6
51ⵌ
“يبدو رائعًا.
لكن الجلوس بهذه الوضعية لفترة طويلة جعل جسدي متيبسًا بعض الشيء.
هل لي أن أتحرك قليلاً قبل أن تبدأ بالتلوين؟”
“بالطبع، خذ راحتك!”
ابتسمت وأنا أقترب منه لأسلمه اللوحة، وفي اللحظة نفسها تحرّك كاسيون بخفّة، كأنما يسد أمامه طريق الفرار.
“هل كرهت العاصمة إلى هذا الحد؟ في السابعة عشرة، كنت في ذروة نضوج موهبتك.
كان من الأفضل أن تبقى هناك.”
“آه… كانت هناك بعض الظروف.
هاها…”
ظروف؟ كان بإمكانك أن تكرر ببساطة أنك لا تحب الأماكن المزدحمة أو أن أجواء العاصمة لا تناسبك.
ومهما كان الغرض من هذا الاستدعاء، فإن كنا ننوي تقديم هذا الرجل للمساءلة، فلا بد من تقويمه جيدًا.
“لا تقل لي أنك اقترفت جريمة مثل السرقة؟ مثلًا…”
“السرقة! صحيح أنني كنت فقيرًا، لكني لم أنحدر إلى هذا المستوى قط…!”
“سرقة القلوب~.
كنت أمزح! ما زلت وسيمًا حتى الآن، فكيف كنت حينها في أوج شبابك؟ لا بد أنك أسررت قلوبًا كثيرة.”
“ه-هذا… هاها! ههههه! على أي حال، رجاءً… تكلّمي معي بطريقة أقل رسميّة، يا دوقة.
هاهاها!”
أحقًا تضحك؟ وأنت من أنجبت طفلًا من الإمبراطورة نفسها؟
“حسنًا، بما أنني سأكون راعيتك من الآن، فلا داعي للتكلّف، تحدّث بحرية.”
“لقد مرّت أكثر من عشرين سنة منذ تلك الحادثة، تكلّم بأريحيّة.
يمكننا تسوية معظم الأمور.”
“بل، لو عرفنا الحقيقة مبكرًا وتصرفنا حيالها، لكان بإمكانك العودة إلى العاصمة مطمئنًا، وسنؤمّن لك الحماية والدعم.”
فجأة، غيّر كل من كاسيون وأنا نبرة صوتنا، وأصبحنا نتحدث إليه كما لو كنّا نبلاء نافذين يتمتعون بالهيبة.
وكما توقّعت، انكمش لوران شيئًا فشيئًا، وكأنه أدرك أننا لسنا مجرد زوجين حديثي الزواج، بل من علية القوم في العاصمة.
“ههذا..هذا…”
“كما ترى، جمالي لا يقلّ عن جمالك.
وأنا أعلم ما يلزمني أن أعلمه.
بموهبتك تلك، وفي سنك الصغير، لا بد أن كثيرين اقتربوا منك… جسديًا، وعرضوا عليك المال مقابل ‘الرعاية’.
وعندما يكون المرء شابًا وجائعًا… يسهل أن يقع في فخّ المال.”
“لم أبع جسدي! أقسم، لم أفعل شيئًا من هذا القبيل!”
“آه… إذًا لم يكن الجسد… بل القلب؟ هل كان هناك من نال عاطفتك؟”
“…!”
ضيّقت عينَيّ وابتسمت بخفة، ولاحظت كيف بدأ لون وجه لوران يبهت شيئًا فشيئًا، وكأنه أدرك أن الجو لم يعُد كما كان.
خشيةً على اللوحة من أن تمزق، انتزعتها من بين يديه وسلّمتها إلى كاسيون، الذي تفحّصها دون أي تعبير، لكنه أظهر رضا خفيًا لا يراه سواي.
رغم أنها مجرد مسودة، إلا أنها كانت مرسومة بإتقان.
“آه، لا نلومك.
الحب في سن صغير كالوقود… يشتعل بعنف، لكنه يحرق كل ما يجاوره.”
كان مضحكًا أن أقول كلمات كهذه وأنا لم أتجاوز التاسعة عشرة بعد، إلى رجل تخطّى الأربعين، لكن عندما رأيت ارتجاف حدقتي لوران، أدركت أنه لم يستهِن بي.
“أخبرني بهدوء، لوران… من هي تلك المرأة التي تقلق بشأنها؟ ربما لم تعُد في العاصمة، أو أنها كانت مجرد نبيلة ثانوية يسهل التصرّف معها.”
“ذاك… لا يمكن.
تلك المرأة… لم تكن نبيلة عاديّة.
حتى وإن كنتما من الطبقة الدوقية…”
“تلك المرأة… لوران.”
“ن-نعم؟”
“لوران.”
“…نعم!”
“تسك، تسك.
لوران؟”
“…ن-نعم؟”
أغمضت عينَيّ وهززت رأسي بأنّة، وكأني أمنحه فرصة ليفهم الأمر بنفسه، لكنه لم يدرك رغم أني ناديت اسمه الحقيقي مرارًا.
“كما قلت، زوجي بطلٌ حربي ودوق في هذه الإمبراطورية، وأنا زوجته.
فإن كان ثمة من هو أعلى مكانةً منّا… يا لوران؟”
“أنـا! اسمي رون!”
“لقد ناديتك ‘لوران’ مرارًا أمامك.”
تقدّمت نحوه بينما كان يزحف متراجعًا حتى التصق بالشجرة خلفه، كغزال حُشر في زاوية ضيّقة.
رفعت كلتا يديّ، حاصرة إياه بيني وبين الجذع.
أن أرى هذا الرجل الوسيم، بعيونه الزرقاء المبللة، يرتجف في هذا الوضع…
كان مشهدًا مثيرًا حقًا.
“…أسيل.”
…سأتذوّق هذا المشهد لاحقًا.
كاسيون يشدّ على أسنانه وينطق اسمي، حين اقترب وجهي من وجه لوران حتى أوشك أن يلامسه.
“سأكرر كلامي… ذاك الشخص ذو المقام الأعلى… لا بد أنه من العائلة الإمبراطورية.”
“هك!”
رفع لوران يديه فجأة ليكمم فمه، لكن صرخة خافتة قد أفلتت.
عادت الدموع تتجمّع في عينيه وهو يحاول عبثًا أن يُخفيها.
“كان بإمكانك الاكتفاء بسرقة بعض الطلاء أو الخبز، يا لوران.
لكنك تجرأت وسرقت قلب الإمبراطورة؟ أي جرأة هذه؟”
“…هك… هك! لا، لا… هك!”
بدأ يشهق، وبدت ملامحه مشوشة، مذهولة.
“معك حق.
حتى نحن لا يمكننا حمايتك إن كنت قد أقمت علاقة جسدية مع الإمبراطورة، وليس فقط عاطفية.
بل، وإن لم تكتفيا بمشاعر القلب فقط…”
ابتسمت، ومررت إصبعي إلى ياقة قميصه، ثم سحبتها قليلًا إلى الأسفل، كاشفة عن عنقه وعظمة الترقوة الرفيعة التي لا تليق إلا برجل جميل.
“ألم تتشاركان الحب والسرير أيضًا؟”
“…!!”
انهارت دموعه التي كان يقاومها أخيرًا.
وفي تلك اللحظة، دفع كاسيون إصبعي بهدوء وأبعدني عنه.
ما بالك تحدّق بي هكذا؟ ألم أكن أُجيد إخافته؟
“من تعبير وجهك، يتّضح أنك تدرك أن شريكتك كانت الإمبراطورة، وأن الطفل الذي وُلد منها هو الأمير الأول.”
“أرجوكما… توقفا! لم أكن أعلم!”
ارتعد لوران من الاتهام المباشر، وبدأ ينظر حوله بذعر، متوسلًا.
عجيب…
نحن نقوم بالشيء ذاته، لكنني أبدو وكأنني أُمازحه، بينما يبدو كاسيون كأنه يُرهبه بصدق.
“ما الذي لم تكن تعلمه؟”
“لم أعلم أنها الإمبراطورة! ظننت أنها مجرد نبيلة تدعمني.
عرفت بأمر الحمل لاحقًا فقط… أنا…”
“لكنّك كنت تعلم أنها امرأة متزوجة.”
“…!!”
تقلّص لوران أكثر، متشبثًا بالعشب من حوله كمن يبحث عن طوق نجاة.
من حسن الحظ أنني أخذت اللوحة منه مسبقًا.
“الجميع يفعل ذلك! النبيلات عادة ما يحتفظن بعشيق أو اثنين تحت مسمى الرعاية.
ظننت أن الأمر مقبول.
لم أعلم قط أنها الإمبراطورة! بل صُدمت عندما اكتشفت أن الطفل ذاك أصبح ولي العهد!”
“يبدو أن عليك أن تنتقي كلماتك بعناية.”
قلتها بنبرة صارمة، فارتجف من جديد، وشرع في البكاء والرجاء، بينما وجهه مبلّل، ويداه ما زالتا مشتبكتين بالعشب.
لقد دخل مرحلة الذعر.
“لا تبكِ هكذا.
يحزنني أن أرى تلك العينين الجميلتين مغمورتين بالدموع طوال اليوم.”
أخرجت منديلي، ومسحت دموعه بلطف.
فازداد شحوب وجهه أكثر.
“في الحقيقة، لا داعي لأن تنتقي كلماتك.”
مرّرت يدي بخفة على شعره الأشقر القصير، وقد كنت أتوق إلى لمسه منذ البداية، وابتسمت بمكر.
الشمس بدأت تغرب خلف التلة خلفي.
“ستضطر إلى الحديث أمام عدد أكبر من الناس، لذا من الأفضل أن تتحدّث بثقة.”
“م-ما الذي تعنينه…؟”
“ألستَ مجرد ضحية وقعت في فخ؟
كنت صغيرًا، ولم تعرف من تكون شريكتك.”
“ه-هذا صحيح.
لم أكن أعلم شيئًا.
وحتى الآن، أعيش في هذه القرية النائية…”
“تسك، لا تقل هذا.
ألم أقل إنك ضحية؟ من المؤلم أن تختبئ طوال حياتك بسبب هفوة ارتكبتها في شبابك.”
بدأ لوران يشكّ في تصرّفاتي المتقلبة بين التودد والتهديد، وعيناه المرتبكتان تعكسان صورتي المغمورة بشمس الغروب.
ترى، كيف أبدو في ناظريه الآن؟ كجرو لطيف؟ أم ذئب متحفّز؟
“تحدّث بثقة.
عد إلى العاصمة.
وكما قلنا، سنكون رعاتك.
حان وقت استعادة حياتك.”
“ماذا؟!”
“لوران المسكين… لن ندعك تتأذى.
فقط قُل الحقيقة.”
دفع كاسيون معصمي مجددًا، ثم رفع لوران المرتجف بيد واحدة.
صرخ لوران وحاول التملص، لكنه لم يكن سوى ورقة في مهب قبضته.
ضحكت وأنا أتمطّى براحة.
“ما رأيكم بالعشاء؟ سنطيل الحديث، فلنحضّر شيئًا من الحلوى.
لوران، هل سبق أن تذوّقت الماكرون؟”
آه…
انتظر، لا بد أنهم كانوا موجودين حتى قبل عشرين عامًا.
“لا بد أن الإمبراطورة أطعمتك إحداها في سريرها.
تذوّقها مجددًا…
واستعد طعم تلك الحلاوة.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ52
هزّ صاحب النُزل رأسه بتفهّم، وكأنّه استوعب الموقف جيدًا، رغم مشاهدته للوران وهو يُسحب باكيًا.
“على الأقل، ليس غبيًا تمامًا.
فقط، لا ترفعوا صوت الضرب.”
“بالطبع، لن نُحدث أي فوضى.
لا تصعدوا الليلة، فنحن لا نحتاج لذلك.”
“أنا واثق أنكم تعرفون ما تفعلون… آه، متى سيتعلم هذا في عمره؟”
كنا قد جلبنا طعامنا معنا، فاعتذرنا عن الوجبة المعتادة التي تُقدّم للنزلاء.
رمق لوران صاحب النُزل بعينين دامعتين، يتوسّل بنظرات ملؤها الرجاء، لكن الرجل تنهد وأدار وجهه، كأنه سئم من هذه المآسي المتكررة.
لا مجال لهروب لوران، لكن حتى لو فرّ للحظة، يكفينا أن ندّعي أنه سرق نقودنا المخصّصة للسفر، وحينها سيجتمع أهل القرية للقبض عليه.
وهذه فكرة مريحة إلى حدّ ما.
“هممم~ أين نضعه؟”
أغلقت الباب خلفي، وأنا ممتنة لأن الغرفة كانت أوسع مما اعتدنا في النزلات السابقة.
ثم التفتُّ، وطيّيت بطانية إضافية لتبدو كوسادة، وربّتُّ عليها.
“اجعله يجلس هنا.”
رمقني كاسيون بنظرة متحفظة، ثم فحص المكان قليلاً، أخرج حبلًا من الأمتعة، وربط يدي وقدمي لوران، ثم وضعه على البطانية.
آه، تصرف غير لائق.
“لا تفعل ذلك، إنه شاهد مهم.”
“تركه بدون ضرب ليدلي باعترافه يُعدّ معاملة إنسانية.”
“لا تكن قاسيًا، خاصة مع رجل وسيم مثله.”
“ها! والحق يُقال، الأمير الأول يشبه هذا الوجه الماكر كثيرًا.”
ليس مجرد تشابه، فلو وُضع الاثنان جنبًا إلى جنب بعد ترتيب مظهرهما، لما شكّ أحدٌ في أنهما أب وابنه.
الأمير الأول، الذي نشأ مترفًا ومكتفيًا، وورث من الإمبراطورة ملامح قوية، يبدو أكثر رجولة وثقلًا، لكن الفارق بينه وبين الإمبراطور الحالي واضح للغاية.
“هل… هل أرسلتكِ لإمبراطورة؟”
“هممم~
كلا لم ترسلني، بل هم يراقبونك لمنعك من الذهاب إلى العاصمة.”
“يراقبونني؟!”
“طبعًا.
هل تظن أنك أفلت من قبضتها بمجرد مجيئك إلى هذه القرية وتغيير اسمك؟ لا زالوا يتلقون تقارير عن كل تحركاتك.”
طبعًا، لا نملك دليلًا قاطعًا.
لكن بما أننا اخترنا إخافته بدلًا من استرضائه، فالترهيب هو خيارنا الآن.
“هذا مستحيل… لقد نفّذت كل ما طُلب مني، فلماذا لا يزالون…”
“كم أنت ساذج.
لن تفلت من قبضة الإمبراطورة حتى تموت.”
تبادلنا النظرات، نراقب وجه لوران المنهار المملوء بالذهول واليأس.
في الواقع، مجرد إبقائه حيًا وتحت المراقبة يشكّل مخاطرة من جانب الإمبراطورة، ما يدل على أنها لا تزال تحمل له شيئًا من المشاعر… حبًا أم ذكريات.
لكن تلك المشاعر لا تكفي لتغفر تهديدًا يمس دم الأمير الأول.
فإذا اشتدّ الأمر، قد تقرر التخلص منه لمحو الدليل.
لكن لم يكن هناك حاجة لشرح ذلك كله للوران، الذي لم يفكر بعد بهذه التعقيدات.
“لكن الوضع سيتغير إذا قبلت مساعدتنا.”
“تساعدونني؟”
“نعم، نرعى قضيتك.
ألم نخبرك بذلك من قبل؟”
“لكنكم قيدتموني… وهددتموني…”
لا يزال يتذمر وهو يبكي؟ نظرت إليه وهو يرتدي تعبير البراءة، ثم وضعت السوط جانبًا وبدأت ألوّح له بـ”الجزرة”.
“إلى متى ستعيش هاربًا، متخفيًا، تخشى كل ظل؟ إلى متى ستكبت قدراتك؟ ألا ترغب في إعلان الحقيقة بشجاعة وتحقيق العدالة؟”
“ومن أنا لأفعل ذلك؟ سيُقبض عليّ وتُقطع رأسي فورًا!”
“ألم نعدك بأننا سنمنع حدوث ذلك؟ كما قلت بنفسك، لم تكن تعلم أنها الإمبراطورة، وأنت الآن تُظهر شجاعة للاعتراف بالحقيقة أمام الإمبراطور، حتى وإن كلفك ذلك حياتك.”
“أنا لا أمتلك هذه الشجاعة.”
هل يفتخر بذلك؟ هل هذا فخر؟!
“الشجاعة موجودة في كل إنسان، ليست شيئًا خارقًا.
كل ما تحتاجه هو شرارة صغيرة—”
“أنا لا أمتلك حتى تلك الشرارة! أنا كحطب مبلل… لا، بل لا أملك حتى الحطب، ولا رمادًا حتى!”
“لم أكمل حديثي بعد!”
صرخت فيه وهو ينوح، فارتجف وسكت.
لماذا تقاطعني؟ نحن لا نرغب في إيذائك، بل نحتاجك حليفًا.
“أنت تفكر في الإمبراطورة فقط، لكن هل فكرت من هو الحاكم الحقيقي لهذه الإمبراطورية؟ إنك تخدع الإمبراطور الوحيد الذي وحدها.”
“هل تعلم ما أعظم خطيئة يرتكبها المرء؟”
“نحن نحاول أن نرشدك إلى الطريق الصحيح، لنُسهّل عليك الأمر، لكن إن واصلت هذا العناد، فهل تعتقد أننا جمعية خيرية؟”
لوّحت بالسوط مرة أخرى، فانبثقت دموع لوران.
بدأ الأمر يرهقني.
لا بد أن الإمبراطورة عانت كثيرًا مع هذا الرجل.
هل كان أسوأ في شبابه؟
“ما… ما الذي تريدونه مني؟ ماذا عليّ أن أفعل؟”
أخيرًا بدأ يلين!
“عليك أن تكشف الحقيقة.
سنقدّمك كشاهد أمام المحكمة الإمبراطورية.”
“الـ… محكمة؟!”
“نعم، المحكمة.
هل تظن أننا سنعلن أمرًا بهذا الحجم في الشارع؟ أنت شاهد، والمتهمة هي الإمبراطورة.
هذه محاكمة ستحدث ضجة كبيرة، لذلك يجب أن نعد لها جيدًا.”
“لن أفعل! لا أستطيع!”
“هل تعتقد أن لديك خيارًا؟”
نظرت إلى كاسيون، فاستلّ سكينه بهدوء.
ارتجف لوران وحاول المقاومة، لكن يديه وقدميه المربوطتين لم تساعداه.
“إما أن تحقق العدالة… أو تلقى العقاب.
ولن يلومنا أحد إذا قطعنا رأسك هنا والآن.”
“لكن… أهل القرية…”
“نحن أشخاص ذوو مكانة، ومن السهل تبرير معاقبة من أساء إلينا أو سرق ممتلكاتنا.
علاوة على ذلك، لا يبدو أن أحدًا في هذه القرية يكنّ لك ودًا أصلاً.”
قلت ذلك وأنا أتمعّن أظافري المصقولة بلا مبالاة، وخفض لوران رأسه.
لكنه سرعان ما رفعه مذعورًا عندما اقترب منه كاسيون ووضع السكين قربه.
دق دق—
“ماذا الآن؟ ألم أقل ألا يصعد أحد الليلة؟”
تمامًا حين كنت أستعد لاستخدام “الجزرة” بعد جولة من التهديد، ارتجّ باب الغرفة بعنف.
توقيت مزعج.
وما إن هممت بالنهوض حتى أمسك كاسيون بيدي، وهزّ رأسه برقة.
دق! دق دق!
“…من هناك؟”
«أنا، صاحب متجر الفنون! افتح الباب!
لوران! أعلم أنك هنا!»
“…هاه.”
تنهدت بدهشة.
صاحب المتجر؟ أليس هو من طرد لوران صباحًا وأمره ببيع جسده؟ لم يمر وقت طويل على بدء التحقيق، فكيف وصلت الشائعات بهذه السرعة؟
“أنا هنا! أنا بالداخل!”
من الواضح أن القادم ليس مجرد تاجر فنون.
لوران رسام، وهذا على الأرجح جاسوس للإمبراطورة، يتظاهر بأنها تشتري لوازم فنية.
وعند التركيز، يمكن تمييز أكثر من صوت بالخارج.
لكن لوران، الذي لم يدرك شيئًا، ظنّ أن أحد معارفه أتى لإنقاذه، فصرخ مستنجدًا.
خشية إثارة ضجيج، أشرت لكاسيون.
سحبنا لوران المربوط بالحبل، ووضعناه خلف السرير، ثم جلست بجانبه.
وبعد أن تأكدنا من اختبائنا، فتح كاسيون الباب ممسكًا بمقبض سيفه.
وكما توقعنا، لم يكن وحده، بل رافقه رجل ضخم البنية.
“ألم أقل لكم إن أهل القرية لن يقفوا متفرجين؟ فينسنت! فينسنت، أنا هنا!”
كم هو شخص مزعج.
تنهدت أنا وكاسيون في آنٍ معًا بينما دخل الرجلان الغرفة دون إذن.
لكن عددهم أقل مما توقعنا، ما يعني أن الإمبراطورة لم ترسل فرسانًا، بل مجرد مخبرين.
“يبدو أن الناس هنا مترابطون، فالشائعات تنتشر بسرعة. تهاجمون النُزل ليلاً من أجل مدين؟”
“…نعتذر، كنا نظنكم زوارًا عاديين.
ذاك الرجل مدين، لكنه صديق منذ الطفولة.
عندما سمعنا أنه خُطف فجأة، أصابنا الذعر.”
“حتى جلبتم رجلاً مفتول العضلات لتلقين الغرباء درسًا؟ يا لها من صداقة مؤثرة.”
“أي صداقة؟! لدي ديون عند لوران أيضًا، وليست قليلة! لا مانع لدي إن ضرب، لكن أن يهرب مع غرباء؟ لن أسمح بذلك!”
“ل-لم أكن أنوي الهرب! سأُسدد كل الديون! هؤلاء أجبروني على… ممف!”
حاول لوران النهوض، متمايلًا كدمية، رغم الحبال، فوضعت يدي على فمه وأعدته إلى مكانه.
من الأفضل التعامل مع الموقف بهدوء.
“إذا كان المال هو المشكلة، سندفعه.
فقط غادروا.
قولوا المبلغ الذي تريدونه، لا مشكلة.”
“…” “…”
“لماذا الصمت؟ هل بسبب تلك الصداقة؟ لا، هذا الرجل قال إنه لا يهمه. إذن؟”
ابتسمتُ، وكاسيون أغلق الباب خلفهم وأشهر سيفه.
حينها، فقط، تبدلت تعابير وجهَي الرجلين، وقد أدركا خطأهما.
“آه… لا داعي لكل هذا، أنتم نبلاء، لا داعي للعنف… أووه!”
سحب الرجلان أسلحة مخفية من ملابسهما، وتطاير خنجر نحو لوران فور رفع رأسه، لكن كاسيون تصدى له ببراعة.
لم يُسمع صراخ لوران إلا بعد أن استقر الخنجر في الحائط.
وبينما كنت جالسة بجانبه، راقبت لمعان سيف كاسيون وعينيه، ثم همست:
“هل ما زالوا يبدون كأصدقاء من القرية جاؤوا لإنقاذك؟”
أمسكت وجه لوران المرتبك وأعدته نحو الجبهة.
الرجلان، وقد تلطّخت ثيابهما بالدماء، استمرا في إلقاء الخناجر على لوران، متجاهلين الجراح.
لا يبدو أن أحدًا منهما تاجر بسيط.
“ألم أخبرك أن كل تحركاتك تُراقب، لوران؟”
“لكن فينسنت ظل يزورني منذ انتقلت! حتى عندما مرضت…”
“ربما جاؤوا ليتأكدوا من أنك لم تهرب حين اختفيت لأيام.”
“لكننا أصدقاء منذ عشرين سنة…”
“ألم يكن من الغريب وجود متجر فنون هنا في قرية صغيرة؟ وأنت الوحيد الذي يرسم.
من غيرك يستخدم أدوات رسم أصلًا؟ هذا المتجر أُنشئ لمراقبتك.”
ومع أنفاسه الأخيرة، امتدّت يد فينسنت نحو لوران.
إن كان هذا هو مفهوم الصداقة، فأنا لا أرغب بأي أصدقاء.
“نحن لسنا الوحيدين! فور مغادرتكم القرية، سيُبلّغ الجميع، وستصل فرقة النخبة الإمبراطورية! هل تظنون أنكم قادرون على مواجهتهم؟!”
“هل سمعت ذلك، لوران؟ قال فرقة النخبة الإمبراطورية.”
“الأمر ليس مزحة، دوقة!”
“يبدو أنهم جادون حقًا في قتلك.”
“أنتم…!”
لم يتمالك الرجل الضخم نفسه، وهاجمني، ليقع مباشرة على سيف كاسيون المغروس في صدره.
صوت اختراق –
“هاه…!”
التفت إليّ لوران مرتجفًا، وقد صدم مما رأى.
“منذ ذلك اليوم، لم تعش حياة طبيعية، لوران.
لقد عشت فوق مسرح ضخم أعدته الإمبراطورة لك.”
كأنك بطل عرض ترومان.
حتى الجارات اللواتي يحيينك صباحًا، قد يكنّ عميلات لها.
أشرت لكاسيون ليُعيد سيفه الملطّخ بالدم إلى غمده، بينما التقت عيناي بعيني لوران.
“هل ترى أننا نُبالغ في محاولتنا أخذك؟ لا.
نحن من سيتكفّل بك، إذا وقفت في المحكمة.”
“تتكفلون… بي؟”
“أنت ذاهب لتقول الحقيقة أمام الإمبراطور، مستعد للموت. كل من جلالة الإمبراطور وسمو الأمير… أعني الأمير الثاني الشرعي، سيرون شجاعتك.”
“ألن يعاقبني جلالته؟”
“سيغضب، بلا شك.
لكنه رجل عقلاني، خصوصًا مع اقتراب صراع الخلافة. سيدرك أن شجاعتك كانت أعظم، وأنك كنت ضحية أيضًا.”
“لكن… لكن…”
“نحن الشرارة التي ستوقد شجاعتك وغفران الإمبراطور.”
قضم لوران شفتيه الجميلتين بتردد، يظهر عليه الصراع الداخلي، ثم اقترب منه كاسيون ووضع يده على كتفه.
“فكر في المستقبل.
ليس فقط عفو الإمبراطور.
الأمير الثاني، الذي سيخلف العرش، سيُقدّرك كثيرًا.
ستعيش في العاصمة باسمك الحقيقي، دون خوف أو خفاء.”
“آه… الأمير الثاني…”
“نعم.
يُعرف بجوده، ولا يُضيّع من يخدمه بإخلاص.”
ارتخت شفتا لوران المجهدتان، وكأنه أدرك فجأة وجود أمل لم يفكر فيه من قبل.
“ص-صحيح.
ألا… ألا يكون ما أقوله دعمًا قويًا لوراثة الأمير الثاني؟ أنتم…ستحموني،أليس كذلك؟”
“لهذا جئنا.
لنحميك.”
قبض كاسيون على كتفه بثبات، والتقت أعينهما.
بشكله القوي، بدا كاسيون كجيش كامل في نظر لوران.
عمل رائع، يا زوجي.
“أعتذر إن بدا تصرّفنا عنيفًا… لكن هل تفهم الآن؟ كنا قلقين من أن تتهور قبل أن تسمع القصة كاملة، وتقع في يد الإمبراطورة مجددًا.”
جلستُ أرضًا كفلاحة بسيطة، محاوِلة فكّ القيود، لكنّ الأمر لم يكن يسيرًا.
يا إلهي… الجو بدأ يفسد.
“دوقة…”
“لوران.
لا تخف.
نحن بجانبك.”
لحسن الحظ، ناولني كاسيون خنجرًا صغيرًا، فظننت أن المهمة صارت سهلة… لكنها لم تكن كذلك.
حافظت على ابتسامتي الواثقة، وأنا أُكافح لفك الحبل كمن يؤدي واجبًا ملكيًا، بينما يهتز كاسيون ضاحكًا.
لا تضحك، ساعدني!
“سأفعل! سأُحقق العدالة، دوقة! سموّك!”
وحين قطعت أخيرًا حبل ذراعيه، انحنى لوران أمامنا بتصميم، معلنًا قراره.
ربّتُّ على ظهره برقة، وناولته الخنجر.
“لقد اتخذت القرار الصائب.”
والآن دورك في قطع الحبل عن قدميه…
وهذا أمر صعب فعلاً.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
53ⵌ
“… لماذا تحمل هذا الكم الهائل من الأمتعة؟ تخلَّ عن كل ما هو غير ضروري.”
“لكن…”
أنتزعت الحزمة من يد لوران المترددة، فتحتها لأتفقد محتواها، ثم رميتها مجددًا داخل المنزل الضيق المتسخ وأغلقت الباب خلفي.
“لنغادر.”
“ماذا عن أمتعتي؟”
“ولمَ تعبئ حقيبتك بألوان مستعملة انتهى عمرها؟ تعال بجسدك فقط، هذا يكفي.”
لم يكن في الحقيبة أي شيء ذي فائدة.
لا لوحات، ولا أشياء ذات ذكرى، فقط كومة من الخردة التي ستثقل سفرنا وتعيقه.
“هل يجب أن نهرب حقًا في منتصف الليل؟ لم أركب جوادًا منذ زمن بعيد… ألن يكون من الأفضل أن نسير في وضح النهار؟”
“علينا المغادرة دون علم أهل القرية.
ألم أخبرك أن الإمبراطورة تراقب؟ إذا غادرنا مكشوفين، ستصل أخبارنا إليها فورًا.”
وأنا أوبّخ لوران وأمد يدي، كان كاسيون، الذي سبقنا على جواده، يمد ذراعه ويساعدني على الصعود بسلاسة.
لحسن الحظ، لدى لوران بعض الخبرة في ركوب الخيل من أيامه مع الإمبراطورة، لذلك كان كاسيون قد أعد جوادًا إضافيًا خلال النهار.
كان من الأفضل أن أركب وحدي، بينما يرافق كاسيون لوران للمراقبة.
لكنني لم أجرؤ بعد على ركوب الخيل وحدي عبر الممرات الجبلية، وأكد كاسيون أنه حتى لو حاول لوران الهرب، فبإمكانه اللحاق به بسرعة.
هذا يعني أننا لسنا مستهترين.
“أوه، يا إلهي! اهدئي، أيتها الفرس!”
“…”
“…”
ورغم أن لوران لم يكن سيئًا تمامًا مثلي في ركوب الخيل، إلا أنه لم يكن ماهرًا، لذا بدا الهروب مستحيلاً.
تنهد كاسيون وقاد جواد لوران إلى الطريق الصحيح.
“لن نبتعد كثيرًا، فقط نعبر الممر الجبلي إلى القرية المجاورة.
من المهم أن نعود سريعًا، وعلينا أيضًا إرسال رسالة إلى صاحب السمو الأمير الثاني لتقييم الوضع.”
لكن لوران، المنشغل بتهدئة حصانه وتربيت عنقه، لم يبدو منتبهًا لكلام كاسيون.
شعرت بشيء من التعاطف، وكنت أظن أنني ربما أبدل مكانه معه، لكن كاسيون، كأنه يقرأ أفكاري، لف ذراعه حول خصرى بإحكام.
“لا تخوضي في أفكار لا لزوم لها، أسيل.”
“لكنني أفضل منه، أليس كذلك؟”
“…”
“…”
“… حسنًا.
صمتك يجرحني أكثر من الكلام.”
عادة، حين تجد شخصًا يعجز مثلك، تشعر بالارتياح، لكن أداء لوران البائس دفعني إلى رفض أن أكون في مستواه.
مدفوعة بجروح كبريائي، قرصت ظهر يد كاسيون، لكنه لم يلتفت، بل قاد حصاننا خلف جواد لوران.
“حاولي إرخاء جسدك قدر الإمكان، وتمسكي بلجام الحصان.
سأقود الجواد من الخلف.”
“هذا…”
“هل هذا ممكن حقًا؟!”
اللعنة! تحدثت في ذات اللحظة مع لوران.
هل هذه حالة انعكاس أو شيء من هذا القبيل؟
عادةً كنت أقول “أنا جميلة على الأقل”، لكن هو أيضًا ليس سيئ المظهر… وهذا مزعج.
“أسيل، هل أنت متضايقة؟ لماذا صمتك غريب؟”
“اصمت.
أنا في حالة تأمل ذاتي.”
“إن كنت تتألمين، من الأفضل ألا تخفي ذلك.”
قلبي هو الذي يتألم، هذا كل ما في الأمر.
أغلقت شفتيّ، متوقعة أن الطريق إلى القرية التالية سيكون أطول مما ظننّا.
—
“ي-يا سيدت…”
“لا تستخدم الألقاب، فقط نادني سيدتي.”
“س-سيدتي! هل يمكنني النزول والمشي؟ أرجوك… أنقذيني!”
على عكس ما قاله كاسيون بأننا سنصل خلال ثلاث ساعات، وصلنا القرية المجاورة بعد حلول الظلام.
كان لوران، الذي بالكاد تمكّن من البقاء على ظهر جواده، يترجّانا بوجه شاحب منذ أن بدأت منازل القرية تظهر.
“…هاه… انزل.”
تنهد كاسيون، كما لو كان فعل ذلك آلاف المرات، وأنزلني أولًا، ثم نزل هو وأمسك بلجام جواد لوران الذي تمسك به.
“سيدي، هل تساعدني أيضًا؟”
“هل تبدو لي كأنك آنسة؟”
مد لوران يده لكاسيون بلا خجل، لكن الأخير صده ببرود.
وفي النهاية، انزلق لوران من على الحصان وسقط على مؤخرته، مما أثار ضحكات المارة.
“ما الذي جاء بك إلى هنا وأنت لا تجيد ركوب الخيل؟ هل جئت لحضور المهرجان؟”
لكننا رغم ذلك كنا نتمتع بمظاهر جذابة، فأهل القرية استقبلونا بودّ.
هرع الأطفال الذين يعملون كمرشدين ليأخذوا اللجام ويقودونا إلى النزل.
“أين أكبر غرفة في النزل؟”
“نزلنا يا سيدي، ويوجد لدينا حمامات أيضًا!”
رفع أطولهم يده، وما إن سلّم كاسيون اللجام، حتى تراجع الآخرون بغضب.
كلما اقتربنا من العاصمة، بدت القرى أكبر وأفضل تنظيمًا.
“مهرجان؟ ما هو هذا المهرجان؟”
“أوه! ألم تعلموا؟ اليوم هو زفاف أصغر بنات اللورد!”
حين نظرت حولي، رأيت أهل القرية ينظفون الشوارع استعدادًا للاحتفال.
ومن حسن الحظ أن وجدنا غرفة شاغرة.
“أليس من المعتاد أن يقام الزفاف في بلدة العريس؟”
“لا تقل ذلك.
اللورد يحب ابنته الصغرى كثيرًا، فاختار لها زوجًا من أبناء قريتنا حتى يبقى بالقرب منها.
لم يتحمل فكرة الفراق عنها.”
“انظر كيف تحتفل القرية كلها! ستشهدون احتفالًا فخمًا اليوم مع الطعام الكثير.
لقد أتيتم في الوقت المناسب.”
يبدو أن الحب تجاه الابنة لم يكن قاصرًا على اللورد فقط، بل كان مشتركًا بين جميع أهل القرية.
يا لها من علاقة بين أب وابنته كأنها من قصص الخيال.
“هذا جيد.
صخب الاحتفال سيساعدنا في إخفاء أثارنا.”
ومع ذلك، بدا على كاسيون شيء ما يقلقه.
“ما الأمر؟”
“لا شيء، فقط قالوا إنه زفاف كبير…”
“وماذا بعد؟”
“لا شيء، لا بد أنك متعبة.
هيا بنا إلى النزل.
ألم تقولي إنك تريدين الاستحمام؟ لوران، كفّ عن التحديق واتبعنا.”
“ماذا؟ لماذا توقفت فجأة؟ لقد أثرت فضولي.”
بدا وكأن هناك أمرًا ما يشغل باله.
تجنب نظرتي، وأمسك بلوران من ياقة قميصه بينما كان يحدق بأحد محلات الشواء.
ربما لم يرد أن يقول شيئًا بوجود لوران، سأستفسر منه لاحقًا.
“يا سيدي! هذا هو الطريق!”
لوّح الصبي الذي كان يدلنا على النزل.
بدا فعلاً أكبر نزل في القرية.
“كيف تريد ترتيب الغرف؟ قلت تريد غرفة كبيرة، صحيح؟”
“نعم، غرفتان، وحوض استحمام في الغرفة الكبيرة.”
“حاضر، سيدي!”
ركض الصبي إلى صاحب النزل بعدما تلقى بقشيشًا، واستلم المفاتيح ضاحكًا. نظرت باستغراب.
“غرفتان؟ ماذا لو هرب لوران أو حدث شيء حين نتركه وحده؟”
“الغرفة الكبيرة مخصصة لراحتك، أسيل.
سأبقى مع لوران.”
“ماذا؟”
“لقد أرهقتِ نفسك كثيرًا.
خذي قسطًا من الراحة.”
آه، صحيح، من الأفضل أن نحصل على غرف منفصلة.
رغم أن هذا أمر بديهي، إلا أننا كنا ننام معًا في نُزل صغيرة لأن الناس يتساءلون عن سبب نوم زوجين في غرف منفصلة.
لهذا ظننت أننا سنفعل الأمر نفسه هنا.
لكن مع وجود ثلاثة أشخاص، نبدو كمجموعة غير محددة العلاقة، والغرف المنفصلة خيار معقول.
“حسنًا… سأستحمّ وأرتاح قليلًا، ثم أتناول طعامًا لذيذًا.”
مع ذلك، لم أشعر بالحماس لذلك.
هل أنا متعبة جدًا؟ لا، في الواقع، لا أشعر بالإرهاق.
“ملابسك وحذاؤك في حالة يرثى لها.
من الأفضل أن نشتري لكِ جديدًا.
انتظري هنا، أسيل.”
“سأذهب معك.”
“سترتدين زي العامة، صحيح؟ لا تقلقي، أعرف مقاسك.”
ملابس العامة لا تتيح خيارات كثيرة، بعكس فساتين النبلاء.
أقمشة متينة وتصاميم بسيطة فقط.
وبينما حاولت اللحاق به، دفعني كاسيون بلطف إلى الغرفة الكبيرة، مصممًا على كلامه:
“لا تخرجي، ارتاحي فقط.”
“سيدي، هل أستطيع أن أرتاح في الغرفة أنا أيضًا؟”
“لا نقاش، تعالي معي.”
إغلاق الباب.
حتى لوران أخذه معه حين ذهب لشراء ملابسي؟ أليس هذا مزعجًا؟ لو كان سيجلس في الغرفة على أي حال، كنت سأتمكن من مراقبة لوران.
“… الغرفة واسعة.”
رغم صغرها مقارنة بغرفتي في قصر الدوق، شعرت بفراغ غريب، حتى مع وجود حوض خشبي كبير ومساحة مريحة.
“هل كنت أفضل الغرف الضيقة؟”
لا، لقد نشأت في غرفة أشبه بالمخزن، وأحببت رحابة غرفة القصر، فلماذا هذا الفراغ الآن؟ حتى السرير يبدو كبيرًا جدًا.
“على كل حال، سأستحم.”
كل شيء يسير على ما يرام، لكن شعورًا غريبًا يراودني…
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
54ⵌ
“أسيليا، أسيليا!”
استيقظت على صوت طرقات متتابعة.
لم أدرك مدى الإرهاق الذي ألم بي.
يبدو أنني غفوت لبعض الوقت وأنا غارقة في الماء الدافئ، والآن كاسيون يناديني من خارج الباب.
“آه، الجو بارد! أنا هنا في الداخل!”
لماذا لا تردين؟ هل حدث شيء؟
على ما يبدو، كنت نائمة لفترة طويلة، فماء الحمام الذي سخّنه العاملون في النُزل حتى أصبح يغلي، قد برد الآن.
خشيت أن أصاب بالزكام، فنهضت لأرتدي ملابسي، لكني لاحظت أنها مغطاة بالأوساخ.
لا أود أن أرتدي هذه الملابس بعد أن استحممت.
“أسيليا، هل يمكنني الدخول؟”
“لحظة فقط… حسنًا! يمكنك الدخول الآن!”
لابد أن كاسيون قد اشترى ملابس جديدة، سأرتديها.
أما الآن، فقد التففتُ بملاءة احتياطية وفتحت الباب.
“ماذا كنت تفعلين هناك…!”
كان كاسيون ينتظر بفارغ الصبر، يطرق قدميه، ويراقب لوران وهو يقف بجانبه.
وعندما رآني، بدأ بالصراخ، لكنه سرعان ما دفعني إلى الداخل.
بانغ!
“ماذا تفعلين؟”
“وماذا تفعل أنت!”
صرخت حين رأيت لوران الذي حاول أن يتبع كاسيون للدخول، يكاد يصطدم بأنفه في الباب الذي أغلق أمامه.
لكن كاسيون صاح بصوت أعلى مني.
كان على وشك أن يعطيني الملابس، لكنه أدبر وجهه بنظرة استياء عندما رآني ملفوفة بالكامل بالملاءة، بذراعيّ معًا.
“ماذا لو تركت لوران وحيدًا في الخارج! يجب أن تدخله!”
“هل جننتِ؟
تريد أن تسمح لرجل بالدخول وأنتِ على هذا الحال؟”
“أنا الآن مستورة أكثر مما أكون عندما أرتدي ملابس،
ما المشكلة؟
أليس أنت رجلًا أيضًا؟”
“بالتأكيد! لا تعاملني كحجر أو عشب على الطريق، أنا رجل أيضًا يا أسيليا!”
“ومن قال إنك لست كذلك؟ لماذا تتصرف هكذا؟ حقًا.
فقط ضع الملابس هناك وأدخل لوران بسرعة.”
“لن أفعل حتى وإن امتلأت عيناي بالأوساخ.”
يا للأسف.
لو كنا في الخارج لكنت التقطت بعض التراب من الأرض ورششته في عينيه.
رأيت إصرار كاسيون المطلق على عدم التراجع، فاستسلمت أولًا.
وأدركت أن علي أن أرتدي ملابسي سريعًا لأسمح بدخول لوران، فتقدمت نحو الملابس التي وضعها على السرير.
“ماذا تفعلين!”
“آه، لقد أُذعجت.
أنا أرتدي ملابسي!”
كما لو كنت أغير ملابسي داخل الملاءة، التويت داخلها وأسحبت يدي لأرتدي الملابس.
تراجع كاسيون بازدراء، وابتعد إلى أقصى ركن في الغرفة، مصرفًا نظره.
لبرهة، تساءلت هل أبدو كوحش يفقس بدلًا من أن أكون أرتدي ملابس وأنا أتلوى داخل الملاءة.
“هاه، هل أنت مستاء لأنك متعب جدًا؟ سأطلب منهم تغيير ماء الحمام، فلا بد أن…”
“لا حاجة! لستُ أتعنّت فقط، بل…”
كاسيون، الذي كان يواجه الحائط كأنه يتأمل، التفت عند كلماتي، لكنه شحب، غطى فمه وتمايل حين رأى أنني أخفض الملاءة.
“يبدو أنك على وشك الإغماء.
لا تبالغ.
لقد أرتديت ملابسي الآن.”
“أرجوك… قولي شيئًا أولًا، أسيليا!”
“نعم، نعم.
لقد غيرت ملابسي تمامًا.
سأدخل لوران، فلا تتفاجأ، يا دوق الطائر الصغير~”
مندهشًا حتى من لهجتي الساخرة، أمسَك كاسيون صدره وأخفض وجهه الشاحب.
“آه، سيدتي! ظننت أنني فعلت شيئًا خاطئًا.”
عندما فتحت الباب، كان لوران واقفًا هناك بوجه بريء، يطرق قدميه، بعيدًا عن أي محاولة للهروب.
لحسن الحظ، هو غبي جدًا.
“الملابس تناسبك جيدًا.
يبدو أن الدوق له ذوق رفيع.
لقد أوصيت بلباس زهري.”
“ماذا؟”
“في هذه الأيام، حتى عامة الناس يقلدون ملابس النبلاء، يصبغونها بألوان رخيصة لصنع أزياء ملونة.
ظننت أن الفستان الوردي سيكون مناسبًا مع لون شعرك…”
“…”
هل هو جاد؟ حسنًا، هناك العديد من الملابس الوردية الجميلة، لكن اللون الناتج عن صبغة وردية رخيصة على قماش خشن وغير مبيض واضح حتى دون رؤيته.
“هاهاها.
الآن، وبالنظر، يبدو هذا الزي أفضل بكثير من االوردي.
أشعر بالخجل من أنني أوصيت بالثقة في ذوق فنان.”
كاسيون، الذي بدا نصف منهار بسبب تصرفي، كان يتطلع بين لوران وبيني، يغلق عينيه بإحباط.
هل يعاملني على قدم المساواة مع لوران؟ ما الخطأ الذي فعلته؟
“بالمناسبة، يبدو أن الضجيج يزداد بالخارج.
هل تنويان البقاء هنا؟”
جاهلًا الأجواء، استمر لوران في الثرثرة، معبرًا عن رغبته في رؤية المهرجان، وتعمق تنهد كاسيون.
حسنًا، سيكون من الصعب اصطحاب لوران في مكان مزدحم.
لكني أود رؤيته أيضًا.
“شكرًا على الملابس.
الآن يجب أن تستريح.
هذه المرة سأخرج وأشتري بعض الطعام في الوقت نفسه.”
“مستحيل.”
مهما حاولت أن أُفهمه أنني سأكون حذرة، وقف كاسيون وعيناه متسعتان.
احمرار دمه واضح وهو ينظر إلينا، وكأنه يريدنا أن نرتاح، لكنه عنيد.
“لا ينبغي لأي منكما أن يبتعد أكثر من ثلاث خطوات عني.”
“إذاً ستكون حارسًا لأجمل شخصينفي العالم.”
[شوي من ثقة أسيل]
“…”
غَطى كاسيون وجهه بيده الكبيرة مرة أخرى.
“انظروا، اللورد وابنته يخرجان! لنذهب لنشاهد!”
الاحتفال في القرية بمناسبة زفاف ابنته كان حقًا رائعًا وفخمًا.
كل شارع مضاء بالفوانيس وأعلام ملونة صغيرة، مما جعله مشرقًا وحيويًا رغم الظلام.
كنا قد أكلنا من الأطعمة الشعبية المتنوعة حتى شبعنا، وصرنا نستمتع بجولاتنا، نحمل أسياخ الفاكهة للحلوى.
على الأقل، كان لوران وأنا نغوص في جو المكان.
“لماذا تزعجين نفسك… أسيليا!
قلت لك ألا تبتعدي!”
لكن صراخ كاسيون وهو يحمل سيخ فاكهة مغطى بالسكر لم يردعني.
انضممتُ مع لوران إلى الحشد الذي يحاول رؤية زفاف أصغر بنات اللورد، ورأينا قريبًا امرأة تبتسم خجلاً على شرفة قصر اللورد، تبدو واضحة من هنا.
“يا لها من لطيفة.”
“…هل هي ليست أصغر منك كثيرًا، سيدتي؟”
كانت الفتاة الشابة، المحمرة كالتفاحة، تلوّح بيدها وتقف بين عريسها والرجل الذي بدا وكأنه والدها، اللورد، جميلة حقًا ومحبوبة.
متجاهلة كلام لوران، انضممت إلى الناس الذين يباركون لها مستقبلًا سعيدًا.
“مبروك، أتمنى لك السعادة~!”
وأنا ألوّح بحماس بسيخ الفاكهة، مندمجة في جو المهرجان الجميل، نظر إلي كاسيون بنظرة غامضة.
“…إنه حقًا زفاف فاخر.”
“ز-زفافك أيضًا لابد أنه كان بهذا الفخامة، أليس كذلك؟”
لوران، الذي كان على وشك أن ينادي كاسيون بـ”الدوق” مرة أخرى، ابتسم لنا.
ضحكتُ متذكرةً قفازات شبيهة بشبكة البصل وفستاني الضخم الذي كان ينزلق من على كتفيّ.
تلك ذكريات أيضًا.
“زفافنا كان مميزًا بطريقة مختلفة.”
“بالطبع، أنتما تبدوان طويلين وأنتِ جميلة وهو وسيم، لابد أنه كان مذهلًا.”
“المشاهدون لم يستطيعوا إغلاق أفواههم.
أليس كذلك، كاسيون؟”
ضحكتُ وربتُ على كتف كاسيون، لكنه لم يكن في مزاج جيد.
نظر إلى ابنة اللورد بفستانها الفخم، ثم إليّ، وتحدث بصوت متردد.
“…لا أعرف لماذا فعلت ذلك.”
“هاه! لا تخبرني أنك تندم على زواجك من سيدتي… لا،
لن أكمل.”
أغلق لوران فمه أمام نظرات كاسيون القاتلة التي كادت تقتله بغض النظر عن من حوله.
ظللت أضحك ووافقت على كلامه.
“كنا مجانين قليلاً في ذلك اليوم.
وكنا مستعجلين أيضًا.”
“…ألا تندمين؟”
“ذلك اليوم؟ أأبدًا.
أعتقد أنه كان قرارًا جيدًا.”
على الرغم من أن ما تلا ذلك لم يكن كله جيدًا، إلا أنني لا أندم.
فقط فعلت ما بوسعي في ظروفي.
“لا، أنا أيضًا لا أندم على الزواج منك.
فقط… الأمر كان…”
“مربكًا جدًا؟”
“…”
ضحكت وأنا أعض بقايا الفاكهة على السيخ.
كانت حلوة أكثر من ذوقي، لكن أحيانًا يكون هذا مقبولًا.
“ما الفارق؟ لقد استمتعتُ.”
عندما أفكر في الأمر، لقد قبلت كاسيون آنذاك.
رغم أنه كان أشبه بصدام أسنان.
“لا يهم أصلًا، لأنه ليس زواجًا حقيقيًا.”
وقفت على أطراف أصابعي لأهمس كي لا يسمع لوران، وكاسيون، الذي انحنى بطبيعة الحال ليقرب أذنه، تجمد.
هل كان من الخطير ذكر العقد في الخارج؟
لكنني حقًا…
“سعيدة لأنني تزوجتك ذلك اليوم.”
شعرت أنني سأظل أبتسم كلما تذكرت ذلك اليوم.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
55ⵌ
هاه، ما هذا الضجيج المزعج!
رغم أن ذروة الاحتفال قد انقضت، إلا أن أصوات السكارى المتجولين في الشوارع لم تهدأ طوال الليل.
حاولتُ أن أغمض عينيّ وأغطي أذنيّ بالوسادة هربًا من ضحكاتهم العالية، لكن النوم أبى أن يغمرني.
لم تكن الضوضاء من الخارج فقط، بل شعرت بقلق غامض يخيم على داخلي دون تفسير.
كان تصرف كاسيون غريبًا بعض الشيء قبل قليل…
تلك النظرات التي رأيتها تحت وهج فوانيس الليل لم تكن كنهار اليوم؛ كانت تحمل أشياء لم تُقال، عيون حدّقت بي بعمق، ويد أمسكت بيدي بقوة حتى لا نفرق وسط الزحام.
دائمًا ما يقاطع كلامه فجأة.
حين أفكر، ألاحظ أنه كثيرًا ما يترك جملاً غير مكتملة، كأنه يخفي شيئًا وراء شفتيه، رغم أن وجهه يُظهر عكس ذلك.
من المدهش كيف يبتلع مشاعره كفتاة خجولة، مع أنه يبدو صريحًا وصارمًا.
نحن في علاقة تعاقدية، فهل لا يجب أن يشاركني همومه؟
وعندما استرجعت العقد، أدركت أننا سننهيه قريبًا بمجرد إرجاع لوران.
كم يبدو الأمر تافهًا.
بينما كنت أضرب الوسادة محاولًة طرد النعاس، فجأة أدركت أن كاسيون ليس وحده في الغرفة المجاورة، فشعرت بدوار.
بالطبع، عقدنا مستمر حتى يتولى الأمير الثاني العرش، لكن الحقيقة أن كشف لوران سر الإمبراطورة وإثبات أن الأمير الأول ليس من دم الملك يعني أن الأمر قد حُسم.
كنت أظن أن الأمر بعيد، لكن اليوم، عندما شاهدت زفاف ابنة اللورد، تذكرت زفافنا الفوضوي.
لا يبدو أنني أعرف كاسيون منذ زمن طويل، ومع ذلك مضى فصل وبدأ الجو يبرد.
سارت الأمور أفضل مما توقعت، ووجدنا لوران بسرعة.
على هذا النحو، سينتهي العقد قبل الشتاء بلا شك.
هل سنكون مطلقين قبل عام؟ ألا يبدو ذلك مخزيًا؟
هل كان يجب أن أقترح الاستمرار في العقد لعام بعد انتهائه؟ ألن يزيد الطلاق السريع من سمعته السيئة؟ لست مترددة، بل منطقيًا، لكي لا يبدو الأمر كزواج تعاقدي، من الأفضل الاستمرار فترة معينة.
لكن إذا كان كاسيون يرغب في علاقة حقيقية، ربما من الأفضل تحريره سريعًا.
وإن أردتُ بناء حياتي من جديد، فلا بد من استلام المال سريعًا.
بالتأكيد سنبقى أصدقاء بعد انتهاء العقد، وربما نتبادل الرسائل، فلماذا هذا الشعور بالثقل؟ دفنت وجهي في الوسادة وزفرت بلا سبب.
…طقطقة…
سمعت صوتًا واضحًا رغم أن وجهي مطمور.
غرفتي في الطابق الثاني من النزل، وكانت الأصوات التي سمعتها حتى الآن تأتي من الشارع أدناه.
لكن الصوت الذي سمعته للتو… بدا وكأنه يأتي من تحت النافذة مباشرة، صوت مقلق جعلني أحتبس أنفاسي وأتوتر.
خبط… خبط… طقطقة.
لا ينبغي تجاهل حدس كهذا.
حبست أنفاسي، وشحذت حواسي، متيقنة أن أصواتًا صغيرة تتكرر خارج النافذة.
لا وقت لاستدعاء كاسيون، قد يكون مجرد حمامة أو شيء، لكنني تحركت قبل التفكير.
رتبت وسادتين لتبدو كأن شخصًا مستلقي تحت الغطاء، وبحثت عن سلاح.
كان يجب أن أشتري سكين دفاعي.
…!
عضضت شفتي، واستمررت في البحث حتى وجدت سكينا صغيرًا نستخدمه لتقطيع الفاكهة كحلوى.
أمسكت به بسرعة وزحفت تحت السرير.
طر-ق.
وبفارق ضئيل، انفتح النافذة بصوت مزعج للقفل، ومن دون أن أسمع خطوات، رأيت قدمين تدخلان الغرفة من منظوري تحت السرير.
ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟
فكري سريعًا، أسيليا.
خدعة الوسادة ستنكشف قريبًا.
لا بأس، كاسيون في الغرفة المجاورة.
اهدئي.
طعنة–
“ما هذا؟”
بينما كنت أقاوم بصمت، طعنت الرجل عندما تسللت يداها الى الوسادة المزيفة، وتراجع مرتبكًا.
الضربة الأولى دائمًا مفتاح النصر.
قبل أن يدرك الرجل أنني مختبئة، جمعت كل قوتي وطعنته بسكين في كاحله الأيمن.
“آه!”
استهدفت وتر أخيل لضربة قاتلة، لكن السكين لم يخترق نصف عمقه.
ظننت أن تأثيرها لن يوقف تحركه طويلًا، فحاولت الهرب.
لا، حاولت الركض.
“أيتها الكلبة!”
“آآه…! اتركني!”
مسك الرجل شعري قبل أن يتفقد قدمه.
لم أتردد في قطع خصلة من شعري، لكن بسبب صغر السكين، شعرت بألم كتمزيق فروة رأسي، ولم تكن حركتي سريعة بما يكفي.
لكن حتى لو لم أفلح في الهرب، يمكنني المقاومة.
“كاسيون! كاسيون!!”
صرخت بأعلى صوتي لإيقاظه في الغرفة المجاورة.
في الوقت ذاته، وبفضل قص شعري، أخفضت جسدي الذي فرّ من قبضته وركلت كاحل الرجل بكل قوتي.
للأسف، كان التأثير أقل لأنني كنت حافية القدمين، لكن بدا أن الضربة أصابته لأن الرجل تعثر للأمام.
لكن هذه المرة أمسك بحافة ثوبي.
“آآه، يا لك من قاتل عنيد!
كاسيون-!”
بينما جُررت بقوة وكدت أسقط فوق القاتل، مزقت حافة ثوبي.
سأشتري خنجرًا حال خروجي من هنا.
“اخرجي!”
كانت الغرفة التي بدت واسعة مقارنة بالنُزل الأخرى حين دخلنا، تبدو الآن ضيقة ومزعجة.
رميت كل ما بيدي – مصابيح الزيت، صحونًا، أي شيء – وركضت نحو الباب.
لم يكن هناك حتى خمسة أمتار، لكنني كدت أختنق.
“أيها الحقير…!”
لكن قبل أن يلحق بي الرجل الذي اقتصر على الشتائم، فتحت الباب بسرعة وخرجت إلى الرواق، وأغلقت الباب خلفي كأنني حبسته فيه.
بان-
“آه!”
بينما أضغط بكل قوتي على الباب لمنعه من الفتح، وأشعر ببعض الاطمئنان، انبثقت فجأة شفرة سيف، خدشت كتفي.
وفي الوقت نفسه، بدأ الباب يهتز بعنف.
لو تركت الباب، سيخرج الرجل، وإن لم أتركه، سيخترق السيف الباب الخشبي.
“آه، اللعنة.”
لو كان سكيتي أطول قليلاً، كنت سأحاول الطعن ردًا.
لا خيار، علي ترك الباب والركض مجددًا…
“أسيليا!”
“كاسيون!”
في تلك اللحظة، اندفع كاسيون من الغرفة المجاورة.
استدرت إليه، وارتاحت نفسي لسماعه، لكنه كان مغطى بالدماء.
“يا إلهي، أنت…!”
“احترسي!”
صرخت بذهول، واقترب كاسيون بسرعة فائقة وخطفني بعيدًا عن السيف الذي اخترق المكان الذي كنت فيه.
تسللت قشعريرة إلى عمودي الفقري.
“ابتعد! لوران!”
دفعني كاسيون نحو لوران الذي خرج من الغرفة التي كانوا فيها بوجه شاحب، ورفع سيفه وفتح باب غرفتي بعنف.
“آه…!”
سمعت صرخة شخص طُعن حتى الموت بعد ذلك.
ربما بسبب إصابتي لكاحل المهاجم، لم يستطع منافسة كاسيون.
لم أكترث أن أعود للتحقق من غرفتي، واقتربت من لوران المختبئ ولم يخرج رغم نداء كاسيون له.
“هل أنت بخير…؟”
اختنقت حين رأيت المشهد خلف الباب الذي تمسك به لوران.
يبدو أن الغرفة المجاورة تعرضت لهجوم أيضًا، فقد رأيت نحو اثني عشر رجلًا قويًا مرميين على الأرض، يملؤون المكان بالكامل.
“أسيليا! هل أنت بخير؟!”
ترددت حين رأيت آثار المعركة العنيفة، واقترب كاسيون وتفقدني من رأس إلى أخمص قدم.
وأنا بدوري فحصته بدقة، وهو يحمل سيفه الملطخ بالدماء.
“هذا دوري! هل أصبتِ؟ يا إلهي، كم عددهم الذين هاجمونا؟”
وسط ضجيجنا، بدا أن صاحب النزل قد استيقظ، فقد سمعت أصواتًا وأضواءً تتصاعد من الطابق السفلي.
تجاهلت تلك الأصوات، ولمست جسده المبلل بالدماء.
عند اللمس، لم تكن ملابسه ممزقة، بل كان دم القتلة فقط الذي لطّخها.
من الخارج، لم يظهر عليه أي جرح.
“أسيليا، شعرك…”
مع ذلك، رغبت في الاطمئنان، وحاولت خلع ملابسه لتفحص جسده، لكن كاسيون، الذي رأى ذلك، مد يده المرتجفة ونظر إلى ثوبي الممزق وشعري المقطوع.
“آه، قصصته بنفسي.
لستُ مصابة.
هل أنت حقًا بخير؟”
قصصت شعري الذي كان يصل إلى وسط ظهري ليصل تحت كتفي.
كان غير متساوٍ قليلاً، لكن الملابس التي اشتريتها قبل ساعات قليلة كانت زهيدة الثمن مقارنة بقيمة الحياة.
“أسيلي… أسيليا.
بحق السماء، هل أنت بخير؟ آسف لأنني لم أكن أسرع… هناك دماء على ذراعك!”
يدُه المرتجفة التي لم تستطع ملامستي تجولت حتى وجدت الجرح، أمسكت بذراعي.
قبل أن أرد، مزق القماش المحيط بالجُرح كأنه ورقة ونظر إلى الجلد الذي خدشه السيف.
“قلتِ إنك لم تصابي!”
“آه، مجرد خدش.”
حين رأيت لوران ينظر إلينا بحيرة، وصاحب النزل يصعد وهو يحمل فانوسًا، أزحت يده بسرعة وابتعدت.
ماذا سأقول؟ أنهم لصوص جاءوا لأخذ المال؟
“أم، هذا… آآه.”
قبل أن أتمكن من الاعتذار، استدار جسدي مجددًا.
في الرواق المضاء بفانوس صاحب النزل، كانت عينا كاسيون تتوهجان بحمرة واضحة.
“لا بد أن أتأكد من عدم إصابتك في مكان آخر.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
56ⵌ
“أرجو عذر تقصيري في استقبالكما، صاحبَي السمو، فزفاف ابنتي شغلني عن أداء واجبي كما ينبغي.”
“لا عليك، بل نحن من يُفترض أن يعتذر لإثارة هذا الاضطراب.
سنلتزم الهدوء ونغادر مع أول ضوء للفجر.”
حتى الآن، لا تزال الضوضاء التي دوّت في النزل ترنّ في أذني كقرع الطبول.
لوران، المذعور الرافض للمغادرة، كاسيون الذي أصرّ على التأكد من خلوّي من إصابات أخرى، وصاحب النزل الذي استدعى فرسان الإقليم فور رؤيته أكوام الجثث.
كان المهاجمون أكثر عددًا من أن يكونوا مجرد لصوص، وبدوا منظّمين تمامًا، بأقنعة وسلاح كامل.
أما رد فعلنا، فرغم قسوته، فقد كان مبرَّرًا.
اضطررنا لكشف هويتنا أمام لورد الإقليم، ويبدو أن المسألة ستمرّ بصمت، فهجومٌ على دوق أثناء ترحاله ليس بالأمر غير المألوف.
ولكن…
“…انتهى بنا المطاف في غرفة واحدة، كما ترى.”
وبما أننا قدّمنا أنفسنا كزوجين دوقيين، فقد اعتبر اللورد أن من الطبيعي أن نُمنح غرفة واحدة.
“ولا تفكّري لحظة في طلب غرفة أخرى، أسيليا.”
هدأ كاسيون قليلًا فقط بعد أن أكّد له طبيب القصر ـ بوجه شاحب ـ أن إصابتي لا تتعدى خدشًا بسيطًا في ذراعي.
ربما لأن القتال وقع تواً، كانت مشاعره ما تزال هائجة؛ بدا مضطربًا على غير العادة، حتى أن لوران أُصيب بالفزع منه.
“هل من الآمن تركه في غرفة منفصلة؟ ماذا لو فرّ هاربًا؟”
“لن يستطيع حتى الوقوف قبل صباح الغد.
ومع خجله الشديد، لا أظنه يتجرأ على الابتعاد بمفرده.”
وحين حاول لوران الدخول معنا، كزوجين، بدا على اللورد الارتباك، ثم أشار عليه بغرفة مجاورة.
ورغم أن لوران ـ الذي نجا للتو من محاولة اغتيال ـ قاوم بشدة، إلا أنه ما لبث أن غلبه النعاس بعد أن تناول المهدئات والأقراص المنومة التي وصفها الطبيب.
وقد تعهّد الفرسان بحراسة بابه طوال الليل.
أخبرنا اللورد بتلميح، مع بعض المال، أن لوران متورط في قضايا سياسية حساسة، فاقتنع.
أما الهجوم الأول، فكان أشبه بتجمّع من أهل القرية الذين راقبوا تحركاته، لذا لا بد أنه شعر بالخيانة والخذلان.
أما الهجوم الثاني، فكان محاولة اغتيال مدبّرة بالفعل، لا بد أنها تركته في صدمة عميقة.
حتى شخص بسيط مثله لا بد أنه بدأ يستوعب حقيقة وضعه.
“هل أنتِ بخير فعلًا من دون مهدئات أو علاج؟ لا بد أن ما حدث سبّب لكِ صدمة.”
“قلت لك إنني بخير.”
“وكيف تقولين هذا وذراعك مصابة؟”
ومضت شرارة في عيني كاسيون من جديد.
يا له من خدش بسيط لا أكثر.
في الواقع، لم أُصب بالخوف بقدر ما اجتاحتني موجة من الإرهاق.
“ومن يتكلم؟ إذًا، ما رأيك أن نخلع ملابسنا ونستحم معًا؟”
كنت قد سئمت من تفحّصه الدائم لي بعينيه الحمراوين، رغم تأكيدات الطبيب المتكررة، فقررت ممازحته.
توقعت أن يحمرّ وجهه كالعادة ويشيح ببصره، لكنه…
“…سيسرّني ذلك فعلًا.”
همس كاسيون بصوت أجش، وعيناه تتوهجان بصمت.
ارتجف قلبي، وتيبّس جسدي من نبرته المنخفضة، قبل أن يضغط على أسنانه ويدير وجهه جانبًا.
“حتى وإن لم تتناولي دواء، عليكِ أن تنامي.
لم يتبقّ سوى بضع ساعات على الفجر.”
شعرت بأن السخرية ليست في محلها هذه المرة، فأطعت كلامه وتمددت على السرير بهدوء.
وكعادته، لم ينسَ أنني لا أستطيع النوم دون شيء أحتضنه، فأحضر وسادة إضافية ووضعها بين ذراعيّ.
“قال اللورد إنه سيزوّدنا بخيول جديدة ومؤونة، مما سيسرّع وصولنا إلى العاصمة.”
“لقد تحول الأمر إلى سباق مع الزمن، بعد أن علمت الإمبراطورة أننا أخذنا لوران.”
لا شك أن أهل قريته أبلغوا باختفائنا على الفور، لكن لم يخطر ببالي أن تصل الأنباء إليها بهذه السرعة، ولا أن تتحرك فورًا.
بما أن استجابتها كانت أسرع مما توقعنا، علينا أيضًا أن نسرع الخُطى.
“صحيح، سنتحرك دون توقّف كما فعلنا في طريقنا، لذا أريحي رأسك وتوقفي عن التفكير، ونامي يا أسيليا.”
كنت أُقلّب الأمور في ذهني، أبحث عن حل، لكن كاسيون التقط حيرتي كعادته، ونقر جبيني بخفة، ثم مدّ يده إلى شعري القصير، يمرر أصابعه بلطف على أطرافه.
كانت لمسته عابرة، لكنها أيقظت في داخلي شعورًا لطيفًا.
“…أشعر أنني دائمًا ما أتأخر في الوصول إليك.
آسف.”
“لا، لم تتأخر.
أتيت في اللحظة المناسبة تمامًا.
وتوقف عن هذا التفكير، واذهب للنوم.
غدًا أنت مَن سيقود العربة.”
سحبت ياقة سترته قليلاً، لكنه انحنى فقط دون أن يظهر أي نية في الاستلقاء.
كان من الواضح أنه يخطط للسهر، في حال تعرّضنا لهجوم جديد
. رغم أنه سيتولى القيادة غدًا.
“من غير المرجّح أن يُهاجمونا مرتين في اليوم نفسه.
ثم إننا في قلعة اللورد الآن، بالتأكيد أكثر أمانًا من النزل، أليس كذلك؟”
“أسيليا.”
“بالمناسبة… عندما رأيت جدران القلعة، تذكرت كيف التقينا أول مرة.”
اعتدلت في جلستي ولففت ذراعيّ حول عنقه، فسقطنا معًا على السرير.
أسند ظهره إلى اللوح الخشبي وحدّق بي بنظرة جانبية.
“كنت خرقاء جدًا حينها.”
“…وأنا أخبرتك أنني أفضّل المواجهة المباشرة على الاغتيال.
وماركيز مثله لا يعنيني.”
“ماركيز عجوز، ربما.
لكن حراسه؟ ألا تراهم أكثر من أن تتصدى لهم وحدك؟”
“ليأتوا كما يشاؤون.”
لو لم أكن أعرف القصة الأصلية، ولو رأيت فقط كيف تصدى لأكثر من عشرة رجال وهو يحمي لوران، ثم أسرع إليّ، لصدقت كلامه بالكامل.
لكني أعلم أنه في أحد السيناريوهات، كان يمكن أن يُصاب ويهرب… لذا أملت رأسي أتأمله وهو يتحدث بثقة.
اقتربت منه ببطء، وأسندت جبيني إلى جبينه.
فتجمّد، وتلاشت ابتسامته المترفعة.
“أنا أثق بك، لكن… لنحاول ألا نسلك الطرق الأكثر خطورة ما لم نُجبر على ذلك.
فالمجهول لا يرحم.”
لا أندم على أي قرار اتخذته منذ أن استعدت ذكرياتي من حياتي السابقة، ولا أريد أن أندم لاحقًا.
إن كانت القصة الأصلية قد انتهت بموت الجميع، فلعلّي الآن منحت كاسيون وجينيس فرصة للنجاة.
لا… بل إنهم باتوا أعزاء عليّ، ولا خيار لهم سوى النجاة.
“…أسيليا.
هل أنتِ خائفة؟”
“لا.”
لم أدرك مدى قربه مني إلا حين تحدّث.
أنفاسه لامست وجهي، وجباهنا تلامس.
في هذا الوضع، لم أستطع حتى أن أغير وضعي.
عينيه الحمراوين تشدّني… تأسرني.
“إذن، هل أنتِ قلقة؟”
“أجل، أنا قلقة.
ليس خوفًا… بل لأنني أحبك.”
“…”
همّ كاسيون بالرد، لكنه سكت.
كانت نظراته تهرب من عينيّ.
وربما، فقط ربما، بدا كلامي أكثر مما كنت أقصد.
وقبل أن أوضح، ارتدت نظراته إليّ مجددًا، بلمعان يشبه الجواهر.
“وأنا أيضًا، أحبك… أسيليا.”
“…”
“أنا… أحبك.”
من قال إن لون الدم قاتم؟ تلك الحمرة المتوهجة في عينيه كانت من أبهى ما رأيت، كأنها ياقوت يفيض بالعاطفة.
شعرنا الملامس يدغدغ وجهي، وحين حاولت سحب يدي، أمسك بها براحته الكبيرة.
كانت دافئة، كعادتها.
“حين تبتسمين، أبتسم.
وحين تغضبين، أضيع.
فكرة أن يصيبك الأذى، تجعل عالمي ينهار.”
“…لطالما كنت طيبًا مع الجميع.
لهذا لم يكن في القصر الكثير من الخدم أو الفرسان، أليس كذلك؟”
“لكن هذا شيء مختلف.
أنا أُقدّرهم، نعم، لكن لا أفقد صوابي من أجلهم.”
“…”
“أنتِ تجعلينني أفضل.
تجعلينني سعيدًا.
وتجعلينني هشًّا.”
“…كاسيون.”
خفض أيدينا المتشابكة، ومسح بلطف على كتفي المصاب، وتقطّبت ملامحه بألم.
نظراته تلك… لم تكن حزنًا ولا شفقة، بل شيء أعمق وأقسى.
طأطأت رأسي.
لكن حتى وأنا أنظر للأسفل، لم أرَ سوى جسده أمامي.
“…لهذا أحبك.”
“…”
“وأريدك إلى جانبي، دائمًا يا أسيليا.”
اقترب وجهه رويدًا رويدًا، حتى بدا الزمن يتباطأ من حولي.
نسيت الهجوم، والمكان الغريب، وكل شيء.
لم يكن في عالمي سوى كاسيون.
أردت أن أستسلم لهذا التيار، وأغمض عيني.
“…هاها، من الرائع أننا نكن لبعضنا هذا القدر من الصداقة! فلنبقَ على تواصل بعد انتهاء العقد، أليس كذلك؟”
لكن… كان أثمن من أن أترك مشاعره تمرّ مرورًا عابرًا.
ماذا لو اندفعت ورددت على اعترافه، ثم جرحت قلبه لاحقًا؟ أنا نفسي ما زلت لا أعرف أين أقف من قلبي.
“…صحيح.”
كاسيون الذي كان يحدّق بي بعمق، أغمض عينيه أخيرًا، وابتعد عني ببطء.
شعرت بفراغ مباغت.
عضضت شفتي بلا وعي، فرفع يده وأشار إلى فمه.
ورغم ابتعاده، لم يُدر ظهره لي.
“لا تعضي شفتك، أسيليا.
ستؤذين نفسك.”
“…”
“لا بد أنكِ مرهقة من يومك.
آسف لأنني أطلت الحديث.
دعينا ننام.”
“كاسيون…”
“تصبحين على خير، أسيليا.”
“…”
أردت مناداته مرة أخرى، لكنني سكت.
لم أعرف ما أقول إن التفت إليّ بعينيه الحمراوين مجددًا.
ظللت أحدّق فيه وهو يغمض عينيه فجأة، ثم… أغمضت عيني أنا أيضًا.
ليلة مشاعرها مضطربة، وصمتها يعلو على كل شيء.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
57ⵌ
“هل ستكونون على ما يرام؟ لا يزال بإمكاني تدبير عربة أكبر لكم…”
“لا داعي، أشكرك على استجابتك السريعة لطلبنا المفاجئ بالمؤن.”
بينما كنا نُدخِل لوران بصعوبة إلى العربة الصغيرة المغطاة، التي لم تكن سوى عربة خشبية رثة مغطاة بقماش مهترئ، ارتسم القلق بوضوح على وجه اللورد.
وحتى ابنته، العروس الجديدة، خرجت لتوديعنا وهي تنظر إلينا باستغراب، متسائلة بعينيها عن سبب ركوبنا شيئًا بهذا البؤس.
لكن كاسيون أصر على أن هذه هي الوسيلة الأسرع للسفر، طالما أنه سيكون الراكب الوحيد على الحصان.
وكل هذا… بسبب افتقاري لمهارة ركوب الخيل.
“سأعوّضك حين نعود إلى العاصمة.
تهانئي المتأخرة بزفافك، وأتمنى لكما حياة سعيدة.”
“تعويض؟ تهنئتك تكفيني وزيادة.
آمل فقط أن نعيش بحب مثل الدوق والدوقة.”
لكن أيّ جزء فينا بدا لهما عاشقين، ونحن محشوران في هذه العربة المتهالكة الضيقة؟
لم يكن هناك متسع للوقت، فاختصرت كلمات الوداع وأومأت لكاسيون، الذي شرع في تحريك الحصان.
“حين ندخل ممر الغابة، سأزيد السرعة.
تشبثي جيدًا!”
“ماذا قلت؟!”
“قلت: تشبثي جيدًا!”
وبالفعل، ازدادت السرعة، وإن لم تكن بمستوى تلك المرة التي كنت أركب فيها خلفه مباشرة.
المشكلة الوحيدة أن الحوار بات شبه مستحيل.
مددت رأسي من تحت القماش محاوِلة مناداته، لكنني كدت أن أعض لساني من شدة الاهتزازات على الطريق الحجري، فعُدت إلى جانب لوران، أتمسك بالعربة بقوة.
“الطريق الجبلي وعر… كم سيستغرق الوصول؟”
“إن واصلنا بهذه الوتيرة دون توقف، فسنبلغ قصر الدوق مع غروب الشمس.”
أجاب كاسيون بنبرة ثابتة، بينما خرج سؤال لوران بصوت مرتجف من شدة اهتزاز العربة.
بما أننا استغرقنا يومًا كاملًا للوصول إلى أبعد قرية في طريقنا، فمن المحتمل أن نصل قبل حلول الليل، خاصة أننا نبدأ هذه المرة من منتصف الطريق، رغم بطء العربة.
“حقًا؟ أعني… نحن نمضي بسرعة، لكن…”
“عليك فقط أن تتحمل ألم مؤخرتك.
سنسلك طرقًا مختصرة.
وحتى إن لم نصل عند المغيب، فلن نتوقف للراحة.”
“هل تقصد أننا سنبيت في العراء؟”
“أقصد أننا لن ننام إطلاقًا.”
لست متأكدة إن كان قد فهم مقصدي، لكن قاعدتنا الثابتة كزوجين هي: النوم رفاهية لا وقت لها في أوقات الخطر.
رغم ذلك، كان وجه لوران يزداد قتامة مع كل جملة، وكأننا نسوقه إلى مصيره.
“من الأفضل أن نتعب ليوم على أن نتعرض لهجوم بسبب تأخرنا.
استغل الوقت لتُعدّ ما ستقوله في المحكمة، وفكر في الأدلة.”
“أنا… لست واثقًا.
ما زلت خائفًا جدًا! ألا يمكننا فقط أن ننسحب ونعيش بسلام؟!”
“فات الأوان لذلك.”
“كيف عرفتِ؟! إن لم نثر المتاعب، ربما تتركني وشأني! كانت باردة قليلًا… لكنها لم تكن شريرة…”
“إن أردت رؤية وجهها الحقيقي، فلن أمنعك.”
انكمش لوران في مكانه، مرتجفًا من كلماتي، لكنني لم أكن أهدده عبثًا.
بمجرد أن أخرجناه من مخبئه، بات مصيره محتومًا.
الإمبراطورة، وقد استشعرت الخطر، لن تتركه حيًّا بعد الآن.
“إن تركتنا، فستموت.
تذكّر ذلك.”
“ههق.”
امتلأت عيناه الزرقاوان بالدموع، وربما شعر الآخرون بشيء من الشفقة نحوه… لكن ليس أنا.
أنا كنت أنظر إلى الأمام، حيث كاسيون يقود الحصان بمفرده.
هو ليس فقط الأسرع، بل الوحيد القادر على صد أي هجوم يطرأ فجأة.
رغم أنني كنت مدركة لهذا الوضع مسبقًا…
أشعر الآن أنني كنت قاسية حين قررت الاستغناء عن مرافقة الفرسان، مفضلة السرعة على الأمان، وهو ما جعل الخطر يقع على عاتق كاسيون وحده.
كان من الواجب أن أصطحب فارسًا أو اثنين على الأقل لحمايته.
“…كاسيون.”
ناديتُه بصوت خافت، مدركة أن الريح والمسافة ستبتلع كلماتي، لكن رؤيته من الخلف وحدها دفعت اسمه إلى طرف لساني.
ولدهشتي… التفت فورًا.
“—، —-أسيليا—، مـا—!”
“لا شيء! تابع فقط!”
رد بشيء ما، حواجبه معقودة، لكنني لم أتبين ما قاله.
هل كان التفاته صدفة؟ رفعت يديّ بإشارة X ثم لوّحت، موضحة أن الأمور بخير.
نظر إليّ بشك، ثم أدار وجهه.
…الآن فقط بدأت أدرك، كم من العاطفة كان يخفيها تجاهي.
ترى، كيف غفلت عنها؟
“هل كنت غارقة جدًا…”
هل انغمستُ في تمثيل دور الزوجة لدرجة أنني تجاهلت مشاعره؟ استمتعتُ بتقمص الدور أكثر مما توقعت، وظننت أن كل ما فعله كان من باب التمثيل فقط.
لكن… كاسيون لم يعد هو ذاته في البداية.
فهل تغيرتُ أنا أيضًا؟
“دوقة… هل تملكين شيئًا من الخمر؟ أريد أن أُسكر… الخوف ينهشني.”
كان ينبغي أن أنال قسطًا جيدًا من النوم استعدادًا لهذا اليوم، لكنني بالكاد أغمضت عينيّ الليلة الماضية.
لستُ ممن ينامون في أجواء كئيبة.
وعلى عكس كاسيون، الذي بدا متماسكًا، كانت كلمات الأمس ما تزال تتردد في رأسي، تُقلقني.
لكن قبل أن أغوص أكثر في أفكاري، قاطعني صوت لوران المرتبك، وقد فهم كلامي بشكل خاطئ.
“لا خمر لدينا.
خذ نفسًا عميقًا واهدأ.”
—
“…”
ذلك المنظر الذي رأيته سابقًا… عاد للظهور.
اتخذت العربة مسارًا جانبيًا كما لو أنها تحاول التملص من شيء، وسرعتها بدأت تتناقص تدريجيًا.
بدّلت جلستي، أراقب ظهر كاسيون وقد بدا متوترًا على غير عادته.
وحين شعرت أنه يلتفت نحونا، أومأت له مؤكدًا أن كل شيء على ما يرام، فيما كانت عيناي تترصدان ما حولنا بحذر.
“هاه… هل اقتربنا؟ لا نزال في الغابة، لكن السرعة…”
“شش.”
مع التباطؤ الملموس، وضعت يدي على فم لوران، وانكمشت في زاوية العربة الضيقة تحت القماش.
إنه كمين.
رغم كل محاولاتنا للمضي بأقصى سرعة، يبدو أنهم قد سبقونا وأحكموا الطوق.
حاولت استطلاع الوضع، لكن نظري المرتبك جعل من كل ورقة متحركة أو نسمة عابرة شيئًا مريبًا.
…لكن الأمر لم يكن وهمًا.
فقد لمحَت عيناي بريقًا فضيًا واضحًا يتلألأ بين أوراق الأشجار.
“ألا يمكننا المرور بسرعة؟ أغمف—”
“قلت لك، اصمت!”
ما إن أبعدت يدي حتى بدأ بالكلام مجددًا، فغطيت فمه بقوة أكبر، وكأنني أُسكت ذعراً متفجرًا.
كاسيون قد يتمكن من التصدي لهجوم مفاجئ، لكن تباطؤه وحرصه في التحقق من المحيط يعني أن عدد المهاجمين كبير.
بمعنى آخر، الهروب لم يعد خيارًا.
“…”
“…”
ترجّل كاسيون بهدوء، وألقى نحوي نظرة دالة، فأغلقت القماش الذي كنت قد رفعته، وحجبت رؤيتنا عن الخارج.
ليست العربة محصنة، والقماش لن يمنع سيفًا، لكنه قد يعيق سهمًا قاتلًا للحظات.
لكن بمجرد أن حجبتُ الرؤية، شعرت بجفاف في فمي، والقلق يعتصر صدري.
“…لمَ لا تخرجون؟ نحن نعلم أنكم هناك.”
رنّ صوت سحب كاسيون لسيفه، يتبعه وقع خطوات كثيرة تدوس الأعشاب من كل اتجاه.
الحفيف المتتابع كشف عن عددهم.
يبدو أن خطة الإمبراطورة لإيقاف لوران عن بلوغ العاصمة بدأت فعليًا، بعيدًا عن علم الإمبراطور، وهؤلاء جنودها.
“سلّموا الرجل بهدوء.”
“ههق.”
ارتعد لوران حين سمع الصوت الغريب، وانهمرت دموعه. وضعت يدي مجددًا على فمه، ثم زحفت على الأرض محاوِلة التسلل برأسي إلى ثقب صغير.
رأيت قطعة من معطف كاسيون.
“وإن سلمناه… هل ستدعوننا نرحل بسلام؟”
رد كاسيون بنبرة ساخرة، مشككًا في صدقهم.
مددت يدي ألمس ظهره، ثم تراجعت على الفور خشية أن أربكه.
وفي تلك اللحظة، اخترق سهم القماش وغرس نفسه قرب قدمَي لوران، الذي انهار في نوبة بكاء حادة.
“لن نسمح لكم بالرحيل، لكن يمكننا إنهاء الأمر دون ألم.”
يبدو أن كاسيون كان يصد الأسهم ببراعة، لكن بعضها كان يتسلل من الجوانب.
صوت المعركة بدأ.
أزيز السهام، صليل السيوف، وصيحات القتال تعلو في الأرجاء.
“م-ماذا نفعل… دوقة… مـاذا…”
“…”
من الأصوات وحدها، أيقنت أن عددهم يفوق توقعاتنا بكثير.
وكاسيون لم يتحرك عن جانب العربة، لأنه ببساطة لا يستطيع تركنا خلفه.
نحن عقبة أمامه.
عضضت شفتي وأنا أراقب ظل كاسيون يتحرك خلف القماش المثقوب، محاطًا بالسهام.
نحن على مقربة من العاصمة… وجهتنا واضحة، وما يجب حمايته أصبح أكثر وضوحًا.
“…ابقَ منخفضًا.
لا ترفع رأسك.”
“هاه؟ إلى أين… إلى أين أنتِ ذاهبة؟ دوقة!”
“اصمت، مرة واحدة فقط.”
إن كنا عائقًا على المعركة… فالأجدر بنا أن نتوارى.
[نتوارى اي نختبئ]
حتى وإن لم نكن قادرين على القتال بجانبه، فيمكننا— على الأقل— أن نحاول النجاة.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
58ⵌ
كان لوران ينتحب ويرتجف بكليّته، فنظرت إليه بنظرة اختلط فيها الضيق بالشفقة، ثم تسللت بهدوء إلى مقدمة العربة لأستطلع ما يجري في الخارج.
بكل حرص، رفعت الغطاء القماشي، وما إن تخطيت تلك الطبقة الوحيدة من القماش المتّسخ، حتى انكشفت أمامي ساحةٌ تعجّ بالفوضى، أشبه ما تكون بحربٍ مصغرة.
“إلى متى تظنون أنكم قادرون على الصمود؟!”
“…!”
كان الأعداء يبدون وكأنهم يتسلّون بإحاطتنا، كأننا مجرد فئران علقت في صندوق، لم يهاجمونا بعنف، بل راحوا يسخرون وهم ينهالون على العربة ضربًا.
كانوا يدركون تمامًا أن مهاجمة العربة أنجح من التوجّه نحو كاسيون مباشرة.
وعندما لمحت شفرة سيف تخدش ساعد كاسيون، كتمت صرخةً كادت تمزق حنجرتي، ثم خرجت من العربة بالكامل.
بحسب موقعنا، فإن تقدّمتُ أكثر، سينكشف أمري.
وعندها…
“…هوب!”
“آه، آه!”
“هناك! انظروها لها!”
أخذت نفسًا عميقًا وانطلقت جريًا، وضعت قدمي على الركاب وقفزت.
امتدت يداي في لمح البصر نحو اللجام، ولشدّة القفزة، كدت أتجاوز ظهر الحصان كمن يقفز فوق حصان خشبي، لكن قدمي العالقة أعادتني إلى موضعي كدمية تتمايل.
وبينما أشار أحدهم ناحيتي، ركلت جنب الحصان بقوة.
“اركض!!”
ولحسن حظنا، كانت الجهة الأمامية خالية، إذ أنهم ركّزوا تطويقهم على الخلف والجوانب.
انحنيت لتفادي السهام المتطايرة، ولم ألتفت قط، بل واصلت قيادة الحصان بأقصى ما أستطيع.
ربما لأن العربة كانت تتحرك أصلًا، أو لأن قلبي قد تُرك وراءنا، شعرت وكأن كل شيء أبطأ مما ينبغي.
لكن بفضل مقاومة كاسيون الصامدة، أفلتنا من ذلك الجحيم في لحظة.
“أسرع! هيا!”
شعرت بشيء يغصّ في صدري، أردت أن أبكي، لكن لم يكن هذا وقت الانهيار.
ظللت أنظر إلى الأمام، هاربة نحو الغابة.
على عكس كاسيون، كانت العربة تتمايل بقوة، وجسدي يتأرجح بعنف مع كل صدمة، لكنني واصلت الركض، مرددة في داخلي: طالما لم نسقط، فسنكون بخير.
“آه—”
وبينما كنا نشق طريقنا عبر الغابة لا على طريقٍ ممهد، راحت الأغصان تضرب وجهي.
لم تكن الأوراق مؤلمة، لكن حينما خدشني طرف غصن حاد لم ألحظه، شعرت بحرقة لاذعة.
لكن جرح وجهي لم يكن شيئًا يُذكر أمام الجرح الذي أصاب ذراع كاسيون… عضضت على أسناني قائلة لنفسي: لقد أحسنتِ، البقاء هناك كان ليزيد الطين بلّة.
“سيدتي! هل تخلّيتِ عن الدوق؟!”
“لم أتركه!”
انفجرت غاضبة في وجه لوران الذي أعاد فتح جرحٍ داخلي كنت أحاول تجاهله.
سنلتقي في قصر الدوق.
كاسيون قادر على النجاة وحده.
يجب أن يكون كذلك.
“ها هم هناك!”
“…!”
لكن لم يكن هناك وقت للشعور بالذنب أو الندم.
إذ عاد اثنان من القتلة الذين حسبنا أنهم تخلّفوا، وبدآ بمطاردتنا من جديد.
“تبًا!”
كم يبدو هذا سخيفًا… أقود الحصان بجنون، آمُل أن أجد مخرجًا حين يحين الوقت.
لو كنتُ تدربت على ركوب الخيل منذ البداية بهذا الجِد، لما احتجنا إلى عربة أصلًا!
“سيدتي! إن سلّمتِ لنا الرجل، سنبقيك على قيد الحياة!”
“كلامك لا ينطلي حتى على كلب شارد!”
لكن الندم الآن لا طائل منه.
فقد تمزق الغطاء بفعل السهام، وبات لوران مرئيًا بالكامل.
أولئك الأوغاد العنيدون… كيف أتخلص منهم؟!
“استهدفوا العجلات!”
عندها، بدأت السهام تُوجَّه إلى العجلات لا إليّ.
واصلت القيادة، متظاهرة بأن الأمر لا يهم، فهي ليست عجلات مطاطية كما في حياتي السابقة، لكن حتى العجلات الخشبية لا تحتمل كل هذا الضغط.
ومع تشابك السهام بالعجلات، مالت العربة فجأة، وصرخ الحصان عاليًا، عاجزًا عن تحمّل الحمل.
“لا! اهدأ! أرجوك!”
تعلّقت بجسم الحصان الذي أصبح شبه عمودي، أرجوه أن يهدأ، لكنه لم يكن ليستجيب.
وعندما دققت النظر، رأيت جراحًا عديدة تغطي جسده، آثار سهامٍ لم تصبنا لكنها طالته.
“سيّدتي! إنهم قادمون!”
“اخرج فورًا، لوران!”
لم يعد في الوقت متسعٌ لأي تردد.
“بسرعة! اقفز!”
تبًا… هل ستفلح هذه الخدعة؟
حين غطتنا الأشجار الضخمة، صفعت اللجام لأجعل الحصان والعربة يتقدمان وحدهما، ثم قفزتُ.
لم يكن لدي حلٌّ آخر قبل أن يفلت الحصان ويترك لوران وراءه.
كان عليّ تطبيق خدعة قديمة… وآمل أن يُخدعوا بها.
“آه!”
“لا! سيدتي! ماذا نفعل؟!”
“اصمت… فقط اصمت.”
تجاهلت الألم المبرح في كاحلي، وركضت نحو لوران الذي نجا بالكاد، وضعت يدي على فمه.
ثم اندفعت معه من فوق التلة الصخرية التي كنت عاجزة عن النزول منها سابقًا، وكتمت صرخة ألمٍ كادت تفتك بي، لكنها لم تتجاوز أسناني المشدودة.
رفع لوران عينيه المرتجفتين نحوي، ولوّح بيده كأنما يقول إنه سيلتزم الصمت أخيرًا.
“لماذا أحضرت الأمتعة؟”
“قد نضطر للتخييم في العراء إن واصلنا الهرب…”
دفعته إلى فجوة ضيقة بين الصخور وأشجار كثيفة، وسدّدت المدخل بالأغصان.
وهناك لمحت حقيبته الثقيلة.
كنت أعلم أنها تحوي أدوات رسم أكثر مما تحوي ماءً أو طعامًا، وأردت أن أصرخ فيه، لكني التزمت الصمت مع اقتراب خطوات القتلة.
هل طرف تنورتي ظاهر؟ هل نحن مخفيان جيدًا؟
“ها هي العربة! متروكة هنا! لا بد أنهم قريبون!”
“تبًا، أين اختفوا؟ كأنهم جرذان!”
كانا يقتربان شيئًا فشيئًا من مخبئنا.
ماذا أفعل الآن؟
تردّدت بين البقاء متخفية والاعتماد على الحظ، أو الانقضاض فجأة كما فعلت حين تخلّيت عن كاسيون.
العدد ضئيل… اثنان فقط.
لكن… لا، أنا لست فارسًا ولا أعرف كيف أستخدم سيفًا!
خشخشة—
وبينما أتابع خطواتهما فوق التل وأنا أمسك برأسي حيرةً، سمعت صوت حركة بجواري.
ارتجفتُ فجأة، لكنني غطيت فم لوران من جديد بغريزة البقاء.
وحين التقت عيناي بتلك القادمة نحونا، تجمدت في مكاني. كانت جينين.
لم تكن لتكون جاسوسة الإمبراطورة كما في الرواية، لا يمكن.
لذا فمن الواضح أنها جاءت لمساعدتي.
وقد التقت أعيننا بدهشة، وأشارت بعينيها نحونا.
لحسن الحظ أنني أسكتُّ لوران مسبقًا.
“…”
“…”
تبادلنا الإشارات بسرعة، وبدأنا نتحرك بصمت.
بدا لوران في حيرة، لكنه فهم أن الأمل أتى.
بل… هل وجود جينين في هذه الغابة، القريبة من العاصمة، مجرد مصادفة؟ ربما هذه ذاتها الغابة التي وجدت فيها كاسيون جريحًا في القصة الأصلية.
وصلنا إلى حيث ربطت جينين فرسها – ليونينا، جوادها العزيز، رفيقة دربها وعائلتها.
لكن كنا ثلاثة.
“لا بأس.
اصعدي بسرعة، سيدتي!”
ليونينا فرس ضخمة وقوية، لكنها… هل تحتمل ثلاثة أشخاص؟
لكن جينين، بإصرارها الهادئ، جذبتني وأشارت إلى الاستعجال.
كنت ممتنة لمبادرتها رغم جهلها بما يجري، لكنني بدأت أشعر بالقلق مع اقتراب الخطر.
“ابدأ به أولًا!”
دفعت لوران ليصعد أولًا، ثم ساعدتني على ركوب الفرس، وأخيرًا جلست في المؤخرة بلا سرج، ممسكة باللجام بصعوبة.
رغم جلستنا المرتبكة، إلا أن التوازن تحقّق.
وبهدوء، مرّرت قدمها على جنب ليونينا لتأمرها بالانطلاق.
“ها هم هناك!”
رغم كل حذرنا، تمكن الرجلان من اقتفاء أثرنا.
كان عليّ أن أجلس في المؤخرة…
على الأقل لحماية ظهورنا من السهام.
“…!”
“آآااه!”
في تلك اللحظة، اندفعت ليونينا بسرعة مجنونة.
كنت أعلم أنها فرس سباق، لكن السرعة الحقيقية فاقت كل ما توقعت.
وأخيرًا، صرخ لوران، بينما كادت الرياح أن تبتلع أنفاسنا.
“اصبروا قليلًا فقط!”
انحسر صوت الرجلين تدريجيًا خلفنا، بينما كانت جينين تُحكم السيطرة على الفرس بثبات مذهل رغم حمولة الركاب الثلاثة.
على عكسي، التي خدشتني الأغصان في كل اتجاه، كانت جينين تتنقّل بخفة داخل الغابة.
شعرت بإعجابٍ كبير، وامتلأت بالامتنان.
“شكرًا لكِ، جينين.”
“لم ننجُ بعد تمامًا.”
أعرف… لكن بهذه السرعة وهذه المهارة، ربما نكون قد أفلتنا مؤقتًا.
“لقد أنقذتِنا.”
“…لديكِ ما تروينه، بلا شك.
لكن أولًا، لنتجه إلى منزلي! يجب معالجة جروحك فورًا.”
نظراتها، وإن كانت مشوبة بالحيرة، كانت حازمة ومطمئنة.
هكذا تكون البطلات الحقيقيات… وبينما كنت أغرق في امتنانٍ مباغت، استدار لوران من المقدمة وقال بتوتر:
“م-من أنتِ؟ من تكونين أصلًا؟”
حقًا…
دائمًا ما ينجح في تدمير اللحظة.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
59ⵌ
“يا دوقة، هل أنت بخير؟ هذا منزلي هناك.”
أخذنا وقتًا أطول قليلًا بسبب طلبي من جينين تجنب الطرق الترابية التي تترك أثراً أو المسارات المستقيمة، تحسبًا لأي احتمال.
ولكن بدا أننا قد تخلصنا تمامًا من مطاردينا، وسرعان ما بزغ أمامنا منزل صغير يقع على حافة قرية هادئة.
“الإسطبل أكبر بكثير من المنزل نفسه.”
“سأساعدك على النزول، دوقة، رجاءً كوني حذرة.”
تجاهلت جينين تعليق لوران بخفة، فنزلت من على ليونينا أولًا، ومدّت يدها كفارس أصيل لمرافقتي.
لم أرفض دعوتها، فهبطت بهدوء، تاركة لوران وحده على الحصان الكبير الذي بدأ يتحرك بعصبية.
“إذا تركتني وحيدًا على حصان بهذا الحجم…!”
“فانزل إذًا.”
لم تبدِ جينين أي نية لمساعدته على النزول، بل كانت نظراتها الباردة كأنها تقول: “ما الذي تنتظره؟ لماذا لا تنزل بسرعة؟” تأوه لوران وهو ينزل، وقبل أن تلامس قدماه الأرض، هزّت ليونينا جسدها بتنهد.
يا لها من تعابير شبيهة بجينين تمامًا.
“جينين، هل هناك مكان آخر يمكننا إيواء ليونينا فيه غير الإسطبل؟”
“عذرًا؟”
“لأماننا، إن تم تتبعنا، لنتمكن من التظاهر بأننا مجرد سكان عاديين.
ربما لم يروا وجهك، لكن حصانًا فخمًا مثل ليونينا لا يُنسى، وإذا جاءوا إلى هنا، قد يكشفون أمرنا.”
“آه، فهمت ما تقصدين.”
بديهي أن وجود إسطبل كبير إلى جانب منزل خشبي صغير وخالي قد يثير الشكوك أيضًا.
لمحت داخل الإسطبل حصانين صغيرين آخرين.
هل هنّ مهور ليونينا؟ أم أنها تربي خيولًا أخرى؟ شعرت ببعض الفضول كصاحبة المنزل، لكن الوقت لم يكن مناسبًا.
“حسنًا… ليونينا! اذهبي إلى نزل القرية، حيث تعودين عادة.
هل تعرفينه، أليس كذلك؟”
بعد تفكير وجيز، نادت جينين ليونينا بصافرة، ربّتت عليها برفق، ثم خلعت السرج وتحدثت إليها وكأنها تخاطب إنسانًا.
وفوجئت عندما رددت ليونينا بالصهيل وبدأت تسير بمفردها.
“هل من الآمن أن تذهبي بها وحدها؟”
“ليونينا ذكية، لا تقلق.
الجميع في القرية يعرف أنها من عائلتي.”
ردّت جينين بفخر على سؤال لوران الفضولي، ونظراتها الباردة تخترق الكلمات.
“لا تقلق، ربما هي أذكى منك.”
لكن في كلامها ألمح لاسيء، ربما بسبب إزعاج لوران المستمر بشأن السرعة أو توقع وجود ملاحقين خلفنا.
وجهت له نظرة باردة أخرى ثم غيرت تعبيرها إلى القلق، ففتحت الباب ليدخل المنزل.
تردد لوران للحظة حين لم يسمع أنه مسموح له بالدخول، ثم تبعني بحذر، ولحسن الحظ لم تطارده نحو الإسطبل.
كنت قلقة من كرهها الشديد له، لكن سررت أنها لم تلاحقه.
“اجلس هنا، سأغلق الستائر أولًا.”
“عذرًا، ملابسي متسخة.”
“لا بأس، فقط اجلسي! سأحضر لك الشاي قريبًا، ليس من النوع الفاخر، لكنه يهدئ الأعصاب.”
بعد أن أخفت السرج في زاوية، بدأت جينين تتحرك بسرعة، قفلت النوافذ وتحققت من الخارج مرة أخرى، ثم أغلقت الستائر وتوجهت إلى المطبخ وسط أصوات الانشغال.
جلست على الأريكة الغارقة، أحاول كبح دقات قلبي المتسارعة وأيدٍ ترتجف دون وعي.
هل كاسيون بخير؟ إذا نجا من الفوضى، هل اتجه مباشرة للعاصمة؟ هل يبحث عني؟
… بالتأكيد لم يصب بأذى خطير، أليس كذلك؟
“يا دوقة، وجهك شاحب جدًا.”
“أنا أيضًا…”
“هناك إبريق ماء هناك، اشربي منه أو لا، كما تشائين، لكن لا تشربي مباشرة منه.”
ضغطت على أسناني وأنا أرى تعبير لوران البائس.
رغم أنه مصدر إزعاج، من الصحيح أن نضع حمايته والهروب في المقدمة.
فهو هدفنا ووسيلتنا في النهاية.
ولكن… هل شهادة لوران أهم من حياة كاسيون؟
“دوقة… ماذا حدث بحق السماء؟ رجاءً، شربي من هذا قليلاً أولًا.”
تولت جينين مكان لوران بسرعة عندما ذهب لإحضار إبريق الماء، وضعت كوبًا في يدي المرتجفتين وأحاطتها بيديها.
تذوقت الشاي الدافئ من خلال حركتها، ومع انتشار الدفء في جسدي، استعادت حواسي بعضًا من صفائها.
أغمضت عيني بشدة ثم فتحتهما، شربت رشفة كبيرة، ومع حرارة المريء بدأ ذهني يستنير.
كان مفعوله كالشاي المثلج.
“لا أستطيع إخبارك بالتفاصيل، الأمر مرتبط بالعائلة الإمبراطورية.”
“لا تظهرين تلك التعابير.
لم أكن لأضغط عليك.”
“شكرًا لكل شيء، جينين.
سأغادر قريبًا حتى لا أزعجك.”
“ماذا تقولين! هل تعرفين مكان هؤلاء الآن لتغادري؟ وبالمناسبة، الليل يوشك أن يحل! هل أنتِ مع هذا الشخص فقط؟ ألم يرافقك الدوق؟”
“… تفرقنا في منتصف الطريق.”
لا، تركته وهربت.
ربما “تفرقنا” تعبير غير دقيق.
كما قالت جينين، الليل سيحل قريبًا، ماذا لو بقي في الغابة؟
“دوقة… لا تهتمي كثيرًا.
إنه الدوق، بطل الحرب، سيكون بخير أينما كان.”
“… هل تعتقدين ذلك؟ أظنك محقة.”
“بالطبع.
ربما هو يبحث عنك.
لا، هو بالتأكيد يفعل.”
“لكننا كنا عائدين إلى قصر الدوق في العاصمة، وكان هدفنا الوصول قبل الليل…”
“لا، الدوق لن يذهب وحده.
هو يبحث عنك، فلا تستعجلي القرار، ابقي هنا الليلة، وغدًا سنبحث عنه معًا.”
“لا أريد أن أثقل عليك، جينين.”
“ثقل؟ لا أستطيع السماح لك بالذهاب وحدك.”
“حسنًا، لست وحيدة تمامًا.”
“الدوقة ذكية، من الأفضل لك أن تكوني وحدك بدلاً من أن تحملين هذا العبء.”
نظر لوران، الذي سكب الماء أثناء محاولة حمل كوب مملوء، إلى جينين بتردد، ثم رفع صوته مدافعًا عن نفسه بفخر.
“أنت تبدين أصغر مني، أليس هذا قسوة؟”
“ماذا قلت؟”
“… هل أنا مخطئ؟”
أدار جينين وجهها بنفَس مستهجن، واهتز ذيل ذيلها العالي بغضب.
بينما كنت أراقب، أنهيت الشاي ووضعت الكوب جانبًا، بينما تنهد لوران كأنه يطلب تأييدي.
“من هذه المرأة بالضبط، دوقة؟ أنا ممتن لمساعدتها، لكن، أليس سلوكها فظًا؟”
“ما خطب سلوك جينين؟ علينا أن نشكرها، إنها متدربتي.”
كنت أنوي شكرها إذا عدنا سالمين، ونظر لوران إلينا بالتناوب بعينين زرقاوين واسعتين.
كنت أظن أن جينين قد تكون ضعيفة أمام الرجال الوسيمين بسبب قصتها مع كاسيون، لكن بما أنها لم تبدِ أي تأثر بلوران، يبدو أن الأمر ليس كذلك.
هل هي ضعيفة أمام المصابين؟
“متدربة؟ هل كانت هناك فعلاً رعاية من عائلة الدوق؟ ظننت أنها كذبة لجذبي إلى العاصمة.”
“…”
ليس بلا إدراك تمامًا.
“ما قلته عن مهاراتك في الرسم صحيح.
الآن أتذكر أننا فقدنا أمتعتنا في الفوضى، والصورة التي رسمتها كانت هناك.”
“إذا كنتِ سترعيني، سأرسم أفضل!”
“نعم، سأدعمك، فقط توقف عن إثارة الضجة حتى نصل العاصمة، ولا تبكي أو تصرخ في المواقف الخطرة، اتبعني بهدوء، وسأتولى الأمر.”
“أنا، لم أفعل…”
“يبدو أنك أكثر وقاحة مع الدوقة مني.”
انكمش لوران مترددًا، ثم تراجع أكثر مع كلمات جينين.
لحسن الحظ، لم تسأل عن سبب وجوده معنا، إذ سيكون مزعجًا لو دخلت في تفاصيل لا لزوم لها.
ألم يكن في القصة الأصلية أنها ماتت بسبب معرفتها بأسرار عن لوران؟
“الشمس ستغيب قريبًا.
ليس كثيرًا، لكن سأحضر العشاء.
عليك أن تأكلي لتستعيدي قوتك.”
“لا حاجة للطهي، بعض الخبز الجاف يكفي.”
“سيكون غريبًا لو لم يخرج دخان من مدخني، أليس كذلك؟ سأعد لك حساءً سريعًا، فاستريحي.”
رأيت جينين تسرع إلى المطبخ قبل أن ألقي كلمة شكر، وشعرت بمزيج من الامتنان والذنب والقلق يتصارع في داخلي.
قلبي يظل ينبض بشدة بسبب مخاوفي على جينين وكاسيون ونهايتهما في القصة الأصلية.
ظننت أن تلك الأحداث لن تقع لو أعطيتها المعلومات التي جمعتها… كنت متهاونة.
“كاسيون…”
أمنيتي الوحيدة أن نعود إلى قصر الدوق سالمين دون أذى.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
60 ⵌ
“سيدتي الدوقة، رجاءً حاولي النوم، سأبقى متيقظة.”
“لا بأس، لست قادرة على النوم أصلًا.”
“على الأقل استلقي قليلًا.
إنك تجهدين نفسك، وقد ازداد نحولك منذ آخر مرة رأيتك فيها…”
قُطعت كلمات جينين القلقة بشخير مرتفع، كانت تنظر إلى لوران، النائم بانكماش على الأريكة الصغيرة، بنظرة مشوبة بالاستياء.
“لا أعلم تمامًا ما الذي حدث، لكن من الواضح أن هذا الرجل هو محور المشكلة… ومع ذلك، ينام بسلام كأن شيئًا لم يكن.”
“في النهاية… أنا من أدخله في هذا الوضع.
رغم حالته، فهو قد يكون ذا فائدة لنا، لذا علينا أن نصطحبه.”
كنت أحاول تبرير الموقف، لكن صوت شخيره كان محرجًا بحق، وشعرت بالضيق يتسرب إلى نفسي، حتى أنني بدأت أشك في ذوق الإمبراطورة.
هل كانت مفتونة بوسامته فقط؟ أم أن الحياة القاسية غيّرت شخصيته، وكان مختلفًا حين كان شابًا؟
“جينين، عليك أن تنالي قسطًا من الراحة أيضًا.
وإذا شعرتِ في أي وقت أنكِ لم تعودي قادرة على المساعدة، فقط قولي لي.
حتى إن طلبتِ مني الرحيل الآن، فلن أوقف الدعم الذي أقدمه لك.”
“حتى لو قطعتِ دعمكِ، سأظل إلى جانبك يا دوقة.
يمكنني أن أنام بعد غد، أما أنتِ فلديك الكثير لتقومين به، لذا لا بد أن تستريحي.”
أمسكت جينين بيدي بحزم، قادتني نحو السرير بعناد رقيق، وكأنها تؤنبني بمحبة.
ذكّرتني بلطف كاسيون… لعل هذا ما جعل قلبيهما يلتقيان في القصة الأصلية.
لولا النهاية المأساوية، لربما كانا زوجين سعيدين.
صفقة!
“كفى تفكيرًا! نامي حالًا!”
“…هل كان الأمر واضحًا إلى هذا الحد؟”
كنت على وشك الانغماس مجددًا في التفكير بكاسيون، لكن جينين صفّقت بيديها أمام وجهي، لتعيدني إلى الواقع.
رمقتها بنظرة منزعجة بينما كانت تسرع في تغطيتي بالبطانية، ثم سخرت:
“عيناكِ الأرجوانيتان، التي كانت تلمع كبريق الجواهر، بدأت تفقد بريقها.”
أيّ سطرٍ بطولي هذا؟ هل هي بطلة رواية رومانسية الآن؟
“أهكذا إذن، جينين؟ هل تحاولين إغرائي؟ أنقذتِني، وواسيْتِني، والآن تمدحينني؟”
“أخيرًا أدركتِ؟ أرسل برسالة إلى الدوق من خلال تصرفاتي: إن لم يأتِ بسرعة، فسآخذ الدوقة بنفسي!”
ضحكت من أعماقي وهي تقف واضعة يديها على خصرها، تنفخ صدرها بتفاخر طفولي.
كنت ممتنة لها حقًا لمحاولاتها الدؤوبة لتخفيف توتري.
“شكرًا لكِ، جينين… قد تبدو كلماتي غير مناسبة الآن، لكنني شعرت منذ أول لقاء بيننا أنني أرغب بأن نكون صديقتين.
وأنا سعيدة أننا اقتربنا بالفعل.”
“أهذا قدَر؟ تبدين وكأنكِ تحاولين إغرائي الآن، يا دوقة.
لا تعبثي بقلب فتاة ريفية بريء، ونامي بسلام…”
دق دق دق.
“…!”
كانت جينين توشك على إطفاء الشمعة، وأنا بدأت أستسلم للنوم، لكننا انتفضنا في اللحظة ذاتها بفعل الطرق الفظ.
كان الصوت خشنًا، وقحًا، لا يشبه طرقات سكان القرى البسيطة.
والأصوات القادمة من الخارج كانت متعددة، ما يشير إلى وجود أكثر من شخص.
“…”
“…”
تبادلنا نظرات سريعة، ثم تحركنا بصمت.
وضعت يدي على فم لوران وأيقظته، فيما بدأت جينين تبحث تحت السرير، ثم سارعت إلى إفراغ خزانة الملابس لتوفير مساحة وأشارت إليّ.
رغم أن الخزانة كانت خيارًا مكشوفًا، لم يكن هناك وقت أو بديل لإخفاء شخصين.
ومع الطرق المتواصل، لم يكن أمامنا مهرب.
دفعت لوران شبه النائم إلى الداخل، ثم دخلت خلفه، وسرعان ما أسدلت الملابس علينا وأُغلقت الأبواب.
كانت الخزانة رخيصة ومهترئة، ما سمح لنا برؤية أجزاء من الغرفة من خلال الشقوق.
“من الطارق؟”
“نحن فرسان الإمبراطورية.
جئنا نتفقد المنازل بعدما بلغنا أن مجرمًا فرّ إلى هذه القرية.
افتحي الباب.”
مجرم؟ يا للسخرية…
لو كنتم حقًا من فرسان الإمبراطورية، فلماذا لا تتحركون بشكل رسمي بدلًا من إرسال مرتزقة، وتوزيع منشورات مطلوبة مزيفة؟
“لماذا تأخرتِ في فتح الباب؟”
“لقد غربت الشمس، وكنت نائمة بالطبع!”
وحين ذكروا أنهم فرسان من الإمبراطورية، لم يكن من الحكمة تجاهلهم.
فتحت الباب تجنبًا لإثارة الشك.
اندفع ثلاثة فرسان إلى الداخل دفعة واحدة، وكأنهم على وشك اقتحامه إن لم يُفتح، وبدأوا باستجواب جينين.
“الاسطبل كبير نوعًا ما… هل تربّين فقط هذين الفَرَسين الصغيرين؟”
“نعم.
عندما اشتريتهما، قيل لي إنهما سينموان بسرعة.
أعتبرهما كأبنائي، لذا بنيت الاسطبل بحجم مناسب لرعايتهما.”
“هل لديكِ عائلة؟ هل جاءكِ زوار غرباء اليوم؟”
“أعيش بمفردي، ولم أرَ اليوم إلا سكان القرية أثناء تسوقي.”
“همم… دعينا نلقي نظرة على المطبخ.”
“مهلًا! حتى وإن كنتم من فرسان الإمبراطورية، لا يحق لكم اقتحام منزلي بهذا الشكل!”
“كوني ممتنة لأننا نُعاملك بلين… لأنكِ تبدين متعاونة.”
“ما الذي تقوله؟!”
أحد الفرسان، وقد تلطخت حذاؤه بالوحل، شرع في العبث في المطبخ، بينما كان يرمق جينين بنظرات صفيقة، استفزها بوقاحته حتى بدت غاضبة بحق.
وفجأة، شعرت برطوبة في راحة يدي… كان لوران يبكي مجددًا.
في هذا الوقت بالذات؟
“هيه، تعالوا هنا!”
“…!”
“ما هذا؟! الحصانان صغيران لدرجة أن الأطفال سيجدون صعوبة في ركوبهما، فلماذا إذًا السرج والمعدات بهذا الحجم؟”
اكتشف أحد الفرسان سرج ليونينا الذي خبأته جينين بإتقان.
عضضت شفتي توترًا، لكن جينين أجابت بحنكة.
“كنت أمتلك حصانًا ضخمًا، لكنه شاخ ومرض، فبعته. وأضفت بعض المال لأشتري هذين.”
“ولماذا خبأتِ السرج إذًا؟”
“لم أُخبئه، بل وضعته في الداخل لأنني لا أحتاجه حاليًا! كما ترى، المنزل صغير ولا يسعني تخزين كل شيء أمام العلن.”
أجابت بثقة، متوترة بقدر كافٍ لتبدو صادقة.
كنت أرجو بصمت ألا يفتحوا باب الخزانة… لكن القائد مال برأسه فجأة ونظر في وجهها مطولًا.
“…هناك أمر غريب.
اقتلوها.”
“ماذا؟! م-ماذا تقول؟! هذا مخيف!”
“آسف، لكن من الأفضل أن نقلل عدد من رأونا.
ورائحتك غريبة.
اقتلوها، وأضرموا النار في المنزل.
اجعلوها تبدو كحادث نجم عن شمعة.”
شحب وجه جينين وهي تتراجع خطوة إلى الوراء.
لكن الأمر ازداد رعبًا… الفارس الذي كان يحدق بها منذ البداية بدأ يدور حولها وهو يضحك، كذئب يتحين فريسته.
وقف أحد الفرسان بظهره تجاهنا، محجوبًا عن الرؤية.
“من المؤسف أن نقتلها بهذه السرعة…”
“…!!”
“ما بك؟! لا وقت لدينا! إن علمت الإمبراطورة أننا فشلنا، فلن ننجو.”
“لن نُطيل.”
“ابتعد عني!”
من حركاته، بدا أنه أمسك بها.
ورغم أن جينين فارسة قوية وسريعة، إلا أنها ليست ندًّا لفارس مدرب.
“يا لك من قذرة…
سأشعل النار في الخارج.
وإن لم تخرجي، ستحترقين حيّة.”
هذه فرصة يجب أن نغتنمها!
بينما كان الفارسان يهمان بالمغادرة، نزعت يدي عن فم لوران وأشرت له بالصمت، ثم بدأت أفتش الخزانة بعيني.
صرير.
أُغلق الباب من الخارج.
ثم سمعنا صوت ضحك الفارس المتبقي، يقترب من جينين… مثير للاشمئزاز.
طَق.
لا يوجد سلاح… لماذا أنسى دائمًا شراء خنجر؟ إن عدت حيّة، أول ما سأشتريه سيكون سيفًا حقيقيًا.
بدلًا من ذلك، نزعت القضيب المعدني الذي تُعلّق عليه الملابس من داخل الخزانة.
صدر عنه صوت طفيف، لكن الفارس الغافل لم ينتبه.
…! …!!
هز لوران رأسه محذرًا، وأمسك بثوبي، لكنني أبعدته بهدوء، وشددت قبضتي على القضيب المعدني.
أنا لست مبتدئة في هذا.
لقد اكتسبت بعض المهارات منذ اختطفتني عائلتي.
“دعني أيها الحقير! دعني الآن!”
“يا لكِ من مشاكسة.
لكن المقاومة لن تُنقذك.”
كانت جينين واقعة تحت قبضته، وظله يزداد ثقلًا عليها. فتحت باب الخزانة ببطء، وتقدّمت…
“قبل أن تموتي… أآغ!”
ضربة!
قوة التجربة لا يُستهان بها.
أصبتُه مباشرة.
اهتزت يدي بانكسار القضيب الخشبي إلى نصفين… ممتاز.
أمسكت وسادة الأريكة، وضغطت بها على وجهه، وبدأت بضربه بلا هوادة بالطرف الحاد المكسور.
“ممف! ممم! …ما هذا بحق الجحيم!”
راح يختنق ويقاوم، لكن سرعان ما استعاد توازنه وتحرر من قبضتي.
“من أنتِ؟ من أين خرجتِ… لا، لا.
ذلك الشعر الوردي…”
“…”
“أنتِ الدوقة، أليس كذلك؟”
رغم أنني كنت أحاول حماية جينين التي عادت إليّ بعد أن رتبت ثيابها، إلا أن الفارس، وقد سال الدم على جبينه، كان يبتسم وهو يقترب نحوي.
نظرت حولي بحثًا عن فرصة للركض نحو المطبخ…
لالتقاط سكين.
طَق.
“قلت لك أن تنهي الأمر بسرعة—”
اللعنة… الفارسان عادا.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 10 - من الفصل الحادي والتسعين إلى المائة «النهاية». 2025-08-14
- 9 - من الفصل الحادي والثمانين إلى التسعين. 2025-08-14
- 8 - من الفصل الحادي والسبعين إلى الثمانين. 2025-08-14
- 7 - من الفصل الحادي والستين إلى السبعين. 2025-08-14
- 6 - من الفصل الحادي والخمسين إلى الستين. 2025-08-14
- 5 - من الفصل الحادي والأربعين إلى الخمسين. 2025-07-23
- 4 - الفصل الحادي والثلاثين إلى الأربعين. 2025-07-23
- 3 - من الفصل الحادي والعشرين إلى الثلاثين. 2025-07-23
- 2 - من الفصل الحادي عشر إلى العشرين. 2025-07-23
- 1 - من الفصل الأول إلى العاشر. 2025-07-23
التعليقات لهذا الفصل " 6"