4
ⵌ31
“آه… لا رغبة لي في الذهاب مطلقًا.”
“إن كنتِ مترددة إلى هذا الحد، فلِمَ لا تعتذرين عن الحضور فحسب؟”
“أتعتقد أن الدعوة تُمنح لتخييري؟ إنها دعوة من جلالة الإمبراطورة، يا رجل!”
كنت أرتّب نفسي على عجل، بينما كان كاسيون واقفًا عند الباب كأنه نبيل لا يجد ما يشغله، فتضاعف انزعاجي منه.
ماطلت قدر ما أستطيع لأتأخر عمدًا، وكدت أفوّت الموعد فعلًا، لكن ما إن أوشكت على الانتهاء حتى أرسلت بيا، وأعدت تفحّص بطاقة الدعوة مجددًا.
الرسالة المزخرفة بالنقوش الذهبية وصلت فور انقضاء موسم الأمطار، وكانت دعوة من الإمبراطورة لحضور حفل شاي خاص بالسيدات النبيلات، وقد وُجِّهت لي رسميًا بعد أن أصبحت دوقة.
لكنها لم تكن دعوة بالمعنى الحقيقي، بل أقرب إلى تحدٍّ متوارٍ، أقرب إلى دعوة لمواجهة، فقط لرؤية “وجه الوافدة الجديدة”.
ولأنها من تنظيم الإمبراطورة، فمن المرجّح أن معظم الحاضرات كن من نساء جناح ولي العهد الأول.
رغم أنني شعرت بالاضطراب مع بداية موسم الأمطار بسبب الجنازة، فإنني حظيت بعدها بفترة راحة، وها أنا الآن أُستدعى فجأة عند بزوغ الفجر.
“ليلي، ألا يمكنك الذهاب بدلًا عني؟”
ضغطت بأنفي على أنف دمية الأرنب الموضوعة على المنضدة بجوار السرير، فاستدار كاسيون فجأة وأخفى فمه.
لِمَ؟ أهي المرة الأولى التي يرى فيها بالغًا يتحدث مع دمية؟ هكذا تُلعب هذه اللعبة، على أي حال.
“أنا أرنب صغير لطيف… لا يمكنني الذهاب إلى حفل شاي مخيف كهذا.
آسفة يا أختي… كوني حذرة.”
“سأفقد صوابي حقًا.”
“ألم أقل لكِ ذلك؟ الأمر جنون خالص.”
كنت أؤدي عرضًا مرتجلًا، أحرك ذراع الدمية وأقلّد صوتًا طفوليًا كأنني مهرجة، إلى أن نطق كاسيون أخيرًا.
فعُدت إلى صوتي الطبيعي وأسقطت ليلي على الطاولة.
لو لم تكن بيا قد صففت شعري بإتقان، لكنت عبثت به بنفسي.
“ذلك الحفل ليس سوى ساحة معركة، وأنا لا أملك من العتاد سوى وجهي البريء.”
“إذن تصرفي وكأنكِ لا تعرفين شيئًا، بوجهك ذاك.
هل ارتديتِ الخاتم؟”
“ارتديته، لكن… ألا يجعلني أبدو غبية أكثر من بريئة؟”
كان ذلك الخاتم هدية من كاسيون، بعد أن بات أكثر حذرًا من السموم إثر مأدبة الغداء مع الإمبراطور.
حسبته مجرد خاتم فضي بسيط، لكنه في الواقع قادر على كشف أغلب السموم، مهما اختلف تركيبها.
لكن فكرة أن أتظاهر بإسقاط الخاتم في فنجان الشاي ثم أقول “أوه، لقد سقط بالخطأ!” بدت مبتذلة ومُصطنعة حتى في مخيلتي.
“هذا النوع من الأدوات يُستخدم حين تملكين دليلًا على وجود السم لتُظهريه علنًا وتُحدثي ضجة: ‘انظروا!’ أما أن تسقطيه سرًّا، فهذا يثير الشك أكثر من أي شيء آخر.”
“من الأفضل أن يثير الشك على أن أفقد حياتي.”
حين أظهرت بعض التردد، اختفت لامبالاته المعتادة، وبدت الجدية في نبرة صوته ونظرته.
وكأنه يقول: “حتى إن بدا سخيفًا، لا مجال للتهاون.”
“لا أعتقد أنني تعيسة الحظ إلى درجة أن أُسمم مرتين على التوالي.
الإمبراطورة على الأرجح تستدعينني لاختباري، لا أكثر.”
“ولكن…”
“لو لم نغادر الآن، سنتأخر فعلًا.
سأحكي لك كل شيء عند عودتي!”
راودتني فكرة مريرة: إن كنت قد خضت زيجتين، فلن تكون تجربة تسمم ثانية بالأمر الكبير.
لكنني ابتلعت المزحة في قلبي، خشية أن يمنعني كاسيون حقًا من الذهاب.
ما دمت لا أستطيع التهرب… فالأجدر بي أن أواجه.
—
“أشكركِ على الدعوة، يا جلالة الإمبراطورة.”
ظننت نفسي مستعدة لأي شيء، لكن ما إن دخلت الحديقة الشتوية التابعة للإمبراطورة برفقة خادم القصر، حتى غمرني عرق بارد.
عدد من العيون كان مُسلطًا عليّ كأنني مشهد استثنائي.
الحفل لم يبدأ في الموعد الذي أُبلغت به، بل كانوا قد بدأوه قبل وصولي، ودُعيت في منتصفه عن قصد.
كان من السهل ملاحظة أنهم أنهوا تحياتهم، تبادلوا الأحاديث، وربما ذكروا اسمي أكثر من مرة، والآن يراقبونني كما يُراقب الطريد.
كل ذلك كان يدعو للضحك… لكنني لم أُظهر شيئًا.
دخلت بابتسامة خفيفة وملامح بريئة متواضعة.
“أنا من وجه الدعوة.
أنتِ دوقة ييغر، أليس كذلك؟”
أومأت الإمبراطورة برأسها، فتقدمت خادمة وأزاحت كرسيًا لأجلس عليه.
كل العيون تابعت حركتي في صمت مُهيب.
“لقد مرّ وقتٌ على زواجك، وظننت أنكِ استقررتِ بما فيه الكفاية لحضور حفلاتي.
سيداتي، أرجو أن ترحبن بهذه الشابة.”
“يشرفني أن أكون جزءًا من هذا الحضور المرموق.”
“ظننت أن هذه قد تكون أول تجربة لكِ في مناسبات كهذه، لذا دعوتكِ متأخرة قليلًا.
لا تنزعجي.
شاي اليوم ليس حلوًا كما تبدو رائحته، أخشى ألا يروق لك. إن وجدته مرًا، فلا تترددي في تناول بعض المرطّبات.”
كلماتها مغلفة بالنعومة، لكنها تحمل طعنًا لاذعًا.
لو أنها أرادت، لكانت قادرة على أن تجعل هذه الدعوة قاتلة بحق.
“الجميع متشوق للحديث معها، لكن دَعُوها تلتقط أنفاسها وتجرّب الشاي أولًا.”
أجبت التحيات بابتسامة حالمة، متجاهلة تلك النظرات المتفحّصة التي تخترق السطح إلى ما هو أعمق.
ولكن حين ألحّت الإمبراطورة أن أرتشف الشاي، تذكرت تحذير كاسيون…
هل عليّ استخدام الخاتم؟ لكن هل سيذهبن إلى حدّ التسميم حقًا وسط كل هؤلاء؟
ارتشفتُ الشاي بحذر.
كان مُرًّا، لكن نهايته كانت نظيفة ومنعشة، تمامًا على ذوقي.
ومع ذلك، رسمت على وجهي ابتسامة متكلفة، كأنني أجد الطعم غريبًا.
“يبدو أن مذاقه مُرّ قليلًا على شابة في مثل عمرك.”
“لا، جلالتكِ.
الشاي رائع.”
“لن نقوم بافتراسكِ، فلا تكوني متوترة.
خذي بعض البسكويت.”
كان الأمر أقرب إلى مسرحية مرتجلة.
أنا أؤدي دور من لا تحب الشاي، والإمبراطورة تتظاهر باللطف، والنبيلات يتفرجن على العرض بلهفة.
“كم عمركِ، يا دوقة؟ بشرتك صافية للغاية.”
“وشعرك جميل أيضًا.
ما زلتِ بريئة كالأطفال، ومع ذلك أصبحتِ زوجة له… ألا تجدين الحياة الزوجية مرهقة؟”
يا لجرأة هذه الأسئلة! يبدو أن الحفل مخصص فعلًا لـ”المتزوجات الحقيقيات”.
وتحت هذه النظرات الفضولية، رسخت مكاني بوضوح: أصغرهنّ سنًا… وأشدهنّ براءة.
“أنا في التاسعة عشرة.
وبخصوص الحياة الزوجية…”
خفضت رأسي بحياء، فابتسمن بانبهار، وعمّت المودة الجو.
نعم، أحِبنني أكثر! أنا كالأرنب، لطيفة وبلا خطر!
“لا تفرطن في مضايقتها.
خذي رشفة أخرى من الشاي.”
“لقد رطّبتُ حلقي بالفعل، سأجرب قطعة بسكويت.”
“يا للروعة.
لا يليق بي أن أقول هذا لامرأة متزوجة، لكنك فعلاً رائعة! وددتُ لو كبر طفلي هكذا.”
تناولت بسكويتة مغطاة بمربى الفراولة، متظاهرة بالابتعاد عن الشاي المُر.
كان طعمها خانقًا، لكن طالما أن النتيجة مُرضية… فلا بأس.
“ومع ذلك، ففي التاسعة عشرة تُعدّين ناضجة.
بل… ألم تعيشي ليلتين زوجيتين فعلًا؟”
في اللحظة التي اعتقدت فيها أنني سأجتاز الحفل بسلاسة، قُطعت ابتسامتي البريئة بصوت لاذع.
التفتُّ، فرأيت وجهًا مألوفًا يرمقني بكراهية مستترة.
“آه… لقد مضى وقت، سيدتي.”
لحسن الحظ، لم أحتج وقتًا طويلًا لتذكّرها.
إنها إحدى قريبات الماركيز ڤانت، زوجي الأول.
كنت قد رأيت تلك النظرة نفسها أثناء جنازته، حين كنتُ أُطرد من عائلته.
“هاه. إذًا لا زلتِ تذكريننا.
ظننتكِ نسيتِ عائلتنا تمامًا.”
“لا تكوني قاسية، سيدتي.
ما حدث كان محزنًا… والدوقة كانت ضحية أيضًا.”
“كانت جريمة، لا حادثة!
لا أفهم كيف تزوجتِ مرة أخرى بعد أقل من أسبوع على مقتله.
إلا إن كنتِ قد… فقدتِ عقلكِ.”
ادّعت أنها تحتسي من فنجانها، لكن على هذه الطاولة الصغيرة، لم يكن هناك من لم يسمع عبارة “فقدتِ عقلكِ” بوضوح.
الجميع تظاهر بمحاولة إيقافها، لكن في الحقيقة…
كانوا يستمتعون بالمشهد.
حتى الإمبراطورة لم تحرك ساكنًا، ونظرت إليّ بنظرة لا روح فيها.
حتى الابتسامة التي ارتسمت على شفتيها عند استقبالي… اختفت تمامًا.
“أنتِ محقة.
لقد فقدتُ صوابي.”
“… عذرًا؟”
ورغم ذلك، تمسّكتُ بخطتي.
البراءة تسحق الهجوم.
“لقد صُدمت لرؤيتي جريمة قتل أمام عيني.
عشت كوابيس متواصلة.
أعلم أنني من عائلة نبيلة، لكن خوفي تغلّب عليّ، فالتجأت إلى الكحول… وفي إحدى الليالي، غادرتُ المنزل مخمورة، حتى أنني خشيت الجدران من حولي…
وهناك، التقيت بالدوق.”
“يا إلهي!”
جذبت انتباه الحضور بأكمله.
قصتي جمعت التراجيديا، والرومانسية، وحتى الإثارة.
حتى قريبة الماركيز حدّقت بي بترقّب.
“كاسيون… أعني، الدوق، كان كما يُشاع عنه، حاد الطبع، لكنه كان عطوفًا بما يكفي ليحتويني.
كنت خائفة، ومخمورة جدًا.
حماني، واساني، وقال إنني جميلة.”
“أوه، يا إلهي.”
“وهكذا… شعرنا بأننا مسؤولان عن بعضنا، وتزوجنا.
نعم، كنت فقدت صوابي بالفعل.”
أدرت رأسي جانبًا، وحرصت على أن ترتجف رموشي برقة تُكمل المشهد.
“أنا آسفة، سيدتي.
كل شيء حدث فجأة.
لم أقصد الإساءة أو جرح عائلتكم.”
“لا تبكي، دوقتنا العزيزة.
الجميع سيتفهم… أليس كذلك؟”
تأثرت الحاضرات بقصتي، التي جمعت بين الدراما والحب والإثارة.
حتى قريبة الماركيز تراجعت عن حدّتها.
“هل رأيتِ؟” قالت السيدات وبدأن بلمس كتفيّ وظهري بحنان وكأنني طفلتهن.
“لقد مرت بالكثير، دوقتنا الحساسة.
لكن من حسن حظها أنها وجدت الدوق.”
“لابد أنه كان حبًا من النظرة الأولى.
يا لها من قصة رومانسية بحق.”
الجميع بدا مبهورًا، مرتاحًا.
وحدها الإمبراطورة كانت ما تزال ترمقني بذلك الجمود…
لكن حتى ذلك، لم يعد يُعدّ هزيمة.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ32
بعد أن أنهيت قصتي المثيرة، انزاح الحذر من النفوس، وانطلقت النبيلات في سرد تجاربهن، وقد أرخين ستار التوقّع والتكلف.
كنت أظن أن حديثنا سيتشعب إلى ولي العهد الأول أو ينغمس في دهاليز السياسة، لا سيما وأن مضيفة الحفل هي الإمبراطورة ذاتها، لكن الحوار انحرف نحو منحى أشبه بمنتدى للأنّات والشكوى، لا مجلسًا أرستقراطيًا.
حتى سيدات الفصائل المتناحرة بدين وكأن بينهن قاسمًا مشتركًا حين يهمسن بأسرار حياتهن الزوجية.
استغليت هذا الانفلات، واكتفيت بتذوق الشاي الذي ناسب ذائقتي، منصتة لما يدور، وأدركت سريعًا أنه لا شيء يُذكر يمس الخط الزمني الأصلي للأحداث أو يفيد عائلة الدوق.
ما يُقال ليس أكثر من ثرثرة عائلية رتيبة.
“كونتيسة، هل ثمة ما يزعجك؟ وجهك يشي بالحزن منذ بداية اللقاء…”
“أنا… أنا فقط…”
“يا إلهي، سيدتي…”
وفجأة، اندفعت إحدى السيدات بالبكاء الحار.
كانت تجلس طوال الحفل في صمت وملامحها مغيمة بالكآبة.
لم أنتبه أنها الكونتيسة المقصودة.
“ما الذي حدث؟ أخبرينا، فقد نجد ما يعينكِ.”
وما إن انطلقت دموعها حتى توجهت إليها جميع الأنظار، وبريق الفضول يتوهج في العيون.
كأن حضورها أضفى مادة دسمة تفوقت على وجودي.
فجأة صرت ظلًا شاحبًا في خلفية المشهد.
وبينما بدأت السيدات يتدافعن لتقديم المناديل والأكواب، التفتُ ببطء نحو الإمبراطورة، فالتقت أعيننا.
ما زال هناك من لا يغفل عني لحظة.
“أعتذر… لقد غمرني القلق على ليكس مؤخرًا…”
“ابنكِ الثاني؟ سمعت أنه عاد من الأكاديمية متفوقًا، أهناك ما يُقلق بعد ذلك؟”
حاولت ألا أبدو مضطربة وأنا أحوّل نظري بعيدًا عن الإمبراطورة، لكنني جمدت في مكاني حين سمعت اسمًا مألوفًا، حتى أنني كدت أختنق برشفتي من الشاي.
“كنت سعيدة بعودته، وظننت أن الوقت قد حان ليستريح قليلًا بيننا، ليتحدث مع العائلة… بل راودتني فكرة أن أقدّمه لبعض الفتيات اللطيفات.”
“الشاب رومينيل وسيمٌ ومهذبٌ بما يكفي ليكون فارس أحلام أي فتاة.
مشكلته الوحيدة أنه قد يشعل المنافسة بينهن.”
“أليس في الثامنة عشرة؟ لقد آن أوان التفكير في زواجه…”
تعالت الأحاديث بين الضحك والممازحة، لكن الكونتيسة ما لبثت أن انفجرت بالبكاء مجددًا، متجاوزة لحظة الهدوء السابقة.
هرعت السيدات لتهدئتها، فانضممت إليهن بلطف، وقدّمت منديلاً جديدًا، متظاهرة بالتعاطف في هذا المشهد المرتجل.
“عيناكِ الجميلتان لا تحتملان كل هذا البكاء، سيدتي.”
“هُه… أشكركِ… شكرًا جزيلًا.”
تناولت المنديل وأخفت وجهها من جديد، والدموع تتساقط بغزارة.
“ثمانية عشر عامًا فقط! ومع ذلك، تم تكليفه بحراسة حدود الإمبراطورية!”
قبل لحظات كنّ يقلن إن عمره مناسب للزواج، أليس العمر ذاته مؤهلًا للخدمة؟ ارتسمت على ملامحي تعابير المواساة، بينما تجاهلت في داخلي تلك الحقيقة التي زرعناها أنا وكاسيون، ونراها الآن تنمو على مهل.
“هل تدرين كم أن تلك الولايات الحدودية لا تزال متوحشة، رغم أنها ضُمّت رسميًا إلى الإمبراطورية؟”
“…كونتيسة…”
“في المشروع الأخير الذي أشرفت عليه العائلة الإمبراطورية، تخلّفت تلك الولايات عن تسليم البضائع!
لا يعرفون قيمة الالتزام، وأخشى أن يصيب مكروه طفلي البريء… لا أستطيع النوم من القلق.”
مع كل جملة، كانت الكونتيسة تتوهج انفعالًا، غير مدركة أن حدود صبر الحاضرات بدأت تنفد.
تبادلن النظرات بخفية، وشرعن يبتعدن عنها شيئًا فشيئًا.
هذا الحفل برعاية الإمبراطورة، ومهمة رومينيل على الحدود صدرت بلا شك بأمرٍ إمبراطوري، كما أن المشروع الذي تتذمر منه…
هو مشروع ولي العهد الأول، نجل الإمبراطورة ذاتها.
وحين بلغت أجواء التوتر ذروتها، قطعت الإمبراطورة الصمت بصوت هادئ:
“سيدتي، تروّي وارتشفي بعضًا من الشاي.”
كانت كلماتها بسيطة، لكن وقعها كان ثقيلًا، فسكت الجميع.
الكونتيسة ظنّت أنها تواسيها، فشكرتها مجددًا، وجففت دموعها بالمنديل قبل أن تشرب.
“الأبناء، مهما شبّوا، نظل نراهم صغارًا.
أنا أيضًا لدي ابن، وأفهم جيدًا مشاعركِ.”
“جلالتكِ… نعم، أنا أعيش في قلق دائم عليه…”
“لكن دور الأهل أيضًا أن يفسحوا لأبنائهم مجال النضج.
في مثل هذا العمر، يصبح الشاب مسؤولًا وقادرًا على أداء دوره.”
وأخيرًا، استوعبت الكونتيسة تغيّر المزاج العام.
تجمدت مكانها، بينما أشاحت السيدات أنظارهن بعيدًا عنها بانشغال مصطنع.
“بل ينبغي أن تكوني فخورة به.
لقد قبل مهمةً عجز الآخرون عن الإقدام عليها، في سبيل خدمة العرش.”
“ب-بالطبع، جلالتك… لم أكن أرفض القرار، بل تحدثت بدافع الأمومة فقط.”
“أجل، أعلم أن أسرة الكونت دومًا كانت وفيّة.”
ولما قالت “الآخرون”، رمقتني الإمبراطورة بنظرة خاطفة. استشعرتها، لكنني واصلت التظاهر بالبراءة، ناظرة إلى الكونتيسة.
هل تنتظر أن أشعر بالذنب؟ لا بأس، فطالما لم تتهمني صراحة، سأبقى في دور الجاهلة.
“لو أن البضائع المرتقبة في مشروع ولي العهد الأول وصلت في موعدها، لرفعت من شأننا جميعًا.
لكن الأعذار السخيفة من تلك الولايات أفسدته.
ولهذا نحن نُعلّق آمالًا عظيمة على الشاب رومينيل.”
“ش-شكرًا لجلالتك… سيخدم ولي العهد بإخلاص ويحمي الحدود بكل جهده.”
“هذا ما أريده.
الآن، جففي دموعكِ.”
رغم رقتها، كان في صوتها نبرة لا تحتمل المعاندة.
نظرتُ إلى المنديل الذي كاد يتمزق من قبضتها تحت الطاولة.
“بالمناسبة… سمعت أن تلك المعادن المستخرجة من ما وراء الحدود كانت نادرة الجمال والصلابة.
كنتُ أتحرق شوقًا لرؤيتها.”
“لو وصلت إلينا، لفتحنا آفاقًا جديدة، فهي لا توجد في أراضي الإمبراطورية.”
وحين كادت برودة الأجواء تعود، سارعت إحدى السيدات بتغيير المسار قليلًا — أو هكذا ظنت — بمحاولة إبقاء الحديث في فلك المشروع.
لكن يبدو أن الإمبراطورة لم تمانع ذلك، بل تجاوبت بلطف، وتبعها الباقون يتسابقون في التملّق.
فهو مشروع ابنها، وأي مديح له… مديح لها.
“رأيت قطعة أصلية منه!
حتى وهي غير مصقولة، كانت أجمل من الرخام.”
“حقًا؟ كنتُ أفكر في نحت تمثال نصفي لزوجي، ويبدو أن هذا المعدن يناسب.”
“لكنني سمعت أن الجبل المخصص للتنقيب قد انهار، ولم يُرسلوا سوى شظايا، بحجة أن المعدن مدفون بعمق يصعب استخراجه…”
“أعذار سخيفة!
تذكّرني بخادمتي وهي تقول: ‘سيدتي، لا يمكنني الوصول تحت الخزانة!’”
إحدى السيدات، وتبدو من درجة أدنى، قررت أن تكون مهرّجة اللحظة، فقلدت خادمتها وضحك الجميع.
“بالمناسبة، بُنيت ثلاثة سدود لتقليل الأضرار هذه السنة.
ليتهم أقاموا واحدًا أيضًا عند الحدود…”
لكن هذه الجملة وحدها أعادت الجليد إلى الحفل.
كتمت ضحكتي بصعوبة، ومالت رأسي ببراءة.
كأنني لا أعلم شيئًا، وكأن كاسيون وحده من وقف خلف بناء تلك السدود.
“هه، نعم… هذا الموسم كان قصيرًا على غير العادة.
والحمد لله أن الاجتماعات استؤنفت سريعًا.”
“حقًا، شعرت أنني أسيرة داخل جدران المنزل طوال تلك الفترة.”
قصير؟! بل كان موسمًا مديدًا غزير المطر!
لكن يبدو أن الجميع يفضلون إنكار الحقيقة والتركيز على ردّة فعل الإمبراطورة.
في البداية، ظننت أن الحفل بعيد عن التنافس بين وليّي العهد… لكنني كنتُ مخطئة.
لم يكن الحديث عنهم، بل عن صدى الإمبراطورة في قلوب الحاضرات، وكانت تقبل ذلك بكل ارتياح.
من الواضح أن هذه اللقاءات ليست إلا أداة من أدواتها… تُصغي عبرها للهمسات، وتنتقي من بينهن من تُقربها ومن تُقصيها.
علانيةً، ولي العهد يرسّخ سلطته…
وخفيةً، الإمبراطورة تضمن ثباتها.
تساءلت في داخلي: هل أحضر لقاء الشاي القادم؟ أم أفتعل عذرًا مناسبًا للتغيّب؟
“جلالتك…”
دخل أحد الخدم فجأة إلى الحديقة الزجاجية، وانحنى باحترام، ثم همس شيئًا في أذن الإمبراطورة.
ما إن أنهى، حتى تغيرت ملامحها الصارمة، وحدّقت بي بنظرة مباشرة.
لم تكن مراقبة خفية هذه المرة، بل علنية.
وسرعان ما تبعتها نظرات الحاضرات.
“يبدو أن علينا أن نختتم حفل اليوم.”
“آه… لقد انتهى بسرعة… ولم نلتقِ منذ زمن.”
“مؤسف فعلًا، جلالتكِ.”
لكن رغم الكلمات، بدأت الأيدي ترتّب الملابس والأغراض، استعدادًا للرحيل.
في هذه اللحظة، التفتت الإمبراطورة إليّ وابتسمت.
“في يومٍ قائظ كهذا، ظلّ دوق ييغر ينتظر زوجته أكثر من ساعتين.
وإن كان ذلك يُحزنني، فلا يمكنني إلا أن أراعيه.”
“…ماذا؟”
لأول مرة، لم تكن دهشتي تمثيلًا…
بل كانت حقيقية تمامًا.
كاسيون؟ ظل ينتظرني طوال ساعتين؟ في الخارج؟!
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ33
“سُررتُ بلقائك اليوم، سيدتي.”
“سأقيم حفل استقبال في منزلي الشهر المقبل، وآمل أن تتكرّمي بالحضور.”
ما إن انتهت حفلة الشاي، حتى غادرت السيدات معًا حديقة الإمبراطورة الداخلية، غير أنهن لم يتفرقن، بل تجمعن حولي وانهلن عليّ بالكلام بحماس يفوق ما أبدينه خلال الحفلة نفسها.
لا شك أنهن يُضمرن نية اللحاق بي لرؤية كاسيون عن كثب.
“وأنا أيضًا سُعدت بلقائكن… حتى إنني أكاد أقول إنني لا أرغب في الرحيل.”
“أسيليا.”
بينما كنت أتساءل في داخلي إن كان من الصواب أن أُظهر كاسيون أمام هذه المجموعة من النساء، تناهى إليّ صوت يناديني من مكان قريب.
ألسنا ما زلنا في القصر؟
“أانتهى الأمر أخيرًا؟ لقد طال كثيرًا.”
“أوه…”
“الهواء أبرد مما توقعت مع غروب الشمس… تعالي.”
“آه، سيدتي، يُفضَّل أن تنصرفي الآن.”
“نعم، لا تُشغلي بالكِ بنا.”
تقدم كاسيون بخطوات واسعة عبر الرواق المؤدي إلى الخارج، وكأنه لا يرى النساء الملتفّات من حولي، ومد يده إليّ، بينما كان يحمل في الأخرى شالًا نسائيًّا.
“أهذا غريب؟”
“ماذا؟ ما الذي تعنيه؟”
“الشال… حاولتُ اختيار واحدٍ يُناسب ما ترتدينه اليوم.”
ومع أنني كنت أتقدّم مدفوعة بلطف من السيدات خلفي، بسط كاسيون الشال أمامي ثم لفّه حولي وكأنه يجذبني نحوه، حتى وجدتني في لمح البصر محاطة به، على مقربة تكاد توازي الاحتضان، فشعرت بالارتباك، فيما همس هو بكلمات خافتة ارتسمت على ملامحه بارتباك مماثل.
هل جاء حقًا خصيصًا من أجلي؟
“أأتيتَ فقط لتعطيني هذا الشال؟ ألست مرتبطًا بموعد مع سمو الأمير؟ أو ربما كنتَ تملك أمورًا أخرى؟”
“لا، فقط أردت إحضار الشال.
بدوتِ وكأنكِ تشعرين بالبرد حين غادرتِ.”
انحنى أكثر وغطّاني به بإحكام، مما أفسد جمال الشال الذي كان سيبدو أكثر أناقة لو اكتفى بوضعه على كتفي برفق.
“ثم إنكِ لم تكوني راغبة بالذهاب أصلًا.
خشيتُ أن يكون قد حدث شيء.”
قالها بصوت خافت، لا يكاد يُسمع، حتى لا تلتقطه آذان النساء خلفنا.
ومع أنهن لم يسمعن ما قيل، إلا أن النظرات وحدها كانت كافية لإثارة ضجة.
“يا للعجب، صاحب السمو!
ما أرقّك!”
علّقت إحداهن بصوت مرتفع بعض الشيء.
وعندما التفتُّ ناحيتها، رفع كاسيون رأسه أخيرًا، وقد كان يتعمّد تجاهلهن، فبادرت النسوة إلى تصحيح سلوكهن بعد أن دركن ما فعلنه.
“نعتذر، يا صاحب السمو.
لقد سُررنا كثيرًا بلقاء سيدة الدوق في الحفل.”
“حضرتُ حفلات شاي جلالة الإمبراطورة غير مرّة، لكنها المرة الأولى التي أرى فيها زوجًا يأتي ليصطحب زوجته. حسنًا، مع زوجة بهذا الجمال، طبيعي أن لا يحتمل الغياب عنها طويلًا.”
“أجل، ربما بالغنا في احتجازها.”
عاد الثراء إلى الحديث بينهنّ، وكأن حفلة أخرى بدأت في الممر.
“كم من الوقت انتظرت؟”
“ظننت أن حفلات الشاي لا تتجاوز الساعة أو اثنتين.
أليست تنتهي مع شرب الشاي؟”
بالرغم من أنني وصلت متأخرة، فقد امتدّت حفلة الشاي لتمتد حتى المساء تقريبًا.
يبدو أنه انتظر أكثر من ساعتين فعلًا، تمامًا كما أخبرتني وصيفة الإمبراطورة.
“يا لك من أحمق، لم لم تترك الشال مع أحد الخدم وترحل بدلًا من هذا الانتظار العقيم؟”
أمسكت بيده لا إراديًا.
الجو كان باردًا فعلًا، كما أشار، رغم أننا في منتصف الصيف، لكن موسم الأمطار انتهى لتوّه.
تساءلت إن كانت يداه قد تجمدتا، لكن اليد التي قبضتُ عليها كانت دافئة.
“يداك دافئتان… ينبغي أن نعود بسرعة.”
رفعت رأسي إليه متظاهرة بالقلق، فرآني كاسيون بعينين مستغربتين، ثم التفت إلى السيدات قائلًا:
“أعتذر، سيداتي.
أعلم أن مغادرتنا الآن قد تكون فظة، لكن جسده باردٌ جدًّا.”
“أوه، لا بأس أبدًا! تفضّلا.”
رائع.
كنت أتساءل أصلًا كيف سأتهرّب من تلك الدعوات الكثيرة لحفلات الشاي والاستقبالات، لكن ما حدث كان أشبه بهدية من السماء.
حييت النساء مجددًا، ثم وخزت كاسيون بخفة في خاصرته.
“أحسنت! كنت أبحث عن مخرج، وشكرًا لقدومك.
هيا بنا إلى العربة، ولا تنظر خلفك.”
“ألم تقولي قبل قليل إنني انتظرت بغباء؟”
“ذلك لأنهن كنّ يُراقبننا، بالطبع.”
خرجنا من الممر، وإذا بعربات العائلة الإمبراطورية مصطفّة بانتظام.
صعدنا إلى أول عربة، وما إن أُغلق الباب، حتى شعرت بحرية ناعمة تتسلل إلى صدري.
“آه… الحرية! لم أظنك ستكون بهذا الذكاء… ما السر؟”
“لا أدري إن كان هذا مدحًا أم سخرية.”
“أنت لست بارعًا مع النساء، لكنك تُجيد مثل هذه التفاصيل الصغيرة.
لو لم تأتِ، لكنت عالقة هناك لساعات إضافية، بل وربما خرجتُ بقائمة جديدة من الدعوات.”
“…أنا سيّء إلى هذا الحد مع النساء؟”
“أوه، أظن أن زاوية فمك ارتعشت للتو.”
تجاهلت تذمّره، ثم نزعت حذائي الضيّق وبدأت أُدلّك قدميّ المنهكتين من التصنّع المبتسم طوال الحفل.
وضعت يديّ على وجهي في محاولة لفكّ التشنّج، بينما كان كاسيون يُحدّق بي بفكّ مشدود.
“ما الذي تفعلينه؟”
“تدليك للوجه.
شخص مثلك لا يعرف معنى تمثيل اللطف طوال ساعات، لن يفهم أبدًا ما تعانيه عضلات الوجه.”
“ألستِ أنت من كانت تمدحني قبل قليل؟”
“بلى.
ألم تسمع ما قالته النساء؟ سيكون حديث المجالس من الآن فصاعدًا.
أراهن أن شعبيتك بين النساء ارتفعت للذروة.”
“وما الجدوى من ذلك؟”
“أوه، لا تستخف.
هذه حفلة الإمبراطورة، إنها ميدان صامت للنساء…
حرب بلا دماء.”
“لم أقصد هذا… لا عليكِ.”
“أصبحتَ تتوقف كثيرًا في منتصف الجمل مؤخرًا.
هذا يُثير فضولي.”
“…لم يحدث شيء، صحيح؟”
“لو أنني سُمِّمت، هل كنتُ لأتحدث هكذا ببساطة؟”
“لا تمزحي بشأن ذلك حتى.”
هززت كتفي في وجه قلقه، بينما تابع النظر إليّ بتمعن.
“بصراحة، جلالة الإمبراطورة كانت تراقبني عن كثب، وتختبرني بشكل واضح.
لكن الحفل لم يكن بالصعوبة التي توقعتها.
السيدات بدأن حذرات، لكنهن سرعان ما أبدين ودّهن.”
“همم… يبدو أن ملامحك الجميلة أنقذتك مجددًا.”
“وجهي يعمل ليل نهار، لكن هذه المرة… كانت قصة ليلتنا الأولى هي مفتاح النجاح.”
“…أيّ قصة؟”
“قصة ليلتنا الأولى.”
فتح كاسيون فمه بدهشة، ثم بدأ يمسح وجهه مرارًا.
أما أنا، فكنت أراقب مشهد اقترابنا من قصر الدوقية.
كلما فكرت، شعرت أن قصر الدوق قريب من القصر الإمبراطوري أكثر من اللازم.
“سيكون من الرائع لو أن منحك الأراضي تم قريبًا.”
“هاه؟ ماذا تعنين؟”
“أعني أن لقب الدوق دون أراضٍ أمر غريب.
أليس من المفترض أن يمنحوك مقاطعة؟ إنهم يحتفظون بك قريبًا فقط لمراقبتك.”
“لكن… ما قصة ليلتنا الأولى؟”
“آه، تلك.”
ليست بالأمر المهم.
“عائلة زوجي السابق كانت تنظر إليّ وكأنني خائنة، رغم أنهم من نبذوني.
فاختلقت قصة.”
“وما القصة التي اخترعتها وتخصّ ليلتنا الأولى؟”
“ماذا في ذلك؟ نحن متزوجان، أليس كذلك؟ زواجي من الماركيز انهار لأننا لم نكمل علاقتنا.
لذلك قلت ببساطة إننا أحببنا بعضنا من النظرة الأولى، وقضينا الليلة معًا.”
فغر كاسيون فمه، فمددت يدي وأغلقته كما فعلت من قبل.
يبدو أن لهذا التصرف متعة خاصة.
“هيا، حين يتزوج رجل وامرأة راشدان، إلا إن كان زواج عقد، فمن الطبيعي أن يُظن أنهما…”
“هاه.
لا ألومك… فقط… أندهش في كل مرة.”
“ما الذي يثير دهشتك؟”
“كل ما يدور داخل رأسك الصغير.”
“أنا ذكية، أليس كذلك؟ جمعت الجمال والذكاء في آنٍ معًا.”
“ستجنّنينني.”
“ينبغي أن تكون ممتنًا لأنك حظيت بزوجة مثلي، حتى وإن كان زواجًا مؤقتًا.
عندما ينتهي عقدنا، ستندم، بلا شك، وتقول:” آه، لقد كانت مفيدة”.”
“…”
“آه، لقد وصلنا.”
دخلت العربة بوابة القصر، فارتديت حذائي بسرعة، متأهبة للنزول.
ما إن أدخل، سأبدل ثيابي لشيء مريح، وأتناول عشاء الطاهي المذهل.
“…صحيح.
سأحرص ألا أندم.”
رغم أنني كنت أول من استعد، إلا أن كاسيون خرج من العربة قبلي ومد يده ليُرافقني.
هل يحتاج أن يضغط على أسنانه هكذا لمجرد الاعتراف بفائدتي؟
يا له من عنيد…
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ34
في الحقيقة، لم تكن حفلة الشاي مجرد تجمع شكلي عابر.
ربما بسبب الأجواء التي صاحبت الحديث آنذاك، تكبدت أعمال الأمير الأول خسائر جسيمة، وارتفعت أسعار المعادن المحجوزة رغم أن موعد استلامها لا يزال مجهولًا.
حديث السيدات عن المعادن النادرة والفريدة خلال الحفلة أشعل روح التنافس بين النبلاء.
أما سمعة كاسيون، فشهدت ارتفاعًا غير مسبوق.
فقد كان بالفعل بطلاً في أعين العامة، لكنه أصبح أكثر قربًا إليهم بعد دعمه لتوسعة السد.
أما بين سيدات الأرستقراطية، فصُوّر كرجل رومانسي وذو كفاءة عالية.
وطبعًا، بين النبلاء المؤيدين للأمير الأول، لم تخلُ الأحاديث من استياء، حيث وصفه بعضهم بالمزعج، واهتموا بالإشارة إلى أصوله التي ظلت “مشكوكة”، لكن تلك الانتقادات طغت عليها المديح.
وأمامي أنا…
“الجميع يتحدث عن لسانك السليط.”
“وماذا في ذلك؟”
الآن، أصبحتُ الهدف لكل أنواع الشائعات بدلًا من كاسيون.
لكنها لم تكن شائعات قاتلة… مجرد نقد لسلوكي كامرأة، أو اتهام للسذاجة لافتقاري الخبرة الاجتماعية رغم سني، أو اتهام بأن رأسي مليء بأحلام وردية رغم فقدي والديّ واختفاء أخي.
بعبارة أخرى، صرتُ بالنسبة لهم غبية سطحية لا أكثر.
وطبعًا، حتى في هذه الظروف، لم يجرؤ أحد على المساس بجمالي.
“هل تناقشون هذه الأمور على مائدة الشاي؟”
رد كاسيون بنبرة غاضبة وهو يرمي النشرة التي لم تكن سوى ورقة قيل وقال رخيصة.
كانت النشرة قد بالغت في كلامي، وصورتني كامرأة لعوبة استدرجت الدوق البطل في ليلة واحدة.
يمكن فهم ذلك إذا عرفنا أن صورة كاسيون العامة هي رجل عشّاق.
ولاستدراج رجل كهذا في يوم واحد، لزم تصوير امرأة ذات وجهين، نهارًا وليلًا.
“هذا ليس مجرد إهانة، بل سخرية! ألا يغضبك ذلك؟”
“ليس كثيرًا… تلك الشائعات لن تؤثر على خطتنا لترقية الأمير الثاني إلى ولي العهد.”
“حقًا؟”
“لو كنت الدوقة الحقيقية، لكان الأمر فضيحة كبيرة لعائلة الدوق، لكنني سأختفي لاحقًا، أليس كذلك؟ بل إن وجود الفضيحة قد يجعل الناس يفهمون سبب اختفائي، ويقولون ببساطة: (لهذا السبب هربت).”
هل فكرت في ذلك؟ ذُهل كاسيون وفتح فمه، فمددت يدي لإغلاقه كعادتي، لكنه عبس وبادر بدفع يدي بشدة.
“هل من الحكمة أن تقولي هذا، يا أسيليا؟”
“لماذا تغضب؟ كل شيء يسير على ما يرام.”
“هل ترضين بأن تكون هناك فضيحة فقط لأنك ستختفين؟”
“أجل…؟”
“هاه!”
“ما خطبك؟ هل أُحضر لك ماكرون؟ هل انخفض مستوى السكر لديك؟”
“ماذا، هل تظن أنني حبيبتك؟”
هل كان واضحًا لهذه الدرجة؟ خفضت ذراعي بهدوء.
عادةً ما يهدأ عندما يأكل شيئًا حلوًا، فظننت…
ولكن، بصدق، لا أفهم سبب انزعاجه.
“سمعتي قد تكون عائقًا إذا رغبت في مواعدة شخص ما لاحقًا، لكنني لا أبالي بالرجال الذين ينجرفون وراء الشائعات بدل حقيقتي.
بل إنني أصلاً لا أفكر في المواعدة.
عندما ينتهي عقدي، سأنتقل إلى مكان هادئ مثل حي جينين.”
لوّحت برسالة من جينين وصلت مباشرة بعد نشر النشرة، تسأل عن حالي.
أترى؟ من يعرفني ويثق بي لا يتأثر بهذه الفضائح.
سأحصر علاقاتي بأشخاص كهؤلاء فقط.
“اللعنة! لا يعجبني هذا!”
“لا يمكن أن تعجبك كل شيء، أليس كذلك؟ شكرًا على اهتمامك~”
“هااا…!”
ربما يظن الآخرون أن تنفّس كاسيون العميق ووجهه الغاضب مخيف، لكني، مدركة أن غضبه من أجلي، أرسلت له إشارة حب وهمية وغمزت له لتلطيف الأجواء.
قبض على صدره وكأنه صُدم.
أنا أقدر مشاعرك، حقًا، لكن تمهّل، لا ترفع ضغطك!
“حسنًا، بما أنك مصمم، سأعتني بسمعتي أكثر.”
“نعم! أرجوك!”
صحيح، إن استطعت خلق شائعات طيبة عنك وعن الأمير الثاني، وفي الوقت نفسه أرفع من موقعي، فسأفعل.
لكن الآن، هذا أفضل ما يمكننا فعله، فما العمل؟ ابتسمت وواصلت احتساء شايي.
لقد كان يومًا رائعًا حقًا.
—
“ألم تذهبي مع الماركيز أيضًا وتتظاهري بالعذرية لترتقي إلى الدوقة؟ أنا فضولية لأعرف كيف جعلتِ ذلك الدوق يقع في حبك، سيدتي.”
أجل، كان يومًا جميلًا… حقًا.
عندما تفكرت في الأمر، أدركت فجأة أنني نادرًا ما خرجت لنزهة منفردة منذ استعادة ذكرياتي من حياتي السابقة.
كنت مشغولة للغاية، وحدثت أمور كثيرة، ولم تتح لي فرصة التنزه بهدوء في الشوارع.
لذا قررت الخروج في نزهة، وشراء هدايا لأرسلها إلى السيدات اللاتي التقيتهن في حفلة الشاي، في محاولة لاستعادة صورتي.
بالطبع، رغب كاسيون بمرافقتي، لكني استطعت أن أتبعد عنه، خشية أن يفسد ظهورنا معًا بوجوه متجهمة السمعة الحسنة التي انتشرت، ويؤدي إلى شائعات جديدة عن خصام بيننا.
لذا اصطحبت معي فقط الخادمة بيا.
“ألن تخبريني قليلاً؟ أنا متلهفة لمعرفة ما تخبئينه وراء هذا الوجه النقي والبرئ.”
هل أخطأت حين اقتصر تجوالي على محلات الأحبار والأقلام؟ ظننت أنني لا أحتاج لشراء ملابس أو إكسسوارات.
لكن بالمقابل، كانت هذه المتاجر مقصداً للرجال، وكان بينهم نبلاء سمعوا الشائعات وتعرفوا عليّ.
في الحقيقة، كلما دخلت محلًا، توجهت الأنظار إليّ.
لقد كانت النظرات خفية ومتكررة، حتى أن بيا كادت تخرج عن طورها وتحاول أن تأمرهم بالصمت، لكنني أوقفتها بصعوبة وطلبت منها أن تنتظر في الخارج.
ولكن، لم أتوقع أن يقترب مني هذا الأحمق لمجرد أنني كنت وحدي.
عادة، يكتفي الناس بالنظر احترامًا لشهرة كاسيون، لكن هذا الرجل بدى وكأنه فقد عقله تمامًا.
“هل أنت خائفة، سيدتي؟ لم تنطقي كلمة.”
تجاهلت تفاهاته وأنا أجرب قلمًا بحبر أحمر مائل للبني يلمع كما لو أنه مسحوق جواهر ناعم.
كتبت اسم “كاسيون” بذلك الحبر المتلألئ بوميض ذهبي.
يجب أن أقتني واحدًا كهذا.
جودة الورق كذلك رائعة، تشعرني بسعادة عند الكتابة عليه.
“أم أنك تتظاهرين بالخوف؟ هاها.”
“……”
هناك حدود للجنون.
رفعت رأسي عن الورقة، وما إن فعلت، أسرع كل من كان يراقب إلى إبعاد أنظاره.
نعم، هذا هو السلوك الطبيعي.
“أنت أجمل حين ترفع رأسك! تعجبني تلك العيون الرمادية البرّاقة.”
نظرت إليه بهدوء.
هل ظن أن تلك النظرة تعني الموافقة؟ ابتسم ابتسامة عريضة كادت تلامس خديه واقترب مني أكثر.
من خلفه، رأيت صاحب المحل ينظر إلينا بحيرة.
“آه…”
“هل استسلمت؟ أم تتظاهرين بالاستسلام مجددًا؟ إن كان الأمر كذلك، سأكون الشرير، وأنت فقط تعالي معي قسرًا، كما فعلتِ عندما تزوجتِ الدوق.”
كلما تنهدت، زاد تهجمه وغطرسته.
كنت أظن أن سمعة كاسيون قد تحسنت، لكن يبدو أن مكانة عائلة الدوق لم تصل بعد إلى مستوى الحصانة.
لو كانت مكانة عائلة الدوق في قمة الرفعة، لما تجرأ أحد على مضايقة زوجته علنًا مهما كانت سمعته متدنية.
يبدو أن الطريق لا يزال طويلًا.
وإن كان هذا صعبًا على كاسيون، فكم هو أصعب بالنسبة لرفع مكانة الأمير الثاني؟
“إنه صعب… صعب جدًا…”
“هاها، صحيح.
وإذا كان صعبًا، فعلينا أن نستريح في نزل، سيدتي.”
“قذر… قذر جدًا…”
“نعم، قذر… ماذا؟!”
“أوه لا…”
أسقطت عينة الحبر الأحمر البني على ملابس الرجل، التي كانت بيضاء ومزينة بالكشكش وكأنها زي مهرج فاخر.
للأسف، لم أستطع أن أصب الحبر على رأسه بسبب فرق الطول.
“ما هذا بحق السماء…!”
“الحبر الجميل يُكتب على ورق جميل… يا للأسف.”
نظرت إليه من رأسه حتى قدميه كما فعل هو، ثم أبعدت يده عني.
إذا كنا نتحدث عن جودة الورق، فوجهك هو الأقل.
“أعتذر، سأدفع ثمن الزجاجة الممزقة، وأشتري واحدة أخرى أيضًا.
رجاءً، لفّ لي واحدة فقط.”
“سيدتي…”
“والباقي إكرامية.
سيكون من الصعب تنظيف الأرض.”
كان صاحب المحل شابًا نسبيًا، يرتجف وهو يتلقى النقود، لكنه كان يحدق خلفي.
“آه، هممم…”
بينما كان الرجل الملطخ بالحبر يرتجف، هرع بقية الزبائن للخروج، كأنهم لا يريدون الوقوع في مشاكل.
وأنا بدوري أردت الخروج، لكن الزجاجة لم تُلف بعد.
“ماذا تنتظر؟ أسرع في تغليفها.
سأأخذها فورًا.”
“أنتِ… وقحة…!”
كان رد فعله بطيئًا أيضًا.
بدا عليه الارتباك، ثم أمسك بكتفي بقوة وأدارني نحوه.
رغم توقعاتي، كانت قبضته أقوى مما ظننت، فعبست وضربت يده بقبضتي.
“قذر.”
حتى لو كان الحبر جميلًا، بمجرد أن يسقط ويتلطخ، يصبح قذرًا، وهذا الرجل الملطخ به كان أقذر.
لقد احمر وجهه غضبًا، ما زاد من قبحه.
تخليت عن تغليف الحبر وتوجهت إلى بيا، حاملة الزجاجة.
كانت تراقب من الخارج بعينين متسعتين من أثر الضجة.
“يا عاهرة النبلاء الساقطة!”
آه… كان متوقعًا.
نظرت إلى بيا التي جمدت من شدة الصدمة، ثم أمسكت بزجاجة الحبر بإحكام، كأنني أتهيأ لرمي كرة بيسبول.
“كفى.”
ضربة! تحطّم!
“آه!”
“……”
“……”
رميت بزجاجة الحبر دفاعًا عن نفسي نحو الرجل الذي حاول الاعتداء عليّ، فأصابت جبهته وتحطمت، لكن يده التي كانت ممدودة إليّ أُمسكت من قبل شخص آخر، وتلطخ ذلك الشخص بالحبر أيضًا.
“…انزلقت يدي.”
… لماذا الأمير الأول هنا؟ ومتى دخل؟
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ35
“لا أملك ما أقوله، سمو الأمير.
كل الخطأ يقع على عاتقي… لا أعلم كيف أعبّر عن اعتذاري…”
“…لقد كنتِ ضحية تلاعب ليس إلا.
لا تشغلي بالكِ بالحبر.”
“آه…”
“…”
تجاهلتُ الرجل الملقى على الأرض، وانحنيت معتذرة للأمير الأول وقد علقت قطرة حبر على ثيابه.
كان ذلك الرجل يلتفّ أرضًا مزعجًا إياي، فدفعتُه بقدمي خلسة من تحت ثوبي بينما أواصل انحناءي.
لاحظت عندها أن ملامح الأمير تغيّرت قليلًا.
يا ترى، هل رآني؟
“علينا أن نغيّر المكان.
أنت، هناك.”
“ن-نعم! سموّ الأمير!”
“تولَّ أمر هذا الوضع.
وإذا أفاق ذلك الرجل وسأل عن الدوقة، فقل له أن يبحث عني.”
ألقى الأمير الأول أمره وهو يرمي جوهرة ثمينة باتجاه صاحب المتجر.
اتسعت عينا الرجل كما اتسعتا حين ألقيت بزجاجة الحبر، وراحت عيناه تلمعان وهو يتفحّص الحجر النفيس، بينما سقط النبيل مغشيًا عليه.
“سأتكفّل بكل شيء! لا تقلق، سموّ الأمير!”
حقًا؟ عندما كنت أتعرض للإهانة، كان هذا التاجر يرتعش كمن لا حول له، لكن أمام بريق جوهرة، لم يعد نزيف رجل من النبلاء أمرًا يدعو للقلق.
“اتبعيني، سيدتي.”
كنت لا أزال أنظر إلى صاحب المتجر بازدراء حين وجّه إليّ الأمير أمره.
مهما تغيّرت الظروف، يظلّ أسلوبه مختلفًا كليًا عن الأمير الثاني، الذي اعتدت منه اللين بدلًا من الجفاف.
“سيدتي..! ماذا جرى بحق السماء؟!”
“لا تقلقي، بيا.
عودي إلى قصر الدوق وطمئنيهم.
قولي لهم فقط إنني سأتأخر قليلًا، حسنًا؟”
“أتطلبين مني العودة وحدي؟! هذا غير ممكن!”
“أنا بخير، حقًا، فلا تقلقي.”
بيا، التي هرعت متأخرة، لم تستطع اللحاق بي، فاكتفت برفع يديها المرتجفتين في الهواء، عاجزة عن التصرف.
حاولت تهدئتها بلطف، فيما كانت نظراتي تلتفت خلسة نحو الأمير الأول، الذي بدا وكأنه ينتظر، لكن دون أدنى نيّة لتغيير رأيه.
كم هو فظّ.
أما كان الأجدر به أن يسمح لامرأة نبيلة، تعرّضت لموقف مزعج، بأن تعود لتستريح؟
“اصعدي.”
“شاكرة لك، سموّ الأمير.”
رافقني الأمير الأول بنفسه إلى العربة الإمبراطورية التي وصل بها، لكنه لم يُفصح عن وجهتنا.
قال إن عليّ ألا أقلق بشأن الحبر.
ومع ذلك، لم يُعرض عليّ تعويض، ولا إعادة حياكة فستاني.
إذًا، إلى أين نحن ذاهبون؟
“لا تنظري إليّ بذلك الشكل.
أردت فقط منح الدوقة، التي لابد أنها صُدمت من الموقف، فرصة للراحة في القصر الإمبراطوري.
إنه أقرب من قصر الدوق، أليس كذلك؟”
حتى وإن كان القصر أقرب، كنت لأختار العودة إلى منزلي.
“ممتنّة حقًا لعنايتك، سموّ الأمير.”
جددتُ امتناني، لكن يبدو أن ملامحي فضحتني، إذ ظل الأمير يحدّق بي مطوّلًا.
ابتسامته المتكلفة اختفت ما إن أغلق باب العربة.
“إنه لأمر مؤسف.”
“…؟”
هل يقصد الشائعات؟ أم ما حدث لي قبل قليل؟
“حتى وإن كنتِ ابنة غير شرعية لعائلة فيكونت تلاشى مجدها، فأنتِ ما زلتِ نبيلة.
وبما أنك لم تتمكني من الحضور لحفلة الظهور الاجتماعي، كان يجدر بك توخي الحذر في اختيار الزواج.”
حرّك الستائر برفق ليحجب أشعة الشمس، فانسكبت الظلال على وجهه، وجاء صوته منخفضًا ومشحونًا بالعتاب.
“كان الأولى بكِ أن تبقي ماركيزة.
قراراتك المتهورة هي ما أوصلكِ إلى هذا الوضع.”
“…لا أفهم مقصدك…”
“ببراءتك الماكرة تلك، كان بإمكانكِ التمسّك بعائلة الماركيز والبقاء بجانبي.
إن كان فيكِ دم النبلاء، فلتتصرفي على هذا الأساس.
كان عليكِ السعي للارتقاء لا الهبوط إلى مصاف العوام.
لا أستوعب ما يدفعك لهذا.”
“زوجي دوق.”
“وهل يغيّر النسب المكتسب ما وُلد به الإنسان؟”
“وهل يعني هذا أن دمي بلون مختلف؟”
سألته بنبرة متحدّية، أنظر إليه بثبات رغم الظلال التي تخفي ملامحه.
لم يعلّق على جرأتي، بل أغلق عينيه ببطء، وهزّ رأسه وكأنه فقد الأمل في الحوار.
“طريقة تفكيرك هذه هي ما قادكِ إلى خيار أحمق.”
فتح عينيه مجددًا، وجال بنظره عليّ كمن يرى أمامه حالة ميؤوسًا منها.
اجتاحتني مشاعر مختلطة وأنا أُدرك أن مكانتي كنبيلة لم تعد في نظره سوى ظلّ لغباء أرعن.
كم هو طبقي بغيض.
…وهو لا يعلم شيئًا عن أصله.
وإن كان الأمر كذلك، فإن الفصيل الأقوى الذي يقف خلفه، عائلة الإمبراطورة، يجهل الحقيقة.
وحدها الإمبراطورة تعلم.
“ستندمين، سيدتي، لأنكِ تخلّيتِ عن مكانكِ من دون أن تعرفي أين تنتمين.”
“وأين هو ذاك المكان؟”
“ابنة النبلاء يجب أن تتزوج من عائلة نبيلة وتبقى في ظلّ زوجها بصمت.
أما موقعكِ الحالي…”
تباطأت خطوات الخيول، ورغم أن الستائر كانت مسدلة، شعرت أننا وصلنا.
لم يحرك الستائر، حتى بعد سماع صوت الطرق على باب العربة.
“…هو طريق نحو السقوط.
لن تشهدي ولادة عصر الإمبراطورية القادم.”
“…”
“آمل أن تدركي أنني لم أقدم لكِ المساعدة، بل علّمت شخصًا يجهل مقام النبلاء درسًا بسيطًا.”
ما لبث باب العربة أن فُتح، ونزل الأمير دون أن يلتفت.
اقترب أحد خدم القصر وأمسك الباب ليساعدني على النزول.
“الدوقة مرّت بتجربة مزعجة.
اصطحبوها إلى غرفة الاستقبال أو دعوها تتنزه قليلًا في الحديقة الإمبراطورية.”
لم يرمقني بنظرة واحدة.
وكأن كلماته الأخيرة قد خُتمت لمن كانت يومًا ما “نبيلة حقيقية”، وكان ظهره المنصرف عني تجسيدًا للخذلان والشفقة.
“…أهو أحمق؟”
رغم أن انتقاد أمير داخل حدود القصر يُعدّ وقاحة، لم أتمكن من كتم لساني.
الأمير الأول لا يسعى فقط إلى اعتلاء العرش، بل يؤمن بصدق أنه يبني إمبراطورية أرستقراطية مثالية.
لكنه حين تضع نسبه الحقيقي في الحسبان، يبدو الأمر أشبه بمزحة مُرّة.
“ما الذي تفكر فيه الإمبراطورة؟”
هل غرست فيه هذه الأفكار؟ أم أنها تشكّلت فيه مع الزمن؟ أيا يكن، إن كانت نهايته حتمية بدلًا من سقوط عائلة الدوق، فسيكون ذلك مأساة تخصّه وحده.
لذا، بدلًا من أن تُثقلني كلماته، تركت في داخلي شعورًا طفيفًا، لكنه مزعج، بالقلق.
—
رفضت بإصرار مرافقة الخادم الذي عرض عليّ الذهاب إلى غرفة الاستقبال وشرب الشاي، وفضّلت التنزه قليلًا في الحديقة الإمبراطورية.
رغم أنني أقمت هنا لبضعة أيام قبل الحفل، لم أتجوّل في هذه الحديقة الفسيحة سوى مرة واحدة.
في الحقيقة، رغبت في العودة فورًا، لكن من باب اللياقة، قررت أن أمضي بعض الوقت… نصف ساعة على الأكثر.
“…؟”
لاحظت وجود حراس في أماكن لم يكن بها أحد من قبل.
لا أذكر أنني رأيتهم حين التقيت ليكس رومينيل هنا سابقًا.
هل كانت الحديقة مفتوحة مؤقتًا بسبب إقامتنا؟
“…هل يمكنني المرور؟”
لكن المشكلة أن الحارس نائم وهو واقف! هل أغرقه الغداء؟ كيف يغفو في وضح النهار؟
كنت على وشك إيقاظه وسؤاله، لكنني قررت ألا أتعمق كثيرًا.
سأغادر قريبًا على أية حال.
وظننت أن لا بأس طالما أنني سبق ودخلت هذه الحديقة من قبل.
“حقًا، هذا الحارس يستحق العقاب.”
لكن لو كنت أعلم أن النتيجة ستكون لقاءً مع الإمبراطور، لما تجرأت على المجيء.
لوهلة ظننت نفسي أحلم حين التفتّ عند منعطف الحديقة، فظهر الإمبراطور فجأة، وكان هو من بادر بالتحية.
“تحيّتي لجلالة الإمبراطور!”
يا إلهي، الأمير أولًا، والآن الإمبراطور؟! أليس من المفترض أن لقاء العائلة الإمبراطورية أمر نادر؟ انحنيت بسرعة، غير آبهة بما يفعله العشب بثوبي، وعضضت على أسناني قهرًا.
الابن يشبه الأب…
لا، تمهلي، الأمير الأول ليس ابن الإمبراطور!
“ارفعي رأسكِ. يبدو أن الخطأ ليس منكِ.”
“أعتذر بصدق إن كنت قد أزعجت جلالتكم.”
“بل كان أمرًا سارًّا.
كنت أشعر بالوحدة وأنا أحدّق بالأزهار، ومن حسن الطالع أن أتت زهرة يمكنني محادثتها.
تعالي واقتربي.”
إن كان الأمر لا يزعجك، فلم لا تطلب مني الرحيل ببساطة؟ بالفعل، كالأب كالابن.
وإن لم يجمعهما الدم، فالسلوك بينهما متطابق.
“سمعت أن آل الفيكونت قد تضرروا في موسم الأمطار.
وإن كان متأخرًا، أقدّم تعازيّ.”
“أشكرك، جلالة الإمبراطور.”
“بعد وفاة زوجك الأول، الماركيز، بفترة قصيرة، فقدتِ والديكِ تباعًا.
ربما حريّ بكِ أن تهتمي بنفسك هذا العام.”
…ما الذي يقصده؟ للوهلة الأولى بدت ككلمات مواساة، لكن من تعابير وجهه الجانبية، لم أشعر بأنه يلومني.
“ورغم كل هذا، أعتقد أنني محظوظة بالارتباط برابطة طيبة.
وبفضل زوجي، الدوق ييغر، استطعت تجاوز ألم فقد والديّ سريعًا.”
“سعيد لأن ملامح وجهك لم تتأثر كثيرًا.”
لكن ما يزعجني حقًا هو استمرار حديثه عن الزهور ووجهي.
أعلم أنني جميلة، لكنني لست زينة تُعرض فقط.
“مؤسف.
ليتكِ لم تتزوجي الدوق.”
“…عفوًا؟”
“لمَ لم تبقي أرملة للماركيز؟”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ36
رفعت رأسي ببطء، وقد باغتتني المفاجأة حتى بتُّ لوهلة عاجزة عن التفكير.
كان الإمبراطور يتأمل ملامحي بشيء من التسلية، ثم ابتسم، الأمر الذي دفعني على الفور إلى خفض رأسي حين استعدت توازني، غير أن رأسي بقي يعجّ بالضجيج.
في الرواية الأصلية، كان الإمبراطور حياديًا تمامًا في مسألة تعيين ولي العهد.
كنت أعلم أنه يحرص على اختيار من يمكنه النهوض بالإمبراطورية بعينٍ محايدة.
لكن… ما قاله الآن؟ إنه يُشبه إلى حدٍّ مريب كلمات الأمير الأول.
هل من الممكن أن يكون قد قرّر الوقوف إلى جانبه بالفعل؟
“لا داعي للدهشة، كل ما في الأمر أنني أبدي إعجابي بكِ كزوجة محتملة لأحد أبنائي.”
“أنا… لا أفهم قصدك…”
“تعبيرات وجهك المندهشة تُشبه الأرنب، إلى درجة طريفة.
لو كنتِ زوجة لأحد أبنائي، لما احتجنا لصدف نادرة كالتي جمعتنا اليوم.”
أطلق الإمبراطور ضحكة عالية، ثم أضاف بنبرة أكثر دفئًا:
“جميلة، ذكية، جريئة… لا ينقصكِ شيء لتكوني أمًّا لهذه الأمة.
بل إنك تضحكينني بهذا الشكل، أليس هذا إنجازًا بحد ذاته؟”
“….”
هل يراني مهرّجة؟ بالكاد قاومت رغبتي في الرد بشيء لاذع، لكنني تماسكت.
“ربما يمكنني تهيئة أرملة لتكون زوجة ولي العهد، لكن امرأة متزوجة؟ ذلك غير ممكن للأسف.”
“أنت تبالغ يا جلالة الإمبراطور.”
“لكن ألا ترين الأمر كما أراه؟”
ابتسم ابتسامة خفيفة مشوبة بالدهاء.
أجل، لم يسبق أن ظننت أنني لا أرقى لمنصب الإمبراطورة، فقط… لم أرد ذلك لنفسي.
وصمتي كان كافيًا، فقد عاد للضحك مجددًا.
لا بدّ أنه يستمتع بإرباكي.
“بما أنك السيدة التي كنت لأفخر بها ككنّة لو حالفني الحظ، دعيني أطرح عليك سؤالًا.”
“رغم تواضعي، سأجيب بما أستطيع.”
“لو كنتِ أرملة، أيّ ابنيَّ كنت ستختارين؟”
بعبارة أخرى، يسألني من أراه أحق بالعرش.
اكتفيتُ بابتسامتي المعتادة التي لا تفضح نواياي، عاجزة عن الجزم إن كان ما قاله مصيدة أم اختبارًا.
“أفضل الأشخاص الطيبين.”
وفي تلك اللحظة، دوّى ضجيج من جهة الزاوية التي مررت بها.
كان هناك من يحاول منع أحدهم من الدخول، ثم انطلق صوت أعرفه تمامًا.
“يا صاحب السمو، لا يمكنك الدخول! جلالة الإمبراطور وحده في الحديقة!”
“أيّ كلام هذا؟ قال لي السائق إنها جاءت إلى هنا! تنحَّ عن طريقي… أسيليا!”
يبدو أن الحارس الذي غطّ في النوم قد استيقظ لحظة وصول كاسيون، فشحب وجهه لرؤيتي، بينما أضاء وجه كاسيون بارتياح واضح.
لوّحت له بخفة، ثم التفتُّ إلى الإمبراطور.
“أليس شخصًا طيبًا بحق؟”
—
“من الآن فصاعدًا، لا تخرجي بمفردك أبدًا.
هل تدركين مدى فزعي عندما جاءت الخادمة مسرعة تقول إنك استقللتِ عربة الأمير الأول؟ ثم وصلت لأجدكِ مع الإمبراطور! ماذا كنتِ تفعلين؟!”
“لم أفعل شيئًا.
ما ذنبي إن كانت العائلة الإمبراطورية تظهر في كل مكان أذهب إليه؟”
“هل هذا معقول؟!”
“لمجرد أن الأمر غير منطقي لا يعني أنه لم يحدث.
الأمير الأول تصادف وجوده في المتجر، والحارس تصادف أن كان نائمًا حين دخلت الحديقة.”
“هاه… لكن لم يحدث شيء، صحيح؟”
“ألا يُعدّ لقائي المتتابع مع أعضاء العائلة الإمبراطورية حدثًا بحد ذاته؟”
“كفي عن المزاح، أسيليا.
تعلمين تمامًا ما أعنيه.”
رمقني كاسيون بنظرة متفحصة، وكأن مزاحي يخفي أكثر مما يُظهر.
حين وصل، توقف الإمبراطور عن التحقيق معي، ووهبني عربة تعيدني إلى قصر الدوق.
بل أمر بعزل الحارس، بابتسامة عابرة.
من ذا الذي يغفو أثناء تأدية واجبه؟
“الأمير الأول قال لي ألا أفتعل الفوضى، وأن أنتظر سقوطي.”
“ماذا؟!”
“لكن الإمبراطور قال إنه يرغب في أن أكون كنّته.”
“ماذااا؟!”
نسي كاسيون أننا داخل عربة، فحاول النهوض، لكنه سرعان ما جلس لاهثًا حين اهتزّت المركبة من حركة جسده.
“يبدو أن كليهما منزعج من زواجنا.
كلاهما قال إنه كان ينبغي أن أظل أرملة الماركيز.”
“سخافة! هل بدأ الإمبراطور يجنّ؟”
“أخفض صوتك، هذه عربة إمبراطورية.
لا أريد أن نُسجن بسبب لسانك.”
“كنت أظنه حاكمًا عقلانيًّا، باردًا نعم، لكنه حازم.
ويبدو أنني كنت مخطئًا.”
“بل هو عقلاني جدًا.
لقد أُعجب بي، بلا شك.”
استحضرت نظراته.
لم تكن حنونة كالأمير الثاني، لكنها كانت مشوبة بوميض إعجاب وخفة ظل خفيّة.
“لو كنتُ أطمع في السلطة، لما ترددت في تطليقك والزواج من ولي العهد.”
“ماذا؟! بالكاد التقيتِ بالأمير الثاني مرتين!”
“كثير من الزيجات بين النبلاء تتم دون لقاء مسبق.
ثم إن موقع زوجة ولي العهد ليس شيئًا يُستهان به.
وهو في الواقع… ليس سيئًا كزوج.”
اتسعت عينا كاسيون من الذهول.
كنت بالطبع أمزح، فالدخول إلى العائلة الإمبراطورية ليس بالأمر الهيّن، لكن وجهه المصدوم أغراني بالمزيد.
“وسيم وطيب القلب.
ألا يكفي ذلك؟”
“لا… أسيليا… أسيليا؟!”
بدأ يتلعثم.
كتمتُ ضحكتي بصعوبة، وحافظت على وجهي الجاد.
“حين تنتهي مدة عقدنا، لمَ لا تذكرني بخير أمامه؟ يبدو أن والده معجب بي أصلًا، وما عليّ سوى كسب ودّ الأمير.”
“…أأنتِ جادّة؟”
“لو أصبح وليًا للعهد، فإسهامنا سيكون له أثر.
كما أنني واثقة من شكلي، إن كنت تتساءل.”
تبعثرت نظرات كاسيون، كأنما يتخيل الأمور في رأسه.
“شوردين وأنتِ؟!”
“إن حدث ذلك، ستكون صديقي وزوجي السابق.
سأمنحك الدعم الكامل، أعدك.”
“…”
“أوه، لقد وصلنا.”
بينما كان لا يزال غارقًا في الصدمة، فتح باب العربة ونزل معي، لكن عينيه كانتا تائهتين، ومد يده في اتجاه خاطئ.
آه… لا يمكنني كتمان ذلك بعد الآن.
“هاهاها!”
وصلت إلى حدود تحمّلي.
أن أرى هذا البطل، الذي صمد في ساحات الوغى، يتعثر بسبب بعض كلماتي… لا يُقدّر بثمن.
اختفى كل التوتر الذي تسببا به الأمير والإمبراطور بلحظة واحدة.
“إنه مزاح، مزاح فقط! ألا تُبالغ قليلًا؟”
ربّتُ على كتفه، بينما أمسكت بيده التي تاهت عن وجهتها.
“هل يزعجك أن تتزوج طليقتك من صديقك؟ حقًا، لقد فقدت صوابك.
وأنا أكره التعقيدات، لا نية لي في دخول العائلة الإمبراطورية.”
“لكن… قلتِ إنه وسيم وطيب…”
“لن أعيش على جمال وجه زوجي، أليس كذلك؟ الزواج واقع، والشكل مهم نعم، لكنه ليس كل شيء.
ولو أردتُ حقًّا الزواج، فهناك معايير كثيرة، وسمو الأمير الثاني ليس من نوعي المفضل أصلًا.”
“…وهل ما قاله الإمبراطور عن رغبته فيكِ ككنّة كان من باب المزاح أيضًا؟”
“لا، ذلك كان حقيقيًا.”
ارتجفت عينا كاسيون مجددًا، ثم ربتُّ على كتفه قبل أن يغوص في خيالاته.
“ما ذنبي إن كنت ساحرة الجاذبية؟ لا أظن الإمبراطور الوحيد الذي يتمنى أن أكون كنّته.”
“هاه…”
“كفى، لندخل ونشرب الشاي.
هذه المرة أنا جادة، هناك أمر مهم أود الحديث عنه.”
بدأ كاسيون يفرك وجهه مرارًا بنفاد صبر، وهو يرمقني بريبة.
“أما يمكن أن تخبريني الآن؟”
“الأمر يستحق أن يُقال في مكان خاص.”
“…كل كلمة تخرج من فمك تُرعبني أكثر من التي سبقتها.”
آه، بحق السماء… كنت جادة فعلاً، لكن ردة فعله أضحكتني مرة أخرى.
لا بأس، سأمنحه تلميحًا.
“الأمر يتعلّق بالأمير الأول… يبدو أنه يجهل الكثير عن أصله.”
اقتربت منه فجأة، فتبدلت ملامحه كليًا في لحظة.
نعم، لقد اكتفيت من المزاح لهذا اليوم.
حان وقت الحديث عن مستقبلنا.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ37
“جهل الأمير الأول بحقيقة مولده يعني أن وقع صدمتنا سيكون مدويًا، لكنه يعني أيضًا أن الإمبراطورة وحدها ستكون الطرف الوحيد الذي سيحاول التدخل، إلى أن نحرّك نحن الأحداث.”
كنت قد أنهكني ذلك الحوار القصير المكثّف، فقررت أن أخلد للراحة بعد انتهائه.
دعوت كاسيون إلى طاولة الشاي الصغيرة في غرفتي، ثم، وبحركة اعتيادية مألوفة، احتضنت دمية “ليلي” إلى صدري وواصلت الحديث بينما أحرّك يديها الناعمتين في الهواء.
“…يبدو أنكِ أصبحتِ متعلقة بتلك الدمية.”
“هل تنصت إليّ؟”
“أجل، لكن تركيزي كان سيكون أفضل لولا الحركات البهلوانية لذلك الأرنب.”
للحظة، راودتني فكرة إبعاد الدمية، لكنني لم أستطع مقاومة ملمسها الحريري المريح.
بدل أن أستخدمها كناطقة رسمية، شددتها إلى صدري وأكملت الحديث بهدوء.
“موسم الصيد يقترب، أليس كذلك؟”
عادةً ما يسبق الصيد الإمبراطوري الخريفي الكبير، صيدٌ ترفيهي للطيور بين النبلاء.
لكنه في الحقيقة أقرب إلى نزهة موسعة قرب الغابة، تهدف لتقوية العلاقات وتوطيد الصداقات أكثر من كونه صيدًا حقيقيًا.
“دعنا نتجاهله ونعلن أننا ذاهبان في شهر عسل.”
“أسيليا.”
“نعم؟”
“لو كانت كلماتك سيوفًا، لكنتِ مبارزة لا تُضاهى.
لا تمنحين خصمك فرصة لالتقاط أنفاسه.”
ورغم تعليقه، بدا أن كاسيون بدأ يعتاد على طريقتي المباشرة، إذ لم يُبدِ الكثير من الدهشة، بل وضع فنجانه جانبًا وانحنى للأمام كمن يستعد للإصغاء باهتمام.
“أعتقد أن الوقت قد حان لنبدأ البحث بجدية عن والد لوران… أقصد، والد الأمير الأول الحقيقي.”
“لوران، هذا اسمه؟ وماذا عن كنيته؟”
“أظن أنه بلا كنية، أو على الأقل لست متأكدة.”
في الرواية الأصلية لم يُذكر سوى الاسم الأول، ولم أكلّف نفسي بالتحري عنه.
“إذًا، شهر العسل ليس إلا ذريعة، والهدف الحقيقي هو البحث عنه بأنفسنا.”
“بالضبط.
بالطبع، يجب أن يُجري فرسانك تحقيقًا مبدئيًا لتقليص دائرة المشتبه بهم، لكني أرى أنه من الأفضل أن نتولى الأمر بأنفسنا إن أردنا استمالته بسرية.”
“هل لديكِ أي معلومات أخرى عن هذا اللوران؟”
“شعره أشقر مموج، عيناه زرقاوان، ويُقال إنه أصغر سنًا من الإمبراطورة.
لديه شامة صغيرة أسفل عينه اليمنى، ويُوصف بأنه شديد الوسامة.”
بينما كنت أستعيد ملامحه من القصة الأصلية، تنهد كاسيون بنفور خفيف، وكأنه غير مرتاح لما سمع.
“بما أن الأمير الأول، كلاوس، في الخامسة والعشرين من عمره هذا العام، فالأرجح أن نتتبع أنشطة لوران في العاصمة منذ ستة أو سبعة وعشرين عامًا.
من المحتمل أنه غيّر اسمه وشكله.”
“حسنًا، سأهتم بالأمر.
لا حاجة لتدخلكِ الآن.”
“لا تقلق، لا أنوي التحرّك في الوقت القريب.”
في الواقع، لم أبدأ أي خطوة جدية من الأساس.
وبينما أحاطني شعور طفيف بالذنب لاعتمادي عليه، ضممت ليلي إلى صدري ونظرت إلى كاسيون.
بدا عليه الارتباك فجأة، ثم صرف نظره بعيدًا بصمت.
“آه، لكن قبل أن نذهب في شهر العسل، أود أن تُرتب لقاءً مع صاحب السمو الأمير الثاني.
أريد أن أناقش معه بعض الأمور و…”
“يمكنني الاهتمام بذلك.
لستِ مضطرة لرؤية شوردين.”
“لكني المصدر المباشر للمعلومات، وهناك أمور أود توضيحها له شخصيًا…”
“أمور لا يمكن أن تُقال لي؟”
ما به؟ لماذا أصبح فجأة حاد المزاج؟
لم يكن في نيّتي قول شيء خاص لشوردين، لكن بما أن خطة محاكمة الإمبراطورة وقطع سلالة الأمير الأول كانت فكرتي، أردت إيصالها له بصدق بنفسي.
غير أن نظرات كاسيون الحادة ولهجته المبهمة أربكتني، وفجأة تذكرت المزحة التي ألقيتها في العربة أثناء عودتنا.
“لا تظن…”
“…”
“لا تظن فعلًا أنني قد أواعد الأمير الثاني؟”
“…كل شيء وارد.”
“مهلًا! كاسيون، قلت لك إنها مزحة.”
كانت مجرد دعابة خفيفة، لكن لو كنت أعلم أنه سيتعامل معها بهذه الجدية، لما نطقت بها أصلًا.
“توقّف عن التصورات الغريبة فقط ورتب لي اللقاء.”
“….”
“كاسيون.”
“….”
“همف.”
كنت مذهولة من تجاهله المريب وكأنه لا يسمعني.
هو نفسه يعلم أن التحدث مع شوردين ضروري لصقل الخطة، لكنه يرفض الاعتراف بذلك.
“أختي، أختي! الأخت أسيليا!”
“…؟”
بدأتُ محاكاة تمثيلية بدمية ليلي، مواكبةً مزاج هذا الطفولي العنيد.
حركت ذراعيها الناعمتين ورفعت صوتي بنبرة طفولية. عندها فقط التفت إليّ كاسيون.
“أختي، هل تريدين أن تصبحي إمبراطورة؟ الأخت التي أعرفها تحب تناول الحلوى والتكاسل في الفراش.
ألم تعديني أن تلعبي مع ليلي إلى الأبد؟”
“هاه… ما الذي تفعلينه يا أسيليا؟”
“حسنًا، ليلي، حلم أختك أن تعيش بسلام وتأكل وتلعب.
لو أصبحت ولية للعهد، لن تجد وقتًا للعب معك.
كاسيون المتجهم يسيء الفهم فقط.”
“أسيليا، توقفي عن العبث، وإن كان لديكِ شيء، فقوليها مباشرة.”
لكن حتى وهو يعاتبني، كانت ابتسامة خفية ترتسم على شفتيه وهو يحاول كبت ضحكته من العرض الهزلي.
كان من الأفضل له أن يضحك، فمحاولة التماسك بدت أغرب.
دق دق—
“عذرًا، سمو الدوق، سيدتي.”
“تفضّل… أم، نعم.”
“…”
“ادخل.”
اللعنة.
كنت مندمجة جدًا في تمثيل دور ليلي لدرجة أنني أجبت بنفس نبرتها العالية.
في النهاية، لم يتمالك كاسيون نفسه فانفجر ضاحكًا وهو يدير وجهه ليخفيه، يهتز من شدة الضحك.
رمقته بنظرة حادة، ثم استعدت رباطة جأشي بينما دخل الخادم بيرت، وخلفه كان هناك أربعة فرسان مصطفين.
ولم أكن الوحيدة التي سمعتني… يا للفضيحة.
“ما الأمر؟”
بعيدًا عن شعوري بالإحراج، فقد كان حضور الفرسان إلى غرفتي أمرًا نادرًا ومثيرًا للريبة، مما جعل نظرات كاسيون تتقد بحدة.
أشار بيرت بصمت، فتقدم أحد الفرسان وبدأ يشرح وهو يحك رأسه:
“تمكّنا من الإمساك بشخص كان يحاول التسلل إلى قصر الدوق.
رآه البستاني وهو يحاول تسلّق السور الخلفي للحديقة.”
“ضعوه في الزنزانة السفلية.
سأنزل بعد قليل.
لا تقلق، عزيزي.”
متسلل؟! اتسعت عيناي في ذهول، لكن كاسيون وقف فجأة ولوّح بيده أمامي ليحجب رؤيتي.
رغم ذلك، وجود متطفل في المكان الذي أعيش فيه أمر يثير فضولي.
“لكن… رغم أننا احتجزناه، إلا أن الرجل يزعم أنه من أقارب زوجة الدوق.”
“ماذا؟”
قفزت من مقعدي.
إن كان من أقاربي…
“هل قال إن اسمه بارمينيون كورنيل؟ شعره أشقر قاتم ووجهه أملس؟”
“نعم، هذا هو! لكن حالته سيئة للغاية، بالكاد يمكن التعرف عليه…”
“سأنزل لأتأكد بنفسي.”
ما الذي يحدث؟ أخي غير الشقيق، المفقود منذ بداية موسم الأمطار، يتسلل بنفسه إلى القصر؟ هل جاء لينتقم أو يهددني؟
“لا، أسيليا.”
“دعني، إنه أخي.
لا بد أن أتأكد من هويته، وأفهم سبب مجيئه.”
“أتفهم مشاعرك، لكن أرجوك تماسكي، ورافقي الفرسان معي.”
أمسكني كاسيون بلطف لكنه بحزم، حين كنت على وشك الانطلاق.
لوّحت بيدي محاولةً الإفلات، لكنه جذبني بقوة محسوبة لا تؤذي لكنها لا تتيح لي الإفلات.
“لدينا شهر عسل نخطط له أيضًا، ماذا لو حدث شيء؟”
كلماته جعلت الفرسان والخادم يتبادلون نظرات محرجة ثم أشاحوا بنظرهم بعيدًا.
بالله عليكم، ليس ذلك النوع من شهر العسل.
“لم أنوِ لقاءه بمفردي.
دعني.”
لستُ حمقاء كي أواجه أخي وحدي دون معرفة نواياه بعد اقتحامه.
وهو الآن مسجون وفي حالة مزرية، فلا داعي لاحتماء خلف كاسيون أو أي أحد.
لم أشأ أن أُظهر أي ضعف أمام بارمينيون.
“…”
“قلت دعني.
لست متحمسة.”
“…أنا فقط… قلق على أختي.”
استمررت في التملّص، فأخذ كاسيون دمية ليلي التي كنت قد وضعتها على الطاولة عند سماعي خبر التسلل، وبدأ يقلدها بنبرة صوت منخفضة مضحكة.
“دوق… دوق… دوق.”
تجمدت وجوه الفرسان وبيرت كما لو شهدوا مشهدًا صادمًا.
وبصراحة، لم أكن أقل ذهولًا.
كان تمثيله بذاك الصوت المريع مروّعًا للغاية، لدرجة أنني تجمدت في مكاني، ولم ألاحظ حتى أن ذراعي باتت حرة.
“أعتقد أنه من الأفضل أن تذهبي مع زوجك الموثوق…”
“كفى.
أرجوك… فهمت، فقط توقف.”
غطيت وجهي بكفيّ، أشعر بدوار حاد وكأنني تلقيت هجومًا نفسيًا مباشرًا.
أما كاسيون، فكان يبتسم راضيًا وقد حقق غايته، فيما استغرق الأمر بضع دقائق حتى استعاد الجميع في الغرفة وعيهم قبل أن نبدأ التوجه إلى الزنزانة تحت الأرض.
كانت تلك نبرة صوت ليلي التي خشيت أن تطاردني في أحلامي.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ38
سرتُ بهدوء خلف كاسيون والفرسان الذين اصطفوا أمامي كجدار صلب، متجهين نحو السجن السفلي.
هل يمكنني القول إنني فقدت كل حماسي ودوافعي بعد ذلك “التحذير” الغريب من كاسيون؟ حين ذهب إلى ذلك الحد ليمنعني، فكيف لي ألا أستمع إليه؟
“افتحوا الباب.”
كنت أعلم أن في قصر الدوق سجنًا صغيرًا تحت الأرض، لكن هذه كانت المرة الأولى التي أراه فيها.
سرنا عبر ممر ضيق في أحد أركان الطابق الأول، ثم فُتح باب صغير ليكشف عن درج حجري يؤدي إلى الأسفل.
“من هنا، يا سموّ الدوقة.”
ولأنه ليس قصرًا إمبراطوريًا بل مجرد سجن خُصص لمعاقبة الخدم والفرسان العاملين في القصر، فلم يكن مظلمًا أو كئيبًا كما تخيلت.
ورغم أن السجن بدا صغيرًا ونظيفًا بوضوح، وكأنه لم يُستخدم يومًا، فإن الرجل القابع داخله كان أقذر من الزنزانة نفسها.
“هيه، سموّ الدوق هنا.”
من المستحيل أنه لم يسمع وقع الأقدام المتعددة القادمة نحوه، ومع ذلك ظل مكوّمًا على نفسه، هزيلًا وقذرًا لدرجة يصعب وصفها.
طنين الذباب يحوم حول شعره المتلبد بالوسخ، ولا عجب أن الفارس تردّد حين سألته إن كان أشقرًا.
“ارفع رأسك.”
“…”
أمره كاسيون، لكن الرجل بالكاد تحرك.
وحين طرق الفرسان على القضبان الحديدية بأغماد سيوفهم، بدأ الرجل يتلوّى ببطء قبل أن ينهض بتثاقل.
“…إنه بارمنيون بالفعل.”
حدّق كاسيون فيه برهة، ثم تنهد وقال بصوت يكفيني لأسمعه.
ورغم أنه سبق أن رآه، إلا أن صمته القصير كان بسبب التغير الصادم في هيئته.
لم يكن الأمر مجرد قذارة؛ لقد أصبح شخصًا آخر تمامًا.
“هاه…”
أكثر ما صدمني هو الجرح الطويل الذي ظهر من خلال خِرَقِه التي بالكاد تغطي جسده.
كان الجرح يمتد من صدره حتى أسفل بطنه، مشقوقًا بطريقة قسرية ومخاطًا بإهمال، لا يزال يفرز القيح وكأنه لم يُشفَ أبدًا.
شهقتُ لا إراديًا عند رؤيته، وبمجرد أن سمع صوت أنفاسي، رفع بارمنيون رأسه فجأة، بعد أن كان يوشك على إسداله مجددًا.
“أسيليا!”
انطلق صوته المتحشرج يتردد في السجن الضيق، ثم بدأ يزحف كالحشرة ويتشبث بالقضبان الحديدية، دافعًا رأسه بينها كما لو كان يحاول اقتلاع جلده بيديه.
“أسيليا! أسيليا! أيتها الكلبة، كنت أعلم أنك هنا!”
عينا بارمنيون، وقد جُنّتا فجأة، كانتا حمراوين كأن كل الأوعية الدموية فيهما قد انفجرت.
أتراه من الجوع؟ أم أنه تحت تأثير المخدرات؟ عيناه الجاحظتان كانتا مرعبتين.
طرق الفرسان القضبان مجددًا لإسكاته، وتحركوا ليحجبوني عنه بالكامل.
“أتيت لتنتقمي؟ هل أتيتِ من أجل أسيليا؟”
بعد أن تأكد كاسيون من أنني في مأمن، اقترب من القضبان لمواجهته.
“أسيليا–!”
لكن شقيقي غير الشقيق، وقد بلغ حد الجنون، تجاهل سؤال كاسيون وظل يصرخ باسمي وعيناه تتقلبان بجنون.
تمامًا كما كان في الماضي؛ يبدأ بالصراخ كلما لم تسر الأمور حسب هواه.
قبضتُ على قبضتي، وقد شعرت بالعار من أنني ارتعبت للحظة فقط.
“سأتحدث إليه.”
“…أسيـل!”
“لن أقترب.
سأتحدث من هنا، فرجاءً تنحَّوا قليلًا.”
حين أيقنت أننا لن نتقدم بهذا الشكل، قررت التدخل.
وبمجرد أن أدرك وجودي، بدأ بارمنيون يلوّح بذراعيه بجنون ويقهقه كالمخبول.
حاول كاسيون منعي من التقدم، لكنه سرعان ما أدرك أنني لم أخطُ خطوة واحدة أصلًا.
“هل ثمة حاجة للاقتراب من كائن بهذا القذر؟”
“ولا حاجة للحديث معه أصلًا.”
“يبدو أن هذا الأحمق لا ينوي الحديث إلا معي، فلا خيار أمامنا.”
ضرب كاسيون يد بارمنيون النحيلة التي كانت تخرج من بين القضبان ليبعدها، غير أن عزيمتي لم تتزحزح.
“بارمنيون.”
“أيتها الحقيرة… يا عديمة الأدب.
كيف تجرئين على مناداة شقيقك باسمه هكذا؟
لا بد أنك جُننتِ أنتِ والدوق معًا!”
“المجنون الحقيقي هو أنت.”
وحين تنحّى الفرسان قليلًا، رأيت الكدمات الدائرية على ذراعيه الهزيلتين، ولثته الغائرة بطريقة مريبة.
لقد بلغ الحضيض حقًا.
“لماذا أتيت؟ لا، كيف زحفت إلى هنا أصلًا؟”
“ههه… ههههه.”
“هل جئت لقتلي؟ وأنت في هذه الحالة؟”
“نعم، سأقتلك.
أيتها الشيطانة!
ما كان علينا أن نقبل بوجود نجسة مثلك بيننا!”
“وهل قبلتم بي يومًا؟ كان من الأفضل أن تلقوا بي في دار أيتام منذ البداية.”
زمجرتُ بأسناني متذكرة طفولتي.
ما الفرق بين هذا السجن النظيف والغرفة التي نشأتُ فيها؟ بل ربما هذا أفضل، فلا غبار فيه.
لم يعترفوا بي يومًا.
حتى بلغت التاسعة عشرة، لم أخرج من غرفتي، ولم أشارك قط في أي حفل تعريف اجتماعي.
“لو لم أكن جميلة، لما أطعمتموني حتى.”
كان بقائي على قيد الحياة محصورًا في فائدتي كأداة لهم.
من القيام بالأعمال بدلًا من الخادمات، إلى كوني سلعة يمكنهم بيعها حين أكبر.
“الوجه… أجل، صرتِ متغطرسة بسبب وجهك. أسيليا، يا قذرة.”
“أيها الوغد…!”
عندما انطلق يضحك ساخرًا ويهزأ بي، ثار كاسيون والفرسان غضبًا، وسحبوا سيوفهم كأنهم على وشك اقتحام الزنزانة، لكني أوقفتهم بإشارة واحدة من يدي.
لم أتأثر كثيرًا، لكن رؤيتهم قلقين ومتوترين لأجلي جعلتني أشعر ببعض الحرج.
“كان يجب أن أشوّه ذلك الوجه أولًا أثناء تدريبات السيف.
هههه.”
“تدريبات؟ أتقصد حركاتك العشوائية تلك التي تشبه طيرانه خرقاء؟ أيها الفاشل الذي لم يجتز حتى امتحان دخول الأكاديمية.”
ضحكت باحتقار، فاحمر وجه بارمنيون المليء بالسخرية على الفور.
أوه؟ يبدو أن شيئًا من كرامته لا يزال حيًا.
“سأقتلك! سأقتلك، أيتها الشيطانة!”
“لو كان لديك هذه الطاقة، كان أولى بك أن تحضر جنازة والديك بدلًا من التسلل كالجرذان الآن.”
توقف بارمنيون فجأة عن الصراخ.
ومن عينيه الجاحظتين، عرفت أنه لم يكن يعلم بأمر وفاة والديه.
“…ماذا؟ ماذا قلتِ؟”
“…”
“أنتِ كاذبة، شريرة!
تقولين إن والديّ بصحة جيدة قد ماتوا؟
لا… لا أصدقك.
قالوا إنهم سيأتون ليأخذوني ومعهم المال…”
اتسعت حدقتا عينيه ثم زحف نحو الجدار، وأخذ يعض أظافره ويتمتم بكلام غير مفهوم.
لم يكن في وعيه.
أغمضت عيني للحظة ثم فتحتهما بينما أستدير مبتعدة.
“ابحثوا عن وكر القمار الذي كان فيه أخي.”
من كلامه ومنظره، بدا أنه قُبض عليه أثناء فراره.
أو ربما أن والدَيه، وقد سئما حياة الهروب، استغلا بارمنيون كطُعم وهربا، فلاقيا حتفهما.
وإن كانت حانة قمار رخيصة، فمن المؤكد أنهم لم يصدقوا أنه نبيل، وتعاملوا معه بقسوة.
ربما لا توجد شبكات لتجارة الأعضاء كما في حياتي السابقة، لكن يوجد من يشوّه الأجساد لمنع الهرب ويجبر الناس على العمل.
“…أسيليا.”
“يكفي.
سأعود الآن.”
ما سيحدث بعد ذلك واضح.
حتى لو نجا، فلن يبقى له في حالته شبه المجنونة سوى الكراهية نحوي.
وحين أدركتُ أنه لا جدوى من البقاء، استدرت، فلحقني كاسيون وقد بدا وجهه شاحبًا.
“أسيليا، هل أنتِ بخير؟”
“وما الذي قد يجعلني لست بخير؟”
“…ربما كنت متهورًا حين اقترحت الحل وقتها.”
“لا، كان ذلك هو الخيار الأفضل في حينه، وأنا من قبلت به في النهاية.
بارمنيون وصل إلى هذه الحالة بسببي، وعائلتي تهدّمت بسببي.”
“بسبَـبك؟ أنت لم تفعلي شيئًا خاطئًا.”
“بل فعلت.
وكل ما جرى كان خطئي.
ومع ذلك… لا أشعر بالندم.”
صحيح أنني صُدمت، لكن، أي نهاية سعيدة كنت أنتظرها حين أجبرت عائلتي على الهرب في الظلام؟
ربما كنت أبحث عن الاستقرار بإزاحتهم من أمامي، لكنني كنت أعلم أن النهاية ستكون قبيحة هكذا.
وحين خرجت من السجن السفلي المظلم، رمشت عدة مرات في الممر المضئ، أحاول محو صورة أخي نصف المجنون، والندبة الطويلة التي تشق بطنه.
“لو أعطيتهم المال، لطالبوا بالمزيد، ولو سامحتهم، لاستمروا في إذلالي.
حتى الآن، ما زالوا يلعنونني.
لقد كان الخيار الأفضل.”
من نجاتي في ليلتي الأولى مع الماركيز، إلى لقائي بكاسيون وجينين، إلى مواجهة موت والديّ…
أنا أعلم أن التغييرات التي أحدثتها لن تمر بهدوء، لذا سأتقبل عواقبها دون أن أتهرب.
“عالِجوه.
لا تُبقوه في هذا السجن، انقلوه إلى مكان آخر واعتنوا به حتى يتعافى جسده، ثم…”
نظرت إلى كاسيون، الذي كانت عيناه لا تحملان سوى القلق عليّ.
وكل ما تمنّيته حينها، ألا تجعله أفعالي، الآن أو لاحقًا، يشعر بالقرف مني.
“أعيدوه إلى وكر القمار.
إن كان عليه ديون، فليدفعها بنفسه.
وإن أطلقنا سراحه في الشوارع، من يدري ما الشائعات التي قد يثيرها؟”
ورغم قسوة كلماتي، لم يبتعد كاسيون بعينيه الدافئتين.
أطبقت شفتيّ، أشعر أنني وحش، لأنني أقلقت بشأن رأي الآخرين فيّ أكثر من إحساسي بالذنب على ما فعلته بأخي غير الشقيق.
“سأنفذ ما أردتِ، أسيليا.
لا تعبئي بهذيان مجنون، انسِ ما قاله.”
“…لا يشغلني أمره.”
“جيد.
اذهبي إلى ليلي، لا بد أنها تنتظر.”
ضحكتُ بهدوء، وما إن رأى ذلك كاسيون حتى انفرجت ملامحه.
وإن لم أذهب الآن، سيعيد ذلك العرض الغريب بصوته المخيف.
“ولا تفكر في تكرار تلك الحيلة مجددًا، إنها مرعبة.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ39
كنت أظن أنني تجاوزت كل شيء… لكن يبدو أن أحداث الأيام الماضية كانت تنهش أعماقي بصمت، أكثر مما تخيلت.
“ربما لو ضربت رأسي بشيء ما، سأستفيق من هذا.”
وبينما كانت كلمات والديّ وأخي القاسية تنهمر عليّ كالسياط، أدركت فجأة أنني في حلم.
لقد بدوا كما كانوا قبل زواجي من كاسيون… طبيعيين تمامًا، بلا قناع ولا قسوة.
“أيتها الجاحدة، كيف تجرؤين على التخلي عن والديك؟ لو منحتِنا المال بعد زواجك الثاني، لكنا انسحبنا بهدوء.”
“آه… إذًا كنت أُضمر مثل هذه الأفكار؟”
“لقد قتلتِنا! دمّرتِ أخاك!”
“غريب… لا أذكر أنني شعرت بهذا القدر من الذنب من قبل.”
كان والديّ قد سعوا لتزويجي مرة أخرى بعد أقل من أسبوع على إرسالي إلى الماركيز.
أشخاص مثلهم، ممن لا يترددون لحظة في استخدامي كورقة مساومة، لم يكونوا ليتراجعوا عن طمعهم مقابل بعض المال فقط.
استيقظ داخلي شعور بالغثيان.
قيل إن الأحلام تعكس ما نخفيه في أعماقنا… فهل يعقل أنني، في مكان ما داخلي، صدّقت هذه الأكاذيب؟ هل أنا ضعيفة وساذجة إلى هذا الحد؟
“أريد أن أستيقظ من هذا الكابوس المقيت.”
“أيتها الشيطانة! ستستعيدين كل ما سرقتِه، وستدفعين ثمن ذنوبك واحدًا تلو الآخر!”
بينما كنت أبحث بعيني عن شيء أضرب به رأسي، تغيّرت ملامح بارمنيون فجأة إلى صورته المقيتة التي رأيتها قبل أيام، ثم دفعني بعنف.
وبما أنني كنت قد أدرت ظهري بلا انتباه، فقد سقطت بعنف على أرض بيضاء ناصعة.
“هاه…؟”
هل يُعقل أن يشعر المرء بالألم في الحلم؟ لم يكن هناك ألم حقيقي، لكن شعور الدفع والسقوط كان حادًا واقعيًا بشكل ساخر.
“وإذا كان العنف ممكنًا في الحلم… فلمَ لا أستخدمه أنا أيضًا؟”
نفختُ على خصلات شعري المتناثرة على وجهي، ونهضت، ثم استدرت… فاختفت عائلتي، وظهرت بدلًا منهم جينين.
على عكس ظهورهم المفاجئ، ترددتُ لحظة حين رأيتها.
رفعت إصبعها نحوي وقالت:
“منافقة.”
“…آه، هذا الحلم يزداد سوءًا.”
“هل تظنين أن رميك للمال عليّ بابتسامة زائفة يعوّض سرقتك مكاني؟ أنتِ كاذبة منافقة!”
“لم يخطر لي هذا أبدًا!”
“مكاني هو بجانبه… لا مكان لكِ!”
“زواجنا كان صوريًا، مجرد عقد للبقاء… لماذا أعاني من هذا الكابوس؟! أنتِ لستِ حتى جينين الحقيقية! اختفي!”
صرخت بأعلى صوتي وأنا أندفع نحوها، ثم توقفت فجأة حين أدركت أنني انزلقت وسط الحلم دون مقاومة منذ ظهورها.
تراجعت خطوتين، وحاولت تهدئة تنفسي.
“تظنين نفسك مميزة لمجرد ذكريات مشوشة من حياة سابقة؟ أنا البطلة الحقيقية!”
“أنا بطلة حياتي الخاصة، ولن أسمح لكِ بتقليلي إلى هذا الحد.
توقفي عن هذا العبث.”
“بطلة؟ هاهاها!”
ضحكت جينين بوجه غريب لم أره من قبل، ومع ضحكتها، بدأ البياض المحيط بي يتلطخ بالأحمر القاني.
“إذًا ستكون نهاية قصتك أكثر بؤسًا من بدايتها!”
“…القصة كانت تعيسة أصلًا.
وما الخطأ في إعادة كتابة رواية يموت أبطالها؟”
“أنا؟ كاسيون؟ هل تظنين أنك قادرة على تغيير موته؟”
“نعم! أستطيع! بل أنا أفعل ذلك الآن…”
“أنتِ؟ أنتِ؟ أنتِ؟!”
اقترب وجه جينين من وجهي، لكنه لم يعد وجهها.
بل صار تارة وجه بارمنيون، ثم كاسيون، ثم وجوه متلاحقة تتغير بسرعة… جميعهم يضحكون ساخرين، ودموع دامية تنهمر من عيونهم.
“لم أفكر بهذه الطريقة يومًا! سأنهي هذا الحلم بنفسي!”
ومع عدم وجود شيء أضرب به رأسي، طرقت الأرض بجبهتي مباشرة.
لم يفلح، فكررت ذلك مرارًا.
“أهاهاها! أنتِ؟! أنتِ؟!”
لم أشعر بالألم، فازداد عنفي، حتى بدأت الدماء تسيل من رأسي. ا
رتجفت، وانكمشت على نفسي، أرتعد من ضحكات ذلك الكائن المتشفّي.
“لا تلمسوا أختي!”
وفجأة، شعرت بلمسة دافئة امتدت حتى أطراف أصابعي، بينما كنت مكوّرة على الأرض.
“…ليلي؟”
“قلت إنها أختي! ابتعدوا عنها!”
ليلي، دمية الأرنب الصغيرة، تقدّمت بخطوات متعثرة، ثم قفزت فجأة وصدمت الوحش كما لو أنها نابض مفاجئ.
العالم الأحمر عاد ناصع البياض.
“لا تقترب منها!”
والأغرب من ذلك…
أن صوت ليلي كان صوت كاسيون نفسه.
كل شيء حولي بدأ بالدوران، والوحش الذي لم يكفّ عن الضحك سقط تحت ضربة الأرنب، وأخيرًا، استيقظت من الكابوس.
“…أي نوع من الأحلام كان هذا؟”
لقد كان كابوسًا حقيقيًا، بدليل أنني تقلبت كثيرًا أثناء نومي، ركلت الغطاء، وأسقطت ما كان على المنضدة، بما في ذلك ليلي، التي كانت ملقاة بجانبي وقد فتحت عينيها المستديرتين ببراءة.
استدرت وأنا مستلقية وحدّقت في دميتي.
“…هل لأن كاسيون هو من اشتراكِ، اكتسبتِ صوته؟ تنادينني ‘أختي’، لكن بصوت رجل؟”
شعرت للحظة أنها ستنطق الآن “أختي!” بصوت عميق، تمامًا كما في الحلم.
“هذا… مخيف.”
لكن، على عكس كلماتي، ضممت دمية الأرنب إلى صدري بشدّة.
كانت لا تزال دافئة وناعمة.
طرق، طرق—
“أسيل؟ أما زلت نائمة؟”
كنت على وشك أن أعود للنوم وأنا أحتضن ليلي، لكن صوت كاسيون جعلني أرتجف وأضع يدي على صدري.
“يا إلهي… ظننت أن ليلي هي من تحدثت.”
لقد كان الحلم واقعيًا بدرجة مرعبة.
حينها فقط استعدت إدراكي ونظرت حول الغرفة.
لابد أن بيا، التي تعتني بي كل صباح، رأتني نائمة بعمق، فحضّرت ملابسي وماء الغسيل ثم خرجت بهدوء.
قفزت من السرير وسحبت الستائر، لأرى الشمس في كبد السماء.
لم يحدث أن نمت حتى هذا الوقت من قبل، لذا لم يكن مفاجئًا أن يأتي كاسيون، الذي يشاركني الإفطار دومًا، ليتفقدني.
“أنا مستيقظة! انتظر لحظة!”
أسرعت إلى غسل وجهي، واكتفيت بإزالة آثار النوم عن عينيّ، ثم توجهت إلى الباب.
كان شعري في حالة فوضى بسبب تقلباتي، لكن لا بأس.
فتح الباب—
“لماذا نمتِ حتى هذا الوقت؟…”
كان كاسيون يستند إلى الباب، لكنه توقّف فجأة حين رآني.
“ما خطب وجهك؟”
“وجهي؟ ماذا به؟”
“من ينام حتى هذا الوقت لا يفترض أن تبدو عيناه غارقتين بهذا الشكل.”
انحنى واقترب حتى التصقت وجوهنا تقريبًا.
يا لهذا القرب!
“كان حلمًا مزعجًا فقط.”
“كابوس؟”
لم أرد فورًا، لكن تعبيراته القلقة دلّت على أنه قرأني جيدًا.
“لا يمكن تسميته كابوسًا تمامًا… ظهرت ليلي في نهايته وهزمت الوحش.
يقولون إن الدمى الموجودة على السرير تحمي من الأحلام السيئة، ويبدو أن هذا صحيح.
عليك أن تشتري واحدة أيضًا.”
لحسن الحظ، لم يسألني عن تفاصيل الحلم.
دعوته إلى الجلوس على الأريكة بينما أكملت غسل وجهي.
“إن كنتِ متعبة، فلمَ لا تعودين للنوم؟”
“ههه، لقد غسلت وجهي بالفعل.”
وأنا أمسح وجهي بمنشفة ناعمة، لاحظت أنه يحدق في الغطاء الملقى على الأرض.
“من غير اللائق التحديق في سرير فتاة.”
“وأي فتاة تسمح لرجل بدخول غرفتها وهي في ثياب النوم؟”
“طالما أنني لا أبدّل ملابسي، فلا بأس.”
“…لكن فقط لأكون واضحة، إن بدأت بتبديل ملابسي، فعليك أن تخرج فورًا، لا تفاجأ.”
ضحكت، فألقى عليّ نظرة دافئة بدت وكأنها تقول: “اطمئني، أنا هنا.” رغم المزاح، شعرت أنه يحاول تهدئتي بطريقته الخاصة.
“ألستِ مرهقة؟”
“جسدي متيبّس قليلًا، لكنه لا بأس به.
هل هناك أمر ما؟”
“لا، فقط… فكرت أن علينا الخروج كزوجين لبعض الوقت.
لم نخرج منذ الحفل، ويجب أن نناقش بعض الأمور، كما أن البقاء في المنزل طيلة الوقت ليس جيدًا.”
“موعد؟”
“ربما نأكل بعض الحلوى وننفق بعض المال… إلا إذا كنتِ مرهقة.”
“بل فكرة ممتازة! سنشتري لك دمية أيضًا! آه، ويجب أن نشتري ملابس عادية من أجل رحلة شهر العسل!”
لا شيء ينعش القلب مثل القليل من التبذير! وما إن قفزت بحماس، حتى ابتسم كاسيون ونهض.
“سأنادي على خادمتك.
استعدّي وانزلي.”
“حسنًا! سأكون جاهزة حالًا!”
الكابوس الذي ظننت أنه سيُفسد يومي كله… تلاشى كما لو أنه لم يكن.
وبابتسامة مشرقة، بدأت أختار ملابسي قبل حتى أن تصل بيا.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ40
“من الأفضل أن نختار خاتمًا متناسقًا.
ألم تكوني دائمًا من يوصي بالاهتمام بالمظهر؟”
“ما لم يكن خاتمًا معدًّا لتحطيم الجماجم، فلا حاجة لنا به.
دعينا نُفضّل شراء المزيد من الطعام.”
“يمكننا اقتناء الاثنين، الخاتم والطعام.
ما الذي جرى لك؟ هذا ليس من طباعك.”
“ليست المسألة في الخاتم بذاته… بل في كونه خاتم زواج.
لا بأس لديّ بالخواتم الزخرفية فحسب.”
على غير العادة، حين كنّا نسارع إلى الشراء فور الوصول، بدا الصائغ هذه المرة أكثر تريثًا، تاركًا لنا المساحة نتجادل داخل المتجر، آخذين زاوية منه بعيدًا عن الأنظار.
لم نُعر الشاي الذي قُدّم لنا أي اهتمام، واندلع بيننا نقاش محتدم، هو الأول من نوعه في أمور التسوّق.
“اعتبره إكسسوارًا إضافيًا، لا أكثر.”
“كيف لخاتم زواج أن يكون مجرّد زينة؟ أنظري، حتى هنا في المتجر، خُصصت له رفوف منفصلة.”
بصراحة، لو كان هذا الحديث قد دار في الأيام الأولى من زواجنا التعاقدي، لشاركت كاسيون الرأي.
فالزواج الزائف كان يتطلب رمزية معينة، وخواتم الزواج كانت وسيلة ضرورية لحفظ المظاهر وتجنّب الريبة.
صحيح أن بعض سيدات الطبقة الراقية بدأن مؤخرًا بخلع خواتم زواجهن واستبدالها بقطعٍ أخرى، لكن البقاء على ارتداء الخاتم يُظهر علاقات متينة أكثر.
“أنا أقول هذا بدافع حرصي عليك.”
لكن الآن، وقد تخطّت علاقتنا حدود الاتفاق الورقي، لم يعد بوسعي تجاهل احتمال أن يُرزق كاسيون بشريكة حقيقية في المستقبل.
ومهما تظاهرنا قائلين “كل هذا تمثيل!”، فإن ارتداء خاتم زواج أمام الجميع يظل أمرًا محرجًا، بل مثيرًا للحفيظة.
لو كنت في مكان تلك الزوجة، لشعرت بالاستياء.
“إن كنت تفكر لأجلي فعلًا، فاشترِ الخاتم.
أود أن نرتدي خاتمين متشابهين.”
“حبّك للماديات بلغ عنان السماء مؤخرًا.”
“لا تتهرّب من النقطة الجوهرية.
لطالما كنت مادية، وأنت لا تختلف عني.
ما الخطأ في ذلك؟”
“أنا لا أستنكر ذلك… كل ما في الأمر أنني أفعل هذا لمصلحتك! فأنا امرأة أيضًا، على كل حال!”
“…امرأة؟ وما الجديد في ذلك؟ من لا يعرف أنكِ امرأة؟”
“حتى لو كان زفافنا فوضويًّا، فلا تزال لديّ أحلام رومانسية حول خواتم الأزواج والزفاف.
وكثير من النساء يشعرن بالمثل. ما تفعله إهانة لزوجتك الحقيقية في المستقبل.”
وكلما رفضتُ، زاد إصراره على عرض تصميم تلو الآخر، حتى اضطررت إلى قول الحقيقة مباشرة.
فتبدّلت ملامح كاسيون وتلبّد وجهه.
أما الموظف الذي اقترب ليسأل إن كنا قد قررنا، فقرأ تعبيره العابس وتراجع بحذر.
يمتلك غريزة حادة حقًا.
“آه، هذه ماسة عالية الجودة!”
“؟!”
لكن بينما كنت أراقب الموظف المقبل نحونا، غفلت عن الآخرين الذين اقتربوا من الخلف.
“يا لها من مصادفة سعيدة، يا صاحب السمو.”
“لقد مضى وقت طويل.
تشرفت برؤيتك، سيدتي البارونة.”
بعكس الموظف الحذر، تحدّث القادمان الجديدان بنبرة لا تعي أجواء التوتر.
كانا البارون ماير وزوجته، اللذين حضرا حفل استقبالنا.
“وغغغ…”
“بالفعل، هذه أول مرة نلتقي فيها منذ الحفل! سمعنا أنك شاركت في المأدبة الإمبراطورية، لكن لم يسعفنا الحظ لرؤيتك…”
وما إن همّ كاسيون، وهو في مزاجٍ عكر، أن يسألهم بحدّة عن هويتهم، حتى بادرت إلى ضربه بكوعي لأوقفه، ثم تقدّمت بابتسامة لبقة.
“يبدو أننا غارقون في الحيرة.
كل هذه المجوهرات المتلألئة تخطف الأنظار، ومن الصعب الاختيار بينها.”
أشرق وجه البارونة حين رددت تحيتها، وسرعان ما انخرطت في حديث ودي.
فرصة مثالية للهروب من خلافنا المستعر.
“آه، النساء… بالنسبة لنا نحن الرجال، كل هذه القطع تبدو متشابهة.
ومع أنها متوافرة في المنزل، يشترين المزيد، وتكاليفها ليست بسيطة.”
“يا للعجب! كيف يمكن أن تقول إنها متشابهة! الألوان والأحجام والتصميمات تختلف كليًّا!”
وحين بدأت أتكيف مع البارونة، بدا أن البارون أراد أن يجذب كاسيون لحديث مماثل، غير أن الأخير لم يكن في حال تسمح بذلك…
“بل على العكس.
زوجتي ترفض كلما حاولت شراء شيء لها، وهذه مشكلتي.”
“؟!”
رمقهم كاسيون بنظرات مدروسة، ثم نظر إليّ كأنه وجد مدخلًا لما يريد، فانقض عليه فورًا.
بالطبع، كان مدخلًا مغايرًا لما أريده تمامًا.
تطلعت إليه مدهوشةً وفمي مفتوح، فأطبق شفتيّ بلطف كما اعتدتُ أن أفعل له، ووهبني ابتسامة دافئة وعاطفية.
منذ متى بات تمثيله متقنًا إلى هذا الحد؟!
“أي جوهرة يمكنها منافسة بريق عينيّ زوجتي؟ وحتى إن لم يكن هناك ما يضاهيهما، لا بد أن أهديها شيئًا، لكنها ترفض دائمًا، لذا بقينا عالقين هنا.”
“آه يا إلهي…”
شهقت البارونة وهي تضرب كتف زوجها بمروحتها، بينما عبس البارون كمن خسر حليفًا فجأة.
“أنا أتفق مع البارون.
المجوهرات متشابهة ظاهريًا، لكنها باهظة الثمن! ولدينا فقط عشرة أصابع!”
“بالضبط! سيدتي، أخيرًا من يفهمني! يقول الناس إن الشائعات كاذبة، لكنكِ امرأة نبيلة القلب فعلًا!”
“…وما الشائعات التي تتحدث عنها بشأن زوجتي؟”
“…”
ولمّا زلّ لسانه، انخفضت حرارة الجو فجأة.
تجمّد كاسيون وتحوّل من الزوج العاشق إلى رجل بارد، فصمت البارون بدوره.
منذ متى كانت الشائعات عني حسنة؟ لقد وصفوني بالمغرية، اتهموني بهجر عائلتي، وقالوا إنني ابنة نبيل مُفلس استغلّت ثروة بطل ثري لتبددها.
“ما رأيكم أن نغادر هذا الجوّ ونشرب شيئًا؟”
“ن-نعم! هناك مكان ممتاز أعرفه!”
رأيت البارونة تسارع بإنقاذ زوجها من ورطته، مدعية الضحك وهي تدوس على قدمه بكعبها وكأن شيئًا لم يحدث.
“هيا بنا، كاسيون.”
“…”
وهكذا، غادرنا متجر المجوهرات أخيرًا.
ارتسمت على شفتيّ ابتسامة المنتصر، وإن كانت نظرات كاسيون المتّقدة تعني أننا سنعود إلى هنا لا محالة.
—
“يقال إن شعبيّة سمو الأمير الثاني بلغت ذروتها مؤخرًا. لطالما اتّسم باللطف، لكن مساهمته الجريئة في مشروع السد إلى جانبكم عززت شعبيته في أوساط العامة.”
“همم.”
المقهى الذي قصدناه لم يرقَ إلى ذائقتنا المعتادة.
كان مزدحمًا، وحلوَياته أشبه بما يُغرق بالسكر لا النكهة.
حتى كاسيون، الذي نادرًا ما يرفض الحلوى، تناول لقمتين ثم دفع الطبق بعيدًا.
بينما كان البارون وزوجته يواصلان حديثهما الحماسي بانشراح.
“إنه لأمر مخزٍ أن تنتشر شائعات مغرضة حول سموه! إنه رجل منصف لا يُقيّم الناس إلا بكفاءتهم، بغض النظر عن طبقتهم.”
“صحيح تمامًا.”
“لا شك أن فصيل الأمير الأول وراء تلك المهاترات! لقد أرعبهم صعود سموه.
ومنذ وفاة الإمبراطورة الثانية، لم يبقَ من يُسكتهم… ما رأيكم، سموّكم؟”
“من ينشر السخافات، ينبغي أن يُلجم فور ظهوره.”
بالطبع، نحن نخطط لمغادرة العاصمة بحثًا عن لوران، لكن لا يمكننا الكشف عن ذلك.
البارون، الذي خُيّل إليه أننا في صف الأمير الثاني، تجمّد قليلًا من برود كاسيون، ثم ابتسم بفخر.
“كما توقعت، يا صاحب السمو.
بوجودكم إلى جانبه، لا بد أن اعتلاء الأمير للعرش بات وشيكًا.”
“اخفض صوتك.”
الحديث عن السياسة علنًا في مكان مزدحم ليس بالحكمة.
مدح الماضي وتخطيط المستقبل يجب أن يكون في موضعه الصحيح.
ثم رشَف كاسيون من الشاي المرّ، متخليًا عن الحلوى، مما دفع البارون لتغيير الحديث فورًا.
“بالمناسبة، موسم الصيد على الأبواب.
هل تعتزم سموّكم المشاركة؟ الفوز مضمون لكم.”
“أوه، هذا الرجل لا يصطاد حتى عصفورًا واحدًا لي كل عام.
توقعي سيكون مختلفًا هذه المرة، يا دوقة.”
“صيد الطيور ترف بسيط، لذلك أتنازل عن الغنائم عن قصد!”
“ومع ذلك، لم تصطد أرنبًا واحدًا في الصيد الإمبراطوري الخريفي.”
نظرت البارونة إلى زوجها باستخفاف، ثم إليّ بإعجاب شديد.
لقد انتقلت إلى جانبي بلا تردد.
“يبدو أن زوجكِ يقدّر أرواح الكائنات.
أما زوجي، فلن يشارك هذا العام.”
“حقًا؟ هل هناك سبب خاص؟”
“كما تعلمين، أُقيم زفافنا على عجل، لذا نخطط لرحلة شهر عسل مؤجّلة.”
“يا إلهي! شهر عسل!”
حدّقت البارونة فينا بدهشة مفعمة بالحسد، بينما تهرّب البارون بالسعال والنظر بعيدًا.
“أقمنا زفافنا قبل اندلاع الحرب، ولم نغادر العاصمة إلا ليومين.
بالكاد يُعد شهر عسل.”
“أهم…
لكنني اشتريت لكِ المجوهرات بدلًا من ذلك، عزيزتي.”
“الهدايا لا تغني عن التجربة ذاتها.
لا بد أنكما تخططان لرحلة خاصة.
هل يمكنني أن أعرف الوجهة؟”
حسنًا…
إنهما يثرثران كثيرًا، لذا سيكون من المفيد أن ينشرا هذه الشائعة.
لا بد أن نُخفي مغادرتنا الحقيقية للعاصمة.
اقتربت من كاسيون وأسندت رأسي على كتفه، فضمّني بذراعه برفق.
“نرغب في السفر بحرية، نتبع خطانا إلى حيث تأخذنا، ونزور كل ما اشتهينا رؤيته.”
“يا لها من رومانسية!
لكن، ألن تكون الرحلة مزعجة دون خدم أو حراسة؟”
“نفكر أن نخوضها معًا… وحدنا.”
“وحدكما؟”
بدت الحيرة على البارون وزوجته.
فالنبلاء لا يسافرون دون حاشية إلا نادرًا.
لكن هنا، يبرز نفع سمعة كاسيون كمحارب فذ.
“لن أترك زوجتي من نظري لحظة واحدة، فلا حاجة للمرافقة.”
وما إن قال ذلك بابتسامة واثقة، حتى أرسلت البارونة نظرة حادة جديدة إلى زوجها.
ذلك المنزل حتمًا سيشهد معركة طاحنة الليلة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 10 - من الفصل الحادي والتسعين إلى المائة «النهاية». 2025-08-14
- 9 - من الفصل الحادي والثمانين إلى التسعين. 2025-08-14
- 8 - من الفصل الحادي والسبعين إلى الثمانين. 2025-08-14
- 7 - من الفصل الحادي والستين إلى السبعين. 2025-08-14
- 6 - من الفصل الحادي والخمسين إلى الستين. 2025-08-14
- 5 - من الفصل الحادي والأربعين إلى الخمسين. 2025-07-23
- 4 - الفصل الحادي والثلاثين إلى الأربعين. 2025-07-23
- 3 - من الفصل الحادي والعشرين إلى الثلاثين. 2025-07-23
- 2 - من الفصل الحادي عشر إلى العشرين. 2025-07-23
- 1 - من الفصل الأول إلى العاشر. 2025-07-23
التعليقات لهذا الفصل " 4"