“هل أُحضِر لكِ بعض الشاي، آنستي؟”
“أفضل شيئًا باردًا.”
حين وصلتُ إلى مقر إقامة الدوق حاملةً رسالتي، استقبلني كبير الخدم حافي القدمين – أو بالأحرى، مرتديًا جوارب فقط – ما دلّ على استعجاله في استقبالي دون أن يمنحه الوقت لانتعال حذائه.
قادني إلى غرفة الاستقبال، حيث عرض عليّ الشاي.
قال بهدوء: “سوف يصل الدوق بعد قليل، أرجو أن تتكرمي بالانتظار.”
“شكرًا لك.”
يبدو أن عدد الخدم هنا ضئيل، كما هو الحال في منزلنا.
غير أن الفرق بيننا واضح: في بيتنا، مردّ ذلك إلى الفقر، أما هنا، فلا بد من وجود سبب آخر.
وبما أنني طلبت شرابًا باردًا في وقتٍ لم يكن الطقس فيه حارًا بعد، ناولني كبير الخدم بطانية ناعمة وضعتها على ركبتيّ.
لم يغب عني وُدّه الملموس في نظرته.
أن تُقابل بالقبول خير من أن تواجه بالجفاء… لكن، أليس هذا الترحيب المفرط سهلًا أكثر مما ينبغي؟
“هل السبب هو وجهي؟”
صعبٌ أن تُبغض فتاةٌ بهذا الوجه، لكن لا شك أن هناك ما هو أعمق من الملامح الجميلة لتكون صاحبة الهيبة في بيت دوقي ناشئ.
كنت غارقةً في التفكير وأنا أتابع خروج كبير الخدم، أُعدّ كلماتي بعناية قبل ظهور الدوق.
ارتشفت جرعة سخية من الشاي البارد، وبدأت أُحصي في ذهني مطالبي، بندًا تلو الآخر.
“لم أشاهد سيدة نبيلة تشرب الشاي بهذه الطريقة من قبل.”
“وأنت آخر من يحق له التعليق.”
كان واقفًا عند الباب، يرمقني.
لا أعلم متى دخل، لكن حضوره لم يُعلَن.
جسده الطويل اتخذ هيئة متراخية لا تليق بنبلاء، فوضعت فنجاني بصوت مسموع ونهضت، إذ السيطرة منذ البداية أمرٌ حاسم في أي مفاوضة.
قلت بسخرية: “لو أنك أظهرت هذه الكفاءة يوم هجوم الماركيز…”
صمته لم يكن عجزًا بل تحوّلًا.
تلاشت ملامح اللامبالاة عن وجهه، وأغلق الباب خلفه وتقدم نحوي بخطوات رصينة.
ربما كانت تلك التصرفات المرتبكة جزءًا من “تخفيض مؤقت” في الشخصية بقرار من المؤلفة لأجل الحبكة؟ وإلا، فكيف لرجلٍ يتهاون بذلك الشكل أثناء الهجوم، أن يتسلل إليّ الآن دون أن أشعر؟
“إذًا، أنتِ تعلمين.”
“تلك العينان الحمراوان لا تُنسى.”
“عينيّ جميلتان، لا شك في ذلك.”
اقترب أكثر.
عيناك الدمويتان، اللتان يخشاهما الآخرون، بدتا لي كجواهر ياقوت، وإن رفضت أن أُقرّ بذلك.
رفعت ذقني بتعجرف، ونفخت بأنفي، مشيحةً ببصري عنه.
“الهجمات الغادرة لا تليق بي.
أفضل مواجهة الأعداء وجهًا لوجه.”
تقدّم نحوي كأنني خصم له، لكنني أعلم – كما يعلم هو – أن ما بيننا لعبة هيمنة لا أكثر.
لا نية له في إيذائي.
لكن… ألم تُوصَف شخصيته في الرواية بأنها “لطيفة” و”أشبه بالجراء”؟ لما يبدو أمامي الآن وكأنه معتوه؟ هل السبب أنني لست البطلة الأصلية؟
هل كان عليّ إنقاذه بدلًا من مهاجمته؟
“فكرة الزواج من دوق بلا هيبة ولا أتباع…
لا تبدو مغرية على الإطلاق.”
“ليس الأمر أن لا أتباع لدي، بل كلٌّ منهم منشغل بمهامه.”
“وذلك تحديدًا ما أعنيه بنقص الكفاءة.”
ارتبك، وأدار رأسه، كأن كلماتي أصابته في موضع لم يتوقعه.
أحسنتِ يا أسيليا… لقد كسبتِ هذه الجولة.
“إذًا، هل هذا رفض؟”
“قلتُ إنه مُرعب، ولم أقل إنني أرفض.”
حان وقت الجزرة بعد العصا.
“ما أعنيه هو أنني مستعدة لأُساعدك في إعادة ترتيب هذا البيت الدوقي… وأن أتعاون معك.”
مددت يدي، أمسكت بياقة سترته، وجذبته برفق نحو الطاولة.
تبعني دون مقاومة، وجلس قبالتي، ما يزال متحفّظًا، يتفحّص نواياي.
“لنعقد زواجًا بعقد مؤقت.”
“ماذا؟”
دخلت في صلب الموضوع مباشرة، وتمنيت لو أنني طلبت من كبير الخدم ورقةً وقلمًا مع الشاي.
بدأت أعدّ على أصابعي:
“أولًا، ينتهي زواجنا في اليوم الذي يُعلن فيه صاحب السمو الأمير الثاني وليًا للعهد.”
ضربة افتتاحية موجعة لرجل يُعرف بلقب “كلب الأمير الثاني”.
كما توقعت، تجهم وجهه عند سماع عبارة “زواج بعقد”، لكنه تجمّد عند ذكر الأمير.
“ثانيًا، سنُظهر للعامة أننا عشاق، لكننا لن ننجب وريثًا.”
“يبدو وكأنكِ تعلمتِ من زواجكِ السابق.”
“لا تقاطعني.”
أنا من يضع الشروط هنا.
“وعندما ينتهي العقد، تُمنحني أنا – الزوجة السابقة – مبلغًا ماليًا مناسبًا ومنزلًا للسكن.
لا يشترط أن يكون في العاصمة، بل حتى في ضواحيها.”
“هذا العقد يميل تمامًا لصالحكِ.
ما الذي سأجنيه أنا مقابل كل هذا؟”
الآن وصلت إلى النقطة الحاسمة.
في الواقع، لا خيار أمامي سوى هذا، من أجل البقاء.
لكن لا يجب أن أبدو يائسة، بل كمن لا يخسر شيئًا.
“أنت بحاجة إلى لقب دوق فعلي لتدعم الأمير الثاني، ولهذا يجب أن تتزوج فتاة من سلالة نبيلة، أليس كذلك؟”
“لا يوجد رجل غيري سيقبل بكِ.
امرأة نبيلة سقطت مكانتها، ومشتبه بها في جريمة قتل الماركيز.”
“بإمكاني ألّا أتزوج على الإطلاق.
وإن خفّضت معاييري قليلًا، فمن السهل أن أجذب أحد الأثرياء من العامة، بوجهي هذا.”
قلتُ بدلال، وأنا أزيح خصلات شعري الوردي عن وجهي.
صمت، ثم أشار لي أن أُكمل، وقد ابتلع الطُعم.
“لا بد أنك فقدت الكثير في ساحات القتال.
كما هاجمتَ الماركيز الداعم للأمير الأول، سيتربص بك آخرون بسبب ولائك للأمير الثاني.
الخطر لن يزول قريبًا.”
“أنتِ تعرفين الكثير، كما أرى.”
“ولهذا، لم تُبقِ أحدًا حولك… حتى لا تفقد المزيد ممن تحب.
إلى أن يصبح الأمير الثاني وليًا للعهد، سأكون إلى جانبك، أحمي هذا البيت كدوقة.”
“…”
“وعندما يتحقق ذلك، طلّقني، وتزوج من تحب.
حينها سيكون البيت الدوقي في مأمن.
في المقابل، أريد فقط مبلغًا مناسبًا، لا أكثر.
أليس هذا منطقيًا؟”
لقد كدت أفقد حياتي مرة، ومع أن ما أملكه من القصة الأصلية لا يتعدى اللمحات، إلا أنني واثقة من قدرتي على النجاة.
إنها مخاطرة تستحق التجربة بدلًا من أن أُلقى في الشوارع بلا شيء.
السؤال الآن: كيف سيتلقى العرض؟
“موافق.
هذا بسيط فعلًا.”
“!!”
“ومن رؤيتي لما جرى البارحة، يبدو أنكِ لا تموتين بسهولة.
وهذا يعجبني.”
أردت أن أعبس، فقد كنت قاب قوسين من الموت على يديه، لكنني تماسكت.
دون أن أشيح ببصري عنه، قرعت الجرس.
دخل كبير الخدم.
لكن الصوت لم يكن صوتي بل صوته هو من قال:
“أحضِر ورقة، ختمًا، قلمًا، وحبرًا.”
رمقنا الخادم بنظرة قلقة، إذ لم نبدُ كعروسين، بل كطرفين في معاهدة مصيرية.
ومع ذلك، أحضر ما طُلب.
“أنا الطرف الأول: أسيليا كورنيل.
والطرف الثاني: كاسيون ييغر.
وندخل بعقد زواجٍ مؤقت وفقًا للشروط التالية.”
“لقد مرّ زمن طويل منذ أملى عليّ أحدهم شيئًا.
لا داعي للقراءة، زوجتي.”
“أدر الورقة نحوي.
لا أريدك أن تُضيف بنودًا خفية.”
“يبدو أنني حصلت على زوجة شديدة الارتياب.
سمة ممتازة للبقاء.”
لكنه لم يُدر الورقة، فتجاوزته وجلست إلى جانبه لأراقب كل حرف يكتبه.
“هذا غامض جدًا.
يجب أن تكون البنود واضحة.”
“زوجتي، متى ترين أن يكون موعد الزفاف مناسبًا؟”
“المبلغ… فلنتركه فارغًا الآن.
الأفضل تحديده بنسبة، لأننا لا نعلم حجم إرث البيت الدوقي مستقبلًا.”
“أسيليا، جمالكِ يجعلكِ تتألقين في أي فستان. وذكاؤكِ يدرك أنه لا جدوى من تأجيل الحفل لأجل خياطة فستان خاص، أليس كذلك؟”
“لا تكتب: ‘لن ننجب وريثًا’، بل اكتب: ‘لن يمسّ أحدنا الآخر.’ هل تُدرك الفارق بين العبارتين؟”
فحصت العقد بعناية، والحبر بالكاد جف.
أضفت تعديلات، إلى أن اكتمل عقدٌ يُرضيني.
هذا جيد.
“الزفاف سيكون غدًا.”
“أنا سعيد للغاية.
يبدو أنني حصلت على دوقة مثالية.”
“لا تنسَ… إنه مؤقت.”
توهجت عيناي تحذيرًا، فضحك بصوتٍ عالٍ.
وبعد أربعة أيام فقط من زفافي الأول إلى الماركيز، ها أنا أتهيأ لزواجٍ جديد…
من دوقٍ مجنون، قتل زوجي السابق.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 3"