5
ⵌ41
“آه، إلى متى ستظل شحيحًا بهذا الخاتم؟ هيا، دعنا نُلقِ عليه نظرة معًا هنا.”
“لستُ شحيحًا، لكن العمل يُنجز على المكتب، لا فوق الأسرّة.”
بعد عودتنا، وقد أنساني خلافنا على الخاتم ولقاؤنا بالبارون والبارونة ماير كوابيسي الليلة الماضية، وصلتني تقارير أعدّها الفرسان بشأن لوران.
كانوا مذهلين في سرعة تحرّكهم.
وبعد العشاء وحمام دافئ، دخلت غرفة كاسيون دون تكلّف، مرتدية ملابس النوم كعادتي، لأجده منغمسًا في مراجعة التقارير.
“لا أحد يُراقبنا، فلمَ تتصنّع كل هذا الانضباط؟”
“أسيليا…”
أخذتُ كل الأوراق من بين يديه عدا الورقة التي كان يقرأها، ثم رميت بجسدي على السرير.
“لقد أغلقت الباب، فلا داعي للقلق من تسرّب شيء.
دعنا نراجع التقارير ونحن مرتاحان.”
“…أسيليا، هل تقترحين أن نُحتجز سويًا في غرفة، على سرير واحد، دون شهود؟”
“بالضبط.
بما أن المسألة مرهقة، فلنعالجها ونحن مسترخيان.”
“هاه، يبدو أنك تنظرين إليّ ببراءة كما تنظرين إلى ليلي.”
“وهل تُقارن ليلي بك؟ بعد محاكاتك المريعة لصوتها مؤخرًا، أرجوك لا تُكرر تلك الإهانة.”
رغم تذمّره، تنهد كاسيون بعمق وبدأ بجمع الأوراق على مكتبه، ثم اقترب من السرير الكبير.
لكن بخلافي، جلس متصلّب الجسد، وكأنه على كرسي خشبي لا على سرير وثير.
أما أنا، فكنت فقط أفتقد وسادة إضافية.
“أسيليا!”
“آه، لا تكن متحذلقًا!
اسمح لي باستخدامها للحظات.
لقد استحممت للتو، وقدماي نظيفتان تمامًا.”
دفنت وجهي في الوسادة، ومددت قدميّ على حجر كاسيون.
لو كنت أحتضن ليلي الآن، لكان هذا الوضع مثاليًا، لكن للأسف، لا أملك سوى هذه التقارير.
“واو… مظهره وسيم فعلًا.”
تقلبت قليلًا لأجد وضعية أكثر راحة، ثم فتحت التقرير.
على غلافه صورة قديمة للوران في شبابه، بملامح آسرة، كفيلة بإغواء إمبراطورة.
“يبدو كأحمق لا يُجيد حمل سيف.”
“وهنا تكمن جاذبيته.
شاب أشقر بعينين حزينتين، يوقظ فيك غريزة الحماية.”
“ولِمَ تصرين على تلك الشامة؟”
“لأنها تفصيلة محورية في وسامته.”
“……تلك النقطة الصغيرة؟ ربما تُستخدم كعلامة مميزة، لكن لا علاقة لها بالجمال.”
“دعني أريك بنفسي.”
رفعت رأسي قليلًا، وخطفت القلم من يده.
لم أكن متأكدة إن كنت سأُصيب موضع الشامة بدقة دون مرآة.
“كيف أبدو؟”
“……”
رسمت شامة صغيرة تحت عيني واتخذت أكثر ملامح بؤس يمكن تصورها.
لم يُعلّق كاسيون.
أرأيت؟ كنت محقّة.
“يا صاحب السمو… أرجوك… الصفحة التالية من التقرير…”
“كفى عبثًا، أسيليا.”
دعكت وجهي في الوسادة ثم استدرت ناحيته، أتوسل إليه بأكثر نظرة حزينة امتلكتها.
لكنه، بدلًا من إعطائي الورقة، كرمشها وغطّى وجهه بها.
“يبدو أن هذا هو نوع الإمبراطورة المُفضل… مختلف كليًا عن ذوق الإمبراطور.”
وبعد أن أفرغت مخزوني من المزاح، ركلته برفق وقد وضعت الصورة جانبًا بحذر.
ورغم تغطيته لوجهه، التفت نحوي فجأة.
“ولم تحفظين الصورة وحدها؟”
“لأننا سنحتاجها خلال بحثنا عنه في رحلتنا.”
“…أعطني إياها، سأحتفظ بها.”
“كما تشاء.
لكن الأهم الآن، متى ستُعطيني تلك الورقة؟”
وبينما أناوله الصورة، أشرت إلى الورقة الأخرى التي باتت مجعّدة تمامًا.
تردد لحظة، ثم سلّمني إياها.
“آه… يبدو أن الإمبراطورة تُراقب الأمور عن كثب.”
وفهمت حينها لمَ كانت الورقة منفصلة.
بينما اشتملت الوثائق الأخرى على معلومات عن لوران داخل العاصمة والقصر، احتوى هذا التقرير على تفاصيل الهجمات التي تعرض لها الفرسان أثناء جمع المعلومات.
“هل أصيب أحدهم؟”
“لو كانوا بهذا الضعف، لما اختيروا فرساني.
لكن ردة الفعل المفرطة منذ بداية التحقيق تُضفي مصداقية على تحليلك، أسيليا.”
“أليس كذلك؟ لا أحد يفرض رقابة صارمة بهذا الشكل إلا إذا كان خائفًا.”
لم يمضِ سوى يومٍ واحد، لا أسابيع ولا شهور.
ومع أن الفرسان توزعوا على مناطق متعددة، فإن سرعة الاستجابة كانت مريبة.
كون الأمر بلغ الإمبراطورة خلال يوم واحد فقط يُشير إلى مراقبة حثيثة وممنهجة.
“خمسة وعشرون عامًا دون شكوك، ولم أتوقع يقظتهم لهذه الدرجة.
ربما كان علينا البدء بحذر أكثر.”
“…سأحذر الفرسان.”
“لا، لا داعي للومهم.
نحن لم نُقدّر الموقف كما ينبغي.”
“ومع ذلك، انكشافنا بهذه السرعة مقلق.
مجرد شبهة تكفي لإطلاق هجوم مضاد، ولا مجال للاستخفاف بالأمر.”
“إذًا، هل تظن أن الإمبراطورة تدرك أننا نحقق؟”
“ربما تشعر أن هناك من يحقق، لكنها لا تعرف من بالضبط.
انظري إلى نهاية التقرير.”
اتبعت إصبعه، وقرأت: لقد تم التعامل مع المهاجمين، وكذلك أولئك الذين كانوا مختبئين لنقل المعلومات.
“إذن علينا أن نسافر فورًا في رحلة شهر العسل، قبل أن تتعقّد الأمور.
لنرتّب الملفات ونحدّد المناطق ونغادر هذا الأسبوع.”
“همم… هذا الأسبوع.
ينبغي إبلاغ الإمبراطور قبل مغادرة العاصمة، وسيصل الخبر إلى الإمبراطورة أيضًا.”
“في كل الأحوال، الأمر مسألة وقت.
من سيعثر عليه أولًا؟ نحن أم هي؟”
لكن لا ينبغي أن نبالغ في التخفّي.
لستُ بارعة في التحليل.
تُرى، هل تحتوي التقارير على خيط يقودنا إليه؟
“دعنا نُمعن النظر أكثر.”
“حسنًا، لكن قبل ذلك… أزيلي تلك الشامة.
وأنزلي قدميك من عليّ.”
“تشه، كم أنت ممل.”
أبعد كاسيون قدميّ أخيرًا، ثم نهض وعاد بمنديل.
تأففتُ من طريقة مسحه القاسية، كأنه يُزيل وصمة لا شامة.
هل لم تناسبني؟ مستحيل.
لا بد أنها أزعجته وكأنها خدش في لوحة.
“…ليا.
أسيليا.”
“هممم… نعم؟”
رغم فقداني وسادة قدميّ، كان السرير الواسع والدفء المحيط كافيًا ليُغرقني في النوم، خاصة بعد ما عانيتُه الليلة الماضية.
وفجأة، شعرت بكاسيون يهزني بلطف، يمسح شيئًا عن فمي.
لحسن الحظ، لم يكن هناك أثرٌ محرج.
“أظنني غفوت قليلًا.”
“غفوة؟ لقد نمتِ نومًا عميقًا.
من الأفضل أن تذهبي لغرفتك وتنامي كما يجب.”
“لكن لم أنتهِ بعد من القراءة… دعني أتابع قليلًا.
علينا الإسراع في الاستعداد للسفر.”
“الغد كافٍ.
ما الذي تعتقدين أنك ستمتصينه الآن؟”
مددتُ يدي للورقة المكرمشة التي نمت فوقها، لكنه سحبها مني بسرعة.
رأيته يُنظّم الأوراق، وظننت أنه سيخلد إلى النوم.
لكنه عاد إلى مكتبه.
ألم يقل أن الغد يكفي؟
“إن لم تنم، فلن أنام أنا أيضًا.”
“كُفي عن العناد، وانظري لنفسك، عيناك محمرّتان، كأنك أرنب صغير.”
“هل تعلم؟ الأرانب تنشط عند الفجر والغروب.”
“كلام فارغ من أثر النعاس.”
“أنا بكامل وعيي، فقط… ياآاااه…”
تثاؤب.
“…أسيليا.”
“ماذا الآن؟”
رغم تثاؤبي العميق، واصلت الحديث بجرأة.
في الحقيقة، كاسيون محق.
أشعر بأن النوم يُثقلني ثانية، وفمي بات ثقيلًا.
“إن كنت تريدني أن أنام، فلننَم سويًا؟”
“وإن كنتِ ترغبين في النوم، فكلٌّ منا ينام في غرفته.
كيف انتقلنا من التقارير إلى النوم سويًا؟”
“لأني متعبة جدًا لأتحرّك.”
وحين أدركت أنه لن يتحرك من مكتبه إلا إن نزلتُ، جمعت بقايا طاقتي ونزلت.
“أوه!”
“…أسيليا! انتبهي.”
“ههه…”
تعثرتُ من شدة النعاس، وكدت أسقط من حافة السرير.
كنت أحاول إنقاذ كاسيون من أوراقه ومكتبه، لكنه اقترب من تلقاء نفسه.
وذلك الشعور بالأمان في قربه كان دافئًا.
حتى دون ليلي، أنا واثقة أنني لن أرى كوابيس إن نمت بجواره.
ابتسمت وأنا أتشبث بأكمامه بعد أن ساعدني.
“لننَم معًا.”
“…هاه…”
وأخيرًا، وبعد أن جذبتُه إلى السرير بمشقة، تمدّدتُ، فتبعني ونفض الغطاء ليغطي جسدي.
عدّلت الغطاء، ثم أشرت إلى الفراغ بجانبي.
“استلقِ هنا، بسرعة.”
راقبني قليلًا، ثم زمّ شفتيه وانكمش فكّه، لكنه انصاع في النهاية واستلقى كلوح خشبي.
ياله من نوم متصلّب.
استدرت نحوه وأغمضت عيني.
“نلتقي غدًا.
لقد كان يومًا ممتعًا.”
“…نعم.
والآن، نامي، أرجوك.”
ضحكت مجددًا من نبرته المُستسلمة.
وما هي إلا لحظات حتى غمرتني راحة لذيذة…
كأنني أنام فوق غيمة.
ⵌ42
“هممم…”
هل تعرف ذلك الإحساس حين يكون عقلك نصف مستيقظ، لكن دفء المكان وراحته تمنعانك من النهوض؟ هذا بالضبط ما شعرت به.
عادةً ما أميل إلى الوسائد أو الأسرة التي تكون متماسكة قليلاً، تدعم جسدي بشكل أفضل، أما هذه الوسادة الجسدية التي تعانق ذراعيّ وساقيّ فكانت مثالية تمامًا.
دافئة، متينة، ومرنة تمامًا على هواي.
“أسيليا.”
“فقط… خمس دقائق إضافية…”
سمعت صوتًا يناديني، فغمغمت ودفنت وجهي مجددًا وأنا أتمسك بالوسادة أكثر.
وعندما تحرك ما كنت أعانقه فجأة، وانضغط خدي بفعل الارتجاج، لم أشعر بالانزعاج، بل استمتعت بالراحة.
ليلي لينة جدًا وصغيرة لا تكفي للعناق أثناء النوم، لكن هذه… كانت مثالية.
لكن هل لديّ أصلًا وسادة بهذا الحجم في غرفتي؟
“…هاه؟”
“رجاءً، توقفي عن تحريك شفتيك هناك.”
بدأ وعيي، الذي كان يغرق في نعاس لطيف، بالارتفاع ببطء.
وبينما كنت أتحسّس ما أحتضنه، سمعت صوتًا غاضبًا من فوق رأسي.
هل هذه وسادة تتكلم؟
“ما هذا…؟”
“الساق! الساق! يا أسيليا، توقفِ!”
وهي طويلة جدًا، حتى أنها تبدو أطول مني.
وعندما حرّكت ساقي الممدودة عليها وفركتها برفق، جاء صوت غاضب مرتفع يوقظني فجأة.
فتحت عينيّ لأجد شيئًا يحجب رؤيتي.
“…ما هذا؟ صدر؟”
“إذا كنت تعرفين ما هذا، فتوقفي عن لمسه وابتعدي فورًا!”
رغم أنني لم أستيقظ تمامًا، لمست صدره العاري بحذر، فارتد كاسيون مذعورًا وسحب جسده إلى الخلف، لكن ساقي الممدودة عليه حالت دون هروبه التام.
“ياااه…”
أوه. الوسادة التي كنت أعانقها أثناء نومي لم تكن سوى كاسيون.
كان دافئًا ومريحًا جدًا… يا للأسف.
لكن لحسن الحظ، لم أكن قد سال لعابي، وهذا عزائي الوحيد، وأنا أستيقظ ببطء وأتمطط، بينما كاسيون الذي تحرر أخيرًا من قبضتي، نهض سريعًا من السرير.
“بشرتك أفتح مما توقعت.”
“هل هذا ما تقولينه بعد أن لمست جسدي؟ حتى لو لم تتفاجئي، كان من اللائق أن تعتذري.”
“حسنًا، آسفة.
لكن من ينام عاري الصدر؟ هذا يسهل الأمر كثيرًا.”
“عادةً لا أرتدي شيئًا فوق عند النوم، وخلعت القميص وأنا نصف نائم!”
“عادة سيئة جدًا، تَؤ تَؤ تَؤ.”
رددت ساخرًا، ونظر إليّ كاسيون وهو يزرر قميصه بذهول، بينما كنت أتابع النظر إليه بلا خجل.
لقد نمت جيدًا واستيقظت منتعشة، فلا تعبثوا بمزاجي.
“هاه… ربما لأن الوسادة كانت جيدة، أشعر بنشاط تام.”
“…أتمنى فقط ألا تكوني تقصدينني أنا.”
ابتسمتُ بهدوء ونزلتُ عن السرير.
بعد أن قضيتُ عدة ليالٍ في غرفة كاسيون أثناء تحضيراتنا للهجوم، بدأت أشعر براحة هنا أكثر من غرفتي.
“إلى أين أنت ذاهب باكرًا هكذا؟ متأنّق ولم تتناول إفطارك بعد.”
رأيت ربطة عنقه متجعدة رغم بقية مظهره المرتب، فاقتربت وعبّرت التجاعيد وسألته.
أجاب بتردد كأنه لم يستفق تمامًا.
“سأتوجه إلى القصر الإمبراطوري.”
“آه… لتُبلغ الإمبراطور بمغادرتنا العاصمة؟”
“نعم.
ولا تظني أن ترافقيْني.
سأذهب وحدي، فابقِ في البيت.”
“لم أقل شيء أصلاً.”
“ارتاحي فقط! ولا تطلعي على تقارير والد الأمير الأول قبل عودتي.
من الأفضل أن نراجعها سويًا مساءً.”
“هل أصبحتَ والدتي الآن؟ وماذا عليّ أن أفعل في القصر طوال اليوم؟”
“تناولي الطعام، الحلوى، واشربي الشاي…”
أحسست بالغثيان لمجرد سماع هذه الأوامر.
ليس أنني بلا مهام، لكن أن يُطلب مني الاسترخاء بهذه الطريقة… هو نوع جديد من العذاب.
“هذه طريقة لتتحول إلى خنزير. ماذا بعد؟”
“شاهدي المجوهرات أو… آه، سيكون من الجيد أن تتعلمي ركوب الخيل.”
“…ركوب الخيل؟”
“لم تركبي خيلًا من قبل، أليس كذلك؟”
“لا، أول مرة رأيت حصانًا فيها عن قرب كانت في الإسطبل.”
بالطبع، لم أركب من قبل.
يبدو أن كاسيون بدأ يفهمني حقًا.
بينما معظم النبيلات يتعلمن أساسيات الركوب كجزء من تربيتهن، أنا التي لم أقم حتى بحفل ظهوري، من أين لي بتلك المهارة؟
“لو كانت رحلة عادية، لجهزنا عربة.
لكن إن أردنا الاقتراب من لوران بهدوء أو التنقل بسرعة، من الأفضل أن يركب كل منا جواده.”
“آه…”
لم أفكر في هذا من قبل.
صحيح، حتى تحقيق استمر يومًا واحدًا جعل الإمبراطورة في حالة استنفار، فكيف بالعودة بعد العثور على لوران؟
ناهيك عن أننا لا نعرف مكان اختبائه، لذا علينا التحرك بحذر.
العربة لافتة للنظر… لكن الأحصنة… مخيفة بعض الشيء.
“ممتاز.
تعلم ركوب الخيل سيشغل وقتك بشكل مفيد. سأخبر الفرسان، فابدئي بعد الطعام بتعلم الأساسيات.”
“الآن؟ مباشرةً؟”
“أنت دومًا متهورة وتتسرعين، فلماذا تردين الآن بهذه الحذر؟”
السبب ببساطة أنني أخاف من الخيول.
لكن كاسيون لم يلاحظ خوفي، ربما ظنّ أنني أريد مرافقتَه، فأعطاني نظرة تحذيرية:
“لا تفكري في مرافقتي.
فقط تعلمي الركوب.
سأطمئن عليك عند عودتي، أسيليا.”
“…الآن أعطيتني واجبات منزلية، أمي.”
لكني لم أستطع الاعتراف بخوفي.
كبريائي حال دون ذلك.
يا لي من حمقاء.
—
“ألن يكون الأمر غير مريح أو خطير دون ملابس ركوب مناسبة؟”
“آه، نحن فقط نتعلم الأساسيات.
في الواقع، الملابس الضيقة قد تكون أكثر إزعاجًا.”
سقطت دفاعاتي الأخيرة.
لو علمت أن السروال والقميص الذين اشتريتهما “للاحتياط” سيُستخدما هكذا، لربما اكتفيت بالفستان.
اقتربت من الفارس المبتسم وأنا أبكي داخليًا.
“اليوم سنكتفي بتعلم كيفية الصعود والنزول، مع بضع لفات خفيفة حول ساحة التدريب، سيدتي.”
“هل تريدني أن أركب وحدي من اليوم الأول؟”
“بالطبع، سأمسك باللجام بجانبك في أول لفتين.”
يعني سأركب وحدي بدءًا من الثالثة؟ نظرت إليه بوجه حزين، فارتبك وحك رأسه.
“آه، لا تقلقي.
لقد تم اختياري بعناية من قبل سموّه بعد منافسة شديدة.
سأعلمك بحذر ولن تتعرضي لأي أذى.”
“لكن…”
نظرت إلى الحصان الذي أحضره.
هل سأركبه؟
“إنه ضخم جدًا… هل سأتمكن من الصعود أصلاً؟”
عينيه السوداوين اللامعتين تبدوان ودودتين، لكنني خائفة.
يبدو لطيفًا الآن، لكن ماذا لو بدأ بالركل فجأة؟
نجوت من موتي في القصة الأصلية، فلا أريد أن أنهي حياتي بسقوط من على ظهر الحصان.
“سأتدبر الأمر.
حتى لو سقطت، سأغطي عليك.
لكن لا تظهري خوفك.
الخيول حساسة وتشعر بكل شيء.”
“يستطيع أن يشعر بذلك؟!”
نظرت للحصان بدهشة.
عينيه التي بدت لطيفة منذ لحظات، أصبحت وكأنها تسخر مني.
“أتظنين أنكِ قادرة على ركبي؟” نظراته كانت واضحة، لكنني تمسكت بنظراتي بثبات.
“ههه.”
“…لا تضحك…”
“آسف، سيدتي، لم أستطع التحكم في نفسي.”
ضحك الفارس مكتومًا لرؤيتي أتبادل النظرات مع الحصان.
رغم ارتجافي، لم أدر عينيّ.
أنا لست خائفة! سأركبك!
“إذن، لنبدأ بالصعود.
أعددت لك درجًا خاصًا.”
“درج؟ الحمد لله…”
كنت أظن أن عليّ القفز مباشرة على ظهره، فتنفست الصعداء.
التفتّ، فرأيت سلمًا صغيرًا ذا درجتين بجانب الحصان، ولم يبدُ متضايقًا منه.
“سنبدأ بتعلم الوضعية الصحيحة للجلوس والحفاظ على التوازن.
أولًا، خذي يدي واصعدي الدرج ببطء حتى تصلي للسرج.”
“الآن؟ في هذه اللحظة؟”
“لا تقلقي، أمسك باللجام.
الحصان هادئ ونادرًا ما يتهيّج.”
“…حسنًا.”
لا مهرب الآن.
طالما أُعد كل شيء، فعليك المحاولة، أسيليا.
ⵌ43
“أسيليا، هل أتقنتِ ركوب الخيل؟ ميسي لم تذكر شيئًا، لكنكِ لم تذهبي إلى مكان آخر، أليس كذلك؟”
“…”
الذهاب إلى مكان آخر؟ وكأنني كنت أملك ترف الوقت لذلك.
رغم أنني قضيت نصف نهار أتمرن، إلا أن اندفاعي الحماسي في البداية انهار كليًا أمام عناد الحصان.
وكأنني هُزمت تمامًا.
“لماذا لا تجيبين؟ هل فعلتِ شيئًا آخر بالفعل؟”
“كيف كان جلالة الإمبراطور؟ وماذا عن ردة فعل الإمبراطورة حين أخبرتها عن شهر العسل؟”
“لا تُراوغي. لن أجيب أنا أيضًا.”
“… تِش. أنا لم أُغيّر الموضوع.
فقط سبقتك بالسؤال لأنه مهم… لم أذهب لأي مكان.
قضيت اليوم بأكمله في التدريب على ركوب الخيل.”
“لكن الأمر يبدو مريبًا.”
يا للظلم.
أُتَّهم بما لم أفعله، وأنا بريئة! لكن كرامتي حالت دون أن أكون صادقة تمامًا.
الواقع أنني كنت دومًا طفلة معجزة، أبرع في كل شيء منذ ولادتي.
جمالي لافت، أتعلم بسرعة بعقلي وجسدي، لا أخشى المرتفعات، ولا الحشرات، ولا حتى الأشباح… فكيف لي، بكل هذه القدرات، أن أُهزم أمام حصان؟! مجرد حصان!
“إن كنتِ قد تعلمتِ فعلًا، فلا بد أن أرى ذلك بعيني.”
“… الآن؟ أوشك وقت العشاء.”
“لا يزال أمامنا متسع من الوقت.
نتأكد سريعًا ثم نذهب لتناول الطعام.”
“علينا غسل أيدينا أولًا… كما أنك لا بد متعب.”
“…”
كلما أمعنت في اختلاق الأعذار، ازدادت نظرات كاسيون حدةً وريبة.
لا مهرب إذًا.
“حسنًا، فلنذهب.”
خطوتُ بتثاقل نحو الحصان الذي رافقني طيلة فترة الظهيرة.
حاولت أن أُخفي ارتجاف يدي وأنا أربّت بلطف على رأسه، ثم همست له برجاء: “أنقذني… أرجوك، ساعدني.”
لكن من موضعه، لا بد أن كاسيون رأى المشهد ودّيًا مألوفًا، إذ تمتم بنبرة رضا: “همم…” يا رب، دعه يظل مخدوعًا.
“ما هذا الشيء؟”
“سلّم للركوب.
لا تبقَ هناك، تعال وأمسك اللجام.”
“سلّم؟ وما الغرض منه؟”
“لأصعد على ظهر الحصان.”
خلال ثوانٍ، تبدّلت ملامح الرضا على وجه كاسيون إلى ارتباك صريح.
حدّق في السلم الموضوع بجانب الحصان وكأنه يراه للمرة الأولى.
في مثل هذه اللحظات، لا خيار لي سوى التظاهر بالثقة.
“… سلّم لحصان بهذا الحجم؟”
“هذا الحصان كبير جدًا في الواقع.
وقد تعلّمت بهذه الطريقة.”
في الحقيقة، كان السلم مخصصًا للمرة الأولى فقط، ثم يُزال بعد ذلك.
لكن ذلك لم يكن ممكنًا.
بعد أن كدت أسقط من الجانب الآخر، استسلم الفارس وترك السلم في مكانه.
“تعلّمتِ الركوب باستخدام سلّم وشخص يمسك اللجام؟”
“نعم، هذا ما حدث.”
“… هل هذه الطريقة المتّبعة لتعليم النساء؟”
لحسن الحظ، كاسيون لم يكن له سابق تعامل مع مبتدئات.
كان احتكاكه دائمًا مع فرسان محترفين، لذا لم يكن لديه معيار يقيس به.
اقترب مني وهو يحمل نظرة شك، وأمسك باللجام.
لا تمسك به بهذا التراخي… عليك أن تثبته جيدًا.
“سأصعد الآن.”
“أعتقد أن الأمر سيستغرق نصف يوم فقط لتفعلي ذلك.”
كان يمازحني، لكن لم يكن لدي طاقة للرد.
كنت بحاجة إلى تركيز تام.
أن أضع قدمي في الركاب، وأدفع جسدي لأتجاوز السرج بثبات، تطلب مني كل ما أملك من طاقة ودقة.
تنفّست بعمق وقفزت.
“…!”
لحسن الحظ، لم أقع أرضًا كما توقعت.
يبدو أن ساعات التدريب لم تكن عبثًا، إذ تمكنت من الجلوس بثبات على السرج.
“أرأيت؟! قلتُ لك إنني تعلمت!
صعدت جيدًا، أليس كذلك؟!”
“… وهل هذا كل ما في الأمر؟”
“ما الذي تفعله؟ لا تترك اللجام!”
“ألم يكن دوري فقط أن أمسكه أثناء صعودك؟ ألا يجب أن تسيّري الحصان الآن؟”
“ما الذي تقوله؟ أنت من عليه أن يقوده طوال الوقت! كيف أتحكم به وحدي وأنا ما زلت مبتدئة؟!”
“… أسيليا، هل تعلّمتِ فعلًا بهذه الطريقة؟”
“لماذا تُصرّ على التشكيك؟! قلت لك إنني تعلمت بهذه الطريقة!”
لم أكن أكذب.
صحيح أن الفارس أراد أن يحرر اللجام لاحقًا، لكن بعد صراخي الهستيري، اضطر أن يبقيه بيده طيلة الحصة.
“هاه…”
رآني جالسة فوق الحصان، بعينين مرتبكتين لا تعرفان أين تنظران، فأطلق ضحكة قصيرة وكأنه استوعب كل شيء.
“فهمت الآن.
لم تذهبي لمكان آخر حقًا، وأفهم الآن لِم لزمت ميسي الصمت.”
“… ماذا تعني؟”
“ثبتي نفسك، سأنضم إليك، فلا تفزعي.”
وما إن أنهى عبارته حتى وثب بخفة خلفي على ظهر الحصان، بحركة سريعة مدهشة.
“آه، واو… كيف فعلت ذلك؟!”
صرخت بدهشة، لكنه لم يجب، بل اكتفى بابتسامة عابرة، ثم أحاطني من الخلف وسحب اللجام للأمام.
“جسدكِ متصلّب تمامًا.
وهذا خطر، لأن أي ارتجاج أو مطب قد يصيب ظهرك مباشرة.
استندي إليّ، وأمسكي اللجام.”
“أنا؟ أمسك اللجام؟”
“سأمسكه معك، لا تقلقي.”
وحين ترددت، مدّ يده، وأمسك بكفي ووضعه فوق اللجام، ثم غطّاه بكفه.
أيدينا تلامست.
“استرخي أكثر.
الحصان سيتحرك الآن.”
“نعم، نعم، حسنًا.”
“فف.”
هل سخر مني للتو؟! لا بأس… سأرد الصاع صاعين حالما أضع قدمي على الأرض.
“أرأيتِ؟ الأمر ليس بالصعوبة التي تخيلتها.”
كان الأمر أيسر بكثير حين كان اللجام في يده، يقوده من الخلف، بعكس ما شعرت به عندما أمسك به الفارس من الجانب.
شعرت الآن أنني بدأت أفهم.
“تِشه.
لو علّمني أحد بهذه الطريقة من البداية، لاختلف كل شيء.”
وبعد أن أتممنا جولة حول الساحة، بدأ الغرور يتسلل إلى نفسي.
كما هو متوقّع مني.
لا بد أن لدي موهبة.
“بهذه الوتيرة، سأكون مستعدة لشهر العسل في وقت قياسي— كياااااه!”
لكن تلك الثقة لم تعمّر طويلًا.
فجأة، سحب كاسيون يديه من فوق يدي وقفز من على ظهر الحصان، وترك زمام الأمور لي وحدي.
انطلقت صرخة رعب من أعماقي.
“لا تصرخي، حاولي التماسك، أسيليا.
لا فرق كبير.
فقط… بهدوء…”
“ما الذي تفعله! آآه! وماذا عني؟! ماذا أفعل؟!”
“أسيليا، اهدئي.”
“كياااه! إنه يهتز! شهقة بكاء”
“هل… تبكين؟”
“أوه… أنا خائفة…”
رغم كل الوقت الذي قضيته مع هذا الحصان، لم يفهم توتري ولا رعبي.
استمر بالسير كما لو أن شيئًا لم يحدث، وجسدي بدأ يرتجف دون دعم كاسيون من خلفي، فكل شيء اهتز بي.
عندها، لم أعد قادرة على كبح دموعي.
البكاء اجتاحني، وكرامتي تهاوت.
تشوّشت رؤيتي، وعاجزتان كانتا يداي عن مسح وجهي، إذ كنت أتمسك باللجام كأنه طوق نجاة.
“أنت قاسٍ… واااااه… شهقة… أنا خائفة! لا أرى شيئًا!”
“أسيليا…”
وفجأة، شعرت بشدّة على اللجام، فتوقف الحصان حين أمسك كاسيون به مجددًا من الجانب.
“لا تبكي… لقد أخطأت.
يمكنكِ النزول الآن.”
“لا يوجد سلّم… شهقة بكاء”
كنت على وشك الانهيار والبكاء وأنا فوق الحصان، لكن خشيت أن يتحرك مجددًا.
حينها، أحاطني ذراع دافئة، ورفعني عن ظهره.
وبعد لحظات، لامست قدماي الأرض.
طخ
“أسيليا!”
“كنت فظًّا! قاسٍ! كيف تفعل شيئًا كهذا دون تحذير؟!”
انهرت على الأرض، وانهالت ضرباتي العشوائية على صدره وكتفيه، وأنا أبكي دون توقف.
[شنو هاي الرومانسية استحيت]
“أنا آسف… لم أتخيل أنك ستخافين بهذا الشكل…”
“ظننت أنني سأموت من الرعب! تجاوزت كل حد! شهقة”
مع نوبات البكاء، جاءت الشهقات المتتالية.
واصلت ضربه بلا هدى، وربما أصبت وجهه، لكنه فقط احتواني بين ذراعيه، وقال بخوف:
“أعدك، لن أفعلها مجددًا.
أنا آسف، أسيليا.
كان خطأً جسيمًا أن أتركك وحدك.
كل شيء سيكون بخير الآن، ششش، أرجوكِ، توقفي عن البكاء.”
راح يربّت على ظهري بيده الكبيرة، ودفء جسده بدأ يُهدّئ من روعي، شيئًا فشيئًا توقفت يداي عن الضرب، وبقيت شهقاتي تتردد بينما أسندت رأسي على كتفه.
“لن أركب الخيل مجددًا… شهقة… أبدًا…”
“حسنًا.
سنركب معًا، إن أردتِ.
لم يكن من الصواب أن أُجبرك.
أنا المخطئ.”
وحين بدأت أسترد بعضًا من هدوئي، دفنت وجهي في صدره، والحرارة تتصاعد من وجنتيّ من شدة بكائي، بكاء لم أبكه من قبل، حتى في طفولتي.
كل هذا…
ذنب كاسيون.
ⵌ44
“إذن، لديكِ مخاوف حقًا.”
“…… يبدو أنك لا تدري، لكن هذا ليس وقت المزاح، بل وقت الاعتذار.”
رغم أن الخجل اجتاحني متأخرًا، بعد أن بكيتُ حتى غمرني الحزن، كانت عيناي المنتفختان تحترقان كأنهما مغمورتان بالملح.
وضعت بيا كمادة باردة على عينيّ بنظرة مذهولة، بينما اقترب كاسيون بهدوء وجلس بجانبي.
“لم أقصد المزاح… لا، أعتذر.
أنا آسف يا أسيليا.”
بدأ يتملص غريزيًا ثم قدم اعتذارًا بصوت خافت ومكسور. قررت أن أضغط عليه قليلًا لأخفِّي شعوري بالحرج.
“ينبغي على الإنسان أن يكون واعيًا قليلًا!”
“… أنا آسف، تصرفت بلا تفكير.”
“هل تدرك كم أصابني من رعب؟ تركتني وحيدة دون كلمة! ظننت أنني سأموت من الخوف!”
“هل كان الأمر بهذا السوء؟”
“……”
“آسف.”
حين رفعت الكمادة عن عينيّ وحدقت فيه بنظرة صارمة، غيّر كاسيون كلامه فورًا، لكن بدا لي أنه كان على وشك الانفجار ضاحكًا قبل أن أعيد الكمادة.
“بالمناسبة، بشرتكِ حساسة للغاية… هذه الانتفاخات والاحمرار كله بسبب بكاء بسيط؟”
“… هل أبدو قبيحة هكذا؟”
رغم ثقتي الكبيرة بجمالي، لم أرَ نفسي من قبل بعينين منتفختين بسبب البكاء.
لم أنظر إلى المرآة بعد، لكن نظرات بيا المذهولة ولمحة اللوم التي وجهتها لكاسيون تشير إلى أن الأمر أكثر من مجرد احمرار خفيف.
“أنتِ تدهشينني اليوم كثيرًا.”
“ماذا كنت تعتقد عني؟”
“دائمًا ما تبدين قوية وجريئة، تحلين المشاكل قبل أن يطلب منك أحد المساعدة.
لذلك ظننت أنك لا تحتاجين للدعم.
لكن تصرفي كان بلا تفكير.”
“أنا بشر أيضًا، كما تعلمين.
لدي مخاوفي، وعيناي تنتفخان عند البكاء، وقد أبدو قبيحة حينها.”
“كل ما قلته صحيح، ما عدا الجزء الأخير.”
قالها وهو يبتسم بلطف، وربت على كفي التي ما زالت تحمل آثار قبضتي على اللجام بشدة.
تلك اللمسة الخفيفة أثارت في جسدي رعشة لطيفة.
“لم أدرك ذلك من قبل، لكن يبدو أنني اعتمدت عليكِ أكثر من اللازم.
رغم صغر حجمك، أنتِ عرضة للألم والبكاء.”
“هل سمعتني جيدًا؟ هل هذا اعتذار أم انتقاد؟ لأنني أخاف الخيول أصبحتُ ضعيفة؟!”
“لم أقصد الضعف… آسف مجددًا.
فقط يجب أن أكون أكثر حذرًا معك.”
“بالضبط. ع
امِلني ككنز نفيس.”
“سأفعل، حتى لو تطلب الأمر التضحية بحياتي.”
“آه، هذا مبالغ فيه! كان بإمكانك قول: سأبذل جهدي أو سأحميك قدر استطاعتي، لماذا التهويل بهذا الشكل؟”
“هل أخافتك كلماتي؟”
“إنها مجرد عبارة! أنا لا أخاف منك!”
هل يحاول المزاح على كلمة واحدة؟ رفعت الكمادة وقفزت من السرير، متوقعة أن أراه يبتسم، لكنه كان ينظر إليّ بجديّة غير متوقعة.
“يجب أن تخافي مني أكثر من الخيول، يا أسيليا.”
“ولمَ هذا؟ أليس هذا نوعًا من الغرور الزائد؟”
“معظم الناس يفكرون هكذا.”
“أنا لست كذلك.”
“أنت تفتقدين الحذر، في أمور كثيرة.”
ابتسامته الخفيفة كانت تحمل شيئًا من القلق.
حاول أن يجعلني أستلقي مجددًا ويعيد الكمادة، لكني صدّت يده واقتربت.
“هل حدث شيء في القصر الإمبراطوري؟ هل سمعت أمرًا مزعجًا؟”
“لا شيء يستحق الذكر.”
“إذا لم يكن هناك شيء، فأخبريّ.”
“فقط… أحيانًا، حين أكون معك، أنسى كيف يعاملني الآخرون.
لكنني تذكرت ذلك مجددًا.
ومن الجيد أن أستعيد بعض الحذر بعد أن تراخيت مؤخرًا.”
رأيت الوميض الخافت في عينيه المنخفضتين.
مهما تحسنت سمعته وسمعة الأمير الثاني بين العامة ونبلاء الفصيل، يبقى القصر عالمًا مختلفًا.
كنت على وشك مواساته، لكن قررت التوقف.
فهو ليس من نوع من ينهار.
وكما قال، غضبه قد يكون دافعًا للسير قدمًا.
“تفكير صائب.
فلنسحق كل من يقف في طريقنا أو يطلق الكلام الغريب.”
“بالضبط.”
“سأكون بجانبك دائمًا، أقاتل معك، فلا تقلق.”
“فف، نعم.
لكن لا تجعلني أعتمد عليك كثيرًا.
عليّ أن أقف على قدمي أيضًا.”
“كنت متساهلًا كثيرًا، ممهداً لك الطريق بالزهور.
لنبحث عن لوران معًا الآن.”
مزحت ومددت بطني بفخر لإنجازاتي حتى الآن.
لكن كاسيون أومأ بجديّة.
“لهذا نحتاج طاقة.
لنذهب لتناول العشاء! أخبرني بما حدث في القصر وأنت تأكل.”
“هل يمكنني النهوض الآن؟”
“البكاء لا يُمرض.
بالعكس، يجعلني أشعر بالجوع.”
رمق وجهي، وخصوصًا عينيّ، بدت الكمادة لم تعيد لهما رونقهما، لكن الجوع كان أقوى من الكبرياء.
وعلى أي حال، لا أحد سيراني بهذا الشكل سوى كاسيون وعائلة الدوق.
—
“يا إلهي… سيدتي، هل أنت بخير؟ هل أُحضّر لك طعامًا خفيفًا؟”
“يا صاحب السمو، ماذا فعلت بسيدتنا؟ اعتذر فورًا!”
“…لقد اعتذرت بالفعل.”
“اعتذر مجددًا! لا يكفي الاعتذار مرة واحدة!”
كان خطأي أن أظن أن الأمر سيكون على ما يرام.
عندما طلب كاسيون العشاء المتأخر ونزلنا لغرفة الطعام، نظر إلي الخدم والطاهي الذين جاءوا ليشرحوا قائمة الطعام بوجوه مذهولة.
نسيت أن أنظر إلى المرآة قبل النزول.
كم أبدو سيئة؟
“لا شيء خطير، فقط بالغت في ردة فعلي.”
“سيدتي، كم أنت رقيقة وطيبة القلب.”
“لا تقل إنك بالغت، الآخر هو من أخطأ، أنتِ لستِ مذنبة.”
“هل وصفتني بالمخطئ، بيرت؟”
“أنا؟ قلت ‘الآخر’ فقط، هل تشعر بالذنب؟”
“يا لك من وقح…”
“كاسيون.”
ما هذه التصرفات على المائدة؟ نظرت إليه بهدوء وأنا أنطق اسمه، فأغلق فمه فورًا قبل أن يرد بغضب على بيرت.
“شكرًا لتحضير العشاء رغم التأخير، سأبدأ الأكل الآن.”
“على الرحب والسعة! خذ وقتك، لا تتعجلي، معدتك لا تحتمل السرعة.”
“حسنًا، سأحرص على المضغ جيدًا.
يمكنكم الانصراف الآن.”
قلت ذلك بابتسامة مشرقة، لكن الوجوه التي تركتنا بدت وكأنهم يشهدون مأساة.
هل ابتسامتي الساحرة تُرى بهذا القدر من الحزن؟ شعرت بصدمة خفيفة وأنا أرفع الملعقة.
“…لا تقل لي أنني أبدو قبيحة حقًا؟”
“ما هذا الهراء يا أسيليا؟ لنأكل قبل أن يبرد الطعام.”
صحيح، عليّ أن آكل.
لكن كيف أتجاوز هذه الصدمة؟
“والآن، أخبرني بما جرى في القصر الإمبراطوري.”
غيّرت الموضوع لأبعد تفكيري عن عينيّ المنتفختين.
لهذا السبب أرسلت الجميع.
“كما قلت، لا شيء مهم.
بعض الحمقى أطلقوا شائعات خلف ظهري، لكن الإمبراطور رضي بفكرة شهر العسل.
بل قال إن علينا أن نتجول في المناطق، نرى البلاد ونستمتع.”
“أوه!”
كان كاسيون يمضغ اللحم بهدوء، أما أنا فوضعت الملعقة جانبًا وهتفت: هل يعقل…؟
“هل يخطط لمنحنا إقطاعية؟!”
“إقطاعية؟”
“إقطاعية دوقية! أليس غريبًا أن يطلب منا النظر إلى الأراضي أثناء شهر العسل؟ ربما يمنحنا قطعة منها حسب اختيارنا!”
“حتى وقت قريب، لم يكن يُنظر إليّ كدوق حقيقي، فكيف يمنحونني أرضًا فجأة؟”
“لكن الأمور تغيرت كثيرًا، خصوصًا بين الأمراء.
إذا أصبح الأمير الثاني وليًا للعهد، فستكون أنت اليد اليمنى للإمبراطور القادم – كيف لا تمتلك إقطاعية؟!”
“هممم… هل تعتقدين ذلك؟”
“وكيف كانت ردّة فعل الإمبراطورة؟”
“تلك المرأة… لا يمكن قراءة شيء من ملامحها.
لا بد أنها شكّت في علاقة بين شهر العسل والبحث عن لوران، لكنها لم تُبدِ أي رد فعل.”
“لو كانت تظهر تعابيرها، لكانت وقعت في مشاكل أكبر منذ زمن.”
تابعت الأكل وأنا غارقة في التفكير.
“على أي حال، الإمبراطورة لا تهاجمنا علنًا الآن.
علينا الحذر عند مغادرة العاصمة، لكن…”
“اتركي الأمر لي. ربما من الأفضل أن نركب نفس الحصان طوال الرحلة لأحميكِ – لقد أجبرتك على شيء غير ضروري اليوم.”
“هل هذا يعني أننا سنركب معًا طوال الوقت؟!”
أرجوك، لا. لا أريد العودة للتدريب.
ليس فقط لأنني أخاف، بل لأن رؤية الحصان قد تذكرني ببكائي اليوم.
“نعم.”
“إذًا، لن أحتاج لتعلم ركوب الخيل بعد الآن؟!”
“لا، عليكِ التمرن قليلاً معي.
حتى الركوب المزدوج يحتاج إلى مهارة لتحمّل الرحلات الطويلة.
وفي حالات الطوارئ، يجب أن تعرفي كيف تركبين وحيدة حتى لو لفترة قصيرة.”
“…”
“… همم، هذا لذيذ.
هل تريدين قطعة؟”
“… قلبي لا تتأثر بالأطعمة الشهية.”
نادراً ما أشعر باليأس، لكن فجأة بدا لي أن جينين شخص يستحق الإعجاب حقًا.
ⵌ45
“هل ستكونين بخير حقًا، سيدتي؟”
“نحن على استعداد لمرافقتك في الحال!”
في صباح يوم انطلاقنا لقضاء شهر العسل، بدت ملامح أفراد منزل الدوقية الذين جاؤوا لتوديعنا شاحبة قلقة.
حتى أن بعض الفرسان كانوا قد جهّزوا عدّتهم، وعلّقوا حقائبهم على أكتافهم، وكأنهم يستعدّون للرحيل معنا.
“لا تقلقوا، ستكون رحلة هادئة ودافئة.”
“سيدتي… ما الذي يجب أن نفعله؟ هل تم التلاعب بك؟ لا يبدو أن هذا ما يُسمى بالدفء والراحة.”
عبّرت بيا عن قلقها علنًا أمام كاسيون دون مواربة، وهو أمر مألوف من أهل الدوقية الذين لا يجيدون إخفاء مشاعرهم.
“بهذا الحال، ستكونين أول من يبحث عني عند عودتك.”
حتى الطبيبة الملكية لم تكن بأفضل حال.
ورغم النظرة القاتمة التي رمقها بها كاسيون، فإنها كانت ضئيلة الأثر مقارنة بالعيون المليئة بالتوجس من حولنا.
“لا بأس، نحن نحمل معنا ما يكفي من المال.”
كان قلقهم مبررًا؛ إذ بدونا كمن يخوض تجربة تقشف، لا شهر عسل فاخر.
كنا نمتطي حصانًا واحدًا فقط، ومعنا حقيبة صغيرة يحملها كاسيون، دون عربة ولا خدم ولا مرافقة.
بالطبع، كانت لدينا خطتنا الخاصة، لكن لأن هدفنا الحقيقي لم يكن نزهة بل البحث عن شخص ما، فقد اضطر كاسيون لتحمل وابل من الانتقادات وحده.
“آه… سيدتي…”
“بيا، هل تبكين؟ على ماذا تبكين؟”
“أي سيدة نبيلة تغادر في شهر عسلها بهذه الهيئة؟ كان يجب أن تكوني متألقة كحضورك في المناسبات الإمبراطورية، لا أن ترتدي هذه الثياب الخشنة البشعة! وشعرك مربوط بإهمال! هل أخذتِ معكِ على الأقل مشطًا؟!”
“أوه… نعم، لدي مشط.”
في الحقيقة، لم يكن لديّ.
شعري لا يتطلب عناية كبيرة، وكنا نعوّل على أدوات النُزل الأساسية، لكن أمام دموع بيا، اضطررت إلى الكذب.
“أتفهم ارتداء هذه الملابس ما دمتِ ستزورين مهرجانات القرى، لكن ألا يجدر بنا مرافقتك؟”
بينما كانت الطبيبة تمدّ يدها لبيا بمنديل – متى أصبحتا بهذا القرب؟ – تقدّم الفرسان خطوة.
وكانت ميسي، التي درّبتني على ركوب الخيل، الأكثر حماسة.
“أعلم أن كثرة المرافقين قد تعيق خصوصيتكما، لكنني قادرة على مرافقتكما كظل! وإن كان لا بد من أحد، فخذاني أنا وحدي…”
“انظروا من يحاول أن يتقدّم الصفوف! سيدتي! سموّ الدوق! اصطحباني أنا!”
“نعم، خذا معكما أحدنا.
لعلها لا تضطر للعودة باكية إليّ لاحقًا.”
قالت الطبيبة وهي تربّت على كتف بيا وتزفر، وكأنها تؤيد اقتراحهم.
يبدو أنها تعتبرني مغناطيسًا للمشكلات، وتراه زوجًا لا يعتني بي بما يكفي.
ضحكت بتوتر، غير قادرة على الرد، ثم نظرت إلى كاسيون الذي كانت عروقه تكاد تنفجر من جبينه.
لقد تحلّى بقدر كبير من الصبر.
“هؤلاء لا يعرفون متى يصمتون.”
“وهل صمتك الآن يعني أنك أدركت؟”
علّقت ميسي بتهكم، فاشتدّت ملامح كاسيون، وتحركت يده من اللجام إلى مقبض سيفه.
“لو سافرتُ معها وحدي، فلن تضطر لرؤية وجوهكم مجددًا عند عودتنا.”
لكنه لم يوجّه غضبه لميسي، بل للطبيبة الواقفة في الخلف تُشعل الحماسة في الآخرين.
وأشار إليها بإصبعه غاضبًا في مشهد نادر، لكنها لم تَبدُ متأثرة.
“أتمنى ذلك، سموّ الدوق.
لحسن الحظ، أنتما تحملان معكما أدوية الطوارئ.”
قالتها وهي تهز كتفيها، فكاد كاسيون ينزلق عن الحصان، فأسرعت بوضع يدي على فخذه لأثبّته.
“فلننطلق الآن، عزيزي.”
لحسن الحظ، تجمّد كاسيون حين أمسكت به.
وحين أسندت ظهري إليه وهمست، انتفض قليلًا وأزاح يدي بلطف.
“…إن احتجتِ إلى شيء تتمسكين به، فامسكي بيدي أو اللجام.
هذا التصرف خطر أثناء الركوب.”
“أوه، لم أكن أعلم.
سأنتبه.”
تذكّرت أن التماسك بالفخذين مهم أثناء ركوب الخيل.
من الأفضل ألا أجرّب شيئًا متهورًا.
“آه، سيدتي العزيزة…”
لكن دموع بيا انفجرت من جديد حين رأت كاسيون يبعد يدي.
ما الذي يجري معها؟
“‘سيدتي الخاصة’؟”
“كفى.
هيا بنا.
بيا، إن استمررتِ بهذا الشكل، سأغضب فعلًا.”
وبالفعل، بدأ كاسيون يفقد صبره.
يبدو أن مغادرة القصر أصعب مما توقعت.
رفعت صوتي أخيرًا، وحدّقت في كاسيون ومن حولي.
“هل هذه هي طريقتكم لتوديعنا في شهر العسل؟ بدلًا من تمنياتكم لنا برحلة طيبة؟”
“…نعتذر، سيدتي…”
“…نتمنى لكما رحلة سعيدة وآمنة.”
لكنني تجاهلت كلماتهم، خشية أن يستغلوا لحظة ضعفي في استئناف النحيب، وأدرت وجهي عنهم متظاهرة بالانزعاج، ثم ربتُّ على يد كاسيون الممسكة باللجام.
“هيا بنا.”
“…حسنًا.”
أخيرًا، بدأ الحصان يسير.
ولحسن الحظ، لم يكن هناك من تجرأ على اللحاق بنا.
اكتفوا بالتلويح من بعيد حتى تلاشت صورهم شيئًا فشيئًا.
“سنعود قريبًا!”
نادتني وخزة ندم صغيرة، فصرخت مودّعة، وسمعت بعض الردود، لكن المسافة لم تسمح لي بتمييز الكلمات.
“لست أحمّلك اللوم، لكن ألا تعتقد أن سكان قصرنا… غريبو الأطوار بعض الشيء؟”
“حين تقولين إنهم غريبون، وأنتِ تعلمين أنني من وظّفهم، ألا يعني ذلك أنكِ تلومينني؟”
“لا، إطلاقًا.
حتى فرساني ليسوا عاديين.
لكن أولئك كانوا مرتزقة في الأصل، أما طبيبتك وخادمتك فـ… مبالغتان.”
“مبالغتان؟”
إن كان يقصد انفعالاتهم المفرطة، فأنا أتفهمه جزئيًا.
لكنني كنت راضية عن كفاءتهما، فتظاهرت بالاستغراب وسألته:
“ماذا تقصد؟”
“إنهم متعلّقون بكِ بشكل غير طبيعي.
خاصة تلك الخادمة.”
“ماذا؟ ما الذي تعنيه بذلك؟”
“‘سيدتي الخاصة’؟ هل يُعقل هذا؟”
قالها كاسيون وهو يضغط على أسنانه.
شعرت أن النقاش بدأ ينحرف عن مساره.
“ربما كانت زلّة لسان.”
“لا أظن.”
“أعتقد أن السبب ببساطة هو أنني جميلة.
أراها لا تهتم بي بدافع التعلّق، بل لأنها ترى فيّ لوحةً مثالية تستعرض عبرها مهاراتها.”
كانت دومًا متحمسة لتسريح شعري وتزييني.
تذكّرت بريق عينيها وهي تصرّ على البقاء حتى لو خُفّض أجرها.
يمكنني أن أتفهم لماذا يراها كاسيون مهووسة.
“المهم الآن، أظنني أصبحت مستعدة.
أشعر أنني تأقلمت.
دعنا نزيد السرعة.”
“أمتأكدة؟ ألا ترين أن من الأفضل الحفاظ على هذه الوتيرة حتى نغادر العاصمة؟”
“كلما انطلقنا أسرع، وصلنا أسرع واسترحنا.
هيا بنا!”
بعد أيام من البحث عن أماكن قد يتواجد فيها لوران، استطعنا تضييق الخيارات أكثر مما توقعنا.
سواء أكان لا يرغب في الابتعاد عن العاصمة، أو بتأثير من الإمبراطورة، فإن ذلك يصبّ في مصلحتنا.
ومن بين المواقع المحتملة، كان أبعدها يستغرق يومًا كاملًا من الركوب وفقًا لسرعة كاسيون.
قررنا أن نبدأ به ما دمنا لا نزال في كامل طاقتنا، ثم نتدرج نحو الأقرب.
ولكي تسير الخطة كما نرجو، كان عليّ – رغم خوفي من الخيل – أن أتحمّل يومًا كاملًا على ظهره.
“أنتِ متمسكة جيدًا، فلا تقلقي إن زدنا السرعة.
لكن إن شعرتِ بأي تعب أو ألم، أخبريني فورًا.”
“حسنًا. قلت إن بإمكاني الإمساك بيدك، صحيح؟”
في الواقع، لم أتدرب سوى لساعة بالكاد، لذلك جاء حماسي من جهلي بما ينتظرني.
ومع إدراكي التدريجي أنني مقبلة على جحيم، تجاهلت ذلك وربّتُّ على يده مرة أخرى.
“نعم. سننطلق الآن.
لا تتشنجي، فقط اتكئي عليّ براحة… أسيليا.”
“…!”
لم أتمكن من الرد، فقد زاد كاسيون السرعة فجأة بعد كلماته مباشرة.
آآآآه!
عضضت على شفتيّ، وصرخت في داخلي بينما الريح صفعت وجهي بعنف.
كان يجدر بي أن أدرك – منذ أن قال “وفقًا لسرعة كاسيون” – أنني أُقدِم على مغامرة خطيرة!
أتمنى فقط أن أصل وأنا ما زلت جالسة، ولو بلا وعي.
ⵌ46
“انظري هناك، ألا تستطيعين فعل الشيء نفسه؟”
“يا للعجب، ما أروع هذا المنظر! لا بد أن هذا حب خُطّت قصته على مدى ألف عام!”
كان المارّة يرمقوننا بنظرات لا تخلو من التعليق، بعضهم بفضول، وآخرون بسخرية.
لكنني لم أتمكن من رفع رأسي—ليس حياءً، بل لأن التعب أرهقني حد الإنهاك.
“أسيل، هل فقدتِ وعيكِ؟”
“… مؤخرتي تؤلمني إلى حد لا يُطاق.”
“لا حيلة لي حيال ذلك، فاصبري قليلًا فقط.
سنصل إلى النزل عمّا قريب.”
كاسيون لم يتوقف للحظة.
حتى وقت الظهيرة لم نترجّل، بل تناولنا قطع اللحم المقدد ونحن على صهوة الحصان، حتى بلغنا القرية مع آخر خيوط الشمس.
كأننا، أنا والحصان، على شفا الانهيار من فرط الجهد.
“تسك، لا عجب أن النساء يصبحن مغرورات بهذا الشكل وهنّ يتجولن هكذا في الطرقات.”
تمتم رجل ضخم الجثة بصوت عالٍ بما يكفي ليُسمع عمداً، وحاول أن يصطدم بنا.
غير أن كاسيون، الذي كان يحملني بذراعيه، غيّر وضعه بسلاسة وتفادى الرجل، ما أدى إلى تعثره وسط ضحكات المتفرجين.
“نحن نثير الانتباه أكثر مما ينبغي كغرباء…”
ظنّ كاسيون أنني أطلب منه إنزالي، فانحنى قليلًا ناحيتي، غير أنني تمسّكت بعنقه بإصرار ومنعته.
مهلاً، دعني على الأقل أكمل كلامي.
“أنا عاجزة حتى عن طلب إنزالي.
لو وضعتني على الأرض الآن، سأضطر إلى الزحف.”
“هه، لا يمكن السماح بذلك.”
“لكن، أنزلني قبل أن ندخل النزل.
سأبذل جهدي للوقوف على قدمي هناك.”
أعاد كاسيون ترتيب طريقة حمله لي، وكأن التعب لم يلمسه. لقد تحكّم بالحصان طوال الطريق، ولم تبدُ عليه أي علامات إرهاق.
كان يرفعني بدقة، يراعي وضعي المتألم، دون أن يثقل عليه الحمل أو تترنح خطواته.
“خطر لي أمر… أنت شخص يمكن الاتكال عليه فعلًا.”
“… ماذا؟”
“كنت قلقة لأننا لم نصطحب فارسًا معنا.”
حين رفعت يدي ببطء وربّت على عضده المتين، احمرّت شحمة أذنه فورًا.
مشهدها وقد احمرت بهذا الشكل أضفى عليه لمحة لطيفة لم أعهدها.
“اهم.
الإطراء لن يفيدك بشيء الآن.”
“أوه، ومَن قال إنني أجاملك؟ كنت أقول الحقيقة فحسب.”
“… حقًا؟ إذًا هذا… يعني…”
“بما أنني أرى كم أنك مرتبك، فلا حاجة لردّك.
فقط استمتع بمدحي.”
وامتد الاحمرار هذه المرة ليغمر عنقه بأكمله، رغم عتمة الليل.
يبدو أنه ضعيف أمام المديح المباشر… سأسجّل ذلك في ذهني لاستخدامه لاحقًا.
“أوه! انظر هناك! ألا ترى تلك اللافتة؟ أليست تلك نزلًا؟”
حتى وأنا أتحرك وأضحك بين ذراعيه، لم تهتز يده قيد أنملة.
وبينما كان يحدق إلى البعيد، كنت أول من لمح المبنى، فنبهته فالتفت إليّ.
“بصركِ حاد يا أسيل.
يبدو كذلك فعلًا.”
“الحمد لله.
بما أن هذه قرية لا يبدو أنها تستقطب السياح، فالغرف على الأرجح متاحة، أليس كذلك؟ يمكنك إنزالي الآن.”
لكن حين حاولت الوقوف، خانتني ساقاي وارتجفتا.
في النهاية، أنزلني كاسيون بلطف عند باب النزل مباشرة.
ظننت أنني استعادت بعض قوتي أثناء حمله لي، لكنني كدت أنهار، فسارع إلى إسنادي.
“أشعر وكأنني أتعلم المشي من جديد.”
“ادخلي واستريحي فورًا، أسيل.”
رغم توقعي أن يسخر مني، إلا أن ملامحه كانت جادة، وفتح الباب بصوت صرير عتيق، فاستدار روّاد المكان ينظرون إلينا، بمن فيهم صاحب النزل والسكارى المترنحين.
“أهلًا بكم.
ترغبون بشراب؟”
“نحتاج إلى غرفة وعشاء.
هل تتوفر حمامات؟”
“هاه! اسمعوا هؤلاء النبلاء! حمام؟ في قرية مثل هذه؟ لدينا الكثير من الغرف على الأقل.”
“إذًا، غرفتان وعشاء.”
“… هاااه؟”
ألقى كاسيون بالعملة على الطاولة، فتفحّصنا صاحب النزل بعينين متفحصتين.
“ألستما زوجين؟ لماذا تحتاجان غرفتين؟ غرفة واحدة تكفي.”
“ألن يكون ذلك أكثر ربحًا لك؟ فقط أعطنا ما طلبنا، ودعك من الأسئلة.”
رغم نبرته الباردة، بدا عليه التوتر.
هذا النادل البدين يملك حدسًا لافتًا.
“غريب فحسب… لا تبدوان كأشقاء أيضًا…”
“آه، لا بد أنهما تشاجرا، تشاجرا!”
صرخ أحد السكارى من الخلف، وارتفع الضحك في أرجاء القاعة.
“الأزواج الجدد غالبًا ما يتشاجرون! انظروا كيف أن الزوجة عابسة ولا تلتفت له!”
“يطلبان غرفتين وهما متلاصقان كأنهما يحاولان شقّ الماء بسكين! هاهاها!”
شعرت أنني كنت أتكئ عليه دون وعي، فحاولت التباعد عنه، لكنني ارتجفت مجددًا، فسارع كاسيون إلى تطويقي من خصري.
“آيااا… تسك تسك تسك.”
هزّ النادل رأسه بضجر، ثم رمى بمفتاح وبعض العملات على المنضدة.
“أعطيتكما الغرفة الأكبر.
تصالحا فيها! إنها في نهاية الممر، منعزلة، فلن يزعجكما أحد!”
“بالضبط! الأزواج يتصالحون تحت سقف واحد بعد كل جدال!”
“هؤلاء السفهاء…”
تحرك كاسيون غاضبًا، فتمسّكت بذراعه لأمنعه.
رغم استفزازهم، إلا أنهم مجرد سكارى.
وفوق ذلك، نحن أصلاً نتشارك الغرفة في القصر، فما الضرر؟ كل ما أريده هو النوم.
“دعنا نصعد فحسب.”
عندما لمح التعب على وجهي، تلاشى غضبه، أمسك المفتاح، وألقى نظرة باردة أخيرة على الحاضرين، ثم استدار متجهًا إلى السلالم… وهنا ظهرت المشكلة.
“…أسيل.”
“…”
الغرفة تقع في الطابق العلوي، والطريق إليها درج خشبي… وأنا بالكاد أستطيع الوقوف.
“أنا آسفة…”
هزّ كاسيون رأسه، ثم رفعني مجددًا بين ذراعيه.
تعالت الصفيرات من الخلف كما توقعت.
لم أشعر بالذنب حياله، فقد أثبت لي مرارًا أنه قوي.
ما أزعجني فقط هو أن أكون فرجة أمام هؤلاء المتطاولين.
أنا لست عبئًا عادة، لكن ركوب الخيل طوال اليوم قلب كياني رأسًا على عقب.
“سنُحضر الطعام إليكما.
فقط افتحوا الباب عندما نطرق!”
قبل أن يُكمل، كان كاسيون قد بلغ أعلى الدرج، وتوجّه بي مباشرة إلى الغرفة المنشودة.
أدخل المفتاح بيدٍ واحدة، ثم فتح الباب ودخل… وتجمّد.
“اللعنة.”
الغرفة كانت ضيقة.
السرير صغير، والجدران قريبة.
رغم أنها “الأكبر”، إلا أن حجمها يعكس بساطة النزل الريفي.
“هل أعود لأطلب غيرها؟”
“لا داعي.
لن نبقى طويلًا، ثم إنني عشت في غرفة أصغر من هذه بكثير.”
ما أغرب الإنسان… عشت لسنوات في غرفة بلا نوافذ، والآن بعد أشهر قليلة من الراحة في قصر فسيح، أرى هذه الغرفة ضيقة ومحبطة.
لم أشأ أن أحمّله عناءً جديدًا، فاتجهت إلى السرير وارتميت عليه.
“آخ… مؤخرتي.”
حتى السرير كان صلبًا، كأن ألواحه الخشبية تعانق عظامي. تكورت كاليرقة، أئنّ، فجاء كاسيون وربّت على كتفي بحرج.
على كتفي؟ بينما موضع الألم معروف!
لا بأس… لا يمكنه تربيت ظهري السفلي، بالتأكيد.
“لقد أرهقتِ نفسكِ أكثر من اللازم.
القرية صغيرة، ويمكنني البحث وحدي.
ارتاحي غدًا.”
“ماذا؟ أنا من يعرف شكل لوران! ما نفعك وحدك؟”
“أخبرتِني بما يكفي من التفاصيل.
ذلك يكفيني.”
“يجب أن نذهب معًا.
آه… سأكون بخير بعد النوم.
لا أريد أن أكون عبئًا.”
“لم ولن تكوني عبئا عليّ أبدًا، أسيل.
لذا ارتاحي.”
“سأنام مبكرًا.
غدًا نبحث سويًا.”
دق دق دق!!
“ذلك الأبله…”
بينما كنا نتحدث، جاء النادل يطرق الباب وكأنه يهمّ بهدمه.
ارتجفت من المفاجأة، بينما خرج كاسيون وهو يضغط على أسنانه، لكنه وجد الطعام قد وُضع وغادر صاحبه.
تحرّك بسرعة.
لكنه لم ينسَ إحضار الماء وبعض الملابس البسيطة للاغتسال.
“سآكل وأنام مباشرة.
عليك أن تستريح أيضًا، كاسيون.
لقد أرهقت نفسك اليوم.”
كان الطعام متواضعًا: خبز وزبدة ولحم بارد، وحساء بطاطا رقيق.
ورغم أن وجه كاسيون بدا عابسًا، إلا أنني لم أجد الأمر سيئًا. الحساء، وإن خلا من المكونات، كان دافئًا.
ارتشفتُه دفعة واحدة، ثم وضعت الوعاء جانبًا ومسحت فمي.
“آه… كان يجدر بي غسل يدي أولًا.”
لا بأس… لن أموت.
التعب يجعل الإنسان يغفل عن التفاصيل.
ⵌ47
“آه… كم هو الضوء ساطع…”
كنت بالكاد أفتح عيني من شدة الإضاءة، بينما تناثر الألم في خصري وفخذيّ ومؤخرتي، كأن كل خلية في جسدي تحتج على الحركة.
جسدي بأكمله غارق في التعب، ولا رغبة لي حتى في محاولة النهوض.
وعلى الرغم من صِغر الغرفة، إلا أن نافذتها الكبيرة ذات الستائر الكتانية الرقيقة سمحت لأشعة لشمس بالتسلل إلى الداخل، لتخترق جفنيّ المغلقتين بوقاحة.
صرير.
“آه…”
في النهاية، وبعد أن أعلنت هزيمتي أمام هذا الضوء اللامتناهي، رفعت يدي لأغطي وجهي ونهضت بتثاقل.
غير أن كتفَيّ، اللتين ظلّتا مشدودتين طوال يوم الأمس بينما كنت ممسكة بيد كاسيون وباللجام، أطلقتا طقطقة مؤلمة بمجرد تحركي.
ومع أنني كنت أتنفس بهدوء في محاولة لتهدئة الألم، إلا أن شعورًا بالغربة تسلل إليّ… شيء ما كان ناقصًا.
“…كاسيون؟”
كانت الغرفة صغيرة لدرجة لا تسمح بأي اختباء، ومع ذلك لم يكن له أثر.
حتى خزانة الملابس، التي بالكاد تتسع لتعليق بعض المعاطف، لا يمكنه التسلل إليها.
كما أن كاسيون ليس من النوع الذي يتعمد الاختباء لمفاجأتي.
“كاسيون؟ ألست هنا؟”
رغم يقيني، تقدمت بخطوات مترنحة وفتحت باب الخزانة… لا هو، ولا حتى ملابسه.
لقد غادر دون أن يوقظني!
“يا للظلم… ألم نتفق أن نذهب سويًا؟”
الآن فقط أدركت سبب الشعور بعدم الراحة الذي تسلل إليّ في منتصف الليل.
كنت أستخدم كاسيون كوسادة طوال الليل، أحتضنه في ذلك السرير الضيّق بينما أنام كالطفلة.
كانت وضعيتي مريحة للغاية لدرجة أنني لم أتحرك حتى شعرت بملمس الخشب القاسي تحت جسدي.
ثم جاء الهجوم الشمسي المباغت.
“على الأقل، كان بإمكانه أن يوقظني إن تأخر الوقت.”
غمغمت في ضيق وأنا أزيح الستائر، لتغمرني أشعة النهار الدافقة.
لم يكن صباحًا… بل كان الوقت يقترب من الظهيرة.
هل كنت متعبة إلى هذا الحد حقًا؟
وبينما كنت أتذمر، وقعت عيناي على ورقة موضوعة فوق المنضدة الصغيرة بجوار النافذة.
تناولتها على الفور، وإذا بها رسالة قصيرة من كاسيون:
[حين تستيقظين، لا تخرجي.
أطلبي الطعام من الطابق السفلي ليصعد إلى الغرفة.
سأعود قبل الغروب.]
“ما هذه الرسالة الباردة؟…”
لكن محتواها، رغم جفافه، أضحكني.
تجاهلتها ببساطة، وبدأت أرتدي ملابسي بعد أن غسلت وجهي سريعًا بالماء النقي المعدّ.
كانت هذه الملابس الخشنة تختلف كثيرًا عن أنسجة الأقمشة الناعمة في قصر الدوق، وكانت تتشابك بشعري المتشابك فتجذب فروة رأسي بقسوة.
“ربطة شعر… هل أحضرت واحدة؟”
لا أذكر أنني وضعت شيئًا منها، لكن ربما… شعري الوردي الطويل كان ملفتًا بما فيه الكفاية، وأردت لمّه.
لكن كما صرخت بيا باكية، لم أحضر شيئًا.
حتى مشط وربطة واحدة لم أفكر في أخذها.
“يمكنني شراء بعضها من الخارج.”
ولدي مال أيضًا، أليس كذلك؟ ورغم نوايا كاسيون الطيبة، إلا أنني لم أكن لأبقى حبيسة الغرفة بعد أن نمت كل هذا الوقت.
علاوة على أنني بحاجة لجمع بعض المعلومات.
مررت أصابعي بين خصلات شعري وربطته بشكل مؤقت، ثم خرجت من الغرفة بخطى أقل ترنحًا مما كنت عليه عند الاستيقاظ.
كان السير في الممر ممكنًا، أما الدرج فكان أشبه بتسلق جبل.
“آه… أنا الضيفة من الطابق العلوي.
هلّا أعطيتموني الإفطار؟”
صاحب النزل لم يحرّك ساكنًا ليساعدني، بل راح يضحك وهو يراني أتشبث بالحاجز بصعوبة.
وعندما رمقته بنظرة حادة، أحضر لي خبزًا بدا أنه بائت قليلًا، وجبنًا ونقانق وكأس ماء.
“يبدو أن المصالحة كانت حامية الليلة الماضية… تمشين كغزال حديث الولادة.”
دَووم!
“ماء.”
“…”
“قلت ماء.
ما نفع كوب واحد فقط؟”
هل ظنّ أنني سأتحمل سخريته مجددًا؟ يبدو أنه ظنّ أنني لن أردّ بعد موقف الأمس.
طرقت الكوب على الطاولة بقوة، وسحبت الكرسي بخشونة، ثم جلست وأسدلت ساقًا فوق أخرى.
تراجع الرجل بفزع، وسكب الماء في الكوب بكلتا يديه.
“هل ترك زوجي رسالة قبل خروجه؟”
“لـ-لا… لم يفعل.”
تناولت الخبز الخشن بيدي، ومزقته بأسناني كمن عاد لتوّه من البرية.
لا حساء حتى؟ تمنيت لو وجدت شيئًا أُغمس فيه الخبز.
“ولا تعلم إلى أين ذهب؟”
“سأل فقط عن خريطة القرية… ثم غادر.”
“آه، لا جدوى منك.”
تمتمت بسخط وأنا أجرّ الكرسي من جديد، وفي لحظات، أنهيت فطوري البسيط بالكامل.
ثم ارتشفت الماء وأصدرت صوتًا مقصودًا وأنا أضع الكوب على الطاولة.
“صاحب النزل.”
“نـ-نعم؟”
“أليست هذه وظيفتك؟ ماذا لو كنت قاتلة مأجورة؟
هل تمازح الغرباء بهذه الوقاحة؟ سأصفح عنك اليوم فقط لأنني مشغولة.”
“نعم، سأكون أكثر حذرًا!”
“وأتمنى أن يكون العشاء أكثر لياقة، مفهوم؟ راقب نفسك.”
رغم أن جسدي ما زال يئن تعبًا، لم أشأ أن أبدو ضعيفة بعد كل هذا التظاهر.
طرقت الطاولة مجددًا، وغادرت النزل بخطى مفعمة بالثقة… مجرّد استعراض فارغ.
“همم… يبدو أن المشي يخفف من الآلام فعلًا.”
كانت الشمس قد بلغت منتصف السماء، ما يعني أن وقتي محدود للاستكشاف.
قررت أن أستغل الوقت في جمع المعلومات بهدوء، بينما أسير في شوارع القرية الهادئة.
فجأة، تذكّرت أنني نسيت أن أسأل عن خريطة القرية، كما فعل كاسيون، فقد انشغلت بتلقين صاحب النزل درسًا.
“أيتها السيدة! السيدة الصغيرة!
تعالي وانظري إلى هذا!”
“…سيدة صغيرة؟”
أي لقب هذا؟ بالكاد تقدمت بضعة خطوات، وإذا بعجوز تناديني من خلف كشك صغير.
أعلم أنني أبدو صغيرة، لكن الناس عادة ما يقولون “آنسة”، لا “سيدة صغيرة”.
“كيف عرفتِ أنني متزوجة؟”
“هوهو… الأخبار انتشرت بسرعة.
عن الزوجين الشابين اللذين وصلا بالأمس.
في قريتنا الصغيرة، لا شيء يبقى سرًا.”
“هكذا إذًا؟ أتعني أن الجميع يعرف الجميع؟”
“بالطبع.
نحن نعرف حتى أماكن الملاعق الفضية التي يُخفيها الجيران.”
تابعت الحديث معها بهدوء بينما كنت أتفقد ربطات الشعر على طاولتها.
هذا جيد، فهي تبدو مطلعة.
“وهل يوجد غرباء هنا؟ أم أن الجميع من أهل القرية؟”
“قلة فقط، يمكن عدّهم على الأصابع.
قريتنا نائية وبسيطة، يصعب على الغرباء التأقلم، وحتى من سكنوا سابقًا، انتقلوا للعاصمة أو غيرها.”
“أفهم… آه، سأخذ هذه.
لونها جميل.”
“أليست ساحرة؟ صنعتها بيديّ.
ستبدو رائعة عليك، متألقة مثلك.”
ربطة الشعر لم تكن فاخرة، بل من كتان قوي مزخرف بأزهار مطرزة.
خيار عملي ومتين.
“هل يمكنني استخدامها الآن؟”
“بالطبع! هل أساعدك أنا، جدّتك؟”
“لا حاجة، أنا جيدة بهذا.”
جمعت شعري ولففته في شكل كعكة، ثم ربطته بالقماش المزخرف.
الزهور المطرزة، القريبة في لونها من لون شعري، أضافت لمسة جميلة.
“واو… كم تبدين رائعة!”
“أظن أنها تبدو أجمل وهي منسدلة.”
وما إن صفقَت العجوز بفرح حتى أسدل ظل مفاجئ فوقنا، وظهر رجل غريب مستندًا بوقاحة إلى الكشك.
“سأشتري لكِ واحدة أجمل إن شربتِ معي كأسًا، أيتها الجميلة.”
ألقى بنظراته المتغطرسة نحوي، مستندًا على الكشك حتى كاد يسقط.
نظرت إلى العجوز.
“ألم تقولي إن الخبر انتشر؟”
“……”
أغمضت العجوز عينيها في خجل، ويبدو أن هذا السفيه معروف هنا.
“أنا متزوجة.”
“وما المشكلة؟ زوجك غير موجود الآن،
كأسٌ واحد فقط، أليس كذلك؟”
لكنني هنا.
وهذا يكفي.
عبست، فتغيّرت ملامحه تمامًا.
“ما هذه النظرة؟”
“هل يفترض بي أن أبتسم وأنت تطلب من امرأة متزوجة أن تشرب معك في وضح النهار؟”
“الوقحة لا تعرف كيف تخاف من الرجال.”
“أنت تثير الشفقة بكل ما فيك.
هل هذا لأنك قبيح؟”
“أنتِ…!”
وفي النهاية، لجأ هذا التافه إلى أكثر التصرفات دناءة… رفع يده، وكأنه سيلجأ للعنف.
أشفقت قليلًا على العجوز، لكن طالما أن المعتوه من أبناء القرية، فليتحملوا العواقب.
بووم!
“آااه…”
“يبدو أن هناك كثيرين فقدوا عقلهم هذا الصباح.”
انهار الرجل ببطء بعد ركلة خاطفة بكل قوتي إلى المكان الذي لا يُركل.
خشيت أن يسقط على الكشك، فركلته مرة أخرى ليسقط بعيدًا.
“……أسيل.”
“آه…”
وخلف الجسد الساقط…
كان كاسيون، متجمدًا في مكانه، وسيفه مسلول.
ⵌ 48
“طلبتُ منكِ أن تبقي في النُزل.”
“وأنا لم أوافق على ذلك أصلًا.”
ورغم أن كاسيون أطلق تنهيدة متحسرة، رفعتُ رأسي شامخة ودلفتُ إلى النُزل بخطى واثقة.
وقد بدا أن صاحب النُزل، الذي نال تأديبًا لا يُستهان به في الصباح، قد غيّر نبرته تمامًا حين لمحني.
“مرحبًا بعودتكِ، سيدتي!”
“آه، أجل.
هل العشاء قارب على الجاهزية؟”
“نعم! إنها يخنة بالكريمة، وقد أضفت إليها اللحم!”
“جيد.
أرسلها إلى الأعلى.
ولا تنسَ ماء الغسل، كما في الأمس.”
تقبلتُ ترحيبه وأنا أشعر أن صيت ركلتي الصباحية قد وصل إلى هنا قبلي.
أما كاسيون، فأطلق زفيرًا مشوبًا بالذهول من تصرفي الذي بدت عليه سمات الصرامة المفرطة.
سواء أعجبه الأمر أم لا، فقد استعاد جسدي مرونته، فصعدتُ الدرج بثقة وأنا أتابع حديثي معه.
“هل توصلت إلى شيء؟”
“نعم، اكتشفتُ كل ما نحتاج إليه دون أن يكون ثمة داعٍ لخروجك.”
“كنت سأحصل على معلومات وافرة أيضًا لولا أن ذلك الأحمق افتعل شجارًا.
عمومًا، سمعتُ أن عدد الغرباء في هذه القرية لا يتجاوز الخمسة.
هل تحقّقت منهم؟”
دخلتُ الغرفة الضيقة، وخلعتُ معطفي الخارجي النظيف بعناية وعلّقته.
وبما أنني كنت بالقرب من خزانة الملابس، مددتُ يدي لأعلّق معطف كاسيون بدوري، لكنه تطلّع إليّ بدهشة وتردد.
“…آه، عذرًا.
نسيت.”
“نسيت ماذا؟”
ما الذي نسيه تحديدًا؟ أنا فقط أطلب معطفه لأعلّقه.
“هدية الزواج… أهذا ما كنتِ تقصدينه؟ حسنًا، لا يوجد ما يُشترى في هذه القرية، لكن يمكنني الخروج الآن و–”
“ما هذا الهراء؟ نحن بالكاد نقضي شهر عسل تقليدي.
فقط أعطني معطفك.”
“…”
احمرّ عنق كاسيون بشدة حتى بدا كجمرة مشتعلة.
مع ذلك، أخذتُ معطفه بلطف، نفضتُ عنه الغبار وعلّقته بعناية.
في الآونة الأخيرة، بدأت ألاحظ أن لون وجهه يتبدل كثيرًا — ومع هذا القدر من الصراحة، بدأت أتساءل إن كان قادرًا على الحفاظ على رباطة جأشه أمام الأعداء.
رغم أنني أجد حياءه هذا ظريفًا، إلا أنه بحاجة لتعلّم التحكم بتعابيره.
طَرق… طَرق–
حينها، سُمع طرقٌ خفيفٌ على الباب.
لا شك أنه العشاء والماء الذي أعدّه صاحب النُزل.
مقارنة بصوت الاقتحام المزعج ليلة البارحة، بدا هذا الطرق حذرًا إلى حدّ بعيد.
“سيدتي، إن كان هناك ما ينقص، فيسعدني أن أخدمك.”
“حسنًا، يمكنك الذهاب.”
لكنه لم يغادر على الفور، بل ظل واقفًا عند الباب منحنِيًا، يبتسم باحترام إلى أن أنهيتُ إدخال كل شيء.
“ماذا فعلتِ له بالضبط ليغدو بهذه الطواعية؟”
“أوه، لا شيء يُذكر.
مجرد تحذير شفهي بسيط.
يبدو أنه لا يحتمل الضغط.”
“ماذا قلتِ له؟”
“أخبرته فقط ألا يعيش على هذا النحو.”
“…أفهم.”
لم أُفصح بالكثير، لكن ملامح كاسيون انعقدت، وقد فهم من تلميحاتي أنني تلقيتُ معاملة غير لائقة.
والحقيقة أن استقباله لنا كان متعاليًا منذ لحظة وصولنا.
“ألا ترين أن ارتداء قلنسوة قد يكون فكرة جيدة؟”
“قلنسوة؟ الطقس لا يستدعيها، كما أنها تخنقني.”
“قد تجنّبكِ بعض المواقف غير المرغوب فيها.”
“ممم… مغرية، لكن لا.
نحن أصلًا غرباء عن هذه المنطقة، فلو غطيتُ وجهي تمامًا، لأثرتُ الشك أكثر.
ووجهي هذا، رغم كل شيء، مفيد في بعض الأحيان.”
وجهي الجميل البريء قد يجلب المتاعب أحيانًا، لكنه أيضًا أداة مثالية لجمع المعلومات دون أن يبدو عليّ هدف واضح.
“على أي حال، توقعتُ بعض المتاعب، فلا بأس.
بدل القلنسوة، ربما أحتاج إلى خنجر صغير احتياطي.”
“اقتراح منطقي.
من الجيد أن تملكي وسيلة دفاعية.”
غسلنا أيدينا، ثم ناولتُ كاسيون طبق العشاء الذي جلبه صاحب النُزل، وجلسنا سويًا على السرير.
سكب اليخنة الكريمية سيكون كارثة بحق، لكن الطاولة قرب النافذة لا تتسع إلا لشخص واحد، فكان هذا هو الحل الوحيد.
“رغم أنني توقعتُ هذه الفوضى، لكن الآن بعد أن عشتها، أعتقد أن زواجي بك كان قرارًا صائبًا بالفعل.”
“هاه؟ ما علاقة التوقعات بالزواج؟”
سأل كاسيون وهو يكتم سعالًا خفيفًا، بعد أن اختنق بملعقة من اليخنة.
ما الغريب فيما قلتُه؟
“العقد.
أثناء فترة زواجنا، أملك دعمك، وبعد انتهائه سأحصل على المال.
الجمال وحده، دون سند أو مال، لا يجلب إلا المصاعب.”
عندما أبرمت عقد الزواج مع كاسيون، كنت مجرد نبيلة مُهمشة تُعامل كسلعة، لكن على الأقل، كنت محمية من قِبل عائلتي.
أما الآن، فقد فقدتُ كل حماية — فلو انتهى بي الأمر متشردة بهذا الجمال، فلن تنفعني الكبرياء وحدها.
“بطبيعة الحال، لستُ ألوم جمالي! لكن هذا النوع من الجمال يجذب النفوس الرديئة.
وبكل صراحة، حتى لو صرختُ على صاحب النُزل، لولا وجودك بجانبي، لما انصاع لي بهذه السهولة.”
“…أسيليا.”
“أعلم أن الحديث ربما ليس في وقته، لكن في لقائنا الثاني لعقد الاتفاق، قد تكون ظننتني غريبة الأطوار، لكنني كنتُ يائسة بطريقتي.
أعلم أن لوجهي هذا تأثيرًا لا يُستهان به.”
منذ البداية، السبب الوحيد الذي جعل عائلتي تحتفظ بي هو هذا الوجه.
كانوا يعتبرونني قطعة ثمينة، يحتفظون بها ليبيعوها في وقت لاحق بسعر أفضل.
“…لم أُدرك أنك فكرتِ في الأمر بعمق.
أعترف أنني استهنتُ به.”
“لا بأس.
لا أقول هذا لأجل اعتذار، ولم أكن غاضبة وقتها أصلًا.”
رغم أنني لم أكن ألومه، إلا أن كاسيون بدأ يتباطأ في الأكل حتى توقف كليًا.
فربّتُ على يده وأنا أمضغ قطعة خبز غُمست في اليخنة.
“رغم جمالي، فقدرتَ ثقتي بنفسي أكثر.
كنتَ شيئًا جديدًا بالنسبة لي، ولم أمانع ذلك أبدًا.
لديّ ما هو أعمق من المظهر.”
“هه، صحيح.
ليس من المعتاد أن تساعدك امرأة في عملية اغتيال من أول لقاء.”
“بالضبط.
أنا جوهرة فريدة.
وعليك أن تقدر ظهور كنز مثلي في حياتك.”
وحين هممتُ بالنهوض، وقد أنهيتُ طعامي بينما هو لا يزال يُنهي طبقه، مدّ يده فجأة وأمسك بمعصمي.
لم يكن الإمساك خشنًا، ولم يتحرك الطبق قيد أنملة.
“أسيليا، أنتِ لستِ غرضًا.”
“…كنتُ أمازحك فحسب.
أعلم ذلك.”
لكن ملامحه الجادة لم تلِن.
ترك معصمي ببطء، لكن نظرته الثابتة بقيت عليّ، فأجبرتني على أن أحوّل وجهي جانبًا.
ما باله يتحدث بهذه المباشرة؟ ولماذا يخفق قلبي بهذا الشكل الغريب؟
“على كل حال، بما أننا انتهينا من العشاء، ما رأيك أن نراجع ما عرفناه عن هذه القرية؟”
صفّقتُ بيدي لكسر حالة التوتر، وجلستُ مبتعدة قليلًا عنه. فجأة، أدركت كم كنا قريبين.
“بما أنك لم تذكر شيئًا خلال العشاء، أفترض أن أياً من الغرباء لا ينطبق عليه وصف ‘لوران’؟”
“صحيح
لا يمتّون له بصلة.
حتى من بين السكان، لم أجد ما يستدعي الريبة…”
هزّ كاسيون رأسه ببطء، فتمايل شعره الأسود بانسيابية.
بدا ملمسه أنعم بكثير من شعر صاحب النُزل الأشعث، ووجدت نفسي أتساءل فجأة لماذا ألاحظ مثل هذا التفصيل!
“على أية حال، لا بأس إن لم ننجح منذ المحاولة الأولى.
هذه القرية لا فائدة منها.”
“لا حاجة لإضاعة الوقت، فلنحزم أمتعتنا ونغادر عند الفجر.
ما حالكِ الآن، أسيليا؟”
“بعد نومي الطويل، أشعر بتحسن ملحوظ.
وأؤيدك، فالمسافة قصيرة — لا تتجاوز ساعتين.”
“هل هناك ما تحتاجينه قبل المغادرة؟ ملابس جديدة، مثلًا؟”
“ملابس العامة لن تكون ذات فائدة بعد عودتنا، لذا لا طائل من شراء المزيد.
أعتقد أن هذه الملابس تكفيني طوال الرحلة.
قد تتّسخ وتفوح منها رائحة في النهاية، لكن ستتحمّلها، أليس كذلك؟”
“أنتِ تقلقين بشأن تفاصيل تافهة.
لكن فكّري مجددًا قبل الرحيل، هل افتقدتِ شيئًا خلال إقامتنا؟ لا بأس إن زاد حملنا قليلًا.”
“كل ما أحتاجه بحوزتي.”
استدرتُ وأشرت إلى الربطة التي تثبّت شعري المرتب بإتقان.
لمستُها وتحسستُ الزخرفة المطرزة بالزهور.
“تبدو متينة وجيدة.”
“لكنها خشنة بعض الشيء… وإن كنت لا أقصد أنها لا تليق بكِ.”
“بطبيعة الحال، إن لم يليق بي شيء، فالعيب فيه، لا فيّ.”
يقولون إن الشعر حين يُعقد بعفوية يكون أجمل من تصفيفه المتقن.
وبينما كنت أتحسّر على تسريحتي المرتبة التي لن تدوم، خلعت الربطة إذ حان وقت النوم.
“آمل أن نستطيع الاستحمام في القرية التالية.”
“…”
يبدو أن الغبار عالق بشعري أكثر مما ظننت.
وبينما أمرّر أصابعي خلاله، لاحظت أن كاسيون يحدّق بي وكأنه مشدوه.
“كاسيون؟ هل هناك ما يثير دهشتك؟”
“…لا شيء.”
“إذًا، تمدّد حالًا.”
ربتُّ على السرير الخشبي بابتسامة ماكرة.
وعلى عكس البارحة، ورغم الشعور الغريب الذي انتابني لقربه، تجاهلته عمدًا واقتربت أكثر.
“أنت وسادتي الليلة.”
استلقيتُ على جانبي ولففتُ ساقًا فوق جسده براحة.
كان جسده قاسيًا كخشب السرير، لكن لسببٍ ما، شعرتُ بالطمأنينة.
“…أسيليا.
إنكِ تثقين بي أكثر مما ينبغي.”
شخير.
“… الوسادة تتكلم.”
خشيت أن يسمع صوت خفقان قلبي، فابتعدتُ قليلًا بجسدي العلوي بينما ظلّت أقدامنا متشابكة، وأغمضت عيني.
آملةً أن أستيقظ في الصباح… وأجده لا يزال بجانبي.
ⵌ 49
“عذرًا… ما اسمك؟”
“ن-نعم؟”
“شعرك الأشقر يبدو ساحرًا تحت أشعة الشمس.
هل أنت من أبناء هذه القرية؟”
ربّتُّ بخفة على ظهر رجل طويل ذي شعر أشقر مجعد، وابتسمت له ابتسامة مشرقة.
التفت إليّ وعلامات التوجس ترتسم على ملامحه، لكنه ما إن رآني حتى ارتبك وتلعثم.
ورغم أن ملامحه لا تطابق تمامًا الرسم التخطيطي الذي لدينا للوران، سألته مجددًا للاحتياط.
لقد خاب مسعانا مرارًا حتى بلغنا هذه القرية الثالثة.
“آه، نعم! أنا من مواليد هذه القرية.
اسمي يورغن، آنسة!”
خَيبة جديدة.
كدت أن أتنهد من الإحباط، لكنني تماسكت، وودّعته بابتسامة مصطنعة.
“بما أنني مسافرة، كنت أتساءل إن كنت تعرف مطعمًا جيدًا هنا.
هل لديك أي توصية؟”
لكن ما إن هممت بالالتفات للرحيل، حتى لاحظت أن نظراته الجامدة تحوّلت فجأة إلى عيون يقِظة متحمسة، ثم تقدم نحوي دون مراعاة لأي حدود شخصية، وأمسك بيدي فجأة.
“هاها! لا تكوني خجولة هكذا! تعالي، المطعم الأفضل في هذه القرية قريب جدًا!
سأدفع لك، وأُريك أروع ما لدينا هنا!”
“لا، أنا برفقة زو—”
“أبعد يدك.”
طعنةٌ مفاجئة—
عاد كاسيون، الذي كان قد ذهب ليحضر لي عصيرًا، في الوقت المناسب.
وقف أمامي كدرع واقٍ، وصفع مرفق الرجل الذي تجرأ على الإمساك بي.
ارتعش الرجل ألمًا، وذراعه توشك على الانكسار، لكنه لم يصدر أي صوت.
أما أنا، فتابعت بابتسامة ناعمة كأن شيئًا لم يحدث.
“أنا أقضي شهر عسلي مع زوجي، شكرًا على نصيحتك بشأن المطعم~.”
تعلّقت بذراع كاسيون وأنا أرتشف عصير البرتقال الذي أحضره.
رغم أنه كان يتردد في البداية، إلا أنه بات الآن يتقن تمثيل دور الزوج لدرجة أنه يسبقني بمدّ ذراعه.
“لنرتَح قليلًا تحت ظل تلك الشجرة هناك.”
كانت القرية واسعة نوعًا ما، وبرغم إقامتنا فيها ليومين، لم نُنهِ جولتنا بعد.
وكانت شمس هذا اليوم قاسية بشكل خاص، لذا احتمينا بظل شجرة كثيفة الأوراق.
أما كاسيون، فبقي يطحن أسنانه بغيظ، وقد نبهته مرارًا أن ذلك سيؤذي فكيه، لكنه لا يكترث.
“الأمر يتكرر كالعهد دائمًا… كل رجل تكلمينه، لا يترككِ وشأنكِ.”
على الأقل، الجو لم يكن رطبًا، ومع ظل الشجرة والعصير البارد، شعرت أنني سأصمد.
“وفوق ذلك، جميعهم وسيمون!”
“لوران وسيم في الأساس.”
بلغة كاسيون الغيورة، “الوسيمون” تعني حرفيًا “الرجال الذين يثيرون غيرته”.
وعندما أجبت بالمعنى نفسه، ازداد وجهه عبوسًا.
“لماذا كل هذه الغيرة؟ أنت وسيم أيضًا، فلا يمكن أن تكون عقدة نقص.”
لكن بدا أنه أحب ما سمع، إذ خفت حدة تعابير وجهه، وكأن العبوس قد ذاب قليلاً.
كتمت ضحكتي، ومددت له كوب العصير.
“ماذا؟ تريد أن تمسكه؟ أم ترميه؟”
“لا، اشرب منه.
لماذا اشتريتِ كوبًا واحدًا فقط؟ إنه منعش جدًا.”
“…الكوب الذي شربتِ منه؟”
“وماذا في ذلك؟ لم ألوّثه.”
تردد للحظة، ثم أخذ الكوب وارتشف منه على مهل.
بدا وكأنه شرب أكثر من اللازم.
لو كنت تعرف، لاشتريت اثنين منذ البداية.
“لم أكن أعلم أن الشعر الأشقر منتشر بهذا الشكل.”
عندما أعاد الكوب، لم يبقَ فيه سوى جرعتين بالكاد.
على الأقل، لم يُنهِه تمامًا.
أسندت ظهري إلى جذع الشجرة وتنهدت، ثم أنهيت ما تبقى من العصير.
كان ينظر إليّ بتركيز.
لا، لن أعطيك الباقي.
هذه حصتي.
“كما تعلم، هناك درجات عديدة من الأشقر.
ثم إن لون الشعر يمكن تغييره، فلا تتمسك بهذا المعيار كثيرًا.”
“أنا أركّز على الوسامة، لا اللون.
وكان من المفترض أن أبحث عن شامة تحت العين، لكن لا تُرى إلا عن قرب… أستمر في اختيار الأشخاص الخطأ.”
“لا يزال أمامنا الكثير من القرى.”
“لكن القرى الباقية قريبة من العاصمة.
أليس ذلك كمن يفتش تحت الضوء؟ باعتقادي، القرى المتوسطة الحجم والمعتدلة مثل هذه…”
تحطم مفاجئ—
“اخرج من هنا! عارٌ عليك، لم تسدد دينك حتى الآن!”
استدرت تلقائيًا نحو مصدر الصوت، وأشرت لرجل يُطرد من متجر وهو يحاول جمع أغراضه بعجلة.
لحقني كاسيون بنظره.
“لكني نفدت من الطلاء… لو منحتني خصمًا بسيطًا، لدفعته دفعة واحدة…”
“لا تعكر صفو عملي واغرب عن وجهي!”
“أ-أرجوك! أحتاج الألوان لأكسب قوتي!”
“بوجهك الجميل هذا، ستربح أكثر إن بعته بدلًا من لوحاتك! لا ترجع قبل أن تسدد ديونك، يا رون!”
كان المتجر قبالة الشجرة التي جلسنا تحتها، فاستطعنا رؤية كل شيء بوضوح.
شعره فوضوي وكأنه قُصّ بالمقص خطأً، لكنه كان بلون أشقر نقي، يختلف عن الأشقر العادي.
عيناه الزرقاوان تلمعان بالدموع، وتحت إحداهما شامة واضحة.
جسمه النحيل جعله يبدو أطول وأكثر هشاشة.
“…هل قال اسمه رون؟”
“…يا له من اسم سطحي.”
رغم أننا دققنا في الاحتمالات كافة، بما في ذلك التخفي، إلا أن الرجل بدا مطابقًا تقريبًا للرسم التخطيطي.
لم يتغيّر كثيرًا، بل ولم يحاول إخفاء ملامحه بقبعة أو نظارات.
المُدهش أنه لم يستخدم اسم “لوران” مباشرة.
“آه…”
وقفت ونفضت غبار الطريق عن ملابسي، وتبادلت نظرة مع كاسيون.
وجهه كان مصدومًا إلى حد الخواء، مثلي تمامًا.
“حسنًا، لنقترب منه؟”
“هاه…”
“يبدو ضعيفًا، سأقترب منه أولًا.
أنت فقط سرْ خلفي خطوة.”
“حسنًا.”
لم يعترض كاسيون هذه المرة.
فقد بدا لوران – أو “رون” كما يدّعي – مثيرًا للشفقة وهو يجمع أدواته الفنية البالية، التي بالكاد تصلح للاستخدام.
اقتربنا بخطوات بطيئة، كي لا نُرعبه فيهرب.
“يا إلهي، هل أنت بخير؟”
“هاهق… م-من أنتم؟”
من هذا القرب، بدا وسيمًا فعلًا.
وسامة تختلف تمامًا عن وسامة كاسيون.
كنت أراقب دموعه وهي تنهمر برقة فوق الشامة، حتى قاطعني صوت تنحنح مألوف، فأفقت من سرحاني.
“آسفة، رأينا ما حدث للتو.
بدا صاحب المتجر قاسيًا جدًا.
هل أصبت بأذى؟”
انخفضتُ لمستوى نظره وهو منحنٍ، وبدأت بجمع أدواته المبعثرة – التي يصعب تمييزها بين أدوات فنية أو بقايا مهترئة.
حتى علب الطلاء بدت وكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة.
“شكرًا…شهقة…”
ناولته ما جمعت، ثم أخرجت منديلاً وقدمته له، فما كان منه إلا أن زاد في بكائه.
يبدو من النوع الذي يغرق في الدموع كلما وجد من يُحنّ عليه.
ممتاز، هذا النوع لا يحتفظ بالأسرار.
“لا تبكِ، عزيزي.
ما رأيك أن أقدّم لك شيئًا يبلل حلقك ويهدّئك؟”
وضعت ذراعي حول كتفيه بلطف، وقُدت خطاه نحو النزل.
تبعنا كاسيون عن كثب تحسبًا، لكن لوران سار معنا دون أي مقاومة.
كانت عيناه الزرقاوان غارقتين في دموعه، لدرجة أنه بالكاد كان يدرك وجهته.
“ستنهار إن واصلت البكاء هكذا تحت الشمس.”
“ش-شكرًا… شكراً… هااهق…”
[م.: ذوق الامبراطورة غريب الى حد ما…]
تساءلت بدهشة:
كيف يبكي بهذا الشكل دون أن يسيل أنفه؟!
وأنا أربّت على ظهره.
حين وصلنا إلى المطعم أسفل النزل، ودخلنا، تغيّر وجه صاحب المكان فور أن أبصر لوران.
واضح أنه معروف هنا بكونه مصدر إزعاج.
“أنت!”
كان النادل ينظّف الطاولات، وبدت عليه علامات الامتعاض، وهمّ بالاقتراب، لكنني أوقفته بإيماءة.
ثم نظرتُ إلى كاسيون، الذي تقدم ليتحدث إليه بهدوء.
أما أنا، فأجلست لوران – الذي لا يزال ينتحب – في زاوية محصورة بين الجدار وجسدي، لمنعه من الهروب، وربتُّ على كتفه مجددًا.
كفى بكاءً، حان وقت الكلام.
“زوجي، هل تطلب كوب شاي دافئ لهذا الشاب؟”
“بكل سرور.”
نظرتُ إليه نظرة توجيه، فردّ بصوت لطيف قدر استطاعته.
يبدو أنه أدرك أن لوران ليس بالشخص الذي يُقابل بالقسوة.
أنا واثقة من جمالي، لكن أن أبدو باهتة أمامه بهذا الشكل؟!
كنت أعلم من الوصف والرسوم أنه وسيم، لكن رؤيته بعينيّ جعلتني أفهم تمامًا ذوق الإمبراطورة.
“…شكرًا…”
لا، الحقيقة أنه لا علاقة للذوق هنا.
وسامة كهذه لا تُناقش…
أقرّ بهزيمتي.
ⵌ50
“آه… أنتم أناس طيبون بحق.”
تظاهرت بالقلق وأنا أحدق في لوران، الذي تورمت عيناه واحمرّتا من كثرة البكاء، ثم أبديت إعجابي بصدق أو ما يشبهه.
كان شعره الأشقر القصير، المصفف على هيئة قصّة عسكرية، يمنحه ملامح صبيانية ناعمة نادرة في عمره.
كان أخي والابن الثاني للكونت رومينيل أشقرين كذلك، لكن لا مجال للمقارنة بينهما.
“هل بدأت تشعر بتحسّن؟”
“نعم… لقد أبديتُ جانبًا مخجلًا أمام غرباء…”
قرق…
حاول لوران استجماع رباطة جأشه أخيرًا، لكن معدته لم تكن بنفس الحياء.
غير أن هذا شكّل فرصة ثمينة، فبادرت بالنظر إلى كاسيون.
“لم نتناول الغداء بعد.
ما رأيك أن تنضم إلينا، عزيزي؟”
“سأذهب لأطلب الطعام.”
“آه، لا، لا أستطيع التطفل بهذا الشكل…”
“لا بأس.
نحن أيضًا لا نعرف الكثير عن هذه المدينة، فدعنا نتحدث معًا قليلًا.”
“إن كنتما تصرّان… شكرًا لكما…”
ورغم احمرار وجهه خجلًا، لم يكرر الرفض.
وخلال حديثه، لم تتوقف معدته عن إطلاق الأصوات، مما أوحى بأنه لم يأكل منذ مدة طويلة على الأرجح.
حسنًا، رائع.
لا أحد أسهل إقناعًا من شخص جائع ويائس.
الحظ يقف إلى جانبنا.
“أرى معك أدوات رسم، هل تعمل كرسام؟”
“نعم، أرسم بورتريهات بسيطة في الشارع.”
“يا للعجب، كم هو جميل! في الواقع، نحن زوجان حديثا الزواج ونود أن نكلفك برسم لوحة لنا.
ما رأيك، عزيزي؟”
“فكرة رائعة.”
“اتفقنا إذن.”
وحين عاد كاسيون من طلب الطعام، أومأ موافقًا، فتوهج وجه لوران بسعادة.
لكن سرعان ما وقعت عيناه على علب الألوان التالفة وحامل اللوحة المتشقق، فعاد للبكاء مجددًا.
كفى بكاءً الآن.
“أنا ممتنّ للغاية لعرضكما، لكن… دون أدوات مناسبة… تنشّه… لا أظنني أستطيع…”
“لا تقلق بشأن ذلك.
طالما نحن من طلب اللوحة، فسنغطي تكلفة المواد.
في المقابل، عليك أن ترسمنا بأبهى صورة، اتفقنا؟”
“ن-نعم! سأبذل قصارى جهدي! شكرًا لكما! شكرًا جزيلًا!”
عندها فقط جفّت دموعه، بينما مرّ صاحب النزل حاملاً الطعام، وهو يتمتم بتأفف، وكأنه يرى أمامه زوجين سذجين خُدعا بمتسوّل.
“فلنتناول الطعام أولًا، ثم نخرج.
أود الذهاب إلى مكان يتمتع بأجمل إطلالة في هذه المدينة.”
“سأقودكما بنفسي، سيدتي!”
“كم أنت لطيف.
فلنأكل إذن.”
رغم أن كلماته كانت موجّهة لي، إلا أن عينيه التصقتا بطبق الحساء الساخن وقطع الخبز.
لم يكن يخفي جوعه.
ومع ذلك، امتلك من اللباقة ما منعه من الشروع بالأكل فورًا.
وحين أخذتُ أنا اللقمة الأولى، بدأ يأكل بسرعة لافتة.
“بالمناسبة، لم نتبادل التعارف بعد.
أظنني سمعت اسمك… لو… هل كان من مقطعين؟”
“نعم! آه، لا، أقصد، اسمي رون.
فقط رون!”
قالها بحماس وهو غارق في لذّة الخبز، ثم تدارك نفسه وهزّ رأسه سريعًا.
تبادلتُ نظرة ذات مغزى مع كاسيون وابتسامة خفيفة.
يبدو أن الوصول إلى جوهره لن يكون صعبًا.
—
“ذلك التل تحت تلك الشجرة يبدو مثاليًا.
يطل على مشهد رائع من القرية، وظله سيقينا من الشمس ولو طال الوقت.”
“خيار موفق.
هل أنت من أبناء القرية؟”
“ههه، شكرًا.
ليست مسقط رأسي، لكنني أعيش هنا منذ أكثر من عشرين عامًا، لذا أعدّ نفسي من أهلها.”
فرشنا قطعة القماش الكبيرة التي اشتريناها في الطريق، واستقرينا تحت ظل الشجرة، نتبادل الحديث على مهل.
كان لوران يُعد أدواته ببهجةٍ لا تُخفى، وكأن الحظ ابتسم له أخيرًا.
“هل تفضلان اللوحة ملوّنة؟ أم أرسمها بالفحم؟”
“اختر ما تراه الأنسب لنا.
لديك أسلوب مميز، مما رأيناه سابقًا.”
“إذًا، رغم أن الرسم الملوّن سيستغرق وقتًا أطول، إلا أنني سأقوم بتلوينها حتى تُجسّدكما بكل واقعية.”
بعض المجاملات ووجبة دافئة كانت كافية لتزيح الجمود عن ملامحه.
كنا قد شاهدنا بالفعل في دفاتره رسومات لمشاهد من العاصمة والقصر الإمبراطوري.
ومع عزلة المكان، تبادلنا النظرات، وأدركنا أن وقت “التحقيق” الجاد قد بدأ.
“لكن رغم موهبتك، يبدو أنك تواجه صعوبات.
بقدرتك هذه، ألا ترى أن العاصمة قد تفتح أمامك آفاقًا أوسع؟”
“ال-العاصمة… الأمر معقّد قليلًا…”
“إن رغبت، يمكننا تأمين مكان إقامة لك هناك.”
“نحن من العاصمة أصلًا.
وإذا قررت الذهاب، يمكننا دعمك في مسيرتك الفنية.”
انسجم حديثنا، وتجمّدت ملامحه لحظة، وقد بدت ردّة فعله أكثر من واضحة.
“ما رأيك؟”
“أنا ممتنّ للغاية، لكن… من الصعب عليّ الذهاب… رغم أنني أود ذلك…”
“أوه؟ طالما أنك لا ترفضها، فما السبب؟”
“م-لا، لا يوجد سبب! فقط… لا أحب الأماكن المزدحمة! هذا كل ما في الأمر! هاها…”
“يمكنك المكوث في المنزل الذي سنوفره لك، والعمل هناك فقط.
في العاصمة، لا يرسم الفنانون في الشوارع، بل يُدعون إلى المنازل أو يعملون في الاستوديوهات.”
“حقًا؟ في الداخل؟ يبدو أن أساليب العاصمة قد تطورت كثيرًا…”
“يا تُرى، هل سبق لك أن زرت العاصمة؟”
ردة فعله المبالغ فيها كانت كافية لتثير شكوك كاسيون.
بدا كل شيء سهلًا أكثر مما ينبغي.
لكن إن كان كل هذا تمثيلًا… فالأجدر به أن يكون ممثلًا لا رسامًا.
“آه، فقط عندما كنت صغيرًا.
زيارة سريعة، لم أعد إليها بعدها أبدًا!”
“فقدت رغبتك بها من أول زيارة، إذًا.
متى كانت تلك؟ قلت إنك تقيم هنا منذ عشرين عامًا، صحيح؟”
“نعم، كنت في أواخر مراهقتي، لذا كان ذلك منذ زمن طويل.”
“أرى… لكن العاصمة تغيّرت كثيرًا مؤخرًا.
قد تود زيارتها من جديد.”
“آه… هاها.
لا، لدي ديون… وأحب هذه القرية…”
كان وجهه يزداد كآبة، وكأنه يحنّ لتلك الأيام.
حتى تساءلتُ إن كان ما يزال قادرًا على الرسم وسط هذا التشتّت.
رغم أن هدفنا الأساسي كان فحص حقيقته، إلا أنني أردت بالفعل لوحة تجمعني بكاسيون.
“هل لديك زوجة أو أطفال؟”
“لا. أعيش وحدي.”
“هذا مؤسف.
العيش وحيدًا يجعل الانتقال أسهل.
وبالمناسبة، كيف لرجل وسيم مثلك أن يبقى بلا شريكة؟ لولا زواجي، لكنت فكرت فيك.”
“…أسيليا.”
نظر إليّ كاسيون وكأنه غيور حقًا، فتراخى لوران وضحك، ثم واصل تحريك ريشته.
“شخص مثلي، لا يملك شيئًا، وفي مثل عمري، كيف لي أن أحظى بسيدة مثلك؟ أنتما تبدوان مثاليين معًا.”
“عمرك؟ تبدو في أوائل الثلاثينات.”
“أنا في الثالثة والأربعين.”
“يا إلهي!”
أي أنه كان في السابعة عشرة حين ارتبط بالإمبراطورة وأنجب منها طفلًا؟
لا بد أنه كان مأخوذًا بها بالكامل.
“تبدو أصغر بكثير، يا لوران.”
“يقال لي هذا كثيرًا.
هاها!”
ناديتُه باسمه الحقيقي، “لوران”، دون أن يلاحظ أنني لم أقل “رون”.
واصل الضحك بخفة، يحكّ رأسه بحرج، تاركًا أثرًا من الطلاء على وجهه، ما زاد ملامحه خفّة، إلى حدّ السذاجة.
هذا الرجل لا يُعوّل عليه.
“بالمناسبة، أنتما نبلاء من العاصمة، صحيح؟”
“نعم.
كيف عرفت؟”
“رغم بساطة ملابسكم وغياب الخدم، إلا أنكما مختلفان عن عامة الناس.”
“هذه أول مرة أسمع فيها هذا الوصف.”
“أنا شديد الملاحظة، كما ترون.
هاهاها!”
اكتفى كاسيون بابتسامة باردة.
طالما كان يُعامل كمجرد مرتزق لا نسب له، رغم أنه دوق.
أما لوران، فظنّ أنه يمتدح نفسه، وزاد من غروره، حتى أرسل غمزة وقحة.
“في الحقيقة، زوجي دوق.”
“أسيليا…”
“ما المشكلة، عزيزي؟ لا أحد هنا ليسمعنا.”
“د-دوق، تقولين؟”
“لا حاجة للمراسم يا لوران.
تابع الرسم فقط، من فضلك.”
“ن-نعم، بالطبع!”
همّ لينهض، ثم جلس على الفور.
على الأرجح اعتقد أننا نبلاء من الطبقة الدنيا.
هكذا هي حدّته في الملاحظة إذًا؟
“زوجي استلم لقب الدوق مؤخرًا، ونرغب في رعاية فنان يُخلّد بدايات عائلتنا.
ألا تفكر بالقدوم إلى العاصمة؟ سنوفر لك إقامة مريحة، ومكافأة سخية.”
“مثل هذا المبلغ، مثلًا.”
رفع كاسيون أصابعه ليوضح العرض، فانفتح فم لوران دهشة، وامتلأت عيناه بالبريق، كأنه يحسب الاحتمالات فورًا.
ربما فكّر أن مرور عشرين عامًا كافٍ لجعل الإمبراطورة تنساه إن عاد للعاصمة بهدوء.
موهبة جيدة، فرار في سن مبكرة، حياة ضيقة…
كم يتوق للعودة الآن؟
“هل يمكنني… التفكير في الأمر قليلًا؟”
“بالطبع.
أوه، هل يمكننا إلقاء نظرة على اللوحة؟ أم تفضّل عرضها حين تنتهي؟”
“لا، أبدًا! لقد أنهيت المسودة الأولى تقريبًا، وإن كان هناك أي شيء تودّان تغييره…”
كان صوته يحمل ارتباكًا واضحًا، وصراعًا داخليًا مشتعلًا.
آه، لو كنت أعلم أنه سينهار بهذه السرعة، لما استعجلت فضح هويته، ولواصلت مناداته “رون” حتى نأخذه للعاصمة بلا جلبة.
لقد تسرعت.
“تبدو رائعة.
لا أرى ما يحتاج إلى تعديل.
أليس كذلك، عزيزي؟”
“مم.”
ورغم كل شيء، لا بد من التأكد التام.
هل نبدأ الجدّ الآن؟
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 10 - من الفصل الحادي والتسعين إلى المائة «النهاية». 2025-08-14
- 9 - من الفصل الحادي والثمانين إلى التسعين. 2025-08-14
- 8 - من الفصل الحادي والسبعين إلى الثمانين. 2025-08-14
- 7 - من الفصل الحادي والستين إلى السبعين. 2025-08-14
- 6 - من الفصل الحادي والخمسين إلى الستين. 2025-08-14
- 5 - من الفصل الحادي والأربعين إلى الخمسين. 2025-07-23
- 4 - الفصل الحادي والثلاثين إلى الأربعين. 2025-07-23
- 3 - من الفصل الحادي والعشرين إلى الثلاثين. 2025-07-23
- 2 - من الفصل الحادي عشر إلى العشرين. 2025-07-23
- 1 - من الفصل الأول إلى العاشر. 2025-07-23
التعليقات لهذا الفصل " 5"