3
21ⵌ
“لا، أقسم أنني كنت أعتزم العودة بسرعة! أردتُ فقط إلقاء نظرة خاطفة، لكنه استمرّ في الحديث دون توقف.
إنه ابن لعائلة نبيلة من طبقة الكونت، ولم يكن بإمكاني تجاهله ببساطة… تفهمني، أليس كذلك؟”
أبعدتُ يدي عن ليكس رومينيل، الذي كان يوشك على تقبيل ظاهر كفي مرة أخرى وهو يهمس بوعدٍ بلقاء لاحق.
تظاهرت بأنني أتملّص منه بلطف، ثم سارعت بالعودة إلى الغرفة برفقة المرافق.
كان كاسيون لا يزال واقفًا قرب النافذة التي كنت قد نظرت منها، ساكنًا كتمثال، يحدّق إلى الخارج بعينين تنبضان غضبًا مكبوتًا.
وحين لاحظتُ أنه لا ينظر إليّ، وجدت نفسي أبدأ بتبرير موقفي غريزيًّا.
“لقد تأخرتُ في طريقي للعودة! ثمّ… ألم تعد أنت مبكرًا عن الوقت المتوقع؟ هذا… هذا ليس عدلًا على الإطلاق!”
كنت أختلق الأعذار بانفعال، وكأنها ستكون نزهتي الأخيرة. لكن كاسيون، بذراعَيه المتشابكتَين، لم يُبدِ أي بادرة تساهل.
“بدا عليك الاستمتاع كثيرًا، هه.
لم تتمكني من تجاهله، صحيح؟”
“كنت أتصرف بلطف لا أكثر.
لا يمكنني التجهّم في وجهه وأطالبه بالرحيل كما تفعل أنت.”
وما إن لفظتُ هذه الكلمات حتى ندمتُ فورًا.
كان عليّ أن أعتذر، لا أن أسخر.
لكن لسوء الحظ، خرج الرد بنبرة ساخرة دون وعي.
غير أن كاسيون لم يكن منشغلًا بكلامي بقدر انشغاله بما رآه، إذ استدار فجأة وحدّق إلى الخارج بحدة.
“…لم أعلم أنك تميلين إلى الفتيان اليافعين.”
“ماذا؟”
“بدا وكأنه لم يجفّ رأسه بعد.
هل تجاوز الخامسة عشرة أصلًا؟”
“قال إنه يبلغ الثامنة عشرة.
أي أنه يصغرني بعامٍ فقط.”
“…عام واحد يعني أنه لم يتناول عدد الوجبات التي أكلتِها بعد.”
“وفي هذه الحالة، هل يعني أنك شيخٌ مقارنة بي؟ أليس الفرق بينكما تافهًا؟”
في الواقع، بما أنني عشتُ عمرًا أطول في حياتي السابقة، فكل من كاسيون ذو الثلاثة والعشرين عامًا، وليكس ذو الثمانية عشر عامًا، يبدوان متقاربَين من حيث النضج بنظري.
لكن يبدو أن وصف “العجوز” ترك أثرًا في نفس كاسيون.
“أعتذر لأنكِ تزوّجتِ رجلًا طاعنًا في السن إذًا.”
“حسنًا، زوجي السابق كان يحتضر أصلًا…”
“والآن تفضلين الصغار في العمر؟”
“الصغار ليسوا خيارًا سيئًا… لا، مهلاً، إلى أي اتجاه يسير هذا الحديث؟”
اقتربت منه، أزيح قبعتي بتوتر.
أفهم أنه مستاء لأنني تأخرت، لكن أليس هذا التصرف طفوليًا بعض الشيء؟ إن واصل التعامل معي هكذا، فسيندم لاحقًا.
“قال إنه الابن الثاني لعائلة كونت رومينيل، وظننت أنه قد يمتلك بعض المعلومات المفيدة، لذا تبادلت الحديث معه قليلًا. هذا كل ما في الأمر.”
“…”
“أنا آسفة لأنني لم أستطع العودة قبل حضورك، لكنك تعلم أن ذلك الوعد لم يكن منطقيًّا من البداية.
رجاءً، غضّ الطرف هذه المرة فقط.”
نظرت إليه بتوسّل، ضامّة يديّ كمن يستجدي الرحمة.
وإن لم تفلح هذه الطريقة… فلن أكون لطيفة بعد الآن.
لماذا دائمًا أكون أنا من يُضطر للتنازل؟ أنا فقط أتظاهر بذلك، لأنني أقدّر غيرته عليّ.
“…حسنًا.
اعتبري نفسك محظوظة لأنك لم تأخذي المنديل منه.”
لا مجال لمزيد من التراجع.
لو لم يغفر لي الآن، فسأقابله بالمثل! لكنه أخيرًا قبِل اعتذاري.
…ولكن لحظة، منذ متى كان يراقب؟ هل رأى المنديل من تلك المسافة؟ ما هذا البصر الحاد!
“أوه، طبعًا، بالطبع.
من يعلم؟ ربما كان المنديل مشبعًا بسمٍّ أو مخدّر.
أنا على دراية بتلك الحِيَل.”
“…هاه… حسنًا.”
لماذا يتنهّد بهذه الطريقة؟ كاسيون، لقد بدأتَ تستفزني حقًا. هل عليّ مواجهته أخيرًا؟
“إذاً، لا حظر على التنزه، صحيح؟ هل يمكنني الخروج غدًا أيضًا؟ كانت الأزهار جميلة.”
“ليس بمفردك.
سأخرج معك.”
لا مشكلة لديّ… طالما أنني سأُمنح الإذن بالخروج.
“أليس من المفترض أن تحضر المأدبة الإمبراطورية أو تناقش أمورًا مع سمو الأمير؟ كنتُ أظنك مشغولًا.”
“في حالتكِ الجسدية الآن، لا يمكنك المشي طويلًا على كل حال.
أستطيع اقتطاع وقت لذلك.”
“أعتقد أن التنزه مع شخصٍ ما أمرٌ لطيف.
فلنخرج سويًا إذًا.”
وبمجرد أن وافقت دون تردد، خفّت ملامح العبوس على وجه كاسيون.
لم أكن أنوي الخروج وحدي منذ البداية، لكن ربما اعتقد أنني كنت أرتاح بينما هو يعمل، فأحسّ بالاستياء.
“أخبرني بما دار بينك وبين سمو الأمير خلال نزهتك.
فنحن نعمل معًا، أليس كذلك؟”
“…قلت إن الأزهار جميلة.
أليست هذه محادثة لا تليق بمثل ذلك المكان؟”
“دعنا نؤجّل الهمسات العاطفية إلى أن يكون لكلٍّ منا حبيبٌ مستقل.”
“…”
ما المشكلة الآن؟ لماذا يبدو غاضبًا مجددًا؟ هذا الرجل لغزٌ حقيقي!
—
“…إذا فهمتُ كلامك جيدًا، ففصيل الأمير الأول يريد استثمار المال في إدارة المقاطعات التابعة بدلًا من الاستعداد للفيضانات؟”
“لم يمضِ وقت طويل منذ انتهاء الحرب.
ويبدو أنهم يسعون لتعزيز قوتهم العسكرية.”
ورغم بقاء العبوس على ملامحه، فقد أجاب بثبات.
وهذا من خصاله الجيدة.
فحتى وإن كان مزاجه متقلبًا، إلا أنه لا يسمح له بالتأثير على احترامه للآخرين.
“هممم… وماذا كان موقفك؟”
“أنا لا أؤيد الإنفاق على العسكر أو الحروب، أما بشأن الفيضانات… فلم أُكوّن رأيًا بعد.”
حاولتُ أن أسترجع تفاصيل القصة الأصلية.
في تلك الرواية، كانت الفيضانات موضوعًا كبيرًا.
فالخسائر دائمًا ما كانت تصيب العامة والبسطاء بشدة.
في ذلك الوقت، كان كاسيون والبطلة في قرية ريفية، لا في قصر الدوق.
أما الآن، فنحن في العاصمة، إما في قصر الدوق أو القصر الإمبراطوري، لذا قد لا نتأثر مباشرة… لكن من الخطأ تجاهل كارثة محتومة.
“فصيل الأمير الثاني إذًا يؤيد تخصيص الأموال للاستعداد للفيضانات، ولكن بشكل جزئي؟”
“أغلبهم مثلي، إما من العامة الذين ترقّوا، أو من النبلاء المقيمين في المناطق الحدودية.”
كما توقّعت، الذين يشعرون بخطر الضرر الحقيقي هم فقط من يتحركون.
أما الآخرون، فقصيرو النظر كعادتهم.
“إذًا فلنقم ببعض الاستثمارات.”
“استثمارات؟”
“المال ليس للترف فحسب.
لنستثمر في توسعة السدود.
قد لا يكون المبلغ بسيطًا، لكن إن تعاونّا مع من أبدوا تأييدًا جزئيًا، فبإمكاننا إنشاء سدود في أكثر المناطق عُرضةً للخطر.”
بدأ كاسيون يُفكّر، يضع يده على ذقنه بتمعّن.
لم يبدُ معارضًا، وإنما متفاجئًا بعض الشيء.
“لا مانع لديّ إن كان هذا ما ترغبين به، لكن ما الفائدة المرجوّة؟ هل تفعلينها بدافع إنساني فقط؟”
“جزئيًا، نعم.
لكنها أيضًا وسيلة لرفع شعبية الأمير الثاني.”
“سموه معروف بالفعل بدعمه للمتضررين من الفيضانات.”
“لكن هناك فرق شاسع بين من يُسعف ما بعد الكارثة، ومن يمنع الكارثة أصلًا.”
وفي الرواية الأصلية، كانت الفيضانات كارثية إلى حدّ التسبب بانهيارات أرضية.
وهذا ما قرّب بين البطلة وكاسيون، إذ واجها المحنة سويًا… لكن سنتطرّق لذلك لاحقًا.
“سيكون دعمًا كبيرًا له.
وإن اقتضى الأمر، يمكنك اقتطاعه من المبلغ المخصّص لي.”
“لا حاجة لذلك.
كما قلتِ، نحن شركاء في هذا، أليس كذلك؟”
ابتسم كاسيون.
وكنت أعلم أنه سيرد بهذا الشكل، لذا بادلته الابتسامة.
“إن لم تتمكن من إخفاء نقاط الضعف، فاجعل نقاط القوة لامعة.
حتى لو كان فصيل الأمير ضعيفًا أمام النبلاء، إلا أن التأييد الشعبي يميل لصالحه، أليس كذلك؟”
في المقابل، يسعى الأمير الأول لكسب الشعبية عبر فرض السيطرة على المقاطعات التابعة وفرض مشاريع ضخمة، لكن ذلك سيفشل.
فالإمبراطورية فرضت ضرائب باهظة لتمويل الحرب.
والآن بعد أن أخضعت المقاطعات، يجب أن تُقدّم شيئًا في المقابل.
“الضغط المفرط على المقاطعات، وتنفيذ مشاريع ثقيلة كهذه، سيولّد سخطًا في النهاية.
قد يبدو خاضعًا في البداية، لكن الخوف لا يدوم طويلًا.”
مشاريع الأمير الأول التي تستنزف الموارد بقوة ستنهار حين تتزامن مع موسم الفيضانات.
وفي الرواية الأصلية، لم يُسلّط الضوء على هذا الحدث، لأنه كان مجرد خلفية لبراعة كاسيون وسط الكارثة.
أما الآن، فنحن في مركز العاصمة، ولا يمكن تجاهله.
“على سمو الأمير الآن أن يبرز بدوره.
وأنت تملك سلاحًا.”
تلقائيًا، نظر كاسيون إلى سيفه.
لكنني تمتمت بازدراء وأنا ألوّح بيدي.
“المال.
أقوى الأسلحة في هذا العالم هي القلم، والمال، والقبضات. وأنت تملك اثنين.”
“…أفهم أنّ القلم ليس من نصيبي؟”
“سأتولّى أمره بالنيابة عنك.”
أشحت بنظري عن تعبيره المتردد.
أنت لست بارعًا في الخطابة أو المراسلات أو الدبلوماسية، أليس كذلك؟ لذا، سأكمل النقص من جهتي.
“هل سبق أن خذلتك نصيحتي؟ فلتثق بزوجتك هذه المرة أيضًا.”
غمزت له، فأطلق ضحكة قصيرة، أشبه بتنهيدة ساخرة.
مع أنه يبتسم كثيرًا، إلا أنني لم أره يضحك من قلبه أبدًا.
“أنا دائمًا أثق بكِ.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ22
لم أكن أملك وسيلة لمعرفة ما إذا كان واقعًا في غرامي فحسب، أم يخفي نوايا أخرى.
لكن نجل الكونت رومينيل الثاني كان مثابرًا إلى حد الإزعاج.
مع ذلك، لم يكن حرصه يتماشى مع سلوكه المتسلل، فقد اعتدت رؤيته يتلصص من خلف نافذتي دون تحفظ.
لذلك، صرت أُمضي وقتي إما مسترخية في غرفة كاسيون، أو أتظاهر بمراجعة وثائق بناء السد معه، تفاديًا لأي لقاءات غير مرغوب بها.
بطبيعة الحال، لم أطلب إذن صاحب الغرفة.
“حقًا الآن، أليست نظرتك هذا الصباح مبالغًا فيها؟”
ربما كنت قد اقتحمت الغرفة فجأة، تقلبت على سريره، بل ونمت فيه أكثر من مرة لأنه ببساطة مريح جدًا! لكن… ألم تكن نظراته لي قاسية قليلًا؟
تنهّدت في امتعاض، أسترجع صورته وهو يزمّ شفتيه غيظًا ويسألني إن كنت قد استيقظت أخيرًا، وعيناه المحمرّتان تفضحان سهره، حتى أن البياض فيهما تداخل مع حدود القزحية.
“حين نعود إلى قصر الدوق بعد حفل الليلة، سأكون مرتاحة الضمير.”
همف.
شعرت ببعض الذنب لأنني استحوذت على سريره ونمت عليه بكل أريحية، فبدأت ألاحقه أعتذر دون أن أغيّر حتى ملابس النوم!
لكنه تركني غاضبًا، معلنًا ذهابه للتدرّب صباحًا مع الأمير الثاني.
رفعت الستارة بهدوء، ونظرت من النافذة فرأيت الأمير وكاسيون يتبادلان الحديث.
تدريب؟ يبدو أنهما يتسامران فقط.
“يبدو أن الوقت قد حان لأعود إلى غرفتي.”
أشك أن ليكس رومينيل سيكون في الجوار اليوم.
لا بد أنه منشغل بالتحضيرات للحفل.
“سيدتي! أخيرًا وصلتِ، كنا على وشك إرسال من يبحث عنك!”
“هم؟”
كنت أعود خلسة إلى الغرفة التي خصصها لي القصر الإمبراطوري، أتحقق من كل زاوية بحذر، عندما استقبلتني الخادمات المنتظرات بابتسامات مشرقة.
ما زلنا في الصباح.
رغم أن الوقت كافٍ للتحضير، وقد اخترنا مسبقًا الفستان والإكسسوارات، بدت الخادمات متوترات وكأن الوقت قد داهمنا، فأسرعن بمرافقتي إلى الداخل.
“ما الذي يحدث؟ هل هناك مشكلة؟”
“ليس تمامًا، لكن… سمو الأمير الثاني أرسل لكِ هدية.”
“هدية؟ لي؟”
يالها من مفاجأة.
تقلّبت البطاقة الصغيرة التي سلّمتني إياها إحداهن، بينما استعدت صورة الأمير التي رأيتها للتو من نافذتي.
لم تحمل البطاقة شيئًا مميزًا: مجرد اعتذار عن الحادثة في القصر وتمنيات بقضاء وقت ممتع في الحفل.
“افتحي الصندوق.”
في الواقع، لم أكن بحاجة لفتحه لأتخيل ما بداخله.
صندوق طويل يكاد يبلغ طولي، وعدد من صناديق المجوهرات.
وفي هذا التوقيت… لا بد أنه فستان فاخر وإكسسوارات مناسبة للحفل.
ومع أنني أعددت ثيابي بالفعل مع كاسيون باستدعاء خيّاط خاص، لا يمكنني ردّ هدية أميرية…
“…واو.”
من المؤكد أنني لن أُعيد هذه الهدية! الفستان والمجوهرات أكثر فخامة وأناقة مما جهّزته.
يبدو أن الأمير يعلم جيدًا أجواء الحفل، فأرسل ما يليق به.
“أي فستان نُحضّر لكِ، سيدتي؟”
“هذا، بلا شك.”
أشرت على الفور إلى صندوق الفستان المرسل من الأمير.
ربما كان لدى كاسيون خطة مرتّبة، لكن لا بأس ببعض التعديل الآن. الفستان يستحق ذلك.
أما الفستان الذي اخترته معه، فيمكنني الاحتفاظ به لمناسبة أخرى. الأمر بسيط.
—
“…لم ترتدين هذا الفستان؟”
“وما العيب فيه؟”
“هذا ليس ما اخترناه سويًا.”
حسنًا، يبدو أن الوضع ليس بهذه البساطة.
كنت في قمة أناقتي.
بعد أن اكتملت زينتي وتمايلت بالفستان الجديد أمام المرآة، أطلقت الخادمات شهقات إعجاب واضحة.
ومع أنني لا أعلم إن كانت الهدية موجهة لي وحدي، إلا أن كاسيون دخل مرتديًا ما اخترناه معًا، وراح يرمقني بنظرات امتعاض.
“كنت سأرتدي فستاننا السابق، لكن سمو الأمير أرسل هذا مع إكسسواراته كاعتذار عن حادثة الغداء.
ويبدو أنه الأنسب لأجواء الليلة.”
“لكنّه لا يتماشى مع ملابسي.”
“هيا، لسنا مضطرين لأن نبدو كزوجين متناغمين في الأزياء بالحرف.
وحتى الخيار السابق لم يكن متطابقًا تمامًا.”
أحسست بقليل من الذنب لأنني غيّرت اختياري دون أن أُعلمه، لكن… من الواضح أن هذا أجمل.
كنت على وشك السخرية وأقترح عليه أن يطلب من صديقه ثيابًا جديدة.
لكن مع تلك النظرة الحزينة في عينيه، اكتفيت بالمراوغة.
أكاد أشعر بأنني أصبحت أضعف أمام كاسيون في الآونة الأخيرة.
“ألا يبدو جميلًا؟ الخادمات قلن إنه يليق بي كثيرًا.”
استدرتُ أمامه كما فعلت أمامهن.
حاشية الفستان، المعتدلة الوزن، رفرفت بسلاسة ثم انسابَت بخفة.
راقبني كاسيون بدهشة، كأنه على وشك الاستسلام، ثم عبس مجددًا.
“التطريز بخيوط فضية.”
“وماذا في ذلك؟”
“أما ملابسي، فخياطتها بخيوط ذهبية.”
يا لهذا الجدل السخيف.
لقد رأيته مأخوذًا بجمال الفستان!
“الذهب والفضة يمكن تنسيقهما، أليس كذلك؟ لا وقت لدينا لتغيير الملابس الآن، لذا توقّف عن هذه الاعتراضات ورافِقني.”
ما الذي يزعجه بهذا الشكل؟ أهو كبرياؤه أم ذوقه الخاص؟ قررت في داخلي أن أطلب من الأمير في المرات القادمة إرسال الهدايا على شكل أطقم مزدوجة إن أردت كسب ود كاسيون.
أنا أعلم أن وجهه ذاك مجرد تعبير متدلّل، لكن أمام الآخرين يبدو كأنه على وشك الانفجار.
لا يصح أن ندخل القاعة بهذا الوجه.
“عزيزي، هل ستتركني وحدي؟”
…
مددت يدي، المغطاة بقفاز حريري ناعم بالكاد أشعر به، في الفراغ.
نظر كاسيون إليها لحظة، ثم تنهد، ولانت ملامحه، ومدّ ذراعه ليحتوي يدي.
هذا أفضل.
سرنا معًا في الرواق المؤدي إلى قاعة الحفل.
“بالمناسبة… كيف عرفوا مقاساتي؟ الخادمات لم يحتجن إلى أي تعديل، والفستان بدا وكأنه خُيط لي خصيصًا.
حتى في حفل الاستقبال السابق، بدا الأمير بارعًا في التعامل مع النساء.
أم أنه يجيد التعامل مع الناس عمومًا؟”
“…في العلن، يسمون من يتقن ذلك بـ’اللعوب’.”
ما به هذا الرجل؟ أولًا الفستان، والآن التعليق على شخصية الأمير؟ يبدو أنه لا يطيق فكرة التفوّق لصالح صديقه.
“المسألة مختلفة.
الأمير كان لبقًا، لا مغازلًا.
وقد تكون هذه اللباقة مدخلًا جيدًا حتى لو لم يحظَ بعد بدعم شعبي قوي.”
“هل يمكننا التوقف عن الحديث عنه؟”
افعل ما تشاء.
حتى لو كان الأمير صديقًا ومنافسًا، أليس في هذا التوتر مبالغة؟ أنا، بعقلي البارد، سأمرر الأمر.
“بالمناسبة، ما قصة رائحتك اليوم؟ هل سكبت زجاجة العطر على نفسك؟”
رغم أنه بدأ بالاعتراض على فستاني منذ رؤيته، لدي أنا الأخرى ملاحظة.
رغم تمرينه اليومي مع الأمير، نادرًا ما تفوح منه رائحة، لكن اليوم بدا معطّرًا بشكل مزعج.
ملابسه منسّقة، وشعره مصفف بانتباه يُظهر جبهته الوسيمة… لكن تلك الرائحة؟
“…أثناء وجودي في الحمّام، انسكب قليل من العطر أثناء فتح الزجاجة.”
“فهمت.
لحسن الحظ أن القاعة ستكون كبيرة ومزدحمة.
وإن كان هذا سيجعل الوقوف بجانبك متعبًا قليلًا.”
بدا عليه الذهول من تعليقي.
لقد قلت له أن الأمر لن يُلاحظ، فلماذا يتفاجأ هكذا؟ ربما لأنه شديد الحساسية تجاه الروائح، خصوصًا وهو كثيرًا ما يسألني عنها.
“لقد وصلا! الدوق والدوقة ييغر!!”
سواء تفاجأ أم لا، كنا قد وصلنا إلى مدخل القاعة، ومع إعلان الحارس عن دخولنا، دوّى صوت المقطوعة الافتتاحية.
أعدلتُ من وقفتي، وابتسمت بهدوء، وسرت بجانب كاسيون بكل ثقة.
“…ابنة غير شرعية لعائلة فيسكونت منحدرة…”
“كلاهما…”
تسللت الهمسات من كل اتجاه، وتبعتها نظرات مليئة بالشك والاحتقار.
على عكس الاستقبالات السابقة التي جمعت المهتمين ببناء العلاقات، كانت هذه القاعة تعج بنظرات نبلاء الجناح الموالي للأمير الأول، المتحفزين للطرد.
وكأن أعينهم تقول: “ما الذي جاء بهذين إلى هنا؟”
“ردود الأفعال أفضل مما توقعت.”
لكني توقعت هذا تمامًا… بل أراه مملًّا.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ23
تركتُ الشتائم تتلاشى في أذني دون أن تعرقل ابتسامتي، بينما أوزّع بسخاء ابتسامات وادعة على الوجوه التي التقيتها سابقًا في حفل الاستقبال.
وكلّ من التقت عيناه بعيني، بادلني ابتسامة لطيفة.
“ألا يزعجك الأمر؟”
“ليس كثيرًا… فأنصار الأمير الأول لن يستحسنوا أيّ شيء أفعله على كل حال.”
“… الاتكال الرخيص على ملامحك…”
قالها كاسيون، الذي لم يكد يتعافى من أثر عطره الخاص قبل الدخول، وها هو الآن يعبّر عن قلقه تجاهي.
ومن يكون ليعترض؟! فحتى هو لم يسلم من لعناتهم التي همسوا بها! وبرغم مظهره الهادئ البارد، بدا اهتمامه بي أكثر مما توقعت.
كنت على وشك الرد، لكن لسوء الحظ، قطعت شتيمةٌ فجّة السكون الذي أعقب دخولنا.
مصدر الصوت كان سيّدة تنتمي لفصيل الأمير الأول.
ومع انشداد الأنظار نحوها على نحو مفاجئ وغير موفق، احمرّ وجهها خجلًا وارتبكت، ثم اختبأت خلف رجل بدا أنه زوجها.
“على الأقل يعترفون بجمالي.
فطالما أبصارهم سليمة، لا يمكنهم إنكار ذلك.”
كتمتُ ضحكة ساخرة أمام تصرفها البائس.
وحين رفعت رأسها تطلّ نحوي من وراء كتف زوجها، التقت نظراتنا، فبادلتها بابتسامة لطيفة لا تحمل تهديدًا.
وما إن رأتها حتى احمرّ وجهها مرة أخرى.
حقًا… إن كنتِ ترتبكين من ابتسامة واحدة، فلماذا افتعلتِ العداء من الأساس؟
ابتسامة واحدة كافية لاجتذاب الحلفاء… ولإرباك الخصوم.
وبينما حافظ كاسيون على قسمات جامدة تنضح بالبرود، كنت أوزّع ابتسامات بريئة جذابة في أرجاء القاعة، أهاجم وأتّقي بها في آنٍ معًا.
وفي تلك اللحظة، دخل أبطال الحفل.
“سمو ولي العهد، سمو الأمير الثاني، جلالة الإمبراطورة، وجلالة الإمبراطور قد وصلوا.”
وحيث إن الدخول يتم وفقًا للتراتبية والمقام، كنا قد سبقناهم بدقائق معدودة.
مسحتُ ابتسامتي من على وجهي، وراقبتهم يهبطون السلم ببطء من أعلى القاعة، حتى بلغوا المنصّة التي يعلوها العرش الإمبراطوري.
كانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها الأمير الأول والإمبراطورة عن قرب.
“أشكر كل من استجاب لدعوتنا لهذا الحفل الاستثنائي.”
ساد صمت شامل في القاعة، بعد أن كانت تضجّ بالأصوات.
“لقد صبر الكثير من أبناء الإمبراطورية على أيامٍ قاسية خلال الحرب من أجل التوحيد، وبفضل ثقتكم بي، تمكنّا من تجاوزها.
والآن، أؤمن أن مستقبلًا أكثر إشراقًا بانتظارنا.”
ورغم استمرار التنافس الخفي بين الأميرين على وراثة العرش، إلا أن هيبة الإمبراطور ما زالت حاضرة بقوة.
فرغم غيابه الفعلي عن ساحة المعارك، إلا أن قراراته الحاسمة المتكررة جعلت من تأثيره أمرًا لا يُمكن إنكاره.
ما لم تقع أحداث استثنائية كحادثة التسميم الأخيرة، فمن المرجّح أن يستمر حُكمه لسنوات مقبلة.
وهذا وحده يُشكّل اختلافًا جوهريًا عن مجرى القصة الأصلية.
فالتعيين المرتقب لولي العهد في ظل حُكم قوي راسخ، يختلف تمامًا عن اختيارٍ مُستعجل في ظل احتضار حاكم ضعيف.
“لا شك أننا سنواجه بعض التحديات، لكن لأجل سلام الإمبراطورية، فإنني ومعي الأميرين، سنبذل الجهد معًا، فلا داعي للقلق.”
رغم أنه لم يصرّح بذلك بوضوح، إلا أن الجميع فهم مغزى كلماته.
لقد أشار، ضمنيًا، إلى أنه سيُقيّم كفاءة الأميرين من خلال ما سيتحملانه من مسؤوليات لاحقة.
“من أجل ازدهار الإمبراطورية… ومن أجل الإمبراطور القادم.”
رفع كأسه، ثم جلس بهدوء.
وبعد خطابه الموجز والمعبّر، انطلقت تصفيقات حماسية وهتافات نبلاء القاعة، بعد لحظات الصمت التي سبقته.
وكانت العيون كلها، مؤيدي الأميرين على السواء، تتلألأ بطموحاتها.
ولا شك أن نظرتي لم تكن مختلفة عنهم.
وبعد أن خمدت الموجة الأولى من الحماسة، عزفت الفرقة الموسيقية مقطوعة افتتاحية بإشارة من الإمبراطور، إيذانًا بانطلاق الحفل.
شعرت بأن قبضتي التي كنت أُطبِقها دون وعي قد ارتخت، فشبكت ذراعي بذراع كاسيون ودخلنا معًا.
“هذه أول مرة أرى فيها الإمبراطورة… لكنها لا تبدو كما تخيّلت تمامًا.”
“هممم؟”
بصراحة، لم يكن خطاب الإمبراطور مفاجئًا لي.
مجرّد تجديد لهيبته السياسية.
أما الإمبراطورة الواقفة خلفه… كيف أصفها…
“تخيّلتها أشدّ حضورًا.
كنت أتصوّر شخصية أكثر صرامة، وربما دهاءً.
لكن يبدو أن ذلك لم يكن سوى تحيّزٍ مني.”
همست له ونحن نبدأ الرقصة وسط القاعة.
وبسبب حساسية الحديث، اقتربت منه أكثر من المعتاد، لتتسلل إليّ رائحة عطره النفّاذة.
“بما أننا لا نعلم ما الذي يدور في خاطرها، علينا أن نكون أكثر حذرًا.”
“إنها أشبه بدمية شمع… وما زلت مذهولًا من المعلومات التي كشفتِها لي.”
فهي من سلالة نبيلة، خُصّصت منذ ولادتها لتكون زوجة ولي العهد، وأصبحت اليوم الإمبراطورة.
لهذا السبب تحظى بدعم مطلق من معسكر الأمير الأول.
من الصعب تصديق أن امرأة بمثل هذا النموذج قد تُنجب طفلًا من رجل آخر وتدّعي أنه من نسل الإمبراطور.
نظرتُ إلى كاسيون مجددًا، الرجل الذي صدّق كل كلماتي دون تردّد.
والآن، بعد أن رأيت الإمبراطورة، باتت القصة تبدو أكثر جنونًا.
ومع ذلك، لم يكن لديه أدنى شك.
“ما كنت لألومك لو أنك لم تُصدّقني.”
راقبته بصمت ونحن ندور وسط أنغام الموسيقى.
أعلم في قرارة نفسي أنه يصدقني.
لا أدري كيف، لكن أحيانًا يدرك الإنسان ذلك، بمجرد شعور داخلي.
ومع ذلك، تبقى الرغبة في الاختبار طبيعة بشرية.
“على كل حال، ستجني ثمار ثقتك بي يومًا ما.”
“أنا أُصدقك.”
“هاه، هذا النوع من الإجابات يُرضيني تمامًا.”
حاولتُ كسر الجدية بابتسامة خفيفة.
لكن رائحة عطره الكثيفة، تلامس جسده، توهّج الشموع، وسطوع الأضواء، جعلني أشعر بدوخة خفيفة.
وحده كاسيون، الذي يمسك يدي ويؤمن بي، كان واضحًا وضوح النور.
“أنا أُصدّقك… لكن يبدو أنكِ لا تصدقينني.”
كدتُ أدوس على قدمه لحظة نطقه بذلك.
نعم، هذا صحيح. يصعب عليّ تصديق أن كاسيون يصدقني فعلًا.
لكنه أمر طبيعي، أليس كذلك؟ خاصة بعد أن استعدتُ ذكرياتي من حياتي السابقة.
“لا… ليس لأنني لا أُصدّقك، لكن كما تعلم… لم يمضِ وقت طويل على معرفتنا ببعض.”
“نحن متزوجان يا أسيليا.”
“زواج صوري.
لم نعرف بعضنا سوى لبضعة أشهر.”
هل أتحفّظ معه لأنني أخشى أن يمنح هذه الثقة العمياء لغيري أيضًا؟ لا أعلم، لكنني أجد نفسي أعارضه في كل جملة.
“أدرك أنك أفضل مما تُشيع عنك الشائعات.
وأشعر أنني أحسنتُ اختيار شريك العقد.”
“…”
“لكن الثقة لا تُبنى في أيامٍ معدودة، أليس كذلك؟”
رغم سرعة انسجامنا مقارنة بعلاقة قائمة على اتفاق، إلا أن العلاقات تحتاج إلى توازن واضح.
توازن يضمن الاستمرار دون خيبات.
“لهذا عقدنا اتفاقًا واضحًا.
فلنعتمد عليه.”
أفضّل الاعتماد على الحبر والتوقيع، على الوعود والكلمات. تمامًا كما قررتُ حين عرضت الزواج الصوري.
ابتسمتُ له ابتسامة مشرقة، وابتعدتُ عنه قليلًا ناشرة ذراعيّ، بينما شارفت الموسيقى على نهايتها.
وبرغم دوارٍ خفيف، أدّينا الرقصة دون أي خطأ يُذكر… باستثناء عثرة بسيطة.
“هل يمكنك أن تحضر لي مشروبًا؟ سأنتظرك هنا.”
وبرغم أننا لم نرقص سوى مقطوعة واحدة، كان قلبي يخفق بقوة غير معتادة.
وعندما طلبتُ منه ذلك، التفت في صمت.
منذ حادثة التسميم، وهو يتفقد كل ما آكله أو أشربه، ومع ذلك شعرتُ بحاجة لأن أخفف من هذا التوتر الذي خيّم علينا فجأة.
لكنه، وقبل أن يبتعد، استدار نحوي فجأة.
“…كاسيون؟”
“من هنا.”
أخذ بيدي دون أن ينظر إليّ، وسحبني نحو الحائط، لا إلى مركز القاعة.
أو بالأحرى، بدا وكأنه يحاصرني هناك.
“سأعود بعد قليل.
لا تذهبي إلى أي مكان، ابقي هنا.”
ثم راح يتفحص المكان بنظرات صارمة، وكأنه لم يطمئن بعد، قبل أن يُكرر تحذيره.
ضحكتُ بخفة.
كيف لي أن أبني جدارًا بيني وبين شخص مثله؟ يبدو أن سرعة قربنا لم تكن خطئي وحدي.
“حسنًا، عد سريعًا… عزيزي.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
24ⵌ
بينما كان كاسيون يرحل لجلب المشروبات، ثبتتُ نظري على الإمبراطورة بتأمل دقيق.
جلست هناك بلا أدنى تغيير في تعابير وجهها أو حركة واحدة منذ دخولها، حتى بدت كأنها مجرد هيكل بلا روح.
“هممم…”
في القصة الأصلية، لم يُذكر شيء عن ملامح الإمبراطورة أو صفاتها الشخصية، واكتُفي بسرد تصرفاتها ومكائدها، لذا تخيلتها امرأة قاسية لا تعرف الرحمة، لكن رؤيتي للإمبراطورة الأولى عن قرب منحتني انطباعًا مختلفًا جذريًا.
“ما الذي تشدّ نظرك إليه هكذا؟”
كنت أغرق في خليط من المشاعر، إذ خطر ببالي أنه لكي يُصبح الأمير الثاني وليًّا للعهد، لا بد من إذلال هذه السيدة الوقورة وإسقاطها أرضًا.
وفجأة، غمرت بصري خصلات ذهبية متلألئة.
قفزتُ من مكاني بذهول، وارتجفت كتفي، ثم سُمعت ضحكة خافتة.
هل هذا يضحك بعدما أفزعني؟
“أعتذر، سيدتي.
لم أقصد إزعاجك… ولكن حتى ملامحك المفزوعة تظل رقيقة كأرنب صغير.”
“…أيها الشاب.”
“ألم أخبرك سابقًا، دوقة، أنه بإمكانك مناداتي بـ ‘ليكس’ فقط؟”
كان مظهره المشع قد ارتقى تلك الليلة إلى درجة تخطف الأبصار.
خصلات شعره الذهبية تتلألأ كالذهب المصفى، وعيناه الزرقاوان العميقتان تشعان برقة ملاك، إلا أن غرابة الأمر تكمن في كيف يمكن لجمال كهذا أن يثير النفور.
“ألا تفضل أن تختلط مع الفتيات هناك، أيها الشاب؟”
تضاعفت نظرات الحضور الموجهة نحوي عدة أضعاف مع اقترابه، وخصوصًا النظرات الملتهبة من الفتيات في سن الزواج، ما دفعني لأعبر عن انزعاجي بوضوح، إلا أن ليكس رومينيل لم يبدِ أدنى تراجع.
“أنا خجول إلى حد ما، وأجد راحتي أكثر بجانبكِ، سيدتي.”
“حسب معلوماتي، التقيتُ بكِ مرة واحدة فقط.”
“ومع ذلك، كنتِ أول من منحني شعور الطمأنينة من اللقاء الأول… لم أشعر بذلك من قبل.”
هل أصابه الجنون؟ كان هكذا في الحديقة أيضًا، أما الآن فهو في قاعة الاحتفال، أمام أعين الجميع، ولا يزال يغازلني، امرأة متزوجة، بهذه الوقاحة العلنية!
“من المؤسف أن تظل سيدة فاتنة مثلك وحيدة، ألا ترغبين في الاقتراب أكثر إلى وسط الحفل؟”
“لا، أنا مرتاحة هنا…”
“وأنا أتوق لأن أشاركك الرقصة القادمة، سيدتي.”
مدّ يده وأمسك بيدي دون استئذان، ثم قادني نحو مركز القاعة، وانحنى فجأة ليقبّل يدي، كدعوة للرقص.
لم تكن مجرد لمسة خفيفة، بل ضغط شفتيه بقوة حتى شعرت بهما بوضوح عبر القفاز.
ارتجفت وسحبت يدي بسرعة، وقد بدا على وجهي الاشمئزاز.
“لا أرغب بذلك.”
“ماذا تظنين أنك تفعلين؟”
أردت أن أدفعه بعيدًا، لكني توقفت خوفًا من أنظار الحضور، ورفضت بصوت منخفض يسمعه هو فقط.
إلا أن صوتي تزامن مع صوت آخر، كان يترقب اللحظة المناسبة للتدخل.
بدا ليكس أكثر صدمة من كلماتي مما كان على لسان كاسيون الحاد، فتح فمه مذهولًا وثبت بصره بي.
“…أعتذر، سيدتي.
ربما سمعت خطأ بسبب الضوضاء…”
“قلت لا.”
“ابتعد عن زوجتي.”
تداخل صوت كاسيون مع صوتي مجددًا، ورأيت فك ليكس يسترخي أكثر.
رفعت يدي التي كان يمسكها تجاه وجه كاسيون، وقلت:
“عزيزي، هل يمكنك تعقيم يدي؟ أشعر بأنها متسخة.”
“…!”
احمرّ وجه ليكس فجأة وكأنّه طماطم ناضجة، فيما استعاد كاسيون هدوءه بعد غضبه، وابتسم لي بخفة وهو ينزع القفاز عن يدي.
“بالطبع، إذا كان هذا ما تطلبه زوجتي.”
انحنى ليقبّل ظهر يدي العارية، كأنه يعقم تلك النقطة بعناية.
وعندما ابتعد شفتيه أخيرًا، لم أتمالك نفسي من إطلاق ضحكة خفيفة.
“الأفضل أن ترمي القفاز، فقد أصبح متسخًا.”
بالنسبة لفتاة غير متزوجة، عدم ارتداء القفازات في مناسبة رسمية يعد إخلالًا بالآداب، لكنني زوجة، فتظاهرت بالحرج واتكأت عليه قليلاً.
“يا للحرج، ماذا أفعل؟ هل يمكنك أن تحميني بذراعك وتخفيني عن الأنظار؟”
“بالطبع.”
يبدو أنه متناغم معي اليوم بشكل غير معتاد، رغم أنه عادة أخرق.
في يد واحدة كان يحمل شرابي الذي طلبته، وفي الأخرى احتضن يدي، وألقى نظرة خاطفة لي، ثم صوبها إلى ليكس وهو يضحك بسخرية.
“…سيدتي، ألم يكن بوسعك الاكتفاء بهذا القدر من الإحراج؟”
احمرّت وجنة ليكس إلى أقصى درجة.
أملت رأسي بريئة وهمست له بنبرة لا تسمعها سوى أنا:
“ماذا ناديتني لتوك، أيها الشاب؟”
“…سيدتي؟”
“نعم، أنا امرأة متزوجة.
اذهب ولعب لهوك في مكان آخر.”
آه، كان من المفترض أن أُريه خاتم زواجي، لكني نسيت ذلك بسبب انشغالي بالفساتين والحلوى، بعدما طلبت خاتمًا كبيرًا يكسر الجمجمة.
“لقد تعاطفت معكِ فقط، سيدتي.
ظننت أنكِ عانيتِ زواجًا لا ترغبين به، وأردت مواساتك كصديق…”
“لكنّك لست من النوع الذي يعجبني.”
ما شأنه؟ رغم إحراجه، لا يستسلم، بل يزداد إلحاحًا.
اقتربت منه وهمست وأنا أقترب:
“أعلم أنني جميلة، لكنك مزعج.
هل تسمح لي أن أتخلص منك؟”
“بففف.”
ظننت أنني همست بخفوت، لكن كاسيون، الذي تواجد بجانبي، سمع جيدًا.
سلّمت على ليكس باحترام، ثم تمسكت بذراع كاسيون وانسحبنا.
رأيت الفتيات تستغلّ هذه الفرصة وتتجمع لتعزية ليكس، فلن يفلت بسهولة من هذه الورطة، سواء نفسيًا أو جسديًا.
“هاه… أعتقد أنني بحاجة إلى شرب هذا في الشرفة.”
“من هنا.”
بعد أن تخلصنا أخيرًا من ليكس الذي التصق بي كظِل مزعج، تسلمت الشراب من كاسيون، ورافقني إلى الشرفة البعيدة التي لا تُرى إلا عند نهاية القاعة.
لم يزل يضحك بخفة.
“توقف عن الضحك، لقد كان مزعجًا حقًا.”
“أجل… كان كذلك.
سأتعامل معه لاحقًا، أسيليا.”
“لا داعي لذلك، فهو في نهاية المطاف الابن الثاني لعائلة كونت.”
“وماذا في ذلك؟ إنه رجل يغوي زوجات الآخرين بلا خجل.”
“ربما غُرّ بجماله الفاتن.”
حين أغلقنا باب الشرفة وسحبنا الستائر، اختفى ضجيج القاعة تقريبًا.
استنشقت الهواء العليل ليلاً، وزفرت بعمق.
شعرت براحة خفيفة.
“ألم أقل لك إنه ليس من نوعي المفضل؟”
“قلت ذلك.
هو جميل، لكنك لا تحبين هذا النوع من الجمال، أليس كذلك؟”
“…إذًا ما هو نوعك المفضل؟”
نوعي؟ لم أفكر به بعمق سابقًا… لكن كاسيون بدا مهتمًا، وصبر على صمتي.
“أظن أنني أحب الرجل المتناقض.”
“متناقض؟ ماذا تعنين؟”
“رجل وسيم لا يدرك وسامته، أو رجل قوي وثابت لكنه يبدو هشًا حين يبكي.”
“…تحبين الرجال الذين يبكون بأسى؟”
“لا، لا تخلط الأمر بهذا الشكل، وإلا بدوت منحرفة.”
رغم أن… لا شيء أجمل من رؤية شخص وسيم يبكي من أجلي.
أما ليكس، فهو، إلى جانب كونه ابن نبلاء فصيل ولي العهد الأول، مجرد شاب مغرور بجماله، فظ وقح.
“…لا أذكر آخر مرة بكيت فيها…”
“ماذا قلتِ؟”
“…لا شيء.”
وبما أننا، إلى جانب الأمراء، صارنا محط اهتمام الحفل، فإن البقاء طويلًا في الخارج قد يُفسر بشكل خاطئ.
وبينما أتنفس نسيم الليل الأخير، سمعت كاسيون يهمس خلفي.
“لقد شربنا بما يكفي، فلنعد إلى الحفل.”
“هكذا بسرعة؟”
“لا أظن أنه من الحكمة البقاء طويلًا هنا.
إن أردنا لعب دورنا، فلنؤديه على أكمل وجه.”
لم يكن حماسه واضحًا، لكنه أومأ وأرشدني.
وفجأة خطر لي أن:
ربما… كاسيون هو حقًا الرجل المتناقض الذي أبحث عنه.
قبل عقدنا، كنت أشك في قدرتي على التأثير عليه، لكن من كان يتوقع طاعته هذه؟
“…بناء ثلاثة سدود؟ يا له من تبذير.”
“لهذا السبب، النبلاء الجدد يفتقرون للذوق.
لا يعرفون كيف ينفقون أموالهم.
من العيب أن يُعتبروا من طبقة النبلاء.”
حالما عدنا من الشرفة إلى القاعة، واجهنا مجموعة من نبلاء فصيل ولي العهد الأول، يثرثرون في الزاوية قرب الستائر.
وما إن سمعوا خطواتنا واقتربت أعينهم، جمدوا في أماكنهم كأنهم تماثيل.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ25
بما أننا عبرنا التراس لتوّنا، فمن المؤكد أن هؤلاء الأشخاص قد حضروا قبلنا بوقت وجيز وشرعوا في النميمة.
لا شك أن الدهشة اجتاحتهم حين ظهر أمام أعينهم موضوع حديثهم في اللحظة التي بدأوا فيها الكلام بجدية.
“يا للهول… أشكركم على اهتمامكم.”
رسمت على وجهي أهدأ ابتسامة يمكنني إظهارها لتهدئتهم، في حين شحبّت وجوههم وكأن الحياة تراجعت من قلوبهم، وتراقصت حدقات أعينهم باضطراب بين ابتسامتي ووقوف كاسيون خلفي.
“لكن الأمر بالكاد يذكر بالنسبة لنا.
هل يُعقل اعتبار هذا المبلغ إنفاقاً فعلياً؟”
“د-دوقة…”
“هل تعانون ربما من ضائقة مالية؟ أن تلتفتوا بهذا القلق إلى مبلغ تافه كهذا… نحن، كنبلاء، لا نتوانى عن مد يد العون في أوقات الشدّة.”
يا لهؤلاء الحمقى ذوي الوجوه القبيحة، وقلوبهم وأموالهم أشد قبحاً.
مع ذلك، رسمت على شفاهي ابتسامة تحمل تعاطفاً ظاهرياً.
“سمعت أن الدوقة رقيقة وجميلة، لكنها تفوق الوصف بكثير.”
لكن الرد جاء من خلفي.
استدرت لأرى من يجرؤ على استثارة المشاجرة، فإذا بولي العهد الأول، الذي كان واقفاً بالقرب من المنصة، يقترب منا وهو يراقبني.
“…تحياتي، يا صاحب السمو ولي العهد الأول.”
لم أستطع أن أبدأ بنقاشٍ مع هذا الخصم، فاتخذت موقفي بابتسامة هادئة.
وفي تلك اللحظة، انحنى النبلاء المختبئون خلف الستائر نصف انحناءة ثم فروا بخفة.
“هؤلاء قوم محافظون لا يدرون المزاح، فلا تكثر المزاح معهم.”
“اقتربت منهم بدافع الصداقة فقط، لكن يبدو أنني تجاوزت حدودي قليلاً.
قلة خبرتي في الأمور الاجتماعية توجب تفهمكم.”
أحكمت قبضتي على كاسيون الذي حاول التقدم ليمنعني، وواصلت الكلام.
إن ولي العهد هو من بدأ المشاجرة، فلماذا يحاول منعي؟ لستُ على استعداد للتراجع لمجرد أنه من العائلة الملكية.
“إذا لم تخني ذاكرتي، فقد تزوجتما قبل حفل التعارف الرسمي.
أتدركين كم الرجال الذين ندموا على ذلك بعد رؤيتك اليوم؟”
“أقدّر مدحك، لكنني لست ساذجة لأتجاهل تلك النظرات الكثيرة.
ومع ذلك، ماذا أفعل وقد رزقتُ بزوج محب؟”
وحين حاول الإمساك بيدي، بينما كان كاسيون يستعد للتدخل، تمسكت به بقوة ودسست قدمًا تحت ثوبي لتضغط على قدمه، فتراجع عن اعتراضه.
ولكن هذه المرّة، حول ولي العهد نظره إليّ ثم إلى كاسيون.
“هل هذه أول مرة نتحدث فيها بجدية منذ الحرب؟ مبارك لك، أيها الدوق، على زوجتك الجريئة والجميلة.”
“شكرًا، إنه من حسن حظي.”
كادت ضحكتي تنفجر.
ألم يكن من المعتاد أن يقول شيئًا مثل “بفضل نعمة الإمبراطور”؟ ما هذه العبارة العفوية “من حسن حظي”؟ رغم ذلك، ابتسم كاسيون وكأن قدمه لم تُدعَس لتوه.
“مشاهدة هذا الترابط بينكما تسعدني حقًا.
ومع ذلك، هل لي بطلب بسيط، ولو بدا جريئًا؟”
ابتسم ولي العهد، ولكن ملامحه كانت كالتمثال، كما كانت وجوه الإمبراطورة الشمعية.
“سمعت أنك تستعدين لأضرار الفيضانات المدنية، لكن أليس هذا حدثًا سنويًا متكرراً؟ لا بد أن الناس طوروا طرقهم للتعامل معه.
إلا أن الاضطرابات في دويلات التابعين وحدود ما بعد الحرب تبدو جديدة لهم.”
“سمعت أن عائلة الكونت تتابع أوضاع الحدود بالفعل.”
“نعم.
لكن ألا ترى أن وجود بطل الحرب بين الناس يمنحهم طمأنينة أكبر؟ وإذا لزم الأمر، يمكن فرض بعض السيطرة.”
“…”
“يبدو أن رجال عائلة الكونت ضعفاء في هذا الجانب، ربما لطبيعتهم الرقيقة.
أنت الأنسب لتولي هذه المهمة، أليس كذلك؟”
بمعنى آخر، إنه يحاول استقطاب كاسيون.
يبدو أن نفوذ كاسيون قد تعاظم إلى حد أن ولي العهد نفسه يحاول كسبه.
راقبت كاسيون بصمت بينما كان يتلقى العرض، وكأن المعنى الخفي هو: “ألن تنضم إليّ الآن؟”
عقدنا ينص على جعل الأمير الثاني وليًا للعهد.
وإن قرر كاسيون، الذي عزّز مكانته كدوق بزواجي منه، التراجع الآن… فسيتعارض ذلك مع العقد، ولست في موقع يخولني منعه.
لسنا مقربين إلى هذه الدرجة.
“يشرفني أن يقدّر سموّك مهاراتي بهذا الشكل.”
“أنا أقول الحقيقة فقط.
لديك القدرة بلا شك.”
كنت أتساءل عن رد فعله.
كنت شبه متأكدة من رفضه، لكن قلقًا خفيفًا راودني.
“لكن… كما ترى، نحن زوجان حديثان.”
فجأة، تمسك بي، فتقابلنا بود واضح.
يبدو أنه سيتبع الطريقة التقليدية.
“بعد قمع تمرد دويلات التابعين عند الحدود حتى النهاية، عدت إلى العاصمة.
ما لم يفعلوا حماقات، لن يكون من الصعب السيطرة عليهم. لكن إن دعت الحاجة، سأطيع الأمر… مع ذلك…”
“حبيبي… هل تنوي أن تتركني وحيدة؟”
تدخلت في الوقت المناسب بنظرة حزينة تملؤها الشفقة.
شعرت بجسده يرتجف حين لامس صدري قربه، لكني تمسكت بذراعه بإصرار، لا أنوي التراجع.
“كما ترى، أنا قلق على زوجتي الصغيرة ولا أطيق فراقها.”
“سموّك، أرجوك إعادة النظر.
ضبط الحدود سيستغرق نصف عام على الأقل، ولم يمض على زواجنا سوى شهر.
كيف أتحمّل غياب زوجي نصف عام؟”
“يا صغيرتي، لا تبكي.
يؤلمني أن أراك تبكين.”
“أنا لم أحظَ حتى بحفل التعارف، ولا أعرف أحدًا.
زوجي هو كل ما أملك، ولن أحتمل الوحدة.”
جفت عيناي بفعل مكياجي والهواء الخانق وسط الجموع، لكنني استجمعت دمعة أو اثنتين، ومسح كاسيون دموعي بشكل مبالغ فيه.
بدت ابتسامة ولي العهد المتزنة تترنح قليلاً.
“في الواقع، التقيت اليوم بابن الكونت الثاني.
سمعت أنه تخرج هذا العام من الأكاديمية.
بدا لي شابًا مسؤولاً.
أليس بإمكانه المساعدة في شؤون العائلة؟”
“…إنه في الثامنة عشرة فقط، سيدتي.”
“وأنا في التاسعة عشرة، سموّك.”
“…”
“سمو ولي العهد، كنت في السابعة عشرة عندما التحقت بالحرب.
أؤمن بأن الشاب قادر على تحمل المسؤولية.”
حتى لو تكلمنا بأقصى درجات الأدب، فسينتقدوننا خلف ظهورنا ويتهموننا بالغرور.
فلم لا نتصرف كما يروننا؟ من الأفضل أن نرد بـ”لا نريد” بأسلوب مهذب، بدل المجاملات الزائفة.
“أخي، ها قد وجدتك.”
كنا نتشبث ببعضنا كطائرَي الماندارين، وسط صمت ولي العهد المندهش، حين ظهر الأمير الثاني.
اقترب منا بموقف أكثر ودّية، وربّت على كتف كاسيون، مما منحنا فسحة للتباعد.
“كان يجب أن أعرّفك على أصدقائي سابقًا.
أعذرني.”
“…لا داعي.
لقد تبادلنا التحايا.”
“هاها.
أليسوا أصدقاء طيبين ومثيرين للاهتمام؟ سيكون لهم دور كبير في ازدهار الإمبراطورية مستقبلاً.”
بتدخل الأمير الثاني، تم دفعنا بلطف للخلف.
وبين تبادل التلميحات والمراوغات الاجتماعية، ابتعدنا تدريجيًا عن ولي العهد الأول.
“على فكرة، سمعت أنك بدأت تجارة المعادن مع مملكة نيفيلي؟ هذا إنجاز رائع.”
“يبدو أن الشائعات تنتشر سريعًا.”
“إنها صفقة تجارية ضخمة فعلاً.
سمعت أن عائلة الإمبراطورة استثمرت فيها كذلك.
وإذا نجحت، فستقوّي الخزانة العامة كثيرًا.
ومن قبيل الصدفة، لاحظت بعض النبيلات ينظرن إلينا بشغف، فجئت لأصطحبك إليهن.”
وبالفعل، كانت مجموعة النبيلات تلمع أعينهن بنظرات حارة نحونا.
مما سمعت، يتعلق الأمر بسلع فاخرة مصنوعة من معادن الدولة المهزومة.
لا أتذكر أن القصة الأصلية ذكرت شيئًا كهذا.
لو كان نجاحًا باهرًا، أليس من المفترض أن يُذكر ولو عرضًا؟
“أوه، إذًا دعونا نفسح المجال.
نسأل الله أن تكلل جهود سمو ولي العهد الأول بالنجاح من أجل الإمبراطورية.”
استدار ولي العهد نحونا، كأنه لم ييأس من استقطاب كاسيون. لكنه لم يُفلح في الكلام قبل أن أتدخل وأعطي كاسيون دفعة خفيفة بمرفقي.
“سعدنا بتلقي عرضك، سموك.
نسأل الله أن تحيا الإمبراطورية في رخاء تحت قيادتك.”
تبعني كاسيون في التحية، وقد لاحظت يده خلف ظهره وأصابعه متشابكة بإصبع واحد متقاطع.
[أي انه دَيكذب أو سوا لي الحركة المعروفة]
“…حقًا، سعدت بلقاء الدوق والدوقة.
أتمنى لكما مستقبلًا مستقراً.”
كانت تحيته تبدو كتهديد مبطن: سأجعل مستقبلكما عاصفًا.
لكننا تجاهلنا الأمر وضحكنا برقي.
يبدو أن هذا الحفل ليس سيئًا بالكامل… ففي استفزاز الآخرين متعة لا يُستهان بها.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ26
“سباق خيول؟”
“نعم.
إنه الحدث الكبير الأخير قبل بدء موسم الأمطار، لذا أعتقد أنه من الجيد أن نشارك.”
لم نعد مضطرين للتجوّل في قلب المدينة أو التظاهر بالمواعيد العامة كما في السابق لجذب الأنظار، فقد كنا بالفعل محور الاهتمام بعد حفل الاستقبال والوليمة.
كان الناس يتحدثون عنا في كل مكان، بعضهم يثني على علاقتنا كزوجين دوقيين ويصفها بالمثالية، وبعضهم الآخر يراها مجرد زواج مصلحة، بينما يرفض آخرون كلا الرأيين، مؤكدين أن ما بيننا يبدو مختلفًا كليًّا.
في الوقت نفسه، بدأت الشائعات تدور عن تبذيرنا، وعن جمالي الذي كثيرًا ما يُذكر، حتى ارتفع فضول الناس نحونا بشكل ملحوظ، وأمست دعوات الشاي تتدفق علينا يوميًا تقريبًا.
“حين كنت من العامة، كثيرًا ما تساءلت: كيف يقضي النبلاء أيامهم؟ لكن يبدو أن حياتهم لا تنفصل عن الحفلات والمراهنات.”
“ربما يعدّ ذلك شكلًا من أشكال العمل، على طريقتهم.”
لكن حين يبلغ الفضول ذروته، فإن أفضل طريقة لتغذيته هي الغياب.
لذا، بعد تلك الوليمة، بدأنا نعتذر عن كل دعوة ونقلّل ظهورنا العلني.
كنت ممددة على أريكة في غرفة كاسيون، ألوّح بدعوة سباق الخيول التي استخرجتها من بين كومة من الرسائل.
“إنها فرصة أخرى لإظهار ثرائنا، كما أنها آخر فعالية اجتماعية في الربيع.
بعدها، سنبقى في القصر حتى حلول موسم الصيد في الخريف.”
“عرض المال أمر، لكن الفوز أمر آخر.
هل لديك أي فكرة عن سباق الخيول؟”
“ظننتك أنت من يعرف.”
“…أنا لا أقامر.”
“كلما عرفتك أكثر، كلما دهشتُ من كمّ التناقض بينك وبين ما يبدو عليك.”
السباق في الغد، ولا أحد منا يفقه شيئًا في المقامرة.
كنت أظنها مناسبة بسيطة، نرتدي فيها ملابس أنيقة ونتبادل أطراف الحديث ونصفق أثناء الركض، لكن حين نظرتُ في التفاصيل، بدا الأمر أعقد بكثير، بل أقرب إلى مقامرة جادة.
“الواقع أننا لا نملك الوقت لتحليل فرص الفوز.
فلنخضع للحظ فحسب.
نختار حصانًا يروق لنا، أو نراهن على ترشيحات الآخرين.”
“لكن… هذا يجرح كبريائي.”
“لا تُهِن كرامتك بسبب أمر كهذا.
لستَ أنت من سيتسابق.
ومن الطبيعي أن نجهل بعض الأشياء.
تعال فقط، وبيّن للجميع كم تحب قضاء الوقت برفقتي.”
رغم أنه لا يقامر، إلا أن وجه كاسيون بدا منزعجًا، وكأن فكرة الخسارة لا تُحتمل لديه.
بدَا كطفل ضخم الحجم.
لم أتمالك نفسي من الضحك، وما زادني ضحكًا هو خجله من نفسه.
“فكر بالأمر كأنه موعدنا المعتاد، لكن في مكان جديد.
لا داعي للقلق.”
وما دمنا لا نفهم في السباق، فلنظهر كزوجين حديثي الزواج، لا يهتمان إلا ببعضهما، ولا يعنيهما من يفوز أو يخسر.
لقد مثّلنا هذا النوع من العلاقة من قبل.
ظننت أن هذه المناسبة لن تتطلب منا جهدًا يُذكر، وسنعود منها بهدوء وسلاسة.
—
“…هم؟”
“أسيليا؟”
في مضمار السباق، حيث ارتديت فستانًا بلون أزرق مزخرف وقبعة كبيرة تقي وجهي من الشمس، تلقّينا الكتيّبات التي وزعها المنظمون، ثم اقتادونا إلى مقاعدنا.
كان كتيبًا تقليديًا، يحوي أسماء الخيول والفرسان المشاركين وسيرهم.
“يا دوقة، إن كان هناك خطأ في الطباعة، سنبدله فورًا.
أحيانًا تتسلل بعض الأخطاء…”
كنت قد ابتسمت وأنا أتناول الكتيب، لكنني توقفت فجأة عن الحركة، فتوجّهت أنظار كاسيون ومالك المضمار إليّ، وقد لاحظا ارتباكي.
لكنني كنت مشدوهة بالاسم الذي قرأته للتو.
…هل يعقل؟ لا بد أنه تشابه أسماء، أليس كذلك؟
“الفارسة رقم 7… هل كُتب اسمها بشكل صحيح؟”
“رقم 7؟ آه، تفاجأتِ لأنها امرأة؟ نعم، الاسم صحيح.
إنها تشارك لأول مرة هذا العام.”
“إذًا ليس خطأ مطبعيًا؟”
“لا تشغلي بالك.
إنها جينين براون، تمتطي الحصان ليونينا.
مبتدئة لا تملك أي سجل، لذا لا تستحق المراهنة عليها. يقولون إنها بارعة في ركوب الخيل في قريتها، لكنها تظل قرية نائية.
أحيانًا يُستعان بفرسان كهؤلاء فقط لسد النقص في العدد، يمكنكِ تجاهلها.”
امرأة ريفية بارعة في الخيول.
جينين براون.
“…هاه.”
“أسيليا؟ هل هناك ما يزعجك؟ إن كنتِ منزعجة، يمكننا المغادرة حالًا—”
“…لا، لا بأس.
دعنا نأخذ مقاعدنا أولًا.”
“سأرافقكما! من هذا الطريق، تفضّلا.”
ربما لأن القبعة أخفت ملامحي، انحنى كاسيون قليلًا لينظر إليّ، وحين التقت عيناي بعينيه الطيبتين، تذكرت تلك المرأة ذات العينين الزرقاوين، التي كان من المفترض أن تكون توأم روحه.
رغم أنني لم أرها أبدًا، إلا أن الوصف المتكرر لها في الرواية منحني صورة واضحة لملامحها.
“هذا مقعدكما! موقعه ممتاز، لا تصل إليه أشعة الشمس كثيرًا، ويمكنكما رؤية الحلبة جيدًا.
وقد أُعدّت الكوكتيلات أيضًا…”
“أعطني واحدًا.”
كانت مقاعد الأسرة الدوقية الأفضل بلا شك.
رأينا الفرسان الذين سبقونا، يجهزون أنفسهم ويعتنون بخيولهم.
شعرت بالقلق، فتناولت الكأس من يد المضيف وشربته دفعة واحدة، ثم ناولته الكأس الفارغ.
“هل لديكم منظارات مكبّرة؟ أرغب في رؤية الخيول والفرسان عن قرب.”
“آه، معذرة يا دوقة.
السباقات تعتمد على السرعة والمشاهدة الشاملة، لذلك لم نجهز شيئًا كهذا.
لكن في المرة القادمة، سنحضّرها بالتأكيد إن طلبتم مسبقًا!”
“…لا بأس.
هل لي بكوكتيل آخر؟”
“أسيليا…”
ارتبك المضيف وانسحب مسرعًا، بينما جذبني كاسيون برفق إلى المقعد، وقد لاحظ توتري المفاجئ.
“هل هناك أمر يزعجك فعلًا؟ حتى لو لم أكن قادرًا على المساعدة، أخبريني على الأقل.”
“لا شيء محدد… فقط شعور مفاجئ…”
أدرت وجهي إلى المضمار أراقب الفرسان.
وسط الرجال، لفتتني امرأة تجمع شعرها البني الطويل وتضع خوذة الركوب.
كانت عيناها الزرقاوان مليئتين بالعزم.
جسدها نحيل، وزيها متواضع لا يحمل أية شعارات، على عكس الباقين.
ومع ذلك، كانت تمتطي حصانًا بنيًا أنيقًا، لامع الفرو.
الفارسة رقم 7.
جينين براون.
“…راودني شعور مفاجئ… أن الحصان رقم 7 سيفوز.”
“ما الذي تقولينه؟”
شعر بني، عينان زرقاوان.
ملامح ليست استثنائية، ومع ذلك، عرفت على الفور أنها البطلة الأصلية.
كانت متمكنة في ركوب الخيل، واعتادت كل صباح أن تجوب الغابات رغم اعتراض والدها.
وهناك، صادفت كاسيون مصابًا في أحد الأيام.
الحصان ليونينا الذي ترافقه اليوم كان أعز ما تملك، نشأ معها منذ الطفولة، وكان أقرب إليها من أي إنسان.
وقد مات في الرواية بسبب انهيار طيني نجم عن فيضان.
حزنها على الحصان فاق حزنها على نفسها، وكانت لحظة عزاء كاسيون لها حين وعدها أن يكون عائلتها الجديدة من أجمل مشاهد الرواية.
“يا دوقة، هذا هو كوكتيلك.”
“شكرًا… وقد قررت على من أراهن.”
“نعم! من هو الفارس؟”
“رقم 7.
راهنوا بكل ما لديّ على جينين براون.”
“عذرًا؟”
“أعطوها ختمي.”
فتحت حقيبتي وسلّمت كل ما أملك من نقود.
بدا الذهول واضحًا على وجهَي كاسيون والمضيف، لكنني تجاهلت ذلك ونظرت مرة أخرى نحو جينين براون.
كان ذلك مجرد حدس… وحتى لو كان خاطئًا، أردت أن أفعل شيئًا لها، لتلك التي وقفت هناك دون دعم أو تحفيز.
“ما الذي تنتظره؟ ألا تعطيها الختم؟”
“آه، نعم، حالًا!”
“أسيليا…؟”
“لا تقلق، لم أستخدم نقودك.
هذه المقامرة بمالي أنا فقط، لذا لا حاجة لتحدق فيّ هكذا.”
“الأمر ليس متعلّقًا بالمال.
تصرفاتك غريبة منذ لحظة وصولنا.
هل تعرفين هذه الفارسة؟”
كاسيون، الطيّب… البطل الأصلي.
كان من المفترض أن يتعافى الآن في قرية نائية وهي إلى جانبه.
لكن لقائي به غيّر مجرى القصة.
أصبح ناجحًا، ولم تعد بحاجة لرعايته.
أصبحت فارسة، تتسابق على ظهر حصانها العزيز.
لطالما ظننت أنني لم أؤذِ أحدًا، لكن رؤية التغيير بأم عيني جعلني أشعر بثقل غريب.
“…نحن غريبتان تمامًا.
فقط… أردت فجأة أن أؤمن بها.”
من بعيد، رأيت المضيف يركض ليسلّم الختم إلى جينين.
كان يشير ويتحدث بحماسة، وحين فهمت ما قاله، التفتت نحونا بعينين زرقاوين فاغرتين.
“…”
“…”
وحين التقت أعيننا، سرت بيننا مشاعر عميقة يصعب وصفها.
وضعت الختم على زيها المتواضع، وانحنت نحونا مرارًا، وجهها ممتقع من شدة التأثر.
لوّحتُ لها، أحاول أن أهدّئ أفكاري المتشابكة… لكن عبثًا.
بانغ—
في تلك اللحظة، بدأ السباق.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ27
يا للروعة—
كنت أظن أن سباقًا كهذا، يقتصر حضوره على النبلاء، سيكون خاليًا من الإثارة… لكنني كنت مخطئة تمامًا.
معظم الحضور نهضوا من أماكنهم، متخلّين عن رصانتهم المعتادة، وهم يهتفون بعنفوان للخيل والفارس الذي عقدوا عليه آمالهم.
“……”
ورغم الحماسة العارمة التي اجتاحت المكان، لم يسعني أن أصرخ باسم البطلة الأصلية وسط هذا الحشد.
حسن حظنا، كانت مقاعدنا مميّزة، مما أتاح لي رؤية واضحة للمضمار رغم وقوف الآخرين وقفزهم الحماسي أمامي.
انطلاقتها كانت مدهشة.
أظهرت تركيزًا وثباتًا لا يُصدّقان، لا سيما لمبتدئة تشارك للمرة الأولى، ورغم فارقٍ بسيط يفصلها عن المتصدّرة، كانت تسابقها من الخلف مباشرة.
“أنتِ مذهلة فعلًا.
ظننت أن رهانكِ كان غير محسوب، لكن خيلكِ يركض ببراعة.”
قال كاسيون بجانبي، وصوته يشي بالدهشة، لكنني كنت منشغلة كليًا بمتابعة جينين براون.
ومع اقترابهم من خط النهاية، بدأ الحصان رقم 7—الذي حافظ على وتيرة ثابتة طوال الوقت—يزيد من سرعته تدريجيًا.
تصاعدت صرخات الحشد مع اقترابه من الحصان رقم 2، الذي كان المرشح الأوفر حظًا للفوز.
يبدو أن معظم الحاضرين راهنوا عليه.
“اركضي يا جينين!”
كانت تلتف حول المنعطف الأخير، تدخل مباشرة في الممر المستقيم الحاسم.
وقفتُ من مكاني دون إدراك، أهتف لها بكل جوارحي.
كانت تقترب من الصدارة بثقةٍ وتصميم.
“أنتِ قادرة على الفوز!”
رفعت ذراعي عاليًا وأنا ألوّح لها بحماسة، غير منتبهة تمامًا لنظرات كاسيون المذهولة من حالتي المتوهّجة.
في تلك اللحظة، لم أكن أفكر في أنها البطلة الأصلية، ولا أنني أحتل مكانًا كان من المفترض أن يكون إلى جانب البطل الرئيسي.
كنت فقط أرغب في تشجيع فتاة تخوض الحياة بصدقٍ وشغف، تمامًا كما أفعل.
بييب—
“كييييااااه!”
“…أسيليا!”
مع صافرة النهاية، قطع الحصان رقم 7 بقيادة جينين براون خط النهاية أولًا، بفارقٍ ضئيل يكاد لا يُرى.
أطلقت صرخة فرح وارتميت على عنق كاسيون، الذي كان واقفًا بجواري.
ارتبك وتلعثم، لكنني تجاهلت الأمر.
“لقد فزنا! فزنااا! كياااه!”
“…!”
احتضنت عنقه، وشرعتُ أركل الأرض بفرح طفولي، ثم، دون تفكير، طبعت قبلة على وجنته.
أحسست بجسده يتيبّس كقطعة خشب، لكنني لم أُعره أدنى اهتمام.
“رائعة! لقد أبدعتِ!”
هتفت نحو البطلة الأصلية البعيدة، دون أن ألاحظ نظرات الاستغراب من بعض النبلاء الذين خسروا رهانهم.
أما عيناها الزرقاوان، فبدتا وكأنهما تبتسمان لي بامتنان خفي.
أغلب الظن أن عددًا قليلًا فقط راهن على الحصان رقم 7، كونها فارسة مبتدئة وامرأة… لذا، كان ربحنا مفاجئًا.
[دمعتتت أحب آسيل! 🥺🥹🥹🥹🥹]
لكن فرحتي لم تكن لأجل النقود.
بل لأنني أطلقت مشاعري دون قيود، وكنت واثقة أن الجميع سيتفهّمون هذا التوهّج العفوي.
أما بالنسبة لما فعلته بمجرى القصة الأصلية…
فقد كان ذلك حماسيًا بطريقة لا توصف.
—
“الفارسة تودّ لقاءكما، سمو الدوق والدوقة.”
قال مدير المضمار، وهو يسلمني كيسًا ثقيلًا من المال، وقد ارتسمت على وجهه علامات الاندهاش.
“كيف عرفتِ، يا دوقة؟ الجميع راهن على الحصان رقم 2! لقد فاز مرتين سابقًا! وتغلبت عليه فارسة مبتدئة؟ نظرتك ثاقبة بالفعل!”
“لدي عين خبيرة في هذه الأمور.”
حدّقت في كومة المال التي تضاعفت لدرجة يصعب حملها. هممت أن أطلب من خادم نقلها إلى العربة، ثم توقّفت فجأة.
“سأقابل الفارسة.
أخبرها أنها مدعوة للدخول.”
“أسيليا، إنها غريبة عنا.”
“لكنك ستكون بجانبي، أليس كذلك؟ ثم إننا أفدنا بعضنا.”
“…تقولين نحن عن فارسة في مضمار؟ أظن أن عليك الحذر من إدمان المقامرة.”
لم أكترث لتصحيحه ولا لتفسيره الخاطئ، فقد ظن أن حماستي نابعة من حب القمار.
كان الأمر أعمق من ذلك بكثير.
مررت يدي على فستاني المتجعّد من كثرة القفز، فيما أطلق كاسيون تنهيدة طويلة وهو يضغط لسانه بامتعاض.
ثم، فُتح طرف الخيمة برفق، ودخلت البطلة الأصلية.
“صاحبَي السمو، أشكركما لإتاحة الفرصة للسلام عليكما.
أنا جينين براون، الفارسة رقم 7.
جئت أعرب عن امتناني لدعمكما!”
“سررنا بأن وضعنا الختم.
هل ترفعين نظركِ؟”
كانت نبرتها ترتجف قليلًا، ربما لا تزال تحت تأثير نشوة السباق.
وعندما التقت أعيننا، كانت نظراتها صادقة وشديدة الصفاء.
كأنني مسحورة، اقتربت منها وأمسكت بيدها.
“لقد كنتِ مذهلة بحق.”
“د… دوقتي…!”
“هل أنتِ سعيدة الآن؟”
سؤالي بدا غريبًا، أعلم.
الفوز كفيل بإسعاد أي أحد، لكنني كنت أقصد معنى أعمق. حدّقت في وجهي بذهول، ثم أومأت ببطء.
“نعم. بالتأكيد.
لقد حققت حلمي برفقة صديقي العزيز.
والفضل كله يعود إليكِ، دوقتي.”
“بل هو ثمرة موهبتكِ وإصرارك.”
“لا! ختمكِ منحني شجاعة لا توصف.
في اللحظة التي تسلّمته فيها، زال كل توتري.
كأن أحدهم دفعني للأمام!”
رغم محاولتها الحفاظ على هدوئها، تحدّثت بحماسة صادقة. كاسيون عبس قليلًا، محاولًا التدخّل، لكنني أوقفته بنظرة.
“وأنا… شعرت بسعادة غامرة وأنا أتابعكِ تركضين.”
“…دوقتي…”
“وهذه، هديتي لكِ بمناسبة الفوز.”
قدّمت إليها كيس المال.
تسمرّت كل من جينين وكاسيون مكانهما، يحدّقان إليّ في ذهول.
كان من الطريف أنهما تجاهلا تمامًا وجود أحدهما الآخر.
في تلك اللحظة، التقت البطلة بالبطل للمرة الأولى.
لكن دون شرارة، دون نبض يعبّر عن قصة حب قادمة.
بديا وكأنهما يسيران كلٌ في طريقه نحو النجاح، وهذا لم يكن سيئًا في نظري.
أحببت رؤيتهما يتلألآن، كلٌ بأسلوبه الفريد.
“هذا كثير جدًا، دوقتي! لا يمكنني قبوله!”
“لا ترفضي، أرجوكِ.
إنه مكافأة لكِ على هذا الأداء المذهل.
استخدميه لترميم مأوى صديقك، واهتمي به جيدًا، واجعليه يعود العام المقبل وهو في أفضل حال.”
“…!”
عندما ذكرت حصانها، ارتجفت عيناها فجأة.
في القصة الأصلية، لقي حصانها حتفه جراء انهيار أرضي بسبب الأمطار، بعد أن جرف السيل الإسطبل الضعيف.
فهل كان يمكن تجنّب ذلك لو كان المكان أكثر صلابة؟
“أود أن أدعم حلمك.”
“أتقصدين… رعاية؟ أنتِ، دوقتي… من أجلي؟”
أومأت لها، ثم دفعت المال نحوها مجددًا.
أخذته بتردد، ثم انحنت بامتنان، وقد ارتجف صوتها وهي تقول:
“شكرًا! سأقبل رعايتك بكل فخر! شكرًا جزيلًا، دوقتي!”
تمايل شعرها البني المربوط إلى الأعلى، وفجأة أدركت كم هي فتاة جميلة، جريئة وذات طلة آسرة.
“سيُسعد الدوق أيضًا بذلك.
عزيزي، قل شيئًا.”
ورغم شعوري بالرضا لرعايتي لها، إلا أن بعض الضمير جعلني أشرك كاسيون في المشهد.
“اعملي بجد… لا تخيبي آمال زوجتي.”
“سأبذل جهدي الكامل.
أشكرك، سمو الدوق.”
لكن تبادلهما كان باهتًا، بلا دفء، بلا أثر يُذكر.
راقبت المشهد بدهشة، بعد أن كنت أتوقع لحظة مليئة بالعاطفة أو التوتر، لكن كل ما جرى كان مجرّد مجاملات رسمية.
“أسيليا؟”
“دوقتي؟”
نظر كلاهما إليّ بنظرات بَرّاقة، كأنهما أتما ما طُلب منهما. لا مشاعر، لا توتر، لا حتى فضول.
فكرت بذهول… ألهذا الحد تغيّر كل شيء؟
أين ذهب الحب الذي كان يُولد من أول نظرة؟
“أهاهاها…”
لكن، أليس ما يحدث الآن أفضل؟ سأرعى جينين وسنلتقي كل عام، وإن نشأ حب بينهما لاحقًا، يمكنني حينها التراجع!
حاليًا، لا بأس بأن أستمتع برؤية البطلين يتألّقان دون مآسٍ أو حب دامٍ.
“يا له من يوم جميل!”
فما أعيشه ليس رواية، بل واقعي الحقيقي.
بدلًا من التشبث بنهاية حزينة كتبتها قصة حب مأساوية، سأستمتع بالفرح البسيط والنجاح المشرق الذي تحمله الحياة.
ضحكة جينين المشرقة، التي تبعت ضحكتي دون أن تعرف السبب، كانت كالشمس…
مُبهرة.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ28
“رسالة؟ إلى من سترسلينها؟”
“إلى جينين.
لأحذّرها من اقتراب موسم الأمطار.”
كان حلول موسم الأمطار إيذانًا بانتهاء موسم الربيع الاجتماعي.
النبلاء الذين اعتادوا التباهي بأزيائهم الزاهية والتنقّل بين الحفلات والولائم، انسحبوا إلى قصورهم بهدوء، ولم نكن نحن استثناءً من ذلك.
غير أننا، على عكسهم، لم نكتفِ بالاختباء من المطر، بل ساهمنا ماليًا في تدعيم ثلاثة سدود استعدادًا للفيضانات المتوقعة، وصرنا نراقب الموقف عن كثب.
في القصة الأصلية، كانت قرية جينين الواقعة أسفل الجبل عرضة لأضرار جسيمة.
ورغم وجود سدّ في أعلى النهر، فقد أرسلتُ إليها رسالة ظاهرها التحية، وباطنها القلق، خشية أن يصيب الضرر حصانها أو منزلها.
“ألستِ مهتمة بتلك الفارسة أكثر من اللازم؟”
“في الحقيقة، أمنع نفسي بالكاد من دعوتها إلى القصر خلال هذا الموسم.”
“هاه! وما الذي يجعلك مفتونة بها إلى هذه الدرجة؟”
“لقد كانت لافتة.
كأنها حب من النظرة الأولى.”
“أيّ شخص قد يظن أنك واقعة في غرامها!”
“ربما… لا بأس إن قلت ذلك.
كل ما أريده الآن هو أن أكون صديقتها.”
رغم رغبتي العميقة في الاقتراب منها، إلا أن دعوتها إلى هذا القصر في مثل هذا الوقت بدت تصرّفًا غير لائق.
لذا، اختتمت رسالتي بعرض اقتراح حول أماكن يمكنها الإقامة فيها أثناء موسم الأمطار إن أرادت.
وحين أنهيت كتابة الرسالة، أودعتُ فيها كل ما شعرتُ به بصدق، وختمتها، التفتُّ إلى كاسيون الذي كان واقفًا بصمت إلى جواري، يعقد ذراعيه وينظر إليّ بوجهٍ ممتعض.
هل كان يعبّس شفتيه؟
“ما بك؟”
“أقول فقط… أنا أيضًا أجيد ركوب الخيل.
يمكنني أن أريك بعد انتهاء المطر.”
“بالطبع، لا بد أنك احترفته في أرض المعركة، أليس كذلك؟”
“…يكفي.”
لكن نظراتك لا توحي بأنك اكتفيت.
هل يكره جينين إلى هذا الحد؟
حتى مع تغيّر الوقائع، من الغريب التفكير بأن البطلين في القصة الأصلية لم يكن بينهما أي شعور.
أو لعلها قصة حب تبدأ بالنفور؟ لا يبدو ذلك محتملًا.
“فيمَ تفكرين بهذه الطريقة؟ لقد صرتِ شاردة الذهن كثيرًا مؤخرًا.
هل تشعرين بتوعك؟”
“…ربما غياب الشمس مع الأمطار يجعل الأفكار تتزاحم في رأسي.”
لا بد أنني شردت دون أن أدري، وأنا ما أزال أمسك الرسالة. اقترب مني كاسيون بتعبير مختلف تمامًا عمّا كان عليه حين كنّا نتحدث عن جينين، وتأمل ملامحي بهدوء.
لقد بدأت أفكر بجدية في القصة الأصلية أكثر من ذي قبل.
“أشعر أنك تتحاشين الاعتماد عليّ، رغم وجود اتفاق بيننا. إذا كان هناك ما يقلقك، أخبريني به.
لا تحاولي التحري أو جمع المعلومات وحدك.”
كلما ازداد الاختلاف بين الواقع والقصة الأصلية، اتسعت الهوة بينهما.
لكن، هل كل تغيير يُعد للأفضل؟
قلة معرفتي بما سيحدث تضعف قدرتي على الاستعداد.
وفي أسوأ الاحتمالات، حتى اعتلاء الأمير الثاني للعرش—الذي كلف حياة بطلي القصة—قد لا يتحقق.
“شكرًا لك.
سأطلب مساعدتك إن واجهت أمرًا صعبًا.
الآن… حقًا كل ما في الأمر هو الطقس.”
لكنني لن أسمح بتكرار ذلك المصير.
ما بدأت هذه الرحلة إلا بعزمٍ صادق.
ربما تؤثر قلة الشمس على النفس البشرية؟ هززت رأسي لطرد تلك الأفكار السوداوية وابتسمت.
دَق… دَق… دَق!
“آه!”
جاء الطرق هذه المرة عنيفًا، وكأن الباب سينهار، مصحوبًا بصوت المطر المنهمر في الخارج.
حسبته رعدًا، فارتجفت، فاحتواني كاسيون في ردّة فعل تلقائية وهو ينادي:
“ما الأمر؟”
“برقية عاجلة وصلت إلى السيدة.”
“…ادخل.”
لم أتوقع أن يكون الطارق هو بيرت، كبير الخدم، بتصرّف يخالف هدوءه المعتاد.
فقد كان من القلائل الذين خدموا هنا قبل قدومي، ونادرًا ما ارتكب أخطاء كهذه.
“هذا ليس معسكرًا للمرتزقة، بل قصر دوق.
إن لم تكن البرقية عاجلة حقًا—”
“أعتذر يا سيدي، لكنها عاجلة بالفعل.”
رغم نبرته الباردة، قاطعه بيرت ومد له البرقية فوق صينية.
كانت موجهة إليّ، ولكن لم يكن هناك اسم مرسل.
“هل يمكنني فتحها، أسيليا؟”
“بالتأكيد.”
ربما أثار الأمر قلقه، لذا طلب إذني.
لم يكن في الظرف سوى ورقة، بلا أي إضافات.
ولا يفترض أن أتلقى أي رسائل سوى دعوات فارغة من نبلاء بالكاد أعرفهم.
وبما أنني لا أخفي شيئًا، اكتفيت بمراقبة كاسيون وهو يفتح الظرف بهدوء.
ومن الخطوط البادية على ظهر الورقة، بدا أن محتواها قصير، لكن تعبير وجهه تجمّد على الفور.
“…”
“ما الأمر؟ هل هناك شيء سيئ؟”
“…أنا آسف.
كان ينبغي أن تري هذه الرسالة أولًا.”
ما الذي يحدث؟ بدا كاسيون عاجزًا عن الكلام، مسح وجهه بيده أكثر من مرة، ثم طوى الورقة وأعطاني إياها.
لمَ طواها؟ ألم يكن من الأفضل أن يناولني إياها كما هي؟
أخذت الورقة منه، وكانت عيناي على ملامحه أكثر من الكتابة.
[نبلغكم بأنه تم العثور على جثتين تحت الجسر الواقع في منطقة شابيري، الساعة الرابعة صباحًا، بتاريخ xx/xx/xx، وتم التعرف عليهما على أنهما الفيكونت والفيكونتيسة كورنيل.
نرجو حضور الدوقة إلى شابيري لتأكيد الهوية في أقرب وقت.]
“…آه.”
توقفت أفكاري عن الدوران.
قرأت الرسالة، ثم نظرت إلى وجه كاسيون القلق، ثم عدت أقرأ من جديد.
[ جثتان… الفيكونت والفيكونتيسة كورنيل.]
“…هل… هذه ورقة نعي؟ هل يعني ذلك أن والديّ قد ماتا؟”
“أسيليا…”
“هل هذا حقيقي؟ قرأت نفس الكلام، أليس كذلك؟ لا تنظر إليّ بهذه الطريقة.
لست حزينة، فقط مصدومة.”
“…أسيل…”
ضمّني كاسيون بصمت.
لم أكن بحاجة إلى عزاء.
أما يعلم كيف عامَلاني؟ لم أشعر بالحزن لرحيلهما، بل بالذهول فقط، من التوقيت، ومن غرابة الحدث.
ربتّ على كتفه إشارة لأن يتركني، لكنه لم يحرّك ساكنًا.
“دعني أذهب.
شابيري ليست بعيدة، أليس كذلك؟ ظننتُ أنهما فرا إلى مكان بعيد، لكنهما كانا هنا.”
“…”
“ألم يكن ذلك تصرفًا غبيًا؟ ألم يعلمان أن هذا الموسم ماطر؟ لماذا يختبئان تحت جسر؟ كم هو سخيف.”
“…أسيليا، هل تسمحين لي بمرافقتك؟”
كانت يدي التي تمسك الرسالة ترتجف.
لماذا؟ هل أشعر بالبرد؟ أو ربما على وشك البكاء؟ عضضت شفتي لأمنع صوتي من الارتعاش، بينما سألني كاسيون بصوته الدافئ، وهو لا يزال يحتويني.
توقفت عن المقاومة، وأسندت رأسي إلى كتفه.
وسط هدير المطر، خفق قلبه الهادئ منحني طمأنينة خفية.
“…حسنًا.”
“شكرًا.”
“على ماذا؟ أنا من يجب أن يشكرك.
المطر يشتد، لذا أود الذهاب في الصباح الباكر، والعودة بأسرع ما يمكن، إن لم تمانع.”
“بالتأكيد.
لذا، من الأفضل أن تستريحي هذه الليلة.”
“لا حاجة لذلك…”
“وجهك شاحب جدًا.
سأشعل المدفأة، الجو رطب.
وسأطلب إحضار شاي دافئ.”
“موافق…”
قادني كاسيون إلى السرير بلطف، وكأنما أخذ الرسالة من يدي دون أن أشعر، وبمجرد أن جلست، رأيت بيرت يهرع إلى الخارج وكاسيون يكدّس الحطب في المدفأة.
مع انتشار دفء البطانية، وإشعال الموقد، بدأت أشعر بمدى توتر نبض قلبي.
أطلقت زفيرًا طويلًا لأهدّئ أنفاسي.
لقد صُدمت فعلًا.
“…كاسيون.”
“نعم، أسيليا.”
“أشعر بشيء غريب.”
“لا بأس… إنه شعور طبيعي.”
“…هل هو بسببي؟”
“لا.”
لم يقدّم لي عزاءً مزيفًا، ولم يغرق في التبرير.
فقط أمسك بيدي برفق وسوّى الغطاء عليّ.
فكرت في كلماتي التي تفوّهت بها دون تفكير.
هل هذا ذنبي؟
لأنني غيّرت مجرى القصة، تزوجت كاسيون، وأبعدت عائلتي، وجعلتهم يفرّون مثقلين بالديون… هل هذا ما أوصلهم إليه؟
“…أريد أن أبقى وحدي.”
“كما تشائين.
ناديني إن احتجتِ إلى شيء، أسيليا.
لا تنسي شرب الشاي قبل النوم.”
هل أنا السبب؟ هل كنت أنا من رفع السيف وصاح “موتوا”؟
كما قلت من قبل… تذكري لحياتي السابقة، وتغير شخصيتي، لا يعني أنني شخص آخر.
العقل يخبرني أنني كنت ضحية إساءة، وأن مصيرهم كان من صنع أيديهم.
لكن مشاعري؟ لا أعلم.
“…أشعر… بشيء غريب.”
همست، رغم أن كاسيون كان قد غادر.
لسبب ما، أردت أن أرى البرقية مجددًا، لكنها لم تكن هنا.
لقد أخذها معه.
كل ما فعلته هو احتساء الشاي الدافئ الذي أحضرته الخادمة بصمت، ثم استلقيت على الفراش مبكرًا.
وصوت المطر ظل يقرع أذنيّ حتى غفوت.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ29
“نعم، هذا صحيح.
إنهما والديّ.”
حين أكّدت الأمر بجفاء، دون إنكار أو انفعال، لاحظت تغيّرًا طفيفًا على ملام الرجل المسؤول عن الجثتين، وكأنه فوجئ ببرودي.
“ألم يُعثر على جثمان شاب بالقرب منهما؟”
“لم نجد أي جثث أخرى في مجرى النهر.
ولكن إن كنتِ تبحثين عن شخص بعينه، يمكننا إصدار بلاغات، أو التواصل معك فور ظهور أي جثة مجهولة.”
“لا حاجة لذلك.
لا أريد أن أُثقل كاهلكم.”
كان هناك جثمانان فقط.
والديّ.
أما أخي، الذي قيل إنه هرب معهما ليلًا، فإما نجا من الحادث، أو لم يكن معهما من البداية.
ولم أدرِ، حقًا، إن كان ذلك مدعاة للأسى… أم للراحة.
“أنا… آسف أن الأمر آل إلى هذه النهاية، يا دوقة.”
وبينما كنت أُشاهد بصمت إعادة تغطية الجثتين، اقترب رجل قيل إنه أول من اكتشفهما وأبلغ عن وجودهما.
بدا كاسيون متحفّظًا من اقترابه، لكن ملامح الرجل أشرقت ما إن وقعت عيناه عليه.
“يا للسرور! صاحب السمو هنا أيضًا!”
“زوجتي في حالة صدمة، وإن كنت تنوي الحديث عن مكافأة، فتحدّث إليّ أنا.”
“لا، لا أبدًا! مكافأة؟ بل الشكر كله لعائلة الدوق.
لولا السدّ الذي شيّدتموه، لكانت الخسائر فادحة.”
قالها بصوت يملؤه الأسى، وكأن حزنه يفوق حزني نفسه.
“أنا أعمل ملاحًا في النهر عادة، وخلال موسم الأمطار أساعد في انتشال الجثث.
في مثل هذا الوقت من كل عام، تكثر الفواجع… لكن هذا العام، لم تقع كوارث تُذكر.
لولا أن الفيكونت والفيكونتيسة تجاوزا الحاجز ونزلا أسفل الجسر، لما أصابهما مكروه.
لا أعلم ما الذي أوقعهما هناك…”
“كفى.”
“أوه، يا إلهي… لساني سبقني! أعتذر… أعتذر يا دوقة!”
“لا بأس.
لقد ساعدتنا كثيرًا.
لولا اكتشافك المبكر، لما تمكّنا من التعرّف عليهما بسهولة. وسنكافئك على ذلك كما ينبغي.”
ظلّ يرفض المكافأة، لكنني وكاسيون سلّمناه كيسًا من النقود.
كنت قد هيّأت نفسي لمشهد مرعب، لجثتين منتفختين بفعل الفيضان، لكن وجهيهما كانا فقط شاحبين… تمامًا كما حفظتهما ذاكرتي.
يبدو أنهما حاولا الهروب من العاصمة لتفادي الدائنين، وجهِلا خطورة مياه الأمطار في الريف.
ولأنهما قضيا حياتهما في قصر بالعاصمة، ربما ظنّا أن الاختباء تحت الجسر أكثر أمانًا… فانجرفا مع التيار.
“…وما جدوى بناء السد إذا لم يَحُل دون موت والديها؟”
“ما الذي أتى بالفيكونت والفيكونتيسة إلى هناك من الأساس؟”
ذلك الصوت الناقد هو ما أيقظني من شرودي.
كنت أتذكّر اللحظة التي تعرّفت فيها على الجثتين حين سمعت التعليق.
رغم أن ذروة موسم الأمطار قد مرّت، إلا أن المطر لم ينقطع تمامًا، لذلك أُقيمت جنازة مقتضبة.
لم أكن أرغب في تنظيمها من الأصل، لكن اضطررت لذلك حتى لا أُتّهم بالتخلّي عن عائلتي بعد زواجي.
ومع ذلك، كنت أعلم أن هذا لن يُخرس ألسنة النبلاء.
“آه…”
بمجرد أن أطلق كاسيون نظراته الصارمة نحو الحضور، خفتت الهمسات التي اخترقت صوت المطر، وساد المكان سكون ثقيل.
ولم يتبقَّ سوى صوت الكاهن، يُرتّل أدعية الراحة الأبدية، تتردّد في الأجواء كصدى أجوف.
“الموت… يضع حدًا لكل شيء.”
“…أسيليا.”
“لا تمُت، كاسيون.”
راقبتُ النعشين يُردمان تحت التراب وأنا شاردة.
ليس من شأني قول ذلك، أنا التي عادت للحياة بعد موت، لكن الموت يقطع كل الأواصر.
كما أنني لا أستطيع الرجوع إلى عالمي القديم.
حتى إن كان والديّ يحملان لي مشاعر مريرة لطردي لهما دون عون، فقد أصبحا الآن بلا حول ولا قوة.
تذكّرت فجأة نهاية الرواية الأصلية، حين أقدم كاسيون على إنهاء حياته.
ربما بدا كلامي مفاجئًا له، لكنه لفّ ذراعه حولي بحنو صامت.
“لا تقولي حماقات كهذه.
لماذا أموت؟ وكذلك أنتِ، لا تقولي ذلك.”
الناس يموتون في نهاية المطاف، لذا بدا كلامه ساذجًا.
ومع ذلك، فإن طريقته المرتبكة في تهدئتي طغت على صوت المطر.
أسندت رأسي إلى كتفه.
كان النعشان قد دُفنا بالكامل تقريبًا.
“يا دوقة، حان وقت وداعك الأخير.”
“…”
فقط في تلك اللحظة، وضعتُ الباقة البيضاء التي كنت أُمسكها منذ البداية أمام القبر.
وأثناء وقوف الضيوف دقيقة صمت، أغمضتُ عيني قليلًا وحدثتُهما في داخلي.
أنا آسفة… لكنني ما زلت أكرهكما.
“…وداعًا.”
همستُ بها وعدت إلى جوار كاسيون.
لم أشعر بالحزن.
وإنما شعور غريب تجاه نفسي لأنني لم أشعر بأي حزن.
ما اجتاحني لم يكن حزنًا، بل ضيقٌ، وسخط، وشعور عبثي.
الخوف من أن تُشوّه هذه الحادثة صورة عائلة الدوق التي سعيت لبنائها.
القلق من أن يظهر أخي—إن كان حيًا—ويُثير بلبلة أو يُشيع الأكاذيب.
والأسوأ، أن التغييرات التي أجريتها في القصة الأصلية لم تمضِ جميعها في الاتجاه الصحيح، كما حدث مع كاسيون وجينين.
حتى في لحظة موتهما، ظلّ والداي يقيدانني.
موتهما الذي جاء مع المطر بدا كمن سكب الماء البارد على مخططاتي التي بدأت تنضج.
وكأن الحياة تسألني: “إلى متى ستصمدين؟”
“…يا دوقة.”
“…آنسة براون.”
“نادِني جينين فقط.
أقدّم خالص تعازيّ.”
بعد تحيتي لها، بدأ المعزّون يتقدّمون تباعًا، كلٌّ يُلقي زهرة واحدة.
كانوا أقل عددًا مما توقّعت، وجاؤوا فقط ليراقبوا ردّ فعل عائلة الدوق.
لم يكن أحدٌ ينوح عليهم حقًا.
ولا حتى أنا.
شعرت وكأنني أُشاهد عرضًا سخيفًا بلا طعم، حين ظهرت البطلة الأصلية وسط المطر بعد أن وصلها خبر الجنازة.
“…لم يكن عليكِ الحضور، لكنني شاكرة لكِ.
الطريق سيكون شاقًا في العودة، لمَ لا تمكثين في قصر الدوق بضعة أيام؟”
خلافًا للزوار الآخرين من نبلاء العاصمة، كانت جينين فتاة ريفية.
وحتى مع تراجع المطر، فطريق العودة ليس سهلًا.
وفوق ذلك، أليست هي من كانت تتعرض لمأساة في مثل هذا الوقت من الرواية الأصلية، رغم وجود السد؟
كان من الممكن أن تكون هي أو غيرها في التابوت بدلًا من والديّ.
الموت، حين يقع في الواقع، لا يشبه القصص.
بل يهبط بغتة كصفعة.
“لا! لا يمكنني تحميلكم هذا العناء!”
“لكن الطرق زلقة والمطر لم يتوقف بعد.
السفر على ظهر حصان الآن خطر.
إن لم ترتاحي في القصر، يمكنني ترتيب إقامة لكِ في مكان قريب.”
ظهرت الحيرة على وجهها.
نظراتها إليّ كانت مترددة، كأنها تتساءل إن كان من اللائق قبول هذا العرض.
عندها اقترب كاسيون ومدّ لها ورقة صغيرة.
“دفعتُ مقدّمًا لإقامتك وطعامك ليومين.
هذا النزل جيد، والإسطبل له سمعة طيبة.”
“صاحب السمو، حقًا، لست بحاجة إلى كل هذا!”
“وهل أبدو كمن يطلب رأيك؟”
“آه…”
“لا تُثقلي على زوجتي بمزيد من القلق، وابقَي بهدوء في العاصمة.”
كان صوته قاسيًا، باردًا، إلى حد جعل فكرتي السابقة عن احتمال نشوء مشاعر بينهما تبدو مثيرة للسخرية.
سلّمها الورقة، ثم لفّ ذراعه حول كتفي وسار بي مبتعدًا.
“أسيليا، الجو بارد هنا.
سأبقى حتى ينصرف الجميع، لكن أنتِ ادخلي لترتاحي.”
“كاسيون…”
“وجهك شاحب جدًا.”
يده التي أمسكت بيدي كانت دافئة، وكأنها تنبع بحرارة مدفأة. حين بدأ الدفء يتسلّل من أطراف أصابعي، أدركت كم كنت منهكة حتى من جنازة قصيرة كهذه.
لقد كان محقًا.
كنت بحاجة للراحة.
“…هل يمكنني أن أترك الأمر لك؟”
“بالطبع.
بيرت! اصحبِ السيدة إلى غرفتها، وقدّم لها شايًا دافئًا.”
نادى كبير الخدم بمجرد أن أنهيت حديثي.
“أعتذر لأنني لن أتمكن من إيصالك بنفسي.”
“لا بأس… شكرًا على اهتمامك.
آسفة… ربما تضررت مكانة عائلة الدوق مجددًا بسببي.”
“لا تشغلي بالك.
الفضل في مكانتنا عائد لكِ، وأنا لا أبالي كثيرًا بما يقال.”
اقترب بيرت وقدّم لي شالًا، لكن كاسيون استلمه منه بسرعة، ولفّه حولي بلطف.
كان دافئًا.
رغم أنه لم يُغطِّ سوى كتفيّ، إلا أنه بدا وكأنه حاجز ضد المطر.
ولم يتبقَ سوى صوته هو… واضحًا، دافئًا، حيًّا.
“تُفكرين كثيرًا هذه الأيام، وهذا ليس من عادتك.
ادخلي الآن، اشربي شايًا دافئًا، وتناولي… ذلك الشيء.”
“اسمه ماكرون.
ما زلتَ لا تتذكر الاسم؟”
ضحكت وأنا أُمازحه.
توقّعت أن يُبدي امتعاضًا، لكنه ابتسم.
“صحيح… ماكرون.”
ابتسم معي، وضبط الشال مرة أخرى، وأصابعه مرّت بخفة على عنقي.
وسط خفوت وقع المطر…
شعرتُ أن قلبي ينبض من جديد.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ30
“بفضل لطفك، تمكنت من زيارة العاصمة وشراء كل ما احتاجته ليونينا.
أنا ممتنة لك مجددًا.”
بعد يومين من السباق، وقبل أن تعود جينين إلى موطنها، دعوتها مرة أخرى.
كنت أعتقد أن كاسيون سيتضايق من حضورها، لكنه قال بعدم الممانعة، بل بدا مرتاحًا بعض الشيء، فظننت أنه ربما غيّر رأيه بشأنها.
غير أنه لم يحضر وقت الشاي، متذرعًا بأن لديه عملاً مع الأمير.
“قمتِ بجولة في العاصمة وسط كل هذا المطر؟”
“مطر العاصمة لم يكن يستحق الذكر.”
رغم أن المطر كان قد خفّ، فإن الطرق بقيت موحلة، لذا دعوتها إلى قصر الدوق لتناول الشاي على انفراد، وتحدثنا بحرية كما تفعل الصديقات.
سرعان ما توطدت علاقتنا، وكان الحديث معها مبهجًا.
“بالمناسبة، هل بلغك ما يُقال؟ تجّار المدينة لا يتحدثون إلا عن الدوق والدوقة.”
“…أستطيع أن أُخمِّن دون أن أسمع.”
“لا لا! ليس ما تظنينه! إنهم يتحدثون بإعجاب!”
ارتشفت شايّ بوجه عابس، فسارعت جينين إلى نفي ما خطر ببالي وهي تلوّح بكفّيها.
كنت أتوقع أن تكون إحدى تلك الشائعات التي تقول: “تزوجت من الدوق المجنون فجنّت بدورها، وتنكّرت لوالديها.”
“يقولون إنه رغم كثافة الأمطار هذا العام، فإن توسعة السد قلّلت الأضرار كثيرًا، ليس فقط في الأقاليم بل حتى في العاصمة! التجار فرحون لبدء تجارتهم دون تأخير أو خسائر.”
في الواقع، كان كبير الخدم يقدّم لي كل صباح باقات من الزهور، يخبرني أن العامة يضعونها أمام القصر تعبيرًا عن امتنانهم.
وكنت أطلب منه فقط أن يضعها في أي زاوية، دون أن أكترث لها كثيرًا.
“هل هذا كل ما في جعبتك؟ أتشعرين أنك تنقلين لي الصورة المثالية فقط، يا جينين؟”
“أبدًا! الناس كانوا ينتظرون منذ زمن من يتخذ خطوات جادة لمنع الفيضانات، لكن النبلاء غالبًا ما يقضون هذا الموسم في قصورهم آمنين لا يُبالون… وحدها عائلة الدوق اهتمت بالشعب.”
نظرت إلى الزهور الموضوعة على الرف خلفها.
إن كانت فعلًا محمّلة بالامتنان والعرفان، فقد شعرت بوخزة ضمير.
لقد كنت على وشك التخلص منها دون تردد.
“لكن، يبدو أن بعض التجار لم يسلموا من المصاعب.
هناك متجر فاخر كان يبيع سلعًا مستوردة، أُغلق تمامًا بسبب مشاكل في التوزيع.
الجميع يتحدث عنه لأنه كان باهظ الثمن ومشهورًا بإعلاناته الصاخبة.”
واصلت جينين الحديث رغم قلة تفاعلي.
عرفت على الفور أنه أحد المتاجر المرتبطة بتجارة الأمير الأول، فأخفيت ابتسامتي خلف فنجان الشاي.
“ليس كل شيء يسير كما نشتهي.
على الأقل، لم تقع خسائر بشرية بسبب الفيضانات.”
“بالضبط.
حتى سمعة الدوق تغيّرت كثيرًا.
لقد سمع الناس من قبل عن علاقتكما الطيبة، أما الآن فهم يظنون أنه شخص عطوف فعلًا، عكس ما يُشاع.”
يبدو أن جهودنا في التجوّل بين العامة لم تكن عبثًا.
رغم ما حدث مع عائلتي، شعرت بالرضا لأن الأمور تسير كما توقعت.
“لكن، الدوق الذي قابلته شخصيًا…”
“همم؟”
“آه، لا شيء… دعكِ من الأمر.”
“لا، جينين.
تحدثي براحتك.
هل ترغبين في المزيد من الشاي؟”
هل هناك ما خفي عني؟ انتابني فضول مفاجئ، فصببت لها كوبًا آخر وشجعتها بلطف.
ارتشفت رشفة، ونظرت حولها، ثم تابعت.
جينين شخصية ودودة وعفوية، لكنها لا تحسن كتمان ما يدور في بالها.
“إنه… يبدو مخيفًا قليلًا.
أعني، هو بطل حرب في النهاية، أليس كذلك؟ لا أقصد الإساءة، فقط أشعر أنه يحمل هيبة مهيبة.
ربما هو لطيف فقط معكِ، دوقتي؟”
“أه… هاها؟”
“لكن من يستحق الإعجاب حقًا هي أنتِ، دوقتي! الكل يمدح الدوق، وهذا يثير الغيظ قليلًا! في الحقيقة، سمعت أن فكرة السد كانت فكرتك أنتِ!”
“صحيح… لكن كاسيون هو من موّل المشروع.”
“القلب أهم من المال! من نظرتك في السباق، عرفت كم أنتِ دافئة.
لا شك أن وجودك هو ما جعل الدوق يتغيّر.
من يجرؤ على التفوّه بسوء في حضرتك؟”
“أم، جينين…”
“لو علمتِ بوجود أحد كهذا، أخبريني.
حتى وإن لم أكن قوية، سأفعل ما بوسعي…”
“جينين، لا تتحمسي كثيرًا.
خذي رشفة أخرى من الشاي.”
أنا آسفة، لكنني لا أتفق معها.
“القلب” جميل، لكن “المال” هو ما يحرك الأمور.
وحده المال يصنع الفارق.
بصفتي شخصًا اقترب من الفقر المدقع يومًا ما، لا يمكنني مجاراة مشاعرها النبيلة، لكن عينيها المتقدتين بالحماس جعلتاني أعجز عن نفي كلامها.
لن يكون من اللائق أن أعارضها وهي تثني علي بهذا الشكل. ثم إني، في الحقيقة، لست شخصًا سيئًا… بل قد أُعتبر جديرة بالإعجاب في هذه المرحلة.
“شكرًا لكِ، جينين.
كنت أشعر ببعض الحزن بعد الجنازة، لكن هذا الحديث اليوم وكل تلك الأخبار السارة أثلجت صدري.”
“سعيدة لأنني استطعت إدخال السرور إلى قلبك، دوقتي.”
ابتسمت لها، فاحمرّ وجهها خجلًا.
ذلك التعبير المشرق الذي يفترض أن تراه البطلة وهي تقف إلى جوار البطل… رأيته أنا.
كان أمرًا غريبًا… لكنه لطيف.
—
“هل غادرت تلك المرأة؟”
“جينين؟ غادرت قبل قليل… هل ترغب أن أطلب عربة لتلحق بها؟ لعلها لم تبتعد بعد.”
“كُفّي عن الهراء.
سألت فقط لأنني خفت أن تصري على بقائها لليلة أو أكثر.”
“لمَ تكرهها إلى هذا الحد؟ إنها أشبه بغزال صغير وديع.”
“هل هناك من يُحب استقبال الغرباء في بيته؟ وإن أردت الحديث عن اللطافة… فأنتِ أولى.”
عاد كاسيون من قصر الأمير الثاني بعد مغادرة جينين، وما إن سمع أنها رحلت، حتى أبدى ارتياحًا وجلس قبالتي.
كنت على وشك منعه من تناول الشاي المتبقي، لأُعد له ما يناسب ذوقه، حين همس فجأة:
“ما بك؟ أكمل ما بدأته.
لا يوجد شيء يثير الجنون أكثر من الجمل الناقصة.”
“لا شيء… أنا فقط… أنا مجنون.”
“ماذا؟”
“…أنا مجنون.”
وقبل أن أضع الفنجان، ارتطم رأسه بالطاولة.
لحسن الحظ لم أكن قد صببته بعد.
“ما خطبك؟! هل جننت حقًا؟”
“هاه…”
رفع رأسه، وجبهته محمّرة، ثم تناول الشاي دفعة واحدة.
ما الذي دهاه؟
“هل قال لك الأمير شيئًا سيئًا؟ أو… هل ضربت رأسك بقوة؟”
نهضت من مكاني وجلست بجواره، أتحسّس جبينه المتورم. وما إن لمسته، حتى ارتجف.
يبدو أنها كانت ضربة موجعة.
الطاولة من الرخام، وكان الاصطدام عنيفًا.
“لا، لم يحدث شيء سيئ.
أنا فقط… فرِحت لرؤيتكِ مشرقة من جديد.”
“لا تتهرّب.
لم أكن مكتئبة إلى ذلك الحد.”
“لكن في الأيام الأخيرة، بدوتِ خامدة.
وخاصة بعد موضوع السد…”
“أعلم.
العامة يثنون عليه، وسمعت أن سمعتك وسمعة الأمير الثاني قد تحسنت أيضًا.”
“…أما تجارة الأمير الأول في الدولة التابعة…”
“تُعاني بسبب تعذّر إيصال المواد إثر الفيضانات؟ أعلم. نصفها حقيقي، والنصف الآخر ذريعة لتقديم بضائع رديئة.”
“…”
“وإن لم يكن لديك ما تقول، فافصح عن سبب هذا التهديد الذاتي.”
“النساء المُلِحّات لا يَلقين رواجًا، أسيليا.”
“وهل تظن ذلك عيبًا؟ لو لمّحت فقط أنني مهتمة بشخص، لتزاحم الخطّاب أمام بوابة القصر حتى الأفق.”
“…هذا صحيح.”
فجأة، اعترى وجهه شيء من الكآبة.
هل دخل وضع “الجنون الحربي” مجددًا؟ تصرفاته باتت تتخطى الطرافة إلى الحيرة.
كنت أظنه بسيطًا… لكنه أكثر تعقيدًا مما ظننت.
“لا تريد الحديث؟ حسنًا.
أنت من قال لي أن أشاركك متاعبي، وها أنت تخفي عني ما في صدرك.
يبدو أنني لست أهلاً للثقة.”
“لا تقولي ذلك، أسيليا.”
“انسَ الأمر.”
أدرت وجهي متظاهرة بالزعل، ونهضت.
بدا عليه التوتر، فنهض خلفي مرتبكًا.
“أسيليا… صدقيني، ليس الأمر كما تظنين… انظري، اشتريت شيئًا لطيفًا أثناء عودتي.
ألا ترغبين برؤيته؟”
“همف.”
“أسيليا…”
كتمت ضحكتي وأنا أستدير مبتعدة، بينما يحاول استمالتي بهدية أخرجها من جيبه.
ربما كما توقعت، أراد التخفيف عني بعد الحداد، وربما لهذا سمح بزيارة جينين رغم امتعاضه.
“آه، دمية صغيرة ولطيفة… تشبهني تمامًا.”
“…”
“إنها لي، أليس كذلك؟ ناولني إياها.”
“…تفضلي.”
لم يتلقَّ حتى كلمة شكر، وكان متجهمًا.
أذناه محمرتان، على الأرجح لأنه لا يُجيد هذا النوع من التصرف.
“سأضعها في مكان نظيف كي لا تتّسخ.
ملمسها ناعم جدًا.”
كانت دمية أرنب بلون وردي باهت، لكن عينيها حادتان بطريقة مريبة.
“حدثني عن لقائك مع الأمير أثناء العشاء.
سأصعد مع ليلي لأغتسل.”
“ليلي؟”
“اسم هذه الأرنب.
تشبهني، فاعتبرتها شقيقتي الصغرى.”
“هاه…”
هل تسمية دمية تُزعجه؟ غطّى كاسيون وجهه بكفّيه الكبيرتين، وأذناه ما زالتا تشتعلان حمرة.
وبينما كنت أغادر الغرفة، سمعت همسة خافتة خلفي:
“…هل كان واضحًا إلى هذا الحد؟”
_____
الرواية مُكتملة على القناة التليجرام التي ستجدون رابطها في التعليق المثبت.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 10 - من الفصل الحادي والتسعين إلى المائة «النهاية». 2025-08-14
- 9 - من الفصل الحادي والثمانين إلى التسعين. 2025-08-14
- 8 - من الفصل الحادي والسبعين إلى الثمانين. 2025-08-14
- 7 - من الفصل الحادي والستين إلى السبعين. 2025-08-14
- 6 - من الفصل الحادي والخمسين إلى الستين. 2025-08-14
- 5 - من الفصل الحادي والأربعين إلى الخمسين. 2025-07-23
- 4 - الفصل الحادي والثلاثين إلى الأربعين. 2025-07-23
- 3 - من الفصل الحادي والعشرين إلى الثلاثين. 2025-07-23
- 2 - من الفصل الحادي عشر إلى العشرين. 2025-07-23
- 1 - من الفصل الأول إلى العاشر. 2025-07-23
التعليقات لهذا الفصل " 3"