنّني بخير.”
الرّجل الّذي قاد الفرسان إلى هنا اختفى وسطهم بخفّة مدهشة. وقد أدهشني حقًّا مدى قدرته على التّلاشي كما لو أنّه لم يكن موجودًا أصلًا، فيما كنت أُهدّئ الفارس الّذي بدا وكأنّه سيجثو على ركبتيه من فرط الامتنان.
“زوجي… أليس كاسيون في المعسكر؟”
“إنّه يراقب تحرّكات الأمير الأوّل في مقدّمة المعسكر، لذا سيأخذ الأمر بعض الوقت. دعيني أُرافقكِ إلى خيمة سموّه الآن.”
بدا أنّ الفارس ابتلع فرحته الجيّاشة حين ربّتّ على كتفه برفق. ما خطبهم؟ أنا فقط زوجة قائدهم. هل يستحقّ هذا كلّ هذا الحماس؟
“أنتَ هناك! أبلغ سموّه فورًا بوصول الدّوقة!”
“كلا، دعني أذهب. سأكون أسرع.”
“نعم، نعم. اذهب. سيّدتي، من هذا الطّريق…”
تطوّع الرّجل الّذي أحضرني على الفور. هل عرف مكان كاسيون مسبقًا؟ إنّه مزعج بقدر ما هو بارع.
“أنتَ! أسرع بإحضار طبيب. أما زال لدينا فساتين؟ شيء جيّد الجودة على الأقل…”
على النّقيض، بدا الفارس الّذي يرافقني إلى الخيمة مبالغًا جدًّا في ردّة فعله.
وبينما كنت أمشي بين الخيام تحت أنظار الفرسان، مدّدت جسدي المُتعب قليلًا.
رغم أنّ مظهري بائس، فإنّ هذا هو الوقت الّذي يجب أن أبدو فيه في أبهى حلّة. إنّهم جنود زوجي، ولن يضرّني أن أترك انطباعًا حسنًا.
“الثّياب يمكنها الانتظار. كوب ماء سيكون كافيًا.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
88ⵌ
كان وقت الانتظار يبدو طويلًا على نحو لا يُطاق.
لم أكن قلقة بشأن مظهري الفوضويّ أمام جنود كاسيون، لكن حتّى في خضمّ هذه الحرب، أردت أن أبدو جميلة من أجله. مسحت وجهي، ونفضت الغبار والدم عن ثيابي.
ومع ذلك، لم يأتِ كاسيون بعد، فتفقّدت خيمته. على عكس غرفة نومه التي كنت أدخلها وأخرج منها بحريّة، كان في هذا المكان جوّ كئيب موحش.
“…أتُراه كان نائمًا؟”
كان السّرير الصّغير القاسي مغطّى ببطّانيّة لم تُحرّك من مكانها. لا بدّ أنّه لم يقضِ ليلته دون نوم، أليس كذلك؟ ربّما قام أحدهم بتنظيفه.
“آه.”
على الصّينيّة كانت هناك أطعمة بسيطة كالفاكهة والجبن، لكنّها بدت غير مَلموسة. وبينما كنت أتمشّى داخل الخيمة وأقضم شفتي، وجدت مكانًا واحدًا فقط لا يزال يحتفظ بدفئه.
“…كاسيون.”
ارتعش صوتي تحت وطأة المشاعر الجارفة. على المكتب الصّغير حيث كان يكتب لي رسائله، كانت هناك دُواة مقلوبة وأوراق مكرمشة.
ندمت فورًا على التقاط إحداها بيدين مرتجفتين.
[أسيليا، أسيل. رجاءً كوني بخير. أنا آسف. سأعود قريبًا. لم يكن عليّ تركك…]
“….”
كانت الرّسائل غير المُرسلة مملوءة بتوسّلاته المُكرّرة. حاولت تهدئة أنفاسي المتقلّبة وقد تسرّبت إليّ مشاعره المتأجّجة من خلال الورق الرّقيق، وفجأةً عمّت الفوضى خارج الخيمة.
‘أين… !! الآن…!’
“كاسيون!”
كان صوته. يبدو أنّه وصل إلى قرب الخيمة.
لم أتمكّن من تمالك نفسي، فرفعتُ شقّ الخيمة واندفعت إلى الخارج أبحث بعينيّ عن مصدر الصوت، فرأيت كاسيون الذي كان يركض بجنون قبل أن يتوقّف فور أن رآني.
“كاسيون!”
رغم أنّ درعه كان ملطّخًا ببقع من الدّم هنا وهناك، إلّا أنّه لم يكن دمه، وكانت البقع قديمة حتّى اسودّ لونها. بدا وجهه متعبًا، لكن حين لم ألحظ إصابات ظاهرة، أسرعت نحوه.
“كاسيون، أنا هنا!”
اندفعتُ إلى حضنه كما لو كنتُ ثورًا هائجًا، وعانقت جسده المتجمّد تمامًا. اصطدمت قساوة درعه الحديدي بجسدي، لكنّي لم أكترث. ومع أنّي فتحت ذراعيّ بأقصى اتّساع ممكن، لم أتمكّن من احتضان جسده الضّخم تمامًا، والذي ازداد حجمًا بفعل الدرع.
“اشتقتُ إليك. هل أنت بخير؟ هل أُصبت في مكان ما؟”
“….”
“كاسيون؟ ما بك؟”
داخل الخيمة، كنتُ قد سمعت صوته يناديني بوضوح. لكن الآن، ونحن وجهًا لوجه، لم يرحّب بي، ولم يحيّني حتّى.
عيناه الحمراوان، واللتان لم أرهما أوسع من قبل، كانت تنظر إليّ كما لو كان يرى طيفًا.
“كا…؟!”
حين حاولتُ مناداته مجدّدًا، بدأت الرّطوبة تملأ عينيه الحمراوين. ظننت أنّي أتوهّم، لكن مع ازدياد ارتجاف عينيه، نظرتُ حولي بحيرة.
أردت أن أجد شيئًا أُخفي به وجهه، لكن لم يكن هناك سوى الرّجل الذي أرشدني، واقفًا يرفع كتفيه – لم أكن أعلم حتّى متى ظهر.
“تعال إلى هنا…!”
ظننت أنّ كاسيون قد يندم على إظهار ضعفه أمام جنوده، كونه قائدهم، فاجتذبتُ الرّجل لأحجبه عن الأنظار ولو قليلًا.
وحين أدرت وجهي بعيدًا عن كاسيون لأفعل ذلك، لامست وجهي يد باردة كبيرة برفق.
“أسيل… أسيليا.”
ارتجفت من برودة أطرافه، فاستدرت إليه، وسقطت دموعه على خديّ. قطرة. قطرة. وقبل أن أستوعب الأمر، كانت دموعه تنهال كالمطر، وبينما شعرتُ بالارتباك لحظة، امتلأ قلبي بالشفقة والندم عليه.
“…أنا هنا. لا بأس.”
أعرف كم تكون يداه دافئتين عادةً. لكن حرارته الآن كانت منخفضة لدرجة أنّ أطراف أصابعه بدت مزرقّة، مما دلّ على الصّدمة والتوتّر الشديد الذي عاناه.
“أسيل…”
“هذه ليست حلمًا ولا وهمًا. إنّها أنتِ… حقًّا أنتِ!”
راحت يداه المرتجفتان تحومان حول وجهي. فأمسكتُ بهما ووضعتُهما على خدّيّ، ونظرتُ إليه، مما جعله يجهش بالبكاء أكثر.
“….”
بعثتُ نظرةً صامتة إلى الرّجل المراقب كي يهتمّ بالأمر، ثمّ أمسكتُ يد كاسيون وقُدتُه إلى داخل الخيمة.
تبعني كاسيون، يبكي بصمت كما لو كان يُخرِج هواءً لا صوت له.
رفرفت ستارة الخيمة.
“كاسيون.”
بعد أن أغلقتُ مدخل الخيمة بعناية، ناديته وهو يبكي بحرقة، فالتفت إليّ بنظرة تتألّم.
“لا بدّ أن لديك الكثير لتقوله… لكن دعنا فقط نكون معًا للحظة.”
“أسيليا…”
“تعال. أُريد أن أشعر بقربك، لذا فقط… انزع ذلك.”
وما إن أنهيت كلماتي، حتّى بدأ كاسيون يفكّ درعه بسرعة. ثمّ، بعدما أمسكتُ بيده مجدّدًا، اقتدتُه نحو السّرير الضيّق في الخيمة، حيث سقطنا معًا.
“….”
“….”
على السّرير، عانقنا بعضنا البعض بإحكام، ولم يكن هناك سوى صوت بكائه الخافت. لا، كنتُ أيضًا أشعر بنبضات قلبينا المتلاصقَين.
“أسيليا…”
ويبدو أنّ كاسيون شعر بنبضات القلب كذلك. بدأت رجفة جسده تهدأ تدريجيًّا، ثمّ أحاطني بذراعيه المتيبّستين بقوّة، حتّى شعرت بالاختناق قليلًا… لكنّه لم يكن شعورًا سيئًا.
صمتًا، راحت يدي تمرّ على مؤخرة رأسه بينما نظرت إليه، وجباهنا متلامستَين.
“أنا هنا، كاسيون.”
ببطء، ببطء شديد، اقتربتُ منه.
شفتاه، حين لامستُهما بعناية، كانتا جافتين ومشقّقتين لدرجة خوفي من أن تُؤلمانه، لكنّهما لم تكونا ببرودة أطرافه.
وبقبلة خفيفة بالكاد لامست الشّفاه، وتبادلٍ لأنفاسنا، هدأت دموعه في عينيه الواسعتَين.
وحين رأيتُ كاسيون يتوقّف عن البكاء في هذه اللحظة الحميمة، وجدته لطيفًا ومُثيرًا للشفقة في آن، ففركتُ أنفي بأنفه.
“إنّها أنا.”
وحين التقَت شفتانا مجدّدًا، ردّ عليّ هذه المرّة.
—
“يا إلهي، انظر إلى عينيك المنتفختين. كيف ستقابل جنودك بهذا الشّكل؟”
“لن أذهب إلى أيّ مكان بدونك.”
“نحن في ساحة معركة الآن، ألا تعرف أنّ هذا كلام لا يليق بقائد؟”
“لا يهمّني.”
نهضنا أخيرًا بعد وقت طويل. كان كاسيون يُريد البقاء بجانبي، لكنّي ناولتُه شايًا صنعته بسرعة من الماء المغليّ الذي طلبت من الجنود إحضاره، بعد أن أخرجت رأسي قليلًا من الخيمة.
وبعينين منتفختين، راح يشرب الشاي وهو يُخرج شفتَيه بامتعاض.
“يا لك من ضخم لتتصرّف كالأطفال!”
“أنا في الحقيقة لا أختلف عن طفل، لذا لا تتركيني وحدي. ابقي بجانبي دائمًا، أسيليا.”
“أين ضميرك؟”
“لا وجود له.”
كنا نتشاجر وسط أجواءٍ أصبحت أخفّ، ويبدو أنّ اللّيل قد حلّ في الخارج.
لم يكن الأمير الأوّل في وضع يسمح له بشنّ هجوم ليليّ، لذا من الأفضل اعتبار معركة اليوم منتهية.
والآن بعد أن تأكّد كاسيون من أنّني بخير، كان علينا مناقشة الوضع من الآن فصاعدًا، لكن مثله، اخترتُ أن أتجاهل ذلك وأستمتع بهذه اللّحظة الساكنة قليلًا بعد.
“…في اللّيلة الماضية، وصلتني برقيّة تقول إنّ مقرّ الدّوق تعرّض لهجوم، وإنّك قد اختفيتِ.”
قالها كاسيون بعد أن أنهى الشاي بسرعة رغم أنّه لم يكن ساخنًا جدًا، وبدأ يتكلّم أخيرًا. صوته كان يرتجف مجدّدًا، وكأنّه لا يُريد أن يتخيّل ذلك الوقت، فأسرعتُ في جعله يُنزل الكوب وأمسكت بيديه.
كانت يداه، التي استعادت دفئها، تُمسكان بيدي بقوّة.
“أردتُ أن أذهب إليك فورًا، لكنّي كنت أثق بفُرسان الدّوق، وكنت أعلم أنّك قويّة… تمالكتُ نفسي، لأنّني ظننت أنّك قد تغضبين إن تركتُ الجبهة لأجل عودتك السّالمة. لكن لم يكن عليّ فعل ذلك.”
“ما الذي تقوله؟ لقد أحسنت. كما قلتَ، لو كنت قد تركت هذا المكان وعدت، لكنتُ وبّختك، أتعلم؟”
“سواء وبّختِني أو ضربتِني، ما الذي قد يُخيفني طالما أنّك بخير؟ بعد ليلة بلا نوم وأنا أفقد صوابي، وصلتني صباحًا رسالة من معسكر الأمير الأوّل… تقول إنّهم أسروك ويُطالبون باستسلامنا.”
“ماذا؟!”
سواء من جانبنا أو من جهة العدو، لماذا الجميع يختلق أكاذيب بشأن مكاني؟
كاسيون تلقّى تقريبًا في نفس الوقت رسالة من جانب الأمير الثّاني تُؤكّد أنّهم يحمونني، ورسالة تهديد من الأمير الأوّل تقول إنّهم يحتجزونني رهينة. مجرّد تخيّل ذلك يبعث على الجنون.
ولو أنّني ذهبت فعلًا إلى معسكر الأمير الثاني أو القصر الإمبراطوري، ربّما لم يكن ليُصدّق الأمر.
“لم أتمكّن من فعل شيء، أسيليا. وقفتُ فقط كالأبله، أصرخ على الفرسان أن يُحدّدوا مكانك الحقيقي. شعرتُ أنّني سأفقد عقلي خلال ساعات.”
“كاسيون…”
“…لم أتمكّن من فعل شيء…”
وبينما امتلأت عيناه بالدّموع مرّة أخرى، أغلق عينيه ببطء وجذب يدي إلى شفتيه، وقبّل راحتي.
مسحتُ بلطف دموعه التي انسابت من عينيه المغلقتين.
“لا، هذا ليس صحيحًا. لقد وثقتَ بي، وصمدت.”
وعند كلماتي، فتح كاسيون عينيه، فقبّلتُ شفتيه مجدّدًا. ولأوّل مرّة، ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجهه.
“أتعلمين أنّ هذه أوّل قبلة لنا؟ هل هذه هي الإجابة إذًا؟”
“إذا ضحكتَ بعد البكاء، ستنبت قرون في مؤخّرتك.”
ضحك كاسيون، ودموعه لا تزال مرسومة على وجهه، ثمّ اقترب منّي مجدّدًا. فأغمضتُ عينيّ.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
89ⵌ
“أنا أحبّك. أحبّك يا أسيليا.”
“نعم، أعلم. الآن اذهب. ستبدأ بالبكاء مجدّدًا بهذا الشّكل.”
“أحبّك كثيرًا…”
بدا أنّ كاسيون لم يعُد مهتمًّا بسماع ردّي، بل كان حريصًا فقط على التّعبير عن مشاعره.
كنّا مستلقيَين نرتاح، وقد هدأتُه لتوّي، لكنّ صوته بدأ يرتجف قليلًا وهو يحتضنني بإحكام، مدفونًا وجهه في كتفي. خفتُ أن يبكي مجدّدًا، فرفعتُه بسرعة.
“توقّف! هل ستذهب إلى الاجتماع وعيونك محتقنة بالدّم؟”
“لا أريد أن أذهب. ثمّ إنّ عينَيّ حمراوان أصلًا، فما الفرق؟”
“هناك فرق بين أن تكون قزحيّتاك حمراوين وبين أن تكون عيناك محتقنتين بالدّم. ألا يبدو الأمر مخيفًا إن كانت كلّها حمراء؟”
كاسيون، الذي كان يركّز فقط على التّشبّث بي والتّعبير عن مشاعره بغضّ النّظر عمّا أقوله، تجمّد فجأة عند كلماتي، واتّخذ وجهًا مثيرًا للشّفقة. بدا أنّه يحاول جاهدًا ألّا يبكي.
“هل وجهي مخيف؟”
لكي أوقف دموعه كليًّا، كان عليّ أن أقول إنّه مخيف. لكنّني لم أرغب في الكذب عليه بعدما قضى اليوم بأكمله في القلق.
“بالنّسبة لي، هو لطيف فحسب. ربّما يبدو مثيرًا للشّفقة قليلًا. لكن مرؤوسيك قد يرونه بشكل مختلف.”
“لا يهمّ، ما دمتِ تنظرين إليّ.”
“هذا جميل، لكن…”
“أنا أيضًا أحبّك، أسيليا.”
وعُدنا مجدّدًا إلى لازمة “أنا أحبّك”.
كان مرؤوسو كاسيون قد أخلَوا المنطقة حول الخيمة بدقّة، وأجّلوا وقت الاجتماع أيضًا، ليمنحونا بعض الوقت بمفردنا، لكن كان لا بدّ من اجتماع تكتيكيّ وجيز على الأقلّ قبل طلوع الفجر.
ومع ذلك، وفي هذا الظّرف الطّارئ، وجدتُ نفسي مستمتعة بتصرّفات كاسيون، وقد ارتسمت ابتسامة على شفتي. لا بدّ أنّني وقعتُ في حبّه بعمق أيضًا.
“سأنتظر هنا بهدوء، لذا اذهب. لن يستغرق الأمر طويلًا، أليس كذلك؟”
“لكن ماذا لو كنتِ في خطر مجدّدًا؟ لا أظنّ أنّني أستطيع تحمّل ذلك مرّتين، أسيليا.”
“هيا، هذه خيمتك. وهناك فرسان يحيطون بنا من كلّ جانب. سأجلس فقط هنا ممسكة بخنجر، أعدك.”
“لكن مع ذلك…”
“هذا المكان هو الأكثر أمانًا في العالم الآن.”
قبلة.
لابدّ أنّ كاسيون يعلم هذا منطقيًّا. حتّى في ساحة المعركة، لا يوجد مكان أكثر أمانًا من هذا. لكن بالنّسبة لكاسيون، الذي كان يتشبّث بي كجروٍ مصاب بقلق الانفصال، منحتُه قبلة سريعة، بعدما اعتدت على ذلك.
“لا تحاولي إقناعي بهذه الطّريقة، أسيليا.”
“شفاهك ترتسم بابتسامة، تعلمين ذلك؟”
حاول كاسيون عن قصد أن يُنزل شفتيه المرفوعتين، لكنّ عينيه الحمراوين كانتا تلمعان وهما تنظران إليّ، لذا كانت محاولته فاشلة في النّهاية. انفجرتُ ضاحكة بينما وقفت على أطراف أصابعي، أغدقُه بالقبلات وأربّت على ظهره.
“الآن انتهى الأمر فعلًا! اذهب. أظنّ أنّ مرؤوسيك قد انتظروا بما فيه الكفاية.”
“…”
“تعلم؟ أنا أحبّ النّاس الذين يؤدّون عملهم جيّدًا.”
“سأذهب إذًا. سأعود قريبًا.”
استجاب كاسيون على الفور، رغم أنّه لا بدّ أنّه علم أنّني قلت ذلك عمدًا. لكنّ جسده لم يكن مطيعًا، إذ استمرّ في الالتفات إليّ أثناء ارتداء درعه، وفي كلّ مرّة أدفعه مجدّدًا مستخدمة القبلات المفرطة.
رفرفة.
“…ألا يوجد فرسان آخرون؟”
“سأناديهم، سيدي.”
وأخيرًا، بعدما صار جاهزًا وغادر الخيمة، تحدّث كاسيون إلى أحد مرؤوسيه الذي بدا وكأنّه كان ينتظر بالجوار، وقد بدا صوته ممتعضًا.
إنّه ليس من النّوع الذي يعامل مرؤوسيه ببرود. ومن شدّة فضولي، أخرجتُ رأسي، فسارع كاسيون إلى دفعه إلى داخل الخيمة مجدّدًا.
لكنّني كنت قد تأكّدت بالفعل من أنّ وجه “المرؤوس” هو الرّجل الذي كنت أتوقّعه.
“أسيليا! لقد وعدتِ ألّا تخرجي.”
“آه، نعم، نعم. لن أخرج فعلًا هذه المرّة. ما رأيك أن تطلب من ذلك الشّخص أن يدخل، وأن تُبقي الفرسان الآخرين خارج الخيمة؟ سيكون ذلك أكثر أمانًا.”
“…أن أدخله إلى الداخل؟ ذلك الرّجل؟”
كم هي متنوّعة تعابير وجهه. الآن، وعيناه تتوهّجان، استطعتُ أن أفهم أنّ كاسيون يعرف الرّجل الذي جلبني إلى هنا، بل ويكرهه أيضًا.
ولأنّني لم أرد التّدخّل في سبب العداء بينهما، تربّتُ على ذراعه وقلت:
“أنا أيضًا أحبّ أن أكون وحدي وبشكل مريح، لكنّ التّواجد بمفردي في مكان مغلق ليس دائمًا آمنًا. أظنّ أنّه من الأفضل وجود شخص واحد على الأقلّ في الدّاخل.”
“…هذا صحيح.”
“أنا لا أحبّ ذلك الرّجل أيضًا، لكنّنا على الأقلّ نعلم أنّه ليس مع الأمير الأوّل، وهو وجه مألوف، لذا قد يكون أفضل من فرسان مجهولين.”
“لكن ذلك الرّجل…”
“لا؟ إن كان هناك فارس أفضل، يمكننا تغييره.”
“…لا، افعلي ما ترغبين به، أسيليا. سأعود قريبًا.”
بدا أنّ كاسيون على وشك قول شيء آخر، لكنّه أغلق فمه. ما الأمر؟ لقد أثار هذا فضولي فعلًا.
لكنّني حين شعرت بخطى الفرسان تتجمّع حول الخيمة، تراجعت بسرعة وجلست على السّرير، ملوّحة بيدي. ودّعتُ كاسيون بإشارة تدلّ على أنّني لن أتحرّك من هنا أبدًا، وقد غادر وهو يرمقني بعينين مليئتين بالتعلّق.
“–في الداخل—، أسيليا—حتّى لو—-“
ربّما بسبب سماكة القماش، لم أتمكّن من سماع الكلمات جيّدًا رغم أنّها قيلت أمام الخيمة مباشرة. ولحسن الحظّ، يبدو أنّ بكاء كاسيون لم يكن مسموعًا من الخارج.
كنت أسمع صوت كاسيون وهو يعطي الأوامر كما طلبت، ثمّ أخذت الأصوات تتلاشى تدريجيًّا، على الأرجح في طريقها إلى الخيمة الّتي سيُعقد فيها الاجتماع.
“هل أنتِ نائمة؟”
“أوه، حقًّا.”
كنتُ أغمض عينيّ أستمع لصوت كاسيون وهو يبتعد، عندما اقتحم هذا الرّجل المكان وسألني، محطمًا لحظتي العاطفيّة النّادرة.
“ألم يكن من المفترض أن تُعلن عن حضورك قبل الدّخول؟”
“لقد تنحنحتُ وقلت إنّني داخل.”
“كان ينبغي أن تفعل ذلك بصوت أعلى.”
ماذا؟ متى قال ذلك؟ لم أسمع شيئًا.
“أنا مندهش قليلًا. لم أتوقّع أن تسمحي لي بالدّخول.”
“أنا لا أحقد. يجب أن تتّخذ قرارات مناسبة للظّروف، بغضّ النّظر عن المشاعر الشّخصيّة.”
“حسنًا… ليس الأمر يخصّك فقط، لكنّني مندهش أيضًا من أنّ دوقكم سمح لي بالدّخول.”
“كاسيون؟ لماذا؟ هل فعلت شيئًا أغضبه بشدّة؟”
إنّه ليس من النّوع الذي يحقد. فسألتُ فورًا عمّا كنت أشعر بالفضول حياله، فجاء الرّدّ بنظرة حائرة.
“ألَم تعلمي؟”
“أعلم ماذا؟ هل كنت سأطرح السّؤال إن كنت أعلم؟”
“هل تعلمين كم عدد القتلة الذين أرسلهم حضرته نحوي؟ حتّى بالنّسبة لي، كان الأمر صعبًا.”
“…هاه؟”
إرسال قتلة؟ هل سمعتُ خطأ؟
“على عكسكِ، سيّدتي الدّوقة، يبدو أنّ حضرته يحقد كثيرًا، لكنّه يستمع إليك جيّدًا. أن يسمح لي بالدّخول بهذه السّهولة… بما أنّك هنا، هل يمكنك أن تطلبي منه أن يتوقّف عن محاولات اغتيالي؟ فقد أنقذت حياتك.”
“إذًا، أنت تقول… كاسيون.”
هل يُعقل؟
“هل تقول إنّه أرسل القتلة خلفك لأنّه اكتشف أنّك كنت وراء السّم الذي تناولتُه في الغداء؟”
“وما الّذي قد يكون غير ذلك؟”
“لا، لقد طلبتُ منه فقط أن يُحذّرك ويترك عنقك وشأنها.”
“لو كان حضرته، فربّما كان سيقول إنّه ارتكب خطأ في أثناء تحذيري… بعدما يقطع رأسي.”
مستحيل. هل علم كاسيون بالفعل؟ وهل ظلّ يهدّده طوال هذا الوقت؟
…كم هو محبوب!
“يا إلهي. يا زوجي العزيز.”
“…هل يسعدك أنّ رأسي كاد أن يُقطع مرّات عدّة؟”
“أنت لم تمُت، أليس كذلك؟ لذا يبدو أنّه اكتفى بالتهديد. والأهمّ، أنّ سموّ الأمير الثّاني قال بوضوح إنّه سيأتي ليعتذر شخصيًّا إن علم من كان وراء الأمر.”
“سموّه لا يعلم بعد أنّني كنت خلف حادثة ذلك اليوم.”
“آه، فهمت.”
إذًا، رغم أنّني لستُ متأكّدة من كيفيّة اكتشاف كاسيون لذلك، إلّا أنّه عرف الفاعل بنفسه وهدّده، محافظًا في الوقت نفسه على دَين الأمير الثّاني، ومنفّذًا انتقامي.
“هذا مثالي.”
“نعم. ومن وجهة نظري أيضًا، أنتما ثنائيّ مثاليّ.”
“لا تكن ساخرًا. لقد قلتُ لك إنّني لا أمنح فرصًا ثانية.”
“ألم أنقذ حياتك؟”
“أنقذتني بالمصادفة. ثمّ إنّك كدتَ تقتلني مرّة، لذا لا يُحسب ذلك. إن شعرتَ بالظّلم، فحاول إنقاذي مرّة أخرى.”
تنهدتُ وسكبتُ بعض الماء من الطاولة الجانبيّة. بالطّبع، سواء كان ذلك الرّجل عطشانًا أم لا، فلم يكن من شأني.
“لكن الآن، وبما أنّ كاسيون بجانبي، فلن أكون في خطر. لن تُتاح لك فرصة أخرى.”
بمعنى آخر، أنا لستُ ممتنّة كثيرًا لأنّك أنقذتني. فقد كان ذلك ببساطة ما يجب أن تفعله.
“…عندما أفكّر بالأمر، أنتِ أسوأ حتّى من حضرته، سيّدتي الدّوقة.”
“قلتُ لك لا تكن ساخرًا. هل صرتَ الآن صريحًا؟”
أنا حقًّا لا أحبّ هذا الرّجل.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
90ⵌ
“كاسيون! ادخل بسرعة.”
“آه، لقد كان فعلًا. كيف عرفتِ؟”
كان الرّجل أوّل من لاحظ اقتراب شخص من الخيمة.
لكنّني كنت أوّل من خمن أنّ تلك الخطوات تعود لكاسيون.
تجاهلتُ الرّجل المُتفاجئ، ودفعته بلطف إلى الخارج وأنا أطلب منه أن يغادر في الحال.
ارتسمت على وجهه علامات الذهول، لكنّه غادر الخيمة مطيعًا.
طخ–
“كاسيون؟”
“…آسف.”
دخل كاسيون وهو يبدو مكتئبًا، وأغلق مدخل الخيمة بقوّة كادت أن تطرحه، وألقى نظرة باردة على الرّجل المغادر.
وضع من القوّة في حركته ما جعل القماش السّميك يُصدر صوتًا كأنّ رأس أحدهم ضُرب به.
“هل حدث شيء؟”
“…لا شيء. الأمير الأوّل ارتكب حماقة، وبرغم أنّني كنت أعلم بذلك، غضبتُ منه.”
وضع الصّندوق الصّغير الذي كان يحمله تحت ذراعه على الطّاولة، وفتحَه بنظرة حادّة.
أظنّ أنّه لا بأس إن ألقيت نظرة، أليس كذلك؟
“يا إلهي، إنّ هذا…”
ما إن فُتح الصّندوق حتّى انبعثت منه رائحة كريهة.
وعندما رأيت ما بداخله، أدركتُ أنّ تلك الرّائحة تعود إلى دمٍ قديم.
“لا تقُل إنّهم أرسلوا هذا مدّعين أنّه شعري؟”
“بلى. وقد كتبوا رسالة لطيفة أيضًا مفادها: إن لم نستسلم بحلول صباح الغد، فسيُرسل الإصبع التّالي أو أحد الأعضاء الأخرى.”
كان الشّعر الورديّ، الشّبيه جدًّا بشعري، مقصوصًا ومُلطّخًا بالدّم.
وعندما لمحتُ شيئًا يشبه نسيج فروة الرّأس متّصلًا به، تمتمتُ: “آخ…”، فسارع كاسيون إلى إغلاق الصّندوق.
“أولئك الأوغاد… هذا ليس مضحكًا على الإطلاق.”
نادِرًا ما يستخدم كاسيون ألفاظًا وضيعة أمامي، مراعاةً لنسبه وخلفيّته.
لكنّه بدا غاضبًا إلى درجة أنّه لم يُدرك أنّه شتم.
“لو لم تأتِ اليوم، لكنتُ قد اندفعتُ وركعتُ لحظة استلامي لهذا الصّندوق، دون انتظار للغد، وانخدعتُ بهذه الحيلة المكشوفة.”
“ما كنتَ لتفعل. أنت أذكى من ذلك.”
“لا، أسيليا. ما كنتُ لأصمد أكثر.”
جلس كاسيون بثقل، ووضع يده على عينيه.
بدا حزينًا إلى حدٍّ جعلني أسرع بإبعاد الصّندوق وربتتُ على ظهره.
كنتُ قد هدّأته تمامًا قبل أن يغادر، لكنّ ذلك الأمير الأوّل…
“في الحقيقة، لا يهمّني إن لم تتمكّن من الصّمود واستسلمتَ. ولأكون أكثر صراحة… لا يهمّني إن أصبح الأمير الأوّل إمبراطورًا أم الثاني.”
رفع كاسيون رأسه ونظر إليّ إثر تصريحي الصّادم.
لكن لم يكن في عينيه ذعرٌ ولا خيبة أمل.
“من البداية، كان هدفي الوحيد أن أتعاون معك لنعيش كالبشر. ولم أكن أُكنّ إعجابًا خاصًّا بجلالة الأمير الثّاني.”
أنا أعلم جيدًا أنّ مشاعره تجاهي لن تتغيّر حتّى لو قلتُ مثل هذه الأمور.
ما تزال دموعه السّابقة حاضرة في ذاكرتي.
“كلّ هذا من أجلك. لأنّك تريد أن تجعل الأمير الثّاني إمبراطورًا. سواء انتصرنا في الحرب أم لا، ومهما يكن من يصبح إمبراطورًا، لا يهمّني. ما دام كلانا بخير.”
“أسيليا…”
“طالما نحن سعيدان، فلن يهمّني أيّ شيء آخر.”
عانقتُ جسده بصمت، ذلك الجسد الذي بدا أصغر من المعتاد اليوم، وسمحتُ له أن يستند برأسه على كتفي.
من الغريب كم كان هذا مريحًا، رغم أنّه ما من شيء أكثر صلابة من هذا.
“لكن، للأسف، الرّجل الوحيد الذي يهمّني هو رجلٌ يريد الكثير من الأشياء إلى جانبي.”
وبينما كنتُ أمسح على ظهره العريض لأطمئنه، أحاطني بذراعيه من خصري.
كانت حركته يائسة أكثر منها لعوبًا، ما جعلني أشعر بالأسى من أجله.
“عليك أن تجعل صديقك، سموّ الأمير الثّاني، وليًّا للعهد، وتؤمّن سلامة الفرسان والخدم في الدّوقيّة… يا ترى، ماذا سأفعل برجلٍ عطوفٍ إلى هذه الدّرجة؟”
برغم مظهره البارد…
كان يجب أن أتوقّع هذا منه منذ أن علمتُ أنّه نقل فرسانه إلى القصر الإمبراطوريّ كي لا يسمعوا كلامًا سيّئًا.
لكنّني أحبّه هكذا، لطيفًا وحنونًا.
“لا… لا، أسيل. ليس بعد الآن. أنتِ كلّ ما أريده الآن. لا أريد الحرب، ولا رفاقي. أنتِ سبب وجودي الوحيد. لو حدث لكِ شيء…”
وكأنّه أراد نفي الأمر تمامًا، أخذ كاسيون يفرك وجهه بعنقي كطفل صغير،
فأمسكتُ وجهه بسرعة وأوقفتُه.
بشفتيّ، بالطّبع. وكان ذلك فعّالًا.
“هناك نوع من الاعتراف لا يعجبني، كما تعلمين.”
“…همم.”
أنت لست أحمقا أليس كذلك يا كاسيون؟ عليك أن تُنصت جيّدًا.
“عبارة ‘لا أستطيع العيش بدونك’… أكرهها فعلًا.”
“همم… ها؟”
عينا كاسيون المُذهلتان، اللّتان كانتا تحاولان – بشكل فطريّ تقريبًا – الاقتراب من شفتيّ، عاد إليهما الوضوح فجأة.
نعم، أنصت جيّدًا.
“أنا عمومًا أحبّ الأشخاص المستقلّين، سواء كانوا رجالًا أو نساءً. أولئك الذين يُحبّون، لكن لديهم حياتهم الخاصّة إلى جانبي. الأشخاص الأصحّاء نفسيًّا!”
“…هممم…”
“لأنّني أنا بالضّبط من هذا النّوع. امرأة تحبّ الكثيرين، لكن يمكنها الوقوف بمفردها إن حدث شيء! امرأة تتجاوز وتنجو دائمًا!”
وعندما نظرتُ إلى وجه كاسيون، استطعتُ أن أقرأ بوضوح ما كان يفكّر فيه.
كان يُحدّق بي بتعبير غامض، متردّدًا فيما إذا كان عليه التّراجع فورًا عن كلماته اليائسة،
لكنّ عينيه اتّسعتا مع كلامي المتواصل، ثمّ ارتسمت على شفتيه ابتسامة صغيرة.
“هل فهمت؟ سأكون حزينة جدًّا بدونك، لكنّني سأجد حياة جديدة. لن أموت بعدك، ولن أقضي عمري في الحزن.”
“يا إلهي… إذن يجب عليّ ألّا أموت بأيّ شكل.”
“هذا بالضّبط هو الموقف الذي أعنيه. وأنا أيضًا، لن أموت مهما حدث. قد أتأذّى قليلًا، لكنّني أستطيع تجاوز أيّ شيء. أليس هذا ما كنتُ عليه دومًا؟”
“لكنّني لا أريدك أن تتأذّي أيضًا.”
…لا حاجة لذكر الجروح الطّفيفة في الرّكبة، أليس كذلك؟
“في الوقت الحالي… تحمّل الأمر، رجاءً. لا أزال لا أملك الشّجاعة للعيش من دونك.
لكنّني لا أستطيع تحمّل رؤيتك مع رجل آخر أيضًا. سأبذل جهدي.”
“إن كنتَ فهمتَ، فلا تبدُ مكتئبًا هكذا! أنت لم تسمع إجابتي بعد، أليس كذلك؟”
“هذا يُقلقني. ظننتُ أنّني حصلتُ عليها بالفعل.”
“إجابتي يمكن أن تتغيّر في أيّ وقت حتّى نخرج من هنا، هل نسيت؟ كن حذرًا.”
وأخيرًا، عاد كاسيون إلى ملامحه المعتادة،
وذهب لغسل يديه ووجهه في الحوض المنصوب بأحد أركان الخيمة بعد أن دفعتُه من ظهره.
وبينما كان يُبدّل ثيابه إلى ملابس مريحة، أسرعتُ باعتلاء السّرير الضيّق والصلب في الخيمة واستلقيت.
“تعال إلى هنا. سأدعك تستخدم ذراعي كوسادة.”
“أسيل. لا أريد أن أستيقظ وأجد ذراعك تحوّلت إلى زرقاء.”
“لن تنام أكثر من ساعة أو ساعتين على أيّ حال، أليس كذلك؟ انظر إلى السّاعة.”
“لا. سأكون أنا الوسادة بدلًا منك.”
“لا يمكنني أن أسمح لنفسي بتخدير ذراعك. ستحتاج إلى التّلويح بالسّيف غدًا.”
استلقينا معًا بشكل طبيعي على السّرير الضيّق، نتجادل بينما تتشابك أذرعنا وأرجلنا.
ولم نتوقّف عن التّذمّر بشأن وضعيّتنا حتّى وجدنا طريقة غريبة لكن ثابتة للاستقرار.
وما إن أغمضنا أعيننا، حتّى سمعتُ ضحكة كاسيون الخافتة مرّة أخرى.
“أعلم أنّ وجهي جميل، لكن لا تفكّر في التّحديق كثيرًا، ونومي خفيف.
ستقوم بالاستسلام عند الفجر، صحيح؟”
“زوجتي ليست جميلة فحسب، بل ذكيّة أيضًا.”
أليس ذلك بديهيًّا؟
إن لم يكن العدو قد علم بعد بهروبي إلى هنا، فإنّ التّظاهر بالاستسلام لهجومٍ مفاجئ هو أفضل خيار.
حقيقةً، حتّى أنا التي لا تعرف شيئًا عن الخطط الحربيّة، استطعتُ توقّع ما سيحدث لاحقًا،
فشهقتُ ضاحكة وأغمضتُ عيني، ثمّ مددتُ يدي أتحسّس وجه كاسيون وأغلقتُ عينيه.
“نم، نم. لديك أيّام كثيرة للتّحديق في وجهي الجميل.”
“كم عددها؟ هل يمكنني التّمدّد إلى جانبك والنّظر إليه طيلة حياتي؟”
“هذا يعتمد عليك، أليس كذلك؟ لكن في الوقت الحالي، الأفضل أن تنام وتوقظني قبل أن تتسلّل للخروج صباح الغد، تذكّر ذلك.”
“لا بدّ أنّكِ مرهقة.”
“من؟ أنا؟ أم أنت؟ لمَ لا نستلقي وننام حتّى الظّهر؟”
شعرتُ بتقلّص ملامحه تحت راحتي، وهو يُحاول كبح ضحكته،
مما جعل شفتيّ ترتسمان بابتسامة صغيرة.
اللعنة، نحتاج إلى النّوم.
“أريد أن أراك تخدع الأمير الأوّل غدًا…”
“لا تفكّري حتّى بالاقتراب من هناك.”
“ومن قال إنّني ذاهبة؟ حقًّا… تثاؤب…”
أشعر بالنّعاس فعلًا الآن.
الأمير الأوّل في موقف ضعيف بالفعل من حيث العدد والكفاءة،
وإن تلقّى هجومًا مفاجئًا غدًا… حسنًا…
ليس غرورًا، لكن ألا يُفترض أن تنتهي الأمور بسهولة بهذا المعدّل؟
ألا يُفترض أن يُحسم كلّ شيء على الأقلّ بحلول الغد؟
“تصبح على خير، كاسيون.”
حين يعود منتصرًا، سأعانقه بالتّأكيد وأغمره بالقبل.
ثمّ سنعود إلى الدّوقيّة لنتفقّد لوران والبقيّة.
وبمجرّد أن يُحسم كلّ شيء، سنستخرج مكافأةً كبيرة من سموّ الأمير الثّاني ونحن نهنّئه…
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 10 - من الفصل الحادي والتسعين إلى المائة «النهاية». منذ 3 أيام
- 9 - من الفصل الحادي والثمانين إلى التسعين. منذ 3 أيام
- 8 - من الفصل الحادي والسبعين إلى الثمانين. منذ 3 أيام
- 7 - من الفصل الحادي والستين إلى السبعين. منذ 3 أيام
- 6 - من الفصل الحادي والخمسين إلى الستين. منذ 3 أيام
- 5 - من الفصل الحادي والأربعين إلى الخمسين. 2025-07-23
- 4 - الفصل الحادي والثلاثين إلى الأربعين. 2025-07-23
- 3 - من الفصل الحادي والعشرين إلى الثلاثين. 2025-07-23
- 2 - من الفصل الحادي عشر إلى العشرين. 2025-07-23
- 1 - من الفصل الأول إلى العاشر. 2025-07-23
التعليقات لهذا الفصل " 9"