7
61ⵌ
كراك—
“…!”
بغريزة فطرية، انخفضتُ بسرعة ما إن التقت نظراتي بأعين الفرسان، فاندفع سيف طويل في الهواء ليشقّ المكان الذي كان رأسي فيه قبل لحظة، ويغرس نفسه في خزانة الملابس بصوت مدوٍّ.
لو لامس النصل لوران، لصرخ على الفور، لكن يبدو أن الضربة أخطأته.
وللتحقّق، وللحصول على سلاح، اندفعت نحو الخزانة وانتزعت السيف بينما ضحكات السخرية تلاحقني من الخلف.
“ستستخدمين سيفي ضدي؟ هل تملكين حتى القدرة على رفعه؟”
وأنا أسحب النصل، لمحته… وجه لوران الشاحب يطلّ من خلال الفجوة الممزقة في الخزانة.
رمقته بنظرة حادة صريحة: اصمت وابقَ مختبئًا.
ثم التفتُّ إلى الفرسان، رافعة السيف من جديد لأقف أمام جينين.
“وزنه مناسب تمامًا لقطع رأسك بدقة.”
اتخذت وضعية ثابتة، مرجحة جسدي، وأمسكت السيف كما رأيت كاسيون يفعل مرارًا.
كان أثقل مما توقعت، لكن قبضتي لم تهتز.
لكن… هل أستطيع تسديد الضربة بسرعة كافية؟
“أصغي إليّ، يا دوقة.
دعينا لا نعقّد الأمر.
فقط سلّمي ذلك الرجل الذي تخفينه.”
“أ… أنتم تفعلون هذا مع علمكم أنني الدوقة؟!”
“ولهذا بالتحديد لا نقتلك حالًا.
سنفعل ذلك لاحقًا، بعد أن ننهي غايتنا.
لذا، اصبري.”
ارتعشت جينين من الرعب، وحاولت النهوض، لكن قدميها خذلتاها وسقطت ثانية.
بدا أن نظرات الفرسان نحوها تنضح بالاشمئزاز، كما لو أنهم سئموا خداعها.
“إياكم أن تلمسوها.”
شددت قبضتي على السيف، وخطوت بثبات إلى الأمام، مُعلنة بوضوح أنني الهدف.
“الرجل؟ لا أدري عمّن تتحدث.
جئت فقط لزيارة صديقة قديمة.”
“أيتها الدوقة، ألم أخبرك ألا تُصعّبي الأمور؟ أعجبني أنك أمسكتِ بالسيف، لكن هل سبق لكِ أن استخدمتِه؟ هل سبق أن رأيتِ دمًا يُراق؟”
يا للغباء.
النساء ينزفن دما، كل شهر.
لذلك يعرفن الدم جيدًا.
ربما أنا أكثر ألفة به منك.
“حسنًا إذًا، إليكِ الفرصة.
حاولي طعني.”
تقدّم أحدهم بثقة مفرطة، واقترب حتى وقف أمامي كمن يسخر من ضعف خصمه.
لم أشعر بالغضب، بل بالعكس، أدركت أنها فرصتي.
خفضت السيف قليلًا، وافتعلت ارتجافة خفيفة كما لو أنني عاجزة.
“كما توقعت، لا يمكنك–”
لكن حين انحنى ليتمعن في وجهي، متظاهراً بالاهتمام، باغتّه بضربة عنيفة بكل ما أوتيت من قوة.
لم أملك سوى فرصة واحدة… صوبت نحو عنقه.
“آغخ!!”
لكن رغم عنف الضربة، كانت بطيئة. بالكاد لامس السيف عنقه، وقبل أن يخترقه، قبض الرجل على النصل بيده.
“أيتها الـ… هيه! أنتم واقفين تتفرجون؟! آغ، أحضروا الضمادات!”
دفعني بغضب محاولًا انتزاع السيف، لكنني تمسكت به بيأس.
“اللعنة… ما أوقحكِ.
اختفي من أمامي!”
“آغ!!”
“دُوقة!!”
رغم فشلي في القتل، إلا أن الدم لا يزال يتدفق من رقبته، ووجهه يزداد شحوبًا.
حاولت إعادة الطعن، لكنه عاجلني بركلة مفاجئة في بطني أطاحت بي أرضًا.
“غخ…!”
لم تقتلني الركلة، لكن الألم اجتاحني حتى شعرت أن داخلي تمزق.
ومع ذلك، وبسبب جراحه، استطعت الحراك.
تدحرجت على الأرض، ونهضت بسرعة كدمية نابضة، وأمسكت بعصا الملابس التي سبق أن استخدمتها.
الألم لا يزال يعصف بي، لكن الأدرينالين أسكت كل شيء.
“تبًا لكِ، ألا تموتين؟!”
انقضضت عليه من جديد، مصوّبة على عنقه، بينما كان يضغط بعجالة على جرحه ليوقف النزيف.
لكن فارسًا آخر تدخّل، فعضضت شفتي غضبًا.
“…فرسان يتكاتفون على سيدة نبيلة؟ بل أنتم ثلاثة.”
“أين هي السيدة النبيلة؟ أرى فأرة شقراء وخنزيرة بشعر وردي.”
“سمعت أن الخنازير يجب أن تُهرب منها.”
“لكنها عندما تكون مشوية… تكون لذيذة.”
رغم محاولاتي، لم أتمكن من استعادة العصا من قبضته. فتركتها، ليضحك ويرميها بعيدًا.
الآن أنا بلا سلاح.
مجرد قبضتيّ العاريتين.
“كنت سأجعلكِ تموتين بلا ألم، لكنكِ تستحقين العقوبة.”
“لنبدأ بتشويه هذا الوجه الجميل.”
“هل أنتم فرسان إمبراطورية أم قطاع طرق؟”
ما هذا الانحطاط؟ تراجعت للخلف، لكنهم تقدّموا نحوي بخطى ضاغطة.
حاولت جينين التحرك، فلاحظ أحدهم ذلك وتوجّه إليها.
أما الذي واجهني، فكان من طعنته، ووجهه يشتعل حقدًا.
لكنه مصاب.
ما زال هناك أمل.
“سخافة…”
“اليوم سيفارق رأسك جسدك.”
اشتد غضبه حين وقفتُ في وضعية قتالية رغم خلو يديّ. ربما ظن أنني أستهزئ به.
“دوق الحرب اختار له شريكة مجنونة تناسبه.”
لكن عزيمتي، التي كانت صلبة كالفولاذ، تزلزلت عند سماع اسم كاسيون.
ماذا فعلوا به؟ هل عثروا عليه؟ لا… لا بد أنهم ضلوا طريقهم أثناء ملاحقتي… صحيح؟
“أنتما مجنونان تمامًا!”
“غخ…!”
وفي لحظة شرودي، باغتني الرجل وأمسك بعنقي.
حاولت الصراخ، عضضت يده، ضربته، لكنه لم يتراجع.
“حتى وجهك هذا… مغرٍ للركل، يا دوقة.”
“غخ… أنت…”
يا له من وقح.
بدلًا من محاولة تحرير رقبتي، استخدمت قبضته كدعامة، وركلته بكل ما أملك.
لم تصب الركلة وجهه، لكنها أفلتتني.
“آه… ها… جينين!!”
رأيت أحدهم يهمّ بذبح جينين، فصرخت.
“آه!”
اندفعت نحوه بلا تفكير، لكن الآخر أمسك بشعري.
لا سكين، لا وسيلة للخلاص.
“لا تنشغلي بغيركِ، دوقة.
ستموتان معًا.”
“أفلتني!”
“ما زال فيكِ قوة؟”
ركلته ثانية، لكن الألم في رأسي كان لا يُحتمل.
قبضته زادت ضيقًا، وجذبني نحوه وهو يزمجر:
“سنُعيد تهذيبكِ أولًا… ثم ستخبريننا بكل شيء.”
“…!”
صفعة—
دويّ مدوٍّ—!!!
أغمضتُ عيني.
صفعتني يده، لكن الصوت العالي الذي تلاها كان أقرب لانفجار.
تفتّحت عيناي، فرأيت الباب محطمًا… وكاسيون واقفًا هناك.
لقد جاء.
“أيها الحثالة…”
نادرًا ما يستخدم كاسيون ألفاظ السوقة.
لكنه حين نطق بها، كانت تليق به أكثر من أي وقت مضى.
“أبعدوا أيديكم القذرة عن أسيليا!”
رشق سيفه كالسهم، فاخترق جسد من كان يهدد جينين، ثم اندفع نحوي كالعاصفة، وغرس خنجره في معصم من كان يمسك بشعري.
“آآغ!!”
ضرب مباشرة على الأوتار.
أفلت الرجل رأسي فورًا، فاندفعت نحو جينين.
“أسيليا؟!”
“اقضِ عليهم، كاسيون!”
سحبت سيفه من جسد القتيل وعدت لأقف بجانبه، أنفاسي لاهثة، لكنني لم أتراجع.
“تراجعي.
سأهتم بالباقي.”
“أنا بارعة بالهرب، لكن أريد أن أضربه أنا أيضًا.”
“سأمسكه لكِ…”
“الزوجان… مجنونان!”
صرخ الفارس بشحوب، وقد نزف من رقبته مجددًا رغم الضمادات.
“جلالة الإمبراطورة سـ— غخ!”
انقض كاسيون بسرعة خاطفة، طاعنًا بطنه، ثم حرّك سيفه ليمزق أوتار ساقيه ويده الأخرى.
سقط الرجل أرضًا، كدمية قُطع خيطها، عاجزًا عن حتى الصراخ.
“هيا، أسيليا.
لم أقتله.
لديه بضع دقائق.
خذي حقكِ.”
“يا إلهي…”
كنت أتساءل كيف لا يزال حيًا… والآن فهمت السبب.
ابتسمتُ لتفهم كاسيون، ورفعت سيفه المغطى بالدماء، واقتربت من الرجل.
“لـ-لا… لا تقتربي!”
“ولكنني أرغب بذلك.”
غطّى ظلي جسده المرتجف، ثم دوّى صوت تمزق اللحم.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
62ⵌ
“سيدتي، تفضلي بالجلوس هنا.”
“أسيليا… هل أنتِ بخير؟ جسدكِ يرتجف بشدة.”
بعدما تم القضاء على جميع المهاجمين، خرج لوران أخيرًا من خزانة الملابس التي كان مختبئًا فيها، دون أن يلتفت إليه أحد.
سارعت جينين لالتقاط الكرسي المقلوب وأجلستني عليه، ثم اندفعت لإحضار لوازم الإسعاف.
أما كاسيون، فركع أمامي وأمسك بيدي المرتجفتين.
“كان عليّ أن أُجهز على الأخير بنفسي… تبًّا، وجهكِ متورم جدًا.
هل طبلة أذنكِ بخير؟ هل هناك أي إصابة أخرى؟”
“…”
“هم؟ أسيليا، رجاءً، أجيبيني.”
“…كاسيون.”
“أنا هنا، أسيليا.
بجانبكِ.”
كنت أرتجف بالكامل.
لم أستطع أن أشيح بنظري عن كاسيون، الذي ظل يكلّمني بلطف بينما يُمسك بيديّ المرتعشتين، ينقل إليّ دفء جسده.
كان قد لف قطعة قماش حول ساعده، لكنها لم تبدُ كإصابة خطيرة.
“…أنا آسفة… لأنني تركتك وحدك.”
رغم أن قراري كان عقلانيًا في حينه، إلا أن من تُرك خلفه قد لا يرى الأمر بنفس الطريقة.
ولم أستطع تجاهل شعوري بالذنب، وكان عليّ أن أعتذر.
لكن وجه كاسيون، الذي اقترب حتى صار عند قدميّ يصغي إليّ، انقبض بحزن.
“عن أي هراء تتحدثين؟ بفضل خروجك من هناك، تمكّنت من القضاء عليهم بسهولة.”
“لكنني، في النهاية، هربت وتركتك وحيدًا.”
“ما فعلتِه ليس هروبًا، أسيليا.
لا تُرهقي نفسكِ بمثل هذه الأفكار.
فقط أخبريني إن كنتِ مصابة.
تبدين وكأنكِ ستنهارين في أية لحظة.”
“أنا بخير جسديًا… فقط لم أعتد هذا النوع من القتال. التوتر لم يهدأ بعد، وسيتلاشى قريبًا.”
“لا تُصدّق ما تقوله الدوقة، سموّك.”
تدخلت جينين، التي عادت بسلة مليئة بالأعشاب ولفائف الشاش، فقطع حديثنا.
فتنهّد كاسيون وتراجع، تاركًا يديّ المرتجفتين.
في الحقيقة، كنت قد دفعت بنفسي إلى ما يفوق قدرتي.
كنت أعلم أني لم أكن مضطرة للتعامل مع آخر مهاجم، لكن قراري لم يكن نابعًا عن اندفاع لحظي.
لم أرد أن أظل عالة على كاسيون.
صحيح أنه بطل حرب، لكن لا ينبغي أن نعتبر الأمر مُسلّمًا به.
أردت مشاركته عبء المعركة، حتى وإن كان بهذه الصورة البسيطة… لكن شعور القتل الأول ظلّ يلتصق بأطراف أصابعي بثقل ولزوجة.
“هل تؤلمكِ يدكِ، سيدتي؟”
“لا…”
“ماذا تعنين بـ ‘لا’؟ يا إلهي، ما هذا؟ لا بد أنه نتج عن تحطّم القضيب المعدني.
تحمّلي قليلًا.”
كنت أحدّق في يديّ المرتجفتين، غارقة في استعادة الشعور الذي خلّفه اختراق النصل للجسد، حين اقتربت جينين، معتقدةً أنني أحدّق بهما بسبب الألم، وبدأت تفحصهما معي.
حاولت إخفاء يديّ، لكنها أمسكت بهما ورأت الشظايا الخشبية الدقيقة المغروسة في الجلد.
“…شكرًا لكِ لأنكِ وقفتِ إلى جانبي، سيدتي.”
همست جينين وهي تزيل الشظايا برفق، ثم سحقت بعض الأعشاب ووضعتها على الجروح ولفّت يديّ بعناية.
حولت بصري من الفراغ نحوها، وإذا بعينيها الزرقاوين وقد امتلأتا بالدموع وهي تقترب لتُعالج خديّ.
شعرت برعشة في يديها، وهي تضع الأعشاب بسخاء.
“هذا أقل ما يمكنني فعله.
لا يمكنني أن أترككِ، جينين.”
“لكن… لو أنكِ بقيتِ مختبئة، لكنتِ آمنة حتى وصول الدوق…”
لكنها كانت ستُغتصب وتُقتل.
“لا أستطيع العيش بهذه الطريقة، جينين.”
“سيدتي…”
وأخيرًا، انهمرت دموع جينين.
ومع ارتجافها وبكائها، بدأ رعشي أنا الآخر يتلاشى.
كم كنت خائفة أن تلقى حتفها كما في القصة الأصلية، وأن أكون أنا السبب. لكنها نجَت.
“لا تبكي.
هل انتهيتِ؟ يجب أن نُعالج ذراع كاسيون أيضًا…”
“عن ماذا تتحدثين؟ علينا فحص معدتكِ أولًا!”
“معدتي؟ لمَ… آه.”
نظرت دون وعي نحو كاسيون، وكان ذلك خطأ.
كان واقفًا، عاقد الذراعين، يرمقنا بنظرة صارمة تتوعدنا إن تكلّمنا بكلمة أخرى.
“هاها… جينين، لا بأس، الأمر بسيط…”
“لكنها تعرّضت لركلة عنيفة!”
“فوق أنكِ خرجتِ لمواجهتهم بدلاً من الاختباء، تعرضتِ أيضًا للضرب والصفع…”
تمتم كاسيون بعبارات مُفعمة بالتأنيب.
شعرت بقطرات العرق البارد تنزلق على عنقي.
لم أفعل شيئًا خاطئًا، فلماذا أشعر وكأنني أتلقى توبيخًا؟
“قلت إنني بخير! كـ-كاسيون، أنت تحتاج علاجًا أيضًا! ألم تُصب بذراعك في الصباح؟!”
أصابني الارتباك، فقفزت واقفة وسحبته نحو الكرسي.
لم يقاومني، لكنه أبقى نظرته القاسية ثابتة.
فككت القماش عن ذراعه، وكما توقعت، لم يُعالج الجرح جيدًا.
بدا أن النزيف قد أُوقف مؤقتًا فقط، بينما كان الجرح مفتوحًا ويعلوه تخثّر قاتم.
“سأُحضر ماءً.”
وقبل أن تتفوه جينين بكلمة، كنت قد انطلقت نحو المطبخ.
أحضرت قطعة قماش نظيفة وعدت، لأجدها واقفة قربه، تُعاين الجرح.
“…”
شعرت بشيء يعتصرني.
كان المشهد مألوفًا… البطلة تعالج جرح البطل.
كما في بداية القصة الأصلية. اللحظة التي وقع فيها كاسيون في حبها.
كلماتهم المتبادلة بدت كأنها تصدر من تحت الماء. وأعماقي التوت.
لماذا أشعر بهذا الانزعاج؟
“…سيدتي… سيدتي! سيدتي!”
“آه…”
“ما بكِ؟ لا بد أنكِ أرهقتِ نفسكِ كثيرًا.
دعيني أتولى الأمر، واذهبي لترتاحي…”
“أنا بخير، لا تقلقي.”
“…؟”
أجبتها بنبرة حادة دون قصد، ثم وضعت وعاء الماء بينهما بخشونة.
ودون تفكير، جلست بينهما.
حدقت جينين بي بعينين متسعتين وتراجعت خطوة.
“…تحمّل الألم إن شعرت به.”
انحنيت وبدأت بتنظيف الجرح بلطف، أحاول ألا أؤلمه.
ما الذي جرى لي؟ لماذا خاطبتها بذلك الأسلوب؟ يا للحرج…
“انتهيت.
الآن… امم.”
تبقّى وضع الأعشاب ولف الجرح.
هل أترك المجال لجينين؟ ربما كان الأفضل.
لكن أصابعي لامست السلة، وما إن التفتّ، حتى ابتسمت وقالت:
“هل أساعدك إن كان الأمر متعبًا عليكِ؟”
“…كلا، سأكمل بنفسي.”
“هذه الأعشاب مفيدة للجروح، استخدميها.”
“حسنًا… جينين، أعتذر على ما بدر مني.
كنت… متوترة.”
“لا داعي للاعتذار، سيدتي! لم أنزعج إطلاقًا!”
“لكن لم يكن يجدر بي التحدث هكذا.”
“رجاءً لا تعتذري.
الجميع يتوتر بعد ما مررنا به… ثم إنكِ أنقذتِ حياتي.”
“…وأنتِ كذلك، جينين.”
أدرت ظهري بسرعة وركّزت على تضميد ذراع كاسيون، أحاول إخفاء خجلي.
حتى في هذه اللحظة، كنت أشعر بالحرج من تصرفي الأناني حين أخذت السلة منها بدلًا من طلب مساعدتها… لكنها كانت لحظة لم أحتمل فيها رؤيتهما معًا.
كانت مشاعري متضاربة حتى طغت على مرارة القتل الأول.
أكره أن أفقد نفسي هكذا.
“عالجيني بسرعة، أسيليا.
الجرح سيلتئم على أي حال.”
كلماته فجّرت اضطرابي.
أمام هذا الرجل، الذي لم يبدُ عليه القلق رغم كل شيء، كنت أعالجه وأنا أتصرف بدافع غيرة صبيانية.
خرج صوتي حادًا دون أن أتحكم به:
“كفّ عن الكلام وابقَ ساكنًا.”
“…أنا آسف، لأنني لم أصل في وقت أبكر.”
مد يده الأخرى ليلامس خدي المتورم، لكنه فقط أزاح خصلات شعري.
وفي عينيه الحمراوين، رأيت ما يشبهني…
نظرة ارتباك، وندم، وكراهية للذات، وشفقة.
“لقد وصلت في الوقت المناسب.
شكرًا لك.”
“لا، كان عليّ أن أصل قبلهم… لأحميكِ من كل هذا…”
“قلت لك، لا تقل ذلك مجددًا.”
شددت لفّ الضماد.
لم يتأوه.
بل، وحين أصبحت يديه حرتين، احتضن خصري وسند رأسه إلى صدري كطفل خائف.
“كنت على وشك الجنون من القلق عليكِ… أنا آسف، أسيليا.”
“لا تعتذر.
أنا من هربت، أنا من يجب أن يعتذر.”
“كفى، أنتما الاثنان! أنا من عرض الدوقة للخطر حين جلبتها إلى منزلي.
أعتذر بشدة.”
كان كاسيون في حضني، يحتضنني كمن يبحث عن أمان، بعيدًا تمامًا عن صورة البطل الذي سحق العشرات من فرسان الإمبراطورة.
وبينما كنت أربّت شعره الفوضوي، نطق لوران، الذي ظل واقفًا كتمثال في الزاوية، وقد بدا عليه الخجل لأنه كان مختبئًا:
“ما هذا الجو الثقيل؟ هل هذه حفلة اعتذارات؟ لا أرى أن أيًّا منكم أخطأ! هاهاها!”
“…”
“…”
“…”
كان تغييره للجو، دراميًا تمامًا…
وبلا شك، ناجحًا.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
63ⵌ
“كيف عرفت أننا في منزل جينين؟ هل كنت تتعقّب أولئك الرجال؟”
رغم أن الليل كان قد بلغ منتهاه، لم يكن أحد منا نائمًا. لوران، وحده، بدأ يفقد تركيزه تدريجيًا بعد أن انحسر توتره، لكن كاسيون وجينين وأنا كنا في قمة التيقّظ.
“نعم، كنت أتتبع آثارهم محاولًا الوصول إليكِ.
ومع تقدّمي في الطريق، بدت الملامح مألوفة.
وما إن أدركت أن المسار يؤدي إلى قرية الفتاةالتي تدعمينها، تيقّنت أنكِ هنا.”
“ألم أقل لكِ، دوقتي؟ لقد أخبرتكِ أنه سيبحث عنكِ، ولن يعود بمفرده!”
صفّقت جينين بحماس عند سماع كلام كاسيون، وجهها تورّد، ليس خجلًا أو حبًّا، بل كمن يشاهد مشهدًا مؤثرًا من دراما رومانسية حية.
في تلك اللحظة، اجتاحني خجل عميق بسبب قسوتي السابقة عليها، خاصة أمام نظراتها النقيّة.
“ماذا؟ هل كنتِ تظنين أنني سأعود إلى العاصمة وحدي؟”
“أ-أعني… لم أستبعد الفكرة تمامًا.
لسنا على ذات الموجة دائمًا، فكيف لي أن أتوقّع؟”
“كنت أعلم أين ستكونين.”
“…”
لم أجد ما أقوله.
يبدو أن هذا الرباط بيننا يسير في اتجاهٍ واحد.
كاسيون يستطيع أن يقرأني، بينما أعجز أنا عن فهمه.
أشحت بوجهي خجلًا من هذا الواقع.
صرير الكرسي
“آه، ما بك؟!”
فجأة، سحب كاسيون كرسيه بصوتٍ حاد، كأنما همّ بمعاقبتي، فانتفضت غريزيًا، لكنه لم يفعل شيئًا سوى أنه تنهد بعمق، ثم أخذ المنشفة الدافئة التي كنت أضعها على خدي.
“بماذا كنتِ تفكرين؟ بدت وكأنها فقدت برودتها، فأردت فقط استبدالها.”
“أفزعتني! كان عليك أن تقول شيئًا أولًا.”
“التورم لم يتحسن رغم أن الكمادة ظلت لوقت طويل.”
لم أكن معتادة على ردات الفعل هذه… ربما بسبب آثار الهجوم.
حاولت أن أتماسك وأبدو واثقة، لكن كاسيون تجاهل كلماتي وأمسك بذقني بلطف يكاد لا يُلمس.
كانت لمسته رقيقة إلى حدٍّ جعل وجهي… وقلبي، يرتجفان.
“الورم ما زال كما هو، واللون بدأ يزداد قتامة.
في الصباح، سيصل إلى صدغيكِ وفككِ. ما العمل إذًا؟”
“إنها كدمة لا أكثر، ليس وكأن وجهي تحطم.
سيزول أثرها مع الوقت.”
“لا تقولي شيئًا مرعبًا كهذا، دوقتي!”
رغم لهجتي الهادئة، شهقت جينين بفزعٍ حقيقي.
أما كاسيون، الذي كان قد عاد بمنشفة جديدة مبللة بالماء البارد، رمقني بنظرة صارمة — لا شك أنه سمع كلامي.
“شكرًا، لكنني سأبقي الكمادة حتى تبرد، فلا حاجة لاستبدالها مجددًا.”
“ولكن…”
“دعونا نركّز الآن على ما ينبغي فعله لاحقًا.”
على عكس جينين التي كانت تتابعني بقلق ظاهر، جلس كاسيون بصمت، شفتيه مطبقتان، لكن من تعبيراته بدا أنه اتخذ قراره مسبقًا.
“…في الحقيقة، إن كنتِ قادرة، أظن أنه من الأفضل أن نغادر هذه الليلة بدلًا من قضاء الليل هنا.”
“الآن؟”
“بالطبع، إن كانت إصابتكِ بالغة، يمكننا تأجيل المغادرة للغد، لكن—”
“وأين هذه الإصابة البالغة؟ مجرد تورم بسيط في الخد. فكّري بها كما لو أنها بعد خلع ضرس، واستعدّ للمغادرة.”
“لكن دوقتي، بطنكِ أيضًا مصاب.”
“…جينين، لم يكن من الضروري أن تذكري ذلك.”
“البطن كان مزرقًا تمامًا.”
“جينين.”
“أسيليا.”
نطقتُ اسمها بنبرة تحذير، فسكتت فورًا.
ثم بادلني كاسيون النظرة، مانعًا أي اعتراض مني.
لم يكن في نيتي أن أتعرّض لأي أذى.
“صدقيني، بذلت ما في وسعي… لكن ما حدث كان خارج إرادتي.”
قلت ذلك وأنا أُربت على كتف لوران، الذي نام جالسًا، بينما كان كاسيون يفرك وجهه مرارًا بيده توترًا.
ثم اقترب، وصفع ظهر لوران بلطف لإيقاظه، ثم أعادني إلى مكاني لأجلس.
“…أنا آسف.
لقد صببت غضبي عليكِ، بينما كنت غاضبًا من نفسي.”
“إن كنت غاضبًا، فلْيكن غضبك موجّهًا إلى الإمبراطورة وفرسانها.
أنت من يستحق الإشادة، لا التأنيب.”
رأيت الظلمة تملأ عينيه، فمددت يدي لأربّت على شعره الأسود المتشابك من أثر الريح.
أغمض عينيه برهة، ثم أمسك يدي الملفوفة بالضماد، خفّضها، وطبع عليها قبلة.
[🫦🫦🫦🫦]
تجمدتُ في مكاني من دهشة ما فعل.
حينها فقط تذكّرت اعترافه غير المباشر، الذي طغت عليه فوضى الأحداث… لقد قال إنه يُحبني.
“سأتولى تجهيز كل شيء للرحيل.
خذي قسطًا من الراحة، وإن أردتِ، يمكنكِ أن تغفي قليلًا.”
استفقت من شرودي فجأة، وسحبت يدي بسرعة.
كان يُمسكها بلطف لا يُقيدني، لكنني شعرت باهتزاز داخلي… مجرد لمسة خفيفة من أطراف أصابعه اخترقت الضماد وأثّرت بي.
“سأذهب وأحضر ليونينا.
سيكون أسرع وأكثر أمانًا أن نركب ثلاثتنا على ظهرها بدلًا من امتطاء جوادين.”
“ماذا؟!”
هل وجهي احمرّ؟ هل احمرت أذناي؟ لم أستطع التوقف عن لمس أذنيّ عبثًا، بينما أطلقت جينين هذه القنبلة بابتسامة لا تُخفى.
في لحظة واحدة، تلاشى كل أثر لتفكيري باعتراف كاسيون.
“لا، لا يمكننا أن نأخذ ليونينا! إنها جزء من عائلتكِ، جينين! ماذا لو هاجمونا مجددًا؟ الأمر خطير جدًا.”
“لا بأس، أنا أثق بكِ… وبليونينا أيضًا.”
“لا تثقي! الموقف حرج للغاية! قد نُضطر إلى ترك حصان خلفنا لإنقاذ حياتنا!”
“إن تُركت، فستجد طريقها للعودة وحدها.
وإن اضطررتِ للتخلي عنها، فذلك لأن حياتكِ مهددة، وهذا ما يُهمني.
سيكون ذلك مؤلمًا، لكنني — وكذلك ليونينا — سنكون ممتنّتين.”
“لكن…”
“أرجوكِ، خذيها معكِ.”
لم أجد ردًا.
صرتُ عاجزة عن الكلام، وأنا من يُجيد الحديث في كل حين.
لكن هذا اليوم لم يكن كغيره.
كنت أعلم من الرواية الأصلية كم حزنت جينين على فقدان ليونينا في عاصفة المطر.
لم يكن سهلًا عليّ قبول هذا العرض.
“تلك الفرس التي شاركت في السباق؟ لم أرها في الإسطبل. أين هي؟”
“في نزل بقرية قريبة.
لن يستغرق إحضارها وقتًا طويلًا.”
“انتظري—”
“شكرًا لكِ، سمو الدوقة!”
“لا، لا! انتظري لحظة!”
“سأعود حالًا!”
“قلت لكِ انتظري!!”
صوت الباب يُغلق بعنف
غادرت جينين مبتسمة، وتركتني أكرر كلمة “لا” وكأنني لا أجيد سواها.
أما لوران، فقد تحرك قليلًا بفعل الضربة، ثم استدار كحشرة ملتفة وعاد للنوم.
“لا…”
تمتمتُ بها وأنا أنزل يدي المرتجفة، فجلس كاسيون بجواري، حيث كانت جينين قبل قليل.
“أسيليا، من الخطر أن نتحرك بعربة أو نركب جوادين مثل المرة السابقة.
إن كانت الفرس تتحمل ثلاث ركّاب، فذلك أفضل.”
“…أعتقد أنها تستطيع.
ليست المسافة بعيدة، وقد حملتني مع لوران وجينين.
ربما أنت أثقل قليلًا، لكن—”
“هذا جيد إذًا.”
“أنت خنزير؟”
“أن الفرس تتحمل ثلاثة!”
أدرت وجهي ساخطًة من أنه ورّط جينين وفرسها، لكنه تأفّف سريعًا وردّ، فوجدت نفسي رغم كل شيء أبتسم داخليًا من ردّة فعله.
“أعلم أنكِ تقدّرين جينين.
وإن لم تكن الظروف حرجة، فسنعيد الفرس سالمة، وسأعوّضها بما يليق.”
“وهو أقل ما يمكن.
لقد أنقذت حياتي.”
“وأنتِ أنقذتِ حياتها أيضًا، أليس كذلك؟”
“هل تريد تسويتها؟ هل نحسبها هكذا؟”
“ليس هذا ما أعنيه… أسيليا، لماذا تظلين تهاجمينني هكذا؟”
كنت أجادله لا عن قناعة، بل عن ارتباك.
قلبي ما زال في حالة من الارتجاف بسبب سكون الليل القاتل.
تنهد كاسيون، لكنه ظلّ يحدّق بي بعينين دافئتين.
“رغم ذلك… سماعك تمزحين يمنحني الطمأنينة.
لقد كنتُ قلقًا جدًا عليكِ، أسيليا.”
“…قلتَ هذا من قبل.
وأنا قلت إنني بخير، وشكرتك.”
“أنتِ متسامحة أكثر من اللازم.
كان عليكِ أن تغضبي، أن تسأليني لماذا تأخرت.”
“لقد قتلت شخصًا اليوم.
لا أظن أنني طيبة لهذه الدرجة.”
“صحيح… لم يكن عليكِ فعل ذلك.
إن كنتِ أردتِ، فلا بأس، لكنكِ لستِ من يفعل هذا عادة.”
“أردت فعلها.
كان انتقامًا.”
“أسيليا، أعلم أنكِ فعلتِ هذا لأجلي.”
…ولِمَ تكون بهذه الحدّة من الإدراك اليوم؟ فاتتني فرصة الإنكار، فصرت أعبث بحافة ثوبي.
“أعرف أنكِ لم تريدي تركي أواجه الأمر وحدي، لكن ما فعلتِه يمكن أن يُعتبر لاحقًا جريمة قتل لأحد فرسان الإمبراطورة.”
“لن يحدث ذلك.”
“صحيح. بعد المحاكمة، سيُعلَن الأمير الثاني وليًا للعهد، وهذا كله بفضلكِ.
لذا… أرجوكِ، لا تتورطي أكثر من هذا.”
“ماذا؟”
“حين نعود إلى قصر الدوق، التزمي غرفتكِ، أسيليا.
لم يعد مطلوبًا منك فعل شيء بعد الآن.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
64ⵌ
“أي هراء هذا…”
طَرق، طَرق—
“لقد عدت!”
كنت على وشك الرد على كلمات كاسيون حين عادت جينين.
ونظرًا لما كنا عليه من توتر بعد الهجوم الأخير، فقد طرقت الباب قبل دخولها.
ومع ذلك، ومع بساطة الطرق، ارتجفت أنا ولوران في مكاننا، وراقبنا كاسيون بنظرة مشحونة بالصمت والقلق.
كان الموقف محرجًا للغاية، خصوصًا أنني كنت على وشك الاعتراض على أوامره بالبقاء في قصر الدوق فقط، فتجنّبت النظر إليه وتقدّمت باتجاه جينين.
“جينين، لا يزال بإمكانك التراجع الآن.”
“سيدتي، استسلمي واتركي الأمر لليونينا.”
“ألا ترغبين في طلب أخير؟ أمر نحرص على تنفيذه؟”
“فقط عودوا سالمين… هذا كل ما أتمناه.”
رغم ابتسامتها الهادئة، كانت ملامحها تخفي توترًا واضحًا وقلقًا صامتًا.
بدت حاسمة في قرارها، لكنها لم تكن غافلة عن حقيقة أنها ترسل فرسها العزيزة — وابنة أسرتها — إلى مكان خطر.
كيف تبدي كل هذا التعاطف رغم أننا بالكاد تبادلنا الحديث عدة مرات؟ أهي طبيعة البطلة الأصلية التي اعتادت العطاء بلا شروط؟
“هل هي بالخارج؟ هل تناولت طعامها جيدًا؟ وشربت ما يكفي من الماء؟”
“نعم، يا سموّ الدوق.
بدت مرتاحة، وقد استراحت وأكلت جيدًا في النُزل.”
“جيد.”
أما كاسيون، فلم يُبدِ أي انفعال أمام رقة البطلة الأصلية، بل تجاوزها ببرود وتوجّه مباشرة لتفقد ليونينا.
شعرت بنوع من الغرابة وأنا أقود لوران للحاق به، والتقت عيناي بنظرات كاسيون، الذي كان يتظاهر بفحص الفرس بينما كان يراقب الباب مترقبًا خروجي.
وما إن التقت نظراتنا، حتى أشاح بعينيه فورًا، ووجّه كلامه إلى جينين.
“السرج مخصص لشخص واحد، صحيح؟ ربما من الأفضل خلعه إن كنا سنركب نحن الثلاثة.”
“صحيح، إنها مدربة جيدًا، ولن تكون هناك مشكلة، يا سموّك.”
“إذًا، فلننطلق فورًا.
أسيليا، من هذا الطريق.”
“لحظة. من الأفضل أن يكون لوران في المقدمة.”
دفعت لوران للأمام، وكان كاسيون على وشك مساعدتي في الصعود، لكنه وجد نفسه مجبرًا على مساعدة الفتى بدلًا عني.
ارتسم على وجهه تعبير منزعج لا يمكن تجاهله.
ومع ذلك، استند لوران إلى يد كاسيون وصعد إلى ظهر ليونينا بثقة ملفتة، دون أدنى تردد. يبدو أنه يملك من الجرأة ما يكفي ليجتاز المحاكمة أيضًا.
“أسيليا.”
وأخيرًا، جاء دوري. مدّ كاسيون يده إليّ مجددًا بعد أن مسحها على ملابسه.
رغم أنني أمسكت بهذه اليد مرارًا من قبل، إلا أنها بدت لي اليوم مختلفة، دافئة على نحو يوقظ القلب ويزرع فيه خفقًا غريبًا… رغم أن الظرف لا يحتمل هذا الشعور.
“…لست بحاجة لأن تساعدني بعد الآن.”
ورغم ما قلت، مددت يدي بعناد، وأمسكت بكفّه الدافئ العريض الذي أعرف ملمسه جيدًا، واعتليت ظهر الفرس.
رغم أن لوران جلس أمامي، لم أشعر بوجوده قط. ما شعرت به فقط هو يد كاسيون وهي ترتّب وضعيتي وتضبط ثوبي بعناية حتى لا ينكشف أثناء الحركة.
وفي ظلام الليل، كانت عيناه الحمراوان تتوهجان بلطف بالغ.
“هل أتحرّك قليلًا إلى الأمام؟ يبدو أن اللجام بعيد عن متناولي.”
“لا داعي لذلك. ابقي حيث تشعرين بالراحة.”
رغم أن جسد ليونينا الكبير يوفّر متّسعًا كافيًا، إلا أن الإمساك باللجام من هذا البعد قد لا يكون مريحًا.
حين هممت بالتقدم، وكدت أضغط على لوران من دون قصد، أوقفني كاسيون فجأة، وكأنه لم يرق له الأمر، ثم ركب خلفي بسرعة وخفة.
فورًا، تسارعت نبضاتي من دفء جسده الذي التصق بظهري، ومن شعور الأمان الذي غمرني فجأة.
“سيدتي، هذه قِربة ماء. ربما لن تحتاجي لطعام، لكن خذيها على الأقل…”
يا لجينين وتوقيتها المناسب! وددت أن أفتح القِربة فورًا وأرتشف منها لأهدئ عقلي المشتت.
“شكرًا لكِ. أرجو أن تبقي بأمان.”
“سنبقى، لا تقلقي. فقط لا تندهشي إذا وجدتِ ليونينا وقد زاد وزنها كثيرًا عندما تعودين إلى القصر!”
لم يستعجل كاسيون الرحيل، وأتاح لنا وقتًا كافيًا لوداع بعضنا البعض. مدتُ يدي، فقبضت جينين عليها بقوة، ثم أغمضت عينيها كأنها تهمس بدعاء، قبل أن تبتسم على كلمتي.
وحين رفعت رأسها، تلألأت عيناها الزرقاوان في الظلام. للحظة، رأيت فيها جمالًا يتجاوز المظهر… جمالًا إنسانيًا حقيقيًا.
“إلى اللقاء إذًا!”
لكن لم يكن هناك وقت إضافي للتأمل. آن أوان العودة إلى العاصمة.
—
“……”
“……”
“هاه، لمَ أشعر بالحر فجأة؟ أم أنني أتخيّل؟”
“…اصمت.”
تبدّلت الأجواء فجأة. وبينما اعتقدت أن التفكير مستحيل في خضم ما نواجهه، وجدت نفسي غارقة فيه بسبب ذلك المزعج الجالس بيننا.
كانت المسافة بيننا شبه معدومة. أجسادنا تلاصقت لدرجة أن ظهري التصق بصدر كاسيون دون فاصل يُذكر.
“حين نتجاوز هذا التل، سيصبح الطريق أكثر انفتاحًا. سنزيد السرعة هناك.”
“هل من الآمن فعلًا السير ليلًا؟”
“لا تقلقي، أسيليا.”
كلما تحدّث، شعرت بأنفاسه الدافئة تلامس شعري من أعلى، بل كدت أسمع خفق قلبه فوق رأسي. يا ترى، هل شعري له رائحة كريهة؟ سؤال سخيف، لكن لم أستطع تجاهله.
قبل أيام، كنا نمتطي الفرس سويًا في طريقنا لإنقاذ لوران، لكن الأجواء الآن مختلفة كليًا.
عضضت شفتَي بصمت، وأومأت فقط.
ما هذا التوتر الذي يخنقني؟ لم أعد قادرة على الاتكاء إلى الخلف كما في السابق. جلست مستقيمة، أحاول التحكم في تنفسي بصمت.
“…هاه.”
“…!”
ظننت أنني من تنهدت، لكن الصوت جاء من فوقي. نفس خافت، ثقيل، كأن صاحبه حاول كتمه طويلًا ثم أفلت منه دون قصد.
“هممم.”
سمعته يزيح حنجرته بصوت خافت، كمن شعر بالحرج من نفسه.
إذاً… هو أيضًا يشعر بالتوتر.
بهدوء، أرخيت جسدي واتكأت على ظهره. شعرت بجسده الصلب المتوتر، وبنبضات قلبه المتسارعة التي لا تناسب طبيعته الهادئة.
هل يُعقل أن أشعر بخفقان قلبه بهذا الوضوح؟ هل قلبه يكاد ينفجر؟
…هل يُحبّني إلى هذا الحد؟
“كاسيون.”
“نعم؟”
“قلتَ إن عليّ البقاء في قصر الدوق عند عودتنا، صحيح؟”
“…لا أعتقد أنني قلتها بتلك النبرة.”
كنتُ ممزقة بين التراجع والاستمرار. لكن كما يقولون، اللسان المنفلت يُغرق السفن. ولسوء حظي، لم أستطع التوقف.
“هل قلت ذلك لأنك… تُحبّني؟ وتخاف عليّ؟”
“…!”
“هاه!”
توقف كاسيون لوهلة وكاد يشد اللجام من الصدمة، بينما استدار لوران فجأة وهو يحبس أنفاسه.
أدرت وجهي بسرعة للأمام، ثم رمقته بنظرة صارمة.
أنت غير موجود من الآن. التزم الصمت.
“……”
“…ن-نعم.”
ويبدو أنه فهم الرسالة، فاستدار بهدوء، لكن أذنيه اللتين ارتفعتا فجأة دلّتا على أنه ما زال يُنصت.
كاسيون ظل صامتًا… جامدًا كالصخر.
“…أسيليا، هذا النوع من—”
“هل تُحبّني فعلًا؟ إلى هذا الحد؟”
قاطعته بصوت مباشر… وصادق.
رغم أنني غيّرت مجرى القصة الأصلية، لا زلت أذكر كيف كان ينظر إلى جينين وكأنها لا تساوي شيئًا في نظره.
لم يُظهر اهتمامًا بأي امرأة أخرى.
كل ما فعله هو تنفيذ واجباته كأحد رجال الأمير الثاني، والانشغال بشؤون تابعيه… لكن، منذ وقت ما، بدأتُ أراه يرمقني بتلك النظرات المرتبكة.
“……”
“كاسيون.”
“…حين اعترفت لكِ من قبل، تظاهرتِ بعدم الفهم. هذا… تصرّف جبان منكِ، أسيليا.”
حين أصررت عليه، خفَض رأسه قليلًا، وهمس في أذني بصوت مبحوح، أربك قلبي حتى الارتجاف.
“إذًا، لن تُجيب؟”
صحيح… لقد تجاهلت اعترافه حينها، وتذرّعت بالصداقة. والآن، أطلب منه إجابة أعرفها سلفًا. هذا جبن لا شك فيه.
لكنني أردت أن أسمعها… منه.
أردت أن أراه مرتبكًا، وأسمع صوته يقولها لي.
“…هاه، أسيليا.”
كنّا قد تجاوزنا الممر الجبلي، ووصلنا إلى الطريق المستوي المؤدي إلى أسوار العاصمة. حان الوقت لكي تنطلق ليونينا بأقصى سرعتها.
رفع كاسيون عينيه نحو القمر، تنفّس بعمق، ثم أمسك باللجام بعزم، وهمّ بالكلام.
“أنا…”
“احذر!”
استدرت نحوه مترقبة كلماته، لكنني لمحْت بريقًا خلف كتفه.
في اللحظة التي خفّف فيها حذره، جذبتُه ناحيتي واحتضنته، فمرّ سهم فوق رؤوسنا مباشرة.
“اللعنة، اهجموا!”
“لن تدخل العاصمة، أيها الدوق!”
كأنها محاولة أخيرة يائسة… تدفّق فرسان الإمبراطورة من كل اتجاه.
نعم… لقد كان خطأ فادحًا أن أخلق لحظة رومانسية في وقت كهذا.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
65ⵌ
“الجروح الطفيفة لا تُعدّ شيئًا، لذا لا تتردد… واهرب فورًا.”
لكن إلى أين؟ لا مأوى ولا مفر. الطريق المؤدي إلى العاصمة مكشوف تمامًا. حتى لو هبط إله الحرب بنفسه بدلًا من بطل المعارك، لما استطاع اجتيازه دون أن يُصاب.
“لا تحاول صدّ كل ضربة بدقة؛ فهذا سيبطئنا.”
عند قولي هذا، عضّ كاسيون شفته وهو يحدق في الأعداء بحدة. لقد فهم ما أعنيه.
في موقف كهذا، لا جدوى من التحايل. الحل هو أسلوب كاسيون المتقن: اقتحام مباشر. لكنه أسلوب لا يخلو من المخاطر، فالإصابات الطفيفة حتمية.
وثقت بأنه سيتولى التصدي للهجمات الكبرى، فاحتضنت لوران بجسدي، وانكمشت لأحميه قدر المستطاع.
“انطلق!”
راودني الفضول للحظة بشأن ملامح كاسيون وهو ينظر إليّ على وشك خوض اختراق جنوني، لكن قبل أن ألتفت، كانت ليونينا قد اندفعت.
رغم ضخامة جسدها، كانت سرعتها مرعبة. تراجع الأعداء في المقدمة بغريزة النجاة.
“ه-هاجموهم! الآن!”
لكن ترددهم شتّت صفوفهم. ارتبكوا أمام الحجم والسرعة، فتبعثرت تشكيلاتهم. عندها اندفع كاسيون بسيفه كظلٍ خاطف، يفتك بهم بسلاسة مميتة.
كان صوت تصادم المعادن قريبًا جدًا، حتى كدت أغمض عيني كما فعل لوران، لكنني تماسكت، وأخذت أراقب ما حولنا بيقظة.
“…!”
وخز مؤلم اجتاح كاحلي، فقد مرّ سيف بالقرب منه. نظرت بسرعة. لحسن الحظ، لم تصل الضربة إلى ليونينا. حاولت كتم الألم حتى لا يلاحظ كاسيون.
وبينما كنا فوق ظهور الخيل، توغلنا بسرعة إلى قلب صفوف العدو.
“أيها الحمقى! تظنون أن بوسعكم الهرب؟!”
“والآن صاروا يصرخون بلا احترام…”
“هذه نهايتكم! ستُدفنون هنا! أآغ!”
صوت صراخ عالٍ صدر من الخلف، تبعه أنين. هل رمى كاسيون سيفه؟ مستحيل، لم يكن يحمل سلاحًا غيره!
“أجل! هذا هو قبركم!”
“…!”
“هاه!!”
حتى كاسيون، الذي كان يُقاتل بجنون، توقف فجأة. رفعت رأسي لأرى خلف الأعداء وجوهًا مألوفة.
“كاسيون! إنهم فرسانك!”
“…أجل، إنهم كذلك.”
“كيف وصلوا إلى هنا؟ نحن بخير الآن!”
تبعثر العدو بفعل الهجوم المباغت من خلفهم. فرسان الدوق اقتحموا الساحة وأعادوا قلب الموازين. تنفّس كاسيون الصعداء، لكنه شدّ اللجام من جديد.
انكمشتُ واستعددت لاندفاعة أخرى.
هوووش—
“أسيليا… هل أصبتِ؟!”
“أنا بخير! واصل التقدم!”
مرّ سهم فوق رأسي عندما انحنيت، كاد قلبي ينخلع من مكانه. تماسكت وتظاهرت بالقوة، بينما ضغطت على لوران الذي بدأ يصدر شهقات مضطربة.
“أمسكوا بهم! اتركوا الباقين، فقط خذوا الدوق!”
حاولوا إعادة تنظيم صفوفهم بعد فوات الأوان. كنا قد اقتربنا من بوابة العاصمة، حيث وقف الحراس مذهولين.
“…ما هذا؟”
“احموا سموّ الدوق والدوقة!”
ظهر فرسان آخرون بزيّ أسود رسمي، يتقدمون لحمايتنا وإدخالنا إلى العاصمة. تجمدت في مكاني — هل هذا كمين جديد؟
“لا تقلقي، أسيليا. إنهم فرسان الأمير الثاني.”
لاحظ كاسيون ترددي فأوضح بنبرة هادئة. آه، لقد أرسل رسولًا سابقًا ليبلغ الأمير بنيته العودة ومعه لوران.
“من هنا! الطريق آمن!”
وراءنا، كانت أصوات القتال والصرخات لا تزال تُدوّي، لكننا كنا قد دخلنا المدينة.
لم يبقَ الكثير حتى نصل إلى الحي التجاري، لكنني خشيت أن نثير الانتباه هناك. في تلك اللحظة، أشار قائد الفرسان إلى ممر جانبي.
“أعرف الطريق. فقط غطّوا خلفنا.”
“لا تقلق!”
ورغم أننا داخل العاصمة، لا تزال السهام تتطاير من بعيد، لكنها لم تعد تصل إلينا.
عندما أعطى كاسيون أمره، حتى الفارس الذي كان يقودنا عاد إلى المعركة.
“هل تعرف الطريق؟ هل هو ممر مباشر إلى القصر؟”
“أيعقل أن أجهل طريقي إلى منزلي؟”
“قالوا إن الطريق خالٍ، لذا لا ينبغي أن نصادف أحدًا… ومع ذلك، سأغطي وجهي تحسبًا.”
هذا ليس وقت ظهور إشاعات مثل: “عاد الدوق والدوقة من شهر العسل وهما في حالة يرثى لها.”
ورغم توقف المطاردة، انكمشت ثانية وأخفيت وجهي. لكن فجأة، استقام كاسيون في جلسته، ما جعلني أرفع رأسي بدهشة.
“لا تفعلي هذا. ارتدي هذا على رأسك.”
خلع رداءه الخارجي ووضعه برفق على رأسي، ثم جذبني إليه.
“ملابسي… لم يبقَ منها شيء سليم.”
“…هل لها رائحة؟ آسفة، فقط تحمليها قليلًا، أسيليا.”
“أنا أيضًا لست بأفضل حال… لكنني قلقة عليك. إن كانت ملابسك بهذا الشكل، فكيف هو جسدك؟”
كنت أتكلم بصدق. الرداء الممزق الذي ألقاه عليّ كان مليئًا بالثقوب، ما دلّ على حجم الخطر الذي واجهه وهو يحمينا.
“عندما نعود، سأفحصك من رأسك حتى قدميك.”
“بل هذا دوري. لا تفكّري بإخفاء أي إصابة، أسيليا.”
“في الحقيقة… أنا مصابة أيضًا. الجرح الذي خلّفه السهم لا يزال يؤلمني. هل يمكنك إلقاء نظرة؟ الطبيب في القصر، صحيح؟”
“بل طبيب بارع للغاية.”
لكن بما أنه طبيب واحد، فسأجعل كاسيون يُفحص أولًا، ثم أنا، وأخيرًا لوران. هذا هو الترتيب العادل بناءً على حدة الإصابات.
“لقد وصلنا! هذا هو قصر الدوق!”
وصلنا سريعًا بفضل الطريق المختصر. ورغم أننا في الجهة الخلفية من القصر، عرفت المكان فورًا.
صفّقت بحماس وأنا أربت على صدر كاسيون، لكنه بدا مثقلًا بالهم رغم وصوله.
“…لا أعلم بماذا أبدأ.”
“ماذا؟”
“قلت إنني أستطيع حمايتك وحدي، لكن أول شيء نفعله عند العودة… هو أن نذهب بك إلى الطبيب، تمامًا كما قالت هي يومها.”
“آه…”
عندها فقط تذكرت التوتر الصامت بين كاسيون وطبيبة القصر حين غادرنا. وبما أنها من النوع الذي يعيش بقلب مكشوف، فلا شك أنها ستتفنن في إلقاء اللوم. يجب أن أكون إلى جانب كاسيون.
“لا تؤنب نفسك. لقد كنت درعنا الحقيقي.”
“…تقولين هذا لأنك لا ترين نفسك، أسيليا.”
“طالما أننا عدنا أحياء وبأطراف سليمة، فهذا أكثر من كافٍ! في موقف كهذا، حتى إله الحرب نفسه لن يخرج دون خدش.”
“إذن، لعلّ عليّ أن أتجاوز مقام ملك الحرب.”
“كفى حديثًا دراميًا! هيا بنا… آه، هناك من يخرج!”
ظننت أن كل الفرسان خرجوا، لكن يبدو أن بعض المسؤولين ظلوا لحماية القصر.
“سيدي الدوق! سيدتي!”
ناداني ميسي، الذي لم أره منذ مدة، بصوتٍ عالٍ، فابتسمت ولوّحت له.
“الحمد لله على عودتكم… آه…”
“…”
“شكراً…يا ألهي… “
“…كفى نحيبا، اعتنوا بالفرس واستدعوا الطبيب فورًا.”
رغم محاولتي الابتسام، تجهمت وجوههم تدريجيًا. وعندما أزلت رداء كاسيون، بدأوا يتلعثمون.
“سيدتي… نصف وجهك لا يزال منتفخًا وأسود اللون.”
أملت رأسي بتعجب، فاقترب لوران وهمس لي:
…صحيح. وجهي الآن كفطيرة مضروبة. آمل أن بيا لا تراني.
“مرحبًا بعودتكم. من مظهركم… يبدو أنكم مررتم بظروف عصيبة.”
كنت آمل أن تتأخر بيا حتى أجد شيئًا أغطي به وجهي… لكن الذي فتح الباب لم يكن بيا.
“سمو الأمير!”
شخص بمقامه لا يُقال له “من تظن نفسك لتتصرّف كأنك صاحب القصر؟”
لكن كاسيون بدا وكأنه كان يتوقع ظهوره، فاكتفى بتحية مختصرة.
“لأهمية الأمر، رغبت أن نتحاور فور وصولكم… لكن العلاج أولًا.
تفضّلوا بالدخول.”
“لكن يمكننا التحدث أثناء العلاج، أليس كذلك؟!”
لم أرَ سببًا للتأجيل. أردت تقديم لوران فورًا، فهتفت بحماسة، لكن الأمير الثاني حدق بي من رأسي حتى أخمص قدميّ، ثم ابتسم بمشقة:
“سيدتي… لا أريد أن أموت الآن.”
…ما الذي يعنيه؟! هل تعرّض القصر لهجوم أيضًا؟!
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
66ⵌ
“ك… كفى.”
أترى أن ساحة المعركة تُقاس فقط بمكان تبادل الضربات؟ ما يحدث هنا لا يختلف عن ميدان قتال حقيقي. وتحت وقع الضجيج المتواصل، وصرخات الجميع التي تتداخل من حولي، غطّيت أذنيّ بكلتا يدي وانكمشت في مكاني.
“هُهُهُه… وجه مولاتي…!”
“جلالتك، ما الذي فعلته بحق السماء؟ قلت إنك ستبقي الدوقة بأمان على الأقل، فانظر إلى حالها الآن!”
“أين أذهب؟ هل أصبح المكان آمنًا الآن؟”
“هل أصبتِ؟ هل الأمر خطير؟ انظري إلى قدميكِ… الدم يسيل من تحت فستانك!”
بمجرّد أن رأتني بيا وأنا أتحرّك باتجاه العلاج، انفجرت في البكاء قبل أن تنطق بكلمة، في حين كان الخادم بيرت ينهال عليّ بتوبيخ متواصل، كأنه لا يحتاج أن يتنفّس حتى.
لوران، الذي بدا غير مدرك لما يحدث، ظلّ يتبعني دون وعي، وكاسيون… حسنًا، لم أتوقّع يومًا أن يتخلى عني أو يبتعد.
“توقّفوا جميعًا! أذناي توشك أن تنفجرا!”
حتى خلال الرحلة الخطرة حين أعدنا لوران، لم أرفع صوتي. ولكن عندما رأيت الطبيب يقترب بأدواته، يتنهّد بيأس وكأن ما يراه أمامه ميؤوس منه، لم أتمالك نفسي. وبمجرد أن صرخت، ساد صمت تام كأنما أُلقي على المكان تعويذة.
“أليس لكل واحد منكم ما يشغله؟ لماذا تلتفون حول مصابة بهذا الشكل؟”
“أسيليا… أنا فقط قلق عليكِ.”
“أقدّر مشاعركم، لكن القلق وحده لا يشفي الجراح، والضغط يزيد الوضع سوءًا، كاسيون.”
رأيت الذهول في عيني كاسيون، وشعرت ببعض التأنيب، لكن ما قلته كان حقيقيًا. ربما تحمّلت الرحلة بإرادتي وحدها، لكن بعد أن وصلنا إلى قصر الدوق، لم يعد هناك داعٍ لأن أُرهق نفسي أكثر.
كل ما أريده الآن هو علاج هادئ وقسط من الراحة.
“الجميع، غادروا الغرفة من فضلكم. لا حاجة لوجود أحد سوى الطبيب. بيا، لا داعي لتصفيف الشعر الآن، توقّفي عن البكاء وعودي إلى عملك. أيها الخادم، أرجوك أرشد لوران إلى غرفته.”
كأنهم كانوا على وشك الاعتراض، لكنني قطعت عليهم الطريق على الفور.
ولحسن الحظ، أسرع الخادم البصير بإسكات بيا التي كادت تنفجر بالبكاء مجددًا، وغادر الغرفة ممسكًا بذراع لوران. أصبح المكان أهدأ فجأة.
“أنا آسفة إن بدا كلامي قاسيًا، كاسيون. لكنك تعلم أنني لا أضع اللوم عليك، صحيح؟ لا تبقَ هنا، اذهب وتحدث مع سمو الأمير الثاني.”
“…أتحاولين إبعادي لتُخفي إصاباتكِ؟”
“أنا لا أُحب الألم، ولا أنوي التظاهر بالصبر أو إخفاء شيء. نحن في مأمن الآن، فلا تقلق. وإن أردت، يمكنك أن تسأل الطبيب لاحقًا.”
“سأسأله بالتأكيد، أسيليا.”
حين رأيت لمحة الذنب على وجهه، أسرعت لتهدئته. ما العمل مع هذا القلب الطيّب؟ رغم هيئته الخشنة، قلبه لين كقلب طفل.
“افعل ذلك. لكن تذكّر… الكلام نفسه ينطبق عليك.”
“عليّ أنا؟”
“هل أنا الوحيدة المصابة؟ لا تُخفِ عني شيئًا، أخبرني بكل ما أصابك.”
“هذه مجرد خدوش لا تُذكر… لا، فهمت، حسنًا.”
حين رمقته بنظرة تحذيرية وهو يتهاون في أمر إصاباته، بدّل رأيه فورًا. لا يبدو أنه يعاني شيئًا خطيرًا سوى إصابة ذراعه التي تلقاها في الغابة، لكن لا بأس بالتحقّق.
“هل يمكنني البدء بالعلاج الآن؟”
اقتربت الطبيبة أخيرًا، التي كانت تراقبنا عن بُعد طيلة هذه الفوضى، وهي تحمل الأدوية والضمادات، وسألت بصوت هادئ.
وكما كان متوقعًا منها، فقد بدت غير متأثرة بمظهري، كل ما في الأمر أنها تريد إنجاز مهمّتها بأسرع ما يمكن.
“إذا أردتِ فحصًا شاملاً، فستحتاجين إلى خلع معظم ملابسك الخارجية. لذا أعلميني مسبقًا إن كنتِ ستخجلين مجددًا.”
هذه المرّة على الأقل منحتني تحذيرًا بدلًا من التصرّف مباشرة، وهو أفضل ما يمكن توقعه منها. وبمجرّد أن أنهت كلامها، استدار كاسيون متجهًا نحو الباب.
“سأنتظرك في غرفة الاستقبال. تعالي بعد العلاج، أو خذي قسطًا من الراحة إن احتجتِ.”
“سآتي.”
تردّد حين طلبت منه المغادرة، لكنه غادر بسرعة جنونية فور سماعه عبارة “خلع الملابس”، حتى أنني شككت إن كان سمع كلمتي الأخيرة.
“حسنًا، سيدتي. هيا بنا… لنبدأ بإزالة كل شيء.”
لماذا يُشبه هذا الأمر تحقيقًا أكثر من كونه علاجًا؟
—
طرق، طرق—
“أسيليا! أتيتِ مباشرة بعد العلاج؟”
بمجرّد أن طرقت باب غرفة الاستقبال، بعد أن أنهيت علاجي وغسلت آثار المعركة، فُتح الباب على الفور. كيف عرف أنني أنا؟ بل، هل كان واقفًا خلف الباب طوال الوقت؟
“هل كنتم منشغلين بحديث؟”
“نعم، لكن… لقد شرحتُ أهم النقاط. أعتقد أنه من الأفضل أن تستريحي الآن.”
تفحّصني كاسيون بعينين قَلِقتين، ثم عضّ على شفتيه ومنعني من الدخول. الأمير الثاني، الذي كان جالسًا على الطاولة، اقترب أيضًا، وحين رأى حالتي، أطلق تنهيدة طويلة.
“نعم. سأطّلع على الأمور العاجلة من كاسيون، لذا عودي إلى غرفتك يا دوقة. مظهركِ لا يبشّر بخير.”
“يبدو الأمر أسوأ مما هو عليه في الواقع.”
بصراحة، حتى في مقام استقبالي لأمير، كان مظهري صادمًا بالفعل.
الضمادات التي غطّت مواضع مختلفة من جسدي، والفستان الفضفاض الذي فُضّل اختياره كي لا يحتك بالجراح، جعلا شكلي أقرب إلى ثوب نوم مهترئ.
ومع الجروح الصغيرة على راحتيّ، والكدمات حول رقبتي، والضمادات الملفوفة حول وجهي، كنت أشبه بمومياء تمشي.
“لقد قاموا بلف الضمادات على كل شيء، حتى الجروح الطفيفة، من باب الحيطة. كاسيون، تنحَّ جانبًا. بعد كل ما حدث، هل يُعقل أن تواصلوا الحديث من دوني؟”
كاسيون بدا وكأنه لن يتحرك، لكن حين دفعته بيدي الملفوفة، تفاجأ وتراجع، فاغتنمت اللحظة وتسللت للداخل. أطلق كلا الرجلين تنهيدة طويلة، في انسجام تام.
“يمكننا إنهاء هذا بسرعة. إلى أي نقطة وصلتم؟”
“…تنهد. فقط تأكدنا من هوية لوران، واستعرضنا الهجمات التي وقعت حتى الآن.”
“جيّد. لم تشرعوا بعد في وضع الخطة القادمة، صحيح؟”
كنت أظن أن الحديث قد بلغ شوطًا كبيرًا خلال فترة علاجي الطويلة، لكن يبدو أنني وصلت في الوقت المثالي.
رغم الإرهاق، قبضت على يدي بحماسة، فتنهّد كاسيون مجددًا، وأمال الأمير الثاني رأسه بهدوء.
“في الواقع، أظن أن زوجتك بحاجة إلى الراحة، لذا سأدخل في صلب الموضوع مباشرة.”
“عذرًا؟”
هل يوجد موضوع محدد أصلًا؟ ألم نكن على وشك وضع الخطة الآن؟
“لقد بدأتُ التحضيرات للمحاكمة بالفعل.”
“ماذا؟!”
لم أصدّق أذني. التفتُّ نحو كاسيون الذي هزّ رأسه بسرعة، مشيرًا إلى أنه لم يكن طرفًا في ذلك.
ما الذي يجري؟ لماذا تسارعت الأمور فجأة بهذا الشكل؟
“طالما أن هوية لوران باتت مؤكدة، فإن تأخير المحاكمة لن يجلب إلا مزيدًا من الهجمات والافتراءات. لذا، شرعت بالتحضير فور علمي بما جرى لكم.”
“ولكن… ماذا إن كنّا مخطئين بشأن لوران؟ أو حتى إن كان الشخص الصحيح، فقد لا يكون والد الأمير الأول البيولوجي! أليس هذا تصرفًا متهورًا؟”
“مجرد تحرّك الجنود الخاصين للإمبراطورة يُعد اعترافًا ضمنيًا بالحقيقة. ما يهم الآن هو كيفية استغلال ذلك. لا تقولي لي، يا دوقة، أنكِ تشكّين بالمعلومات التي قدّمتِها.”
رغم أن صوته لطيف، فإن سؤاله كان حادًا كالسيف.
وأنا، التي أعرف الحقيقة الأصلية، واثقة تمامًا أن الأمير الأول ليس ابن الإمبراطور، وأن لوران هو والده الحقيقي.
لكن، مثل أي إنسان، شعرت ببرهة من التردّد، فتقدّم كاسيون ووقف أمامي.
“نحن على يقين. وقد قلت لك من قبل، إن حدث أي خطأ، فسأتحمّل المسؤولية كاملة.”
بحجبه نظرات الأمير عني، خفّ التوتر الذي شعرت به، وتمكنت من التنفّس مجددًا.
“هي مرهقة ومصابة. أرجو ألا تثقل عليها، سموّك.”
رغم أن نبرته لم تكن معتادة حين يُخاطَب بها أمير، شعرت بالطمأنينة، فمددت يدي وأمسكت بيده من الخلف.
التفت إليّ بدهشة، فابتسمت له، ثم وجّهت نظري نحو الأمير.
“وأنا واثقة كذلك. طالما أن لوران سيُدلي بشهادته كما يجب، لن تكون هناك أي مشكلات.”
صمت الأمير لحظة وهو يراقبنا، ثم ابتسم بلطف، وتلاشى التوتر من الأجواء فجأة.
رغم عفويته التي يشتهر بها، فإن تصميمه على خلع من ظنّه شقيقه من ولاية العهد يمنحه كاريزما لا تشبه كاسيون أبدًا.
“أشعر وكأنني أقوم بدور الشرير. أعتذر… فالمسألة حسّاسة للغاية.”
ومع ذلك، كان يتمتع بمرونة تكفي لأن يعتذر دون أن يُفكّر في مكانته. وإن أصبح هذا الرجل إمبراطورًا، فلا شك أن المملكة ستشهد ازدهارًا.
صحيح أنني في البداية كنت أفكّر فقط في النجاة من القصة الأصلية، ومساندة الأمير الثاني لضمان سلامتي، لكنني الآن أدركت لماذا اختاره كاسيون.
كما أدركت كم كانت خطتي ساذجة ومتعجّلة… لكن، لم يعد بالإمكان التراجع.
“إذاً، لم يتبقَ سوى الاستعداد للمحاكمة.”
“سنبدأ تدريب لوران اعتبارًا من الغد.”
ما مضى لا يمكن تغييره.
وكما تغيّر مصير كاسيون وجينين وأنا عن النسخة الأصلية… فسنشقّ دربنا بأيدينا.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
67ⵌ
“……”
“……”
ما إن انتهى الاجتماع القصير، حتى ودّعنا الأمير الثاني العائد إلى القصر، واستقبلنا بقية الفرسان الذين عادوا سالمين، ثم تفرّق الجميع، وبقينا أنا وكاسيون وحدنا نسير في الممر الطويل للقصر.
ورغم أن الممر بدا مألوفًا، إلا أن التوتر العالق بيننا جعله غريبًا على نحوٍ غير مريح.
“سأمر على لوران لأطمئن عليه للمرة الأخيرة قبل أن أذهب إلى غرفتي. سأبلغه أيضًا أننا سنبدأ تدريبات المحاكمة الصورية ابتداءً من الغد.”
اضطررت إلى كسر الصمت الخانق بنفسي. سمعت أن لوران استحمّ ونام بينما كنتُ أتلقى العلاج، ولم يكن هناك أي صوت يصدر من غرفته.
“…كاسيون؟”
لم أكن أنوي اقتحام غرفته دون مراعاة، خاصة وأنه شديد الحساسية ويبكي بسهولة. لكنني لم أرد أن أبدو كمن يتجاهله أيضًا. وبينما كنت أمدّ يدي لأطرق الباب، أمسك كاسيون بيدي بلطف.
وحين شعرت بلمسته التي باتت أكثر تحفظًا في الآونة الأخيرة، سرعان ما أفلتها كأنما حقق غايته منها.
“لا تستخدمي يديكِ، أسيليا.”
“ماذا؟ الأمر ليس بهذا السوء… أستطيع الإمساك بمقبض الباب على الأقل. هذه مجرد جراح طفيفة.”
الضمادات التي غطّت يديّ كانت مبالغة بالفعل.
كانت إصابة سطحية من ضربة بعصا الخزانة في منزل جينين، لكن الطبيب أصر على لفها بالكامل بحجة الوقاية، بينما نظر إليّ بريبة وكأن شخصيتي محل تساؤل.
“الجميع بات يشك بي فجأة، سأخلعها فحسب…”
“لا.”
كيف يطلب مني ألا أستخدم يدي مطلقًا، وهي من أساسيات الحياة اليومية؟ قطّبت جبيني وبدأت بنزع الضمادة، لكنه لفّ كفه الكبيرة حول يدي برفق.
فوجدنا أنفسنا واقفين أمام غرفة لوران، ويديّ محتجزتان بين يديه، كأننا طفلان يلعبان، وساد التوتر من جديد.
آه… هذا الجو لا يعجبني. قلبي مضطرب.
“آه، لن أطرق الباب إذًا، فقط دعني وشأني. إن أردت، اطرقْه أنت.”
في الحقيقة، لم يكن يقبض على يدي بشدة، بل كان يلمسها بخفة، وكان بوسعي سحبها متى شئت. لكن لسببٍ غامض، لم أرغب بأن أكون أنا من يقطع هذا التواصل أولًا.
ولحسن الحظ، ما إن تحدّثت، حتى أرخى يديّ. لكنه مرّر أصابعه على الضمادة قبل أن يتركها، ليرتجف قلبي من تلك اللمسة العابرة.
“لا حاجة لطرق الباب، ولا داعي لإبلاغ لوران. سأقوم بذلك بدلًا عنكِ. اذهبي إلى غرفتك وارتاحي.”
“ماذا؟”
“قلتُ لكِ من قبل، لم يعد عليكِ أن تنغمسي في هذه الأمور بعد الآن.”
بصراحة، لم أكن أمانع أن ينقل هو الرسالة. كما قال، أنا بالفعل مرهقة وأرغب في الراحة.
لكن كلماته لم تكن تشير إلى هذه الحالة تحديدًا. أثارت فيّ شيئًا دفعني للتساؤل، وذكّرني بما نُسِي.
فانفرط التوتر الذي تمسكنا به طوال الوقت، وانفتح فمي لا إراديًا.
“آه~ تقصد ذاك الحديث عن بقائي في قصر الدوق دون أن أفعل شيئًا؟”
“المعنى قريب، وإن اختلفت الصياغة.”
كاسيون بدا مصرًّا هذه المرة. رفعت ذقني واقتربت من وجهه كأننا في نزال، لكنه لم يبدِ أي تراجع.
“سألتك من قبل، أليس كذلك؟ إن كنت تحبني فعلًا.”
كان سؤالًا لم أظفر بإجابة عليه بسبب الهجوم، لكنه لم يكن سؤالًا بقدر ما كان محاولة لتحويل دفة الحديث لصالحـي.
لكن يبدو أنني أخطأت حين ظننت أن كاسيون لا يزال ذلك البريء الساذج.
“…كاسيون؟”
“……”
“…آه…”
لم يجبني. عوضًا عن ذلك، اقتربت عيناه الحمراوان مني ببطء، نظراته غائرة لدرجة جعلتني أتوهم اقترابه.
ثم أدركت الحقيقة… لقد كان يتقدم بالفعل، وكأنه يوشك على تقبيل وجهي الذي كنت قد قربته بلا تفكير.
الزمن بدا وكأنه يسير ببطء.
قبلة؟ هل سيفعلها؟ كاسيون… يقبّلني؟
“…أسيليا.”
“…!”
دون وعي، كنت قد أغمضتُ عيني، وحين سمعت صوته المنخفض قرب أذني، فتحتها بوسعي. كان قريبًا جدًا، كتفه أمامي، وجسدي تجمّد، لكنه لم يبتعد، بل همس:
“أنتِ تعرفين إجابتي.”
“……”
“إن كنتِ ستتجمّدين هكذا، فلا تثيريني. أنا لا أجيد هذه الأمور… لكنكِ حين تتصرفين هكذا، كأنكِ تقولين لي أن الاقتراب منكِ مسموح.”
“……”
لم أعد أفهم ماذا يقصد. هل بدا لي كاسيون يومًا بهذه القوة؟ لا… ليس تهديدًا، لكن هذه الهيبة الجديدة منه أربكتني.
قبلة.
“…!!”
في خضم ارتباكي، ويدي القابضتين على طرف فستاني، أمسك بهما، واعتدل، ثم طبع قبلة خفيفة على جانب رأسي.
“نامي الآن، أسيليا.”
“……”
ابتسم بخفة، ودفع ظهري المتيبس بلطف. تركت مكاني كأنني أنزلق في حلم، وروحي سبقتني إلى اللاوعي.
“…الحمد لله أنني غسلت شعري قبل أن أجيء…”
سرتُ في ممر القصر نحو غرفتي دون أن أجرؤ على الالتفات. ثم، عندما أدركت ما قلته بصوت مرتفع، بدأت أضرب رأسي بيديّ.
لكنني ما لبثت أن هدأت، وسحبت خصلة من شعري الوردي نحو أنفي لأشمّها… كان مجرد عطر، لا أكثر. لا وقت الآن للتفاهات!
“سيدتي! عدتِ أخيرًا! أعددت لك كل ما يلزم للراحة… سيدتي؟”
“……”
“سيدتي؟ هل أنتِ بخير؟”
“……”
هبوط –
أين ذهب كاسيون البريء الذي كنت أعرفه؟!
“آآآآه!”
“ما بكِ؟ هل حدث شيء؟ أأذهب لألقن أحدهم درسًا؟”
ارتميتُ على السرير وبدأت أضرب الوسادة بعنف. بيا كانت تدور حولي حائرة، لكن لم يكن لدي ما أقوله.
كنت أظن أنني سأنام بمجرد أن أضع رأسي على الوسادة، لكن صوته العميق، وصوت القبلة، ظلا يرنّان في أذني كأنني سأبقى مستيقظة حتى الفجر.
—
“…آه، الضوء مزعج جدًا.”
لم أنم كما ينبغي.
كلما فكرت في الاستعداد للمحاكمة، ظهر كاسيون في ذهني. وكلما شعرت بالخوف من تكرار الهجوم، عاد كاسيون ليهيمن على أفكاري.
والأسوأ… أنه بالفعل حدث هجوم جديد على لوران أثناء تقلباتي في الفراش.
يبدو أن فرسان الدوق أوقفوهم عند المدخل، لكن بما أنني كنت مستيقظة، سمعت الضجة بوضوح.
“الإمبراطورة عنيدة كما توقعت.”
لكن لا مفر من هذا. علينا أن نظل متيقظين حتى لحظة دخول المحكمة.
…وهذا يعني أن وقت التفكير في كاسيون لم يحن بعد.
“هل ترين أن وجهي متورم جدًا؟”
“نعم.”
“…تظنين أن حمامًا قد يخفف التورم؟ هل تمنحينني جلسة تدليك؟”
“سيدتي…”
فكرة مواجهة كاسيون أثقلت قلبي فجأة. اعتدنا تناول الطعام معًا هنا، وكان ينبغي أن أكون قد نزلت الآن. لكنني لم أستطع مغادرة الغرفة، رغم مرور وقت الفطور.
ليس بسبب تبدّل الأجواء فحسب، بل لأن وجهي المتورم والهالات السوداء تحت عينيّ بسبب السهر جعلا ثقتي تتراجع.
من كان يظن أنني سأقلق بشأن مظهري لهذا الحد؟
“ماذا؟ التورم لا يمكن إصلاحه بالتدليك؟ ربما كمادات باردة؟”
سألت بيا، الواقفة بثبات، لكنها أجابتني بنظرة أسى.
“نصف وجهك مليئ بالكدمات، وتتوقعين أن التدليك سيحلّ المشكلة؟ بالمقارنة معها، التورم لا يُذكر.”
“آه…”
“مع ذلك، يبدو أن مرهم إزالة الكدمات أدى مفعوله. بالأمس كان لونه أسود قاتم، أما اليوم فبدأ يميل إلى الأخضر، أو الأصفر…”
“…توقفي.”
من الجيد أن الكدمة تتعافى، لكن قولكِ يعني أن مظهري ازداد سوءًا!
“…أحضري لي شيئًا أغطي به وجهي.”
“الطبيبة قالت أن تقتصري على الأعشاب. بما أن الكدمة ليست مفتوحة، تغطيتها ستجعل بشرتك تختنق.”
“يعني أن عليّ الخروج بهذا الشكل؟”
“ما بكِ؟ الجميع رأى وجهك مسبقًا. وكنتِ قاسية البارحة حين بكيت.”
“أعلم أنك منزعجة، لكن… ألا يوجد حل؟ ماذا عن بعض المكياج؟”
“انسِ الأمر، سيدتي. بشرتك جافة أيضًا.”
عند كلمات بيا الباردة، رميت نفسي على السرير من جديد. هل يعني هذا أنني سأرى كاسيون بهذا الوجه؟
كان أول يوم لي في قصر الدوق بعد العودة، وكنت أخطط للظهور بشكل أنيق واستعادة كاسيون الساذج الذي كنت أعرفه…
طرق، طرق، طرق
‘أسيليا، هل أنتِ بخير؟’
“!!”
وكأن صوته استُحضر من أفكاري، جاء نبرته من خلف الباب، فقفزت من السرير. بيا كانت تنظر إليّ بنظرة غريبة.
لكني أسرعت في تعديل نبرة صوتي… ماذا لو دخل فجأة؟
“أنا… فقط نمت أكثر من اللازم! يمكنك تناول الإفطار أولًا!”
‘هل أنتِ متأكدة أن كل شيء بخير؟’
“قلت لا شيء! بيا معي أيضًا!”
‘…حسنًا. حين تنتهين، تعالي إلى غرفة الطعام. سأكون بانتظارك.’
“…آه، لماذا يتحدث بهذه الرقة… ولماذا تنظرين إليّ هكذا؟”
ضربت الوسادة وأنا أتذمر من كلماته الرقيقة، ثم لمحت عيني بيا الضيقتين.
“كنت أفكر… حتى صاحبة الجمال والذكاء اللامعين، لا تختلف حين تقع في الحب.”
” أمعقولة وقعت في… الحب؟!”
“ربما لا يناسبكما هذا الوصف، وأنتما قد أمضيتما شهر العسل مسبقًا، لكنكِ الآن تتصرفين مثل عروس قروية بدأت بالمراوغة.”
“أنا؟ أنا أفعل ذلك؟”
“نعم.”
وبسبب ردها القاطع، استغرقت وقتًا أطول في استيعاب الصدمة… ما أخّرني أكثر في النزول إلى غرفة الطعام.
وقبل خروجي، عدّلت فرق شعري لأُخفي الجانب المصاب من وجهي قدر الإمكان.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
68ⵌ
“تأخرت قليلًا… أليس كذلك؟”
أصررت في النهاية على أن تضع بيا لمسات بسيطة من التجميل على وجهي، ثم عدّلت تمشيط شعري بحيث يغطي الجزء الذي يحمل الكدمة قبل أن أدخل إلى غرفة الطعام.
لكن ما لم يكن في الحسبان أن كاسيون لم يكن جالسًا وحده، بل كان لوران هناك أيضًا، عابس الملامح، متهدج النظرات.
“ظننت أنني سأموت جوعًا، سيدتي…”
“آه، كان عليك أن تبدأ الأكل من دوني. يمكنني أن أتناول الطعام لاحقًا. أعتذر.”
“لا داعي للاعتذار. أردت فقط أن نتناول الطعام معًا.”
بدأ لوران بالتذمر وكأنه طفل تُدربه على الانضباط، بينما كان كاسيون يرمقه بنظرات صارمة.
قد لا يكترث لوران، لكنني شعرت بالأسى تجاه كاسيون، الذي انتظر بصمت حتى برد الطعام الذي أعده الطاهي خصيصًا احتفاءً بعودتنا. التقت أعيننا للحظة… ثم أشحت ببصري. لماذا أتهرّب من نظرته وأنا لا أحمل ذنبًا؟ عليّ أن أتصرف بثقة، أن أبدو طبيعية!
“لنبدأ الطعام، الطاهي بذل جهدًا كبيرًا.”
رجوت في داخلي ألا تبدو تصرفاتي مصطنعة. وما إن نطقت بذلك، حتى أمسك الاثنان أدوات المائدة. ولحظة شعرت فيها كأنني أم تُشرف على طفلين صغيرين، الأمر الذي كان محرجًا بعض الشيء. لكن سرعان ما تلاشت تلك الأفكار مع أول رشفة من الحساء الساخن.
“مممم~!”
يا للدهشة! ظننت أنني أنا من أطلقت ذلك الصوت الراضِ. لكن لحسن الحظ، كان لوران. رغم ذلك، كان الحساء يستحق كل هذا؛ بقطع اللحم الدقيقة والخضروات الطازجة.
خلال رحلتنا، أقام بعض النزل بإعداد حساء للفطور، لكنه لم يكن بمثل هذا الطعم. هل أُلقي عليه سحر ما؟
“أسيل، ألن يكون من الأفضل أن تربطي شعرك؟”
بينما كنت منغمسة في تذوق مهارات طاهي القصر، سألني كاسيون بنبرة هادئة، وقد لاحظني منذ مدة. شعرت بالخجل، وكتمت رغبتي في عضّ شفتي.
“…أنا مرتاحة هكذا.”
“سيدتي، شعركِ يكاد يسقط في الحساء!”
اصمت، لوران. حتى لو انتهى بي الأمر آكلةً للشعر، فلن أُبعده الآن.
“إن كنتِ تخفين وجهكِ بسبب الكدمة، فلا تقلقي. كلي براحتك، أسيل.”
“…هل الأمر واضح لهذه الدرجة؟”
“لقد استخدمتِ نفس الطريقة من قبل. أذكر أنكِ وضعتِ قبعة صغيرة آنذاك.”
“آه…”
صحيح. لست جديدة على إخفاء آثار الكدمات. لقد فعلت الشيء ذاته في بداية زواجي من كاسيون، حين اختطفتني عائلتي.
…الغريب أنني رغم أن إصابتي هذه المرة أقسى، لم أكن مكترثة حينها. حتى إننا ذهبنا معًا إلى المقهى وجلسنا متقاربين.
“…أحم.”
شعرت أنني بالغت في الأمر، فدفعت خصلات شعري المنسدلة إلى الخلف، تلك التي كانت تُزعجني كلما انحنيت لأتناول الطعام.
“آه، سيدتي! الكدمة على وجهك أصبحت أكثر وضوحًا!”
“…اصمت وكُل، لوران.”
كان عليّ أن أترك شعري في مكانه. ما إن أبعدته، حتى التفتت إليّ نظرات الرجلين دفعة واحدة. وضعت قطعة الخبز المدهونة بالزبدة على الطاولة وحدّقت بهما بجدية، ليصلني ضحكة خافتة من الجهة الأخرى للطاولة.
“زوجتي فاتنة، حتى بنصف وجهٍ أخضر.”
“…!”
“يسعدني أن الكدمة بدأت تتلاشى، أسيل. لقد كنت قلقة حقًا.”
“حقًا؟”
“نعم. إذا داومتِ على استخدام المرهم، فستختفي تمامًا خلال أسبوع.”
ماذا؟ سأبقى بهذا الشكل المريع أسبوعًا كاملًا؟ …لكن كاسيون قال إنني جميلة. إذًا، جمالي الحقيقي لا يختبئ خلف كدمة.
“وماذا عن المحاكمة؟ طالما أن وجه سيدتي يحتاج وقتًا ليتعافى، ألا يجدر بنا تأجيلها أسبوعًا على الأقل؟”
كلمات لوران، الخارجة من بين طعامه، أعادتني إلى الواقع. وضعت قطعة الخبز التي كنت على وشك قضمها، وبدأت أفكر بجدية.
“هممم… كاسيون، هل شرحتَ له كل شيء بالأمس؟”
“بالطبع.”
“وهل فهمت كل ما قيل؟”
“نعم، سيدتي، بكل تأكيد.”
“ما زلنا بحاجة إلى عقد بضع لقاءات أخرى لمعرفة موقف ولي العهد، ولن نتمكن من ذلك خلال أسبوع واحد فقط، حتى لو تجاهلنا إصابتي. نحن بحاجة إلى تدريبك، لوران.”
“ولكن… أليس قول الحقيقة كافيًا؟”
“هل تتوقع أن الشخص الذي طاردك بتلك الوحشية سيكون رحيمًا في المحكمة؟ هذه المرة، سيتلاعب بك بالكلمات. ولهذا، نحن بحاجة إلى استعداد كامل.”
المشكلة ليست في تعليم لوران فحسب، بل في موجة الهجمات القادمة. التفتُ نحو كاسيون، والتقت نظراتنا مجددًا؛ متى يُشيح ببصره عني، يا تُرى؟
تمتمت له شفهيًا بكلمة “الهجمات”، فأومأ برأسه.
من تصرفات لوران، بدا واضحًا أنه لا يعلم شيئًا عن هجوم الليلة الماضية.
إذا استمرت الاعتداءات لأكثر من عشرة أيام، فسيُنهك الفرسان. ورغم تفوقنا في المهارة، إلا أن الكثرة قد تغلب.
لكن لا يمكن مناقشة هذا الآن، ليس أمام لوران. سأتحدث إلى كاسيون لاحقًا، رغم أن ذلك سيحرجني قليلًا… لا مفر.
“الأمير الثاني سيأتي بعد تناول الطعام، سنستأنف النقاش حينها. أما الآن، فلنأكل.”
“الأمير… سيعود مجددًا؟”
“أسيل، لم تنهي حتى قطعة خبز واحدة.”
“هل سأقابله هذه المرة؟ أليس كذلك؟”
“تذوقي هذا الطبق. إنه لحم بط، لكنه خفيف بما يكفي للإفطار. لقد فقدتِ الكثير من الوزن.”
حين ذكر كاسيون الأمير، بدا الذهول على ملامح لوران. لكن كاسيون، غير مبالٍ، ظل يحدق بي ودفع الطبق نحوي مشيرًا بأن لوران محق. حينها، شحب وجه لوران حتى أصبح كظل أزرق باهت.
…لو كنا نقف جنبًا إلى جنب، لكنا لوحةً من الأحمر الخجِل والأزرق الباهت.
“…أنا آكل جيدًا، على عكسك. من الذي فقد وزنه فعلًا؟”
كان عليّ أن أترك شعري حيث كان.
—
“إذًا أنت لوران.”
“ن-نعم، نعم.”
“هممم…”
حين اقترب وقت الظهيرة، زارنا الأمير الثاني كما وعد. ورغم تساؤلي إن كان قد أعلم القصر بذلك، رأيته يصل ممتطيًا جوادًا واحدًا متواضعًا بدلًا من العربة الإمبراطورية. تذكرت حينها “ليونينا”، فرس جينين، التي استراحت في الإسطبل. ينبغي أن أطمئن جينين بإرسالها مع رسالة.
“تشبه أخي تمامًا. أو ربما هو من يشبهك؟”
“نعم، نعم…”
“سيكون الأمر محرجًا لو أجبت بهذا الشكل أمام المحكمة.”
“نعم، نع… هااه؟”
“الطريق لا يزال طويلًا، كاسيون.”
دار الأمير حول لوران المتجمد بنظرة متفحصة وابتسامة هادئة.
لوران، الذي بدا مرتاحًا منذ الصباح، انكمش حالما قابل نظرات الأمير، وكأن صعوبة المحاكمة المقبلة تجسدت فجأة أمامه.
“لوران، بطبيعة القضية، لن يحضر فقط الأمراء، بل جلالة الإمبراطور، والإمبراطورة، وصفوة النبلاء.”
“هوووه…”
“إن تنهار بهذه السهولة أمر خطير.
وبصفتك صاحب الدعوى، عليك أن تُظهر ثقة، بل وقليلًا من التعالي.”
“أنا؟ لا يمكنني…”
“…تلك بالتحديد هي المشكلة.”
غطى كاسيون وجهه بيده وهو يراقبني أحاول توجيه لوران، فيما اكتفى الأمير بابتسامة مصطنعة، وكأنها مرسومة بفرشاة.
الجميع أدرك أن تدريب لوران سيكون معركة بحد ذاتها.
“…لنترك مسألة الثقة جانبًا الآن، ولنبدأ بجمع الأدلة.”
“فكرة جيدة.”
لم أرغب في بث الإحباط في البداية، لذا فضّلت البدء بما هو أسهل، ولم يعترض أحد.
“لم ننتبه لهذا اليوم، لكن علينا تعديل ترتيب الغرف لاحقًا. إذا تكرّمت بإطلاعنا على تخطيط قاعة المحكمة، سنكون ممتنين.”
“أنا على دراية بذلك. سأرسم لكم تخطيطًا تقريبيًا قبل أن نذهب.”
“ممتنة لك.”
لم نكن في أتم الاستعداد، واليوم لا يزال في بدايته، لذا لا حاجة للضغط. جلستُ إلى طاولة الشاي، وأجلست لوران أمامي.
أما كاسيون والأمير فوقفا، أذرعهما متشابكة، يراقبانه. مجرد وقفتهما هكذا جعلت وجهه يزداد شحوبًا.
سيواجه في المحكمة عيونًا أكثر قسوة، لذا عليه أن يتأقلم منذ الآن.
“فلنبدأ.”
“لا تتكلف في البحث عن أدلة. فقط ابدأ من أول مرة التقيت فيها بالإمبراطورة.”
“سأدون ما يقول.”
جلست ككاتبة، وأخذت الورقة والقلم. بهذه الطريقة، قد يشعر براحة أكبر ويبدأ في الحديث.
“ح-حسنًا… أعتقد أنني كنت في الثامنة عشرة…”
“ألم تكن في السابعة عشرة على الأقل؟ قلت لك أن تبدأ من اللقاء الأول.”
“آه!!! لا، بل كنت في السادسة عشرة! كان شتاءً باردًا! أو ربما خريفًا؟”
“……”
“……”
تساقطت قطرة حبر على الورقة، ولم أكتب شيئًا.
ابتسم الأمير بنفس ابتسامته المصطنعة، وقال بنبرة لا تخلو من سخرية:
“نحن في ورطة.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
69ⵌ
“ما أردت قوله هو—”
تحطّم!
“انتبه.”
مرّ يومان منذ أن سلّمت كاسيون النصّ المعدّ بعد أن نظّمت الأفكار المبعثرة للوران، ومع ذلك، يبدو أنه لم يحفظ حتى جملة واحدة منه.
انطلقت سهم عبر النافذة، مستهدفًا لوران الذي كان يعبث بالورقة، يقرأها مرارًا وتكرارًا. الأمير الثاني صدّه بكل بساطة.
“آآااه! هجوم! نحن نتعرض لهجوم!”
“بالفعل. الآن، ما هي جملتك التالية؟”
“ما معنى ‘بالفعل’؟! السهم كان موجّهًا إلي!”
تأخر لوران في إدراك ما حدث، ثم أمسك برأسه، مستوعبًا أخيرًا الهجمات التي كانت تقع مرتين أو ثلاثًا كل يوم.
ونظرًا لطبيعته، فإن معرفته بالأمر لن تفيده بشيء، لذا كان الفرسان يحاولون إبقاءه غافلًا إلى حين موعد المحكمة، لكن البشر يخطئون.
“ألم يتم القبض عليهم بالفعل؟ ماذا تريد أكثر من ذلك؟”
صحيح أن سهمًا واحدًا قد أفلت، لكن جميع القتلة الذين أطلقوه قُبض عليهم، فلم يكن المشهد خارج النافذة بالفوضوي.
ومع ذلك، لوّح كاسيون بإشارة ذبح نحو النافذة، مهددًا العقاب للفرسان فيما يبدو، ثم التفت إلى لوران بذات النظرة النارية.
كانت ملامحه شديدة الترويع لدرجة أن من يراه سيظنه هو القاتل.
“الأهم من ذلك، بما أنك الآن فهمت خطورة الوضع، ألا يمكنك حفظ جملة واحدة على الأقل؟”
“لكن… لم يمضِ سوى يومين منذ أعطيتني النص.”
“بل مضى يومان بالفعل. ولم يتبقَ على المحاكمة سوى أسبوعين.”
“ألا يمكنني حفظه خلال الأسبوعين؟ آه، لا، انسَ الأمر…”
كان كاسيون قد نظر نحوه فقط وهو يفحص السهم الذي أمسك به الأمير الثاني، لكن نظرته وحدها كانت كفيلة بأن توهم لوران بأنه على وشك أن يُطعن بذلك السهم.
“أسيليا، ابقي على هذا الجانب اليوم. قد يكون هناك شظايا زجاج في المقدمة.”
“…لكن بحسب التوزيع المسرحي—”
“أنت مثالية بالفعل.”
كنت أعلم أن غضبه الحقيقي سببه أنا، لذا التزمت الصمت ولم أتدخل. بالإضافة إلى ذلك، لم يكن بوسعي فعل شيء حيال الهجمات.
لكن عندما أظهر كاسيون تحيزه الواضح لي، اتسعت عينا لوران دهشة، وازدادت ابتسامة الأمير الثاني عمقًا.
…بصراحة، لقد راق لي ذلك.
“…حسنًا، سأتدرّب على الجمل من هنا اليوم.”
بما أنني من كتبت النص، لم أستطع المغادرة. وبسبب ضيق الوقت، كنت أمضي نهاري في استدراج لوران وإقناعه ونبش ماضيه، وفي الليل أعمل على تنظيم المعلومات.
الأمير، بطبيعة الحال، كان الأعلم بشؤون الإمبراطورية، وبفضل معرفتي الضئيلة من حياتي السابقة، كنت الأقدر على تحديد النقاط القانونية التي يجب التركيز عليها، لهذا لم يكن لكاسيون دور في كتابة النص.
وقد بدأ يشعر أنه عديم الجدوى لمجرد كونه مرتزقًا سابقًا، رغم أنه يتصدى للهجمات يوميًا!
“يا إلهي، رأس السهم! كن حذرًا. ماذا لو كان مسمومًا كالسابق؟”
“لا بأس.”
رفع كاسيون السهم إلى عينيه لتفحصه من جديد، وحين اقترب السلاح القاتل من وجهه الوسيم، صحت لا إراديًا بقلق.
“هم يهاجمون علنًا ويحاولون التظاهر بالبراءة. على الأقل، الأسلحة ليست إمبراطورية. إنها من النوع المستخدم بين المرتزقة.”
“يا للخسارة. لو كانت أسلحة إمبراطورية، لكنا استخدمناها كدليل. والآن، ضع ذلك الشيء الخطر جانبًا بعد أن تفحصته.”
لم أدرك إلا بعد أن تحدثت أنني كنت أبالغ. إنه بطل حرب، كيف له أن يُصاب بسهم ممسوك في يده أصلًا؟
“أجواء المحاكمة مذهلة فعلًا.”
بدا الأمير الثاني مستاءً من رؤيتنا نتمايل غزلًا بينما لوران لا يستطيع حفظ بضع جمل. أشعر ببعض الذنب.
أعلم أن عليّ التركيز على المحاكمة أيضًا، لكن… ماذا أفعل إن كانت عيناي لا تتوقفان عن النظر إلى كاسيون؟
“انتظر. لحظة. ماذا تقصدين بـ’كالسابق’؟ هل تقولين إنه كانت هناك سهام مسمومة من قبل؟”
“آه.”
“ليست هذه المرة الأولى إذًا؟!”
“آه… حسنًا. اممم.”
وبسبب شرودي في النظر إلى كاسيون، زلّ لساني. عضضت شفتي، وأخذت أتلفّت بقلق منتظرة التوبيخ، لكن الوحيد الذي تفجّر غضبًا كان لوران، وقد أدرك أخيرًا حجم ما يجري.
“من يستطيع العيش هكذا؟ كيف يُفترض بي أن أركّز على النص وسط هذا الجنون؟!”
“ماذا قلت؟”
لسبب ما، اتسعت عينا كاسيون، الذي لا يزال يعبث بالسهم. ورغم بياض عينيه الظاهر، ما زال يبدو جذّابًا بشكل مريب.
“لا يمكنني فعل هذا! لا أستطيع المشاركة في المحاكمة!”
“ماذا؟”
وهذه المرة أنا من اتسعت عيناه دهشة. الأمير الثاني، وقد بدا عليه أنه استسلم لفشل محاكاة المحاكمة اليوم، جلس منهارًا على الكرسي وغطّى وجهه بيديه.
“لا يمكنك؟ ما هذا الهراء؟ ما الذي لا يمكنك فعله؟ ولماذا؟!”
“أريد فقط العودة إلى حيث كنت، والاختباء!”
“الكدمة على وجهي لم تلتئم بعد، وأنت تفتح فمك بهذا التراخي؟! ألم يكن لديك ذرة من العزم؟!”
“أي عزم! لقد تم ج-جرّي إلى هنا على يد الدوق والدوقة!”
“هاه! وكأننا قيّدناك وجلبناك بالقوة! لقد وافقت بنفسك، وجئت بإرادتك، أليس كذلك؟ همم؟”
كان كاسيون على وشك التدخل، لكنني سبقته. أعجبني أنه غضب لأجلي، لكن ذلك لا يبرر أن يستخف لوران بالنص الذي سهرت الليالي لأكتبه.
بصراحة، لو كان لوران رجلاً محترمًا حتى بنسبة ضئيلة، لما وجدت نفسي عالقة في هذا الوضع البائس وأنا أعاني مشاعري تجاه كاسيون.
“لم أعلم أن الوضع سيكون بهذا السوء! هذا كثير!”
“لهذا عليك أن تواجههم بثقة في المحكمة! من يستحق اللوم فعلًا هو حبيبتك السابقة!”
“لقد كنت مجرد أداة للهو! كيف لي أن أواجهها وأنا خائف إلى هذه الدرجة…”
تحطّم!
“…هق!”
سهم مألوف مرّ بمحاذاة أذن لوران وهو ينوح، واستقر في الجدار.
يا للعجب.
لم أعلم أن السهام يمكنها أن تكون بهذه القوة حين تُرمى يدويًا عن قرب.
“هل ما زلت لا تراني مخيفًا بما يكفي؟”
زمجر كاسيون، فانكمش لوران فورًا. يا له من جبان! يتظاهر بالقوة معي ثم ينهار أمام كاسيون! يظن أنني لن أضربه، أليس كذلك؟
“ثمة شيء تجهله.”
وفي خضم الفوضى، اقترب الأمير الثاني، وقد استعاد رباطة جأشه، بابتسامة نظيفة. مدّ يده نحو لوران الجالس على الأرض وساعده على الوقوف بلطف.
“حتى لو تهرّبت من المحاكمة وهربت، فأنت مدان بالفعل بإهانة العائلة المالكة.”
“ماذا؟ أ-أنا؟ لماذا؟”
“ألم تسخر مني؟”
“أنا…!”
استدار لوران وكأنه سيصرخ مجددًا بأنه جُرّ بالقوة، لكن شفتيه فقط تحركتا حين رأى نظراتنا الثلاث تحاصره كزاوية مثلث تهدّد بالسقوط عليه.
“لقد خُدعت بك، وتوسّلت إلى جلالة الإمبراطور ليُسرع بعقد محكمة ملكية. وإذا انسحبت الآن، ألن يكون ذلك سخرية منّي؟”
أحسنت، أحسنت! نعم، هذا الفريق القضائي كان سيكون مثاليًا… لو لم يكن لوران هو المحور الرئيسي فيه!
لكن لسوء الحظ، دور لوران هو الأهم في كل هذه المسرحية.
“لقد ظُلمت، يا صاحب السمو…”
“أمثل ما سُخرتُ أنا؟ العبث بعضو من العائلة المالكة قد يصبح الإمبراطور يومًا ما، يستحق أكثر من مجرد فقدان الرأس.”
انضم كاسيون إلى زخم الأمير، وخطا خطوة للأمام واضعًا يده على مقبض سيفه بتهديد واضح.
“لا تظننّ أن الإمبراطورة وحدها من تهدد حياتك.”
“…!”
حسنًا. استخدمنا العصا بما فيه الكفاية، حان وقت الجزرة. الآن يأتي دوري.
“لا تكنا قاسيين عليه. لوران، الأمر بيدك وحدك.”
سحبته بعيدًا عن الاثنين كما لو كنت أنقذه، وربّت على ظهره. وجهه الوسيم الذي فقد فعاليته، حدّق بي بتوسّل بحثًا عن مأوى.
“ألست شجاعًا في الأصل؟ ألم تأتِ معنا لتستعيد كرامتك، وتحصل على تعويض عن ماضيك، وتصنع مستقبلاً مشرقًا كفنان؟”
“سيدتي…”
“وإن هربت الآن؟ ربما نحن نغفر، لكن هل تظن أن الإمبراطورة ستقول ببساطة: ‘آه، لقد عاد’ وتتركك؟ لا، الآن بعدما علمت أنك خطر عليها، ستلاحقك حتى آخر الدنيا.”
“أهئ…”
“مرعب، أليس كذلك؟ من لن يخاف؟ أنا أتفهمك تمامًا، ولهذا ندفعك للأمام. ففي المحكمة الحقيقية، كم من الناس سينظرون إليك بأعين كالسكاكين؟ حينها، سأكون أنا ونحن جميعًا درعك الحامي.”
وفي النهاية، انفجر لوران باكيًا وارتمى في حضني. لم أسمح له بعناق، وقاحة. دفعته بعيدًا فورًا، وفي اللحظة ذاتها، جذبه كاسيون من الخلف وأجلسه على كرسي المحاكمة التجريبي.
“إن كنت قد فهمت، فتوقف عن البكاء، وردد الجملة التالية.”
“…هق. إن… استرحت اليوم، وحفظت النص…”
“قلت لك، ردّد الجملة التالية.”
إلى متى ستظل تؤجل الأمور إلى الغد؟ بهذه الوتيرة، سيأتي يوم المحاكمة ونظل نراوح مكاننا. الآن، أفضل ما يمكننا فعله هو منحه الدعم المعنوي، لا الراحة. ابتسمت للوران الذي كان ينظر إلي وكأنه يتمسك بآخر قشة، وغادرت مكاني.
“سأذهب وأطلب منهم تحضير الشاي وبعض الحلوى لنا.”
يجب أن أقدّم لكاسيون بعض الماكرون مكافأة على جهوده.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
70ⵌ
دقّ… دقّ.
«تفضل.»
رغم أن الوقت لم يكن متأخرًا جدًا، راودني قلق أنه ربما غفا، إلا أن صوته طمأنني. منذ بضعة أشهر فقط، كنت أدخل غرفة كاسيون وأخرج منها كما يحلو لي، لكن الآن، مجرّد سماع صوته من خلف الباب جعل قلبي ينبض بتوتر، فشدّدت ذراعي حول ليلي. اهدئي… لا شيء يستدعي كل هذا التوتر.
“أوه، ما زلت تعمل على تحضيرات المحاكمة؟”
“…أسيليا؟!”
حين فتحت الباب بهدوء ودلفت، كان كاسيون جالسًا إلى مكتبه، وما إن لمحني حتى انتصب واقفًا وقد اتسعت عيناه بدهشة.
“ما الأمر؟ هل كنت تنتظر أحدًا غيري؟”
“لا، فقط… ظننت أنه بيرت. طلبت منه أن يجلب لي بعض الشاي. تفضلي بالدخول.”
أطلقت مزحة خفيفة لأخفي ارتباكي، فأجابه بتلعثم غير مألوف منه، ذكّرني بأيام لقائنا الأول، فابتسمت رغماً عني.
حين رأى ابتسامتي، أسرع في ترتيب مكتبه، رافعًا حاجبيه بنبرة خجولة.
“هل جئتِ لتسخري مني؟”
“وماذا لو فعلت؟”
“…قلتُ لك لا تثيريني. الوقت متأخر، وهذه غرفتي.”
“ومنذ متى أصبحت ملكك وحدك؟ ألم تكن غرفتنا سابقةً؟”
ارتميت على السرير وأنا أضم ليلي إلى صدري، فيما تنهد هو وعاد لترتيب الأوراق التي بدا وكأنه قلّبها ألف مرة من قبل. لحسن الحظ، لم ينتبه إلى مدى قوة تشبثي بدمية الدب.
“أعجبني استسلامك السريع. تعرف ما الخطوة التالية، أليس كذلك؟”
“لقد تعاملت معك بما يكفي لأتوقّعها.”
أسندت ذقني إلى كفّي وابتسمت بمكر بينما أتابع تصرفاته. كنت أعلم تمامًا أنه يدرك أنني أتيت لأمنعه من مواصلة العمل وأطلب منه أن يستلقي معي. كم هو جميل أن نكون مقربين حدّ التوقع.
“المحاكمة غدًا، لذا علينا النوم مبكرًا. نحن مستعدون تمامًا… باستثناء لوران.”
“إنه العامل الأكثر تقلبًا.”
أهذا تجاهل متعمّد؟
انتقل من مكتبه إلى خزانة الملابس، وبدأ في خلع ملابس العمل المرهقة، واستبدلها بقميص قطني مريح.
لم يغيّر سوى الجزء العلوي، لكنه فعله ببساطة وراحة أمامي، دون أن يبدو عليه أي حرج. هو بالتأكيد يُكنّ لي مشاعر… ولكن—
“هل من المعتاد أن يُبدّل الشخص ملابسه بهذا الشكل أمام من يُحب؟”
“…!”
تجمّد في مكانه عند سماع كلمتي، وكأن عبارتي أربكته تمامًا. استدار إليّ بذهول، وكأنه يتساءل إن كنتُ جادّة.
“بل إنك أصبحت أكثر جرأة مما كنت. هل أنت واثق من أنك تحبني حقًا؟”
“…إذًا، جئتِ فعلًا لتلعبي بأعصابي، أسيليا.”
تمتمت بذلك وأنا أهز ليلي بخفة، كأنني أستشيرها في الأمر. بدا أنه كان على وشك أن يستلقي، لكنه تراجع فجأة، متأثرًا بكلماتي، وظل واقفًا مكانه.
“ما بك؟ ألم تقل إن علينا النوم مبكرًا قبل المحاكمة؟”
“نعم، أسيليا، لكن بوجودك هنا… لا أستطيع النوم.”
“ولِمَ الآن تحديدًا؟ ليست هذه أول مرة أكون فيها هنا.”
“لأني لن أستطيع النوم! بحق السماء!”
نظرت إليه بعينين بريئتين، فأتى إليّ يتمتم بكلمات مبهمة، واستلقى على أقصى طرف من السرير، مستديرًا بظهره عني.
“لماذا؟ اعتدنا النوم معًا سابقًا أثناء بحثنا عن لوران.”
“بصراحة، حتى حينها، بالكاد كنت أنام، إلا عندما ينهكني التعب. لذا، أرجوكِ… لا تثيريني هذه الليلة.”
“هل تنوي رسم الحدود؟ أوه، فعلًا؟”
فجأة جلس كاسيون ومرر إصبعه على السرير وكأنه يرسم خطًا فاصلاً بيننا، ونظراته مشتعلة. كان تصرفه مضحكًا بعض الشيء، رغم ذلك، ترك لي مساحة كبيرة على الجانب الآخر من الخط. لا أنكر أن قلبي خفق خفةً من هذا المشهد.
“نعم. هذا هو الخط. لا تتعدّيه، أسيليا.”
“هممم…”
لكن ما العمل؟ مددت يدي ببطء نحوه، رغم أنه أدار ظهره مجددًا. هو حساس كفاية ليشعر بها تقترب.
كما رسم هو خطًا بيده، أنا رفعت إصبعي وبدأت أكتب به على ظهره العريض، وأنا أتمتم بهدوء.
“تعلم… حين لا أستطيع النوم، فإن احتضان ليلي يمنحني راحة وسكينة.”
“…”
«لنَنَمْ معًا.»
كل مقطع كتبته بأصبعي جعله يرتجف كمن وخز بسهم. وفي تلك اللحظة القصيرة، تسارعت نبضات قلبي كأنها تعزف لحنًا خاصًا.
“لذا، إن لم تستطع النوم أيضًا… فاحتضنني.”
“…أسيليا! ما الذي تفعلينه بحق الرب؟”
وأخيرًا، نهض كاسيون من مكانه وقد بدا عليه الانزعاج والارتباك، لكنه حين التفت إليّ وتجمد وهو ينظر إلى وجهي، أدركت أنه بدأ يفهم.
نظرت إليه نظرة جادة، وقد تلاشت مني كل مظاهر المرح والدعابة.
“في رأيك… لماذا أفعل هذا؟”
“…”
“سأعطيك جوابي بعد المحاكمة. لست ممن يتعمّدون التلاعب، لكن هذا الأمر مهم للغاية، ولهذا لم أستطع التعامل معه بخفة.”
“…أسيليا…”
“في الحقيقة، لولا الظروف الحرجة والهجمات المتكررة، لكنت اعترفت لك بمشاعري منذ اللحظة التي فهمتها فيها.”
أعترف، حتى أنا تأخرتُ في فهم قلبي.
أنا أيضًا أحبه.
أحب كاسيون.
البطل الذي كان يجب أن يقع في حب امرأة أخرى؟ الذي كُتب عليه أن يموت في الرواية الأصلية؟ لا يهمني ذلك الآن. يمكنني أن أُعيد كتابة كل شيء.
ما يهم… أننا نشعر بالأمر ذاته، وأني أريد أن أعيش هذه الحياة كما أختار، لا كما كُتبت.
لقد تزوجته بعقد صوري فقط لأحمي نفسي، وانتهى بي الأمر محاطة بعالم الأرستقراطية… فهل يجب عليّ الآن أن أعاني من أجل الحب أيضًا؟
خصوصًا ونحن نحب بعضنا البعض بالفعل.
“ما الذي تعنينه… هل يعني ذلك—”
“قلتُ إنني سأجيب بعد المحاكمة.”
ابتسمت مرة أخرى بمكر، واقتربت منه بهدوء.
“هل تمزحين؟ هذا أشبه باعتراف واضح. أن تقولي إنك ستجيبين لاحقًا؟ إن لم أكن أتوهم، فهذا يعني أن—”
“آه، بحق السماء، على ماذا تتوهم؟ لم أُصرّح بشيء بعد.”
“…”
يبدو كأنه على شفا الجنون، عاجز عن تحمّل غموضي الذي لم يترك له مجالًا للشك. مرر يده بتوتر في شعره، ثم حدّق بي طويلًا، وأخيرًا، وببطء شديد، مدّ ذراعه نحوي.
“…”
“…”
كما لو أنه ينتظر مني أن أرفضه، مدّ ذراعه، ثم ضمّني إليه.
في حضني كانت ليلي، تلك الدمية التي أهداها لي… وها هو يحتضنني وأنا أحتضنها. كان الدفء الذي غمرني… مثاليًا.
لم يكن قلبي وحده من ينبض بقوة، كنت أشعر بقلبه أيضًا، يخفق بعنف، لكنه لم يكن شعورًا سيئًا.
“هيهي.”
“…”
راضية بهذا القرب، أسندت رأسي إلى صدره، فأغمض عينيه تلقائيًا، وارتجف جسده بخفة، لكنه لم يبتعد.
“…هل ترغبين فعلًا في أن أضمك أثناء النوم؟”
“أليس هذا مريحًا؟ أنا سعيدة الآن.”
“أشعر أنني قد أغفو فورًا… أو لا أنام أبدًا.”
“وهذا لا يجوز.”
أتيت إلى غرفته لأطمئن قلبي وأرضي أنانيتي… لكن الغد مهم.
وحين رفعت رأسي فجأة، رأيت شفتيه وذقنه بوضوح.
عينان حمراوان، شفاه بلون الفاكهة الناضجة… رجل يشبه ثمرة توت ناضجة.
“ما الذي… تفعلينه يا أسيليا؟”
“ألقي تعويذة… نوووم~ نوووم~”
رفعت كفي ولمست جبهته بلطف، مارّة بأنفه المرتفع. أغلق عينيه فورًا، فكررت ذلك مرارًا، وعيناه مغلقتان.
“لا تفتحهما… فقط اشعر بالدفء واغفُ. وإن فتحتهما… سأعاقبك.”
“ما هذا الهراء…”
تشو—
قبل أن ينهي جملته، طبعت قبلة على ذقنه، ففتح عينيه بدهشة.
تشو. تشو.
قبلت جسر أنفه، ثم جبينه.
“قبلة في كل مرة تفتح فيها عينيك!”
ربما بدا الأمر قاسيًا قليلًا، لكنني شبكت ساقيّ بساقيه، وتقدّمت أكثر، وحين التقت أعيننا، أغلق عينيه مجددًا سريعًا.
“لقد فات الأوان أصلًا.”
تشو—
قبّلت جفنيه المغلقين. لم يتورد طرفا أذنيه فقط… بل احمر وجهه بالكامل.
كم هو لطيف.
“نم جيدًا، حبيبي الصغير~”
“اللعنة، أهناك صغير بهذا الحجم؟”
تمتم بها من بين أسنانه، لكنه لم يفتح عينيه ثانية. أغمضت عينيّ أنا الأخرى، وأسندت وجهي إلى صدره العريض وأنا أضحك بخفة.
بعد كل تلك الليالي من السهر للتحضير للمحاكمة… لن يطول به الأمر قبل أن ينام.
“نم جيدًا… فغدًا هو يوم الحسم.”
“…هل سننام فعلًا بهذا الشكل؟”
“استسلم فحسب، واغفُ.”
“…هاه.”
أريد أن أبتسم له بصدق بعد الغد، وأن أبوح له بالحقيقة…
أنني أحبه أيضًا.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 10 - من الفصل الحادي والتسعين إلى المائة «النهاية». 2025-08-14
- 9 - من الفصل الحادي والثمانين إلى التسعين. 2025-08-14
- 8 - من الفصل الحادي والسبعين إلى الثمانين. 2025-08-14
- 7 - من الفصل الحادي والستين إلى السبعين. 2025-08-14
- 6 - من الفصل الحادي والخمسين إلى الستين. 2025-08-14
- 5 - من الفصل الحادي والأربعين إلى الخمسين. 2025-07-23
- 4 - الفصل الحادي والثلاثين إلى الأربعين. 2025-07-23
- 3 - من الفصل الحادي والعشرين إلى الثلاثين. 2025-07-23
- 2 - من الفصل الحادي عشر إلى العشرين. 2025-07-23
- 1 - من الفصل الأول إلى العاشر. 2025-07-23
التعليقات لهذا الفصل " 7"