2
11ⵌ
“ما رأيك أن نزور منزلي مرة أخرى قبل حفل الاستقبال؟”
“…”
“كاسيون؟ هل تسمعني؟”
“…”
“إن لم يكن الأمر يروق لك، فقط قلها بصراحة!”
“هاه؟ ماذا قلتِ؟”
صفعتُ يده بخفة أثناء دوراني، بينما كان يتبعني بأسنان مشدودة، ثم التفت إليّ مستغربًا.
من غير المعتاد عليه أن يختلط عليه أمران في آنٍ واحد…
هل الرقص حقًا بهذا التعقيد بالنسبة له؟
“هل سمعتَ ما قلته قبل قليل؟”
وعندما أكملت حركتي واقتربت منه كأنني أستند عليه، سمعت صوت ابتلاع ريقه.
كنت قد خرجت من الحمّام للتو، لذا من المفترض ألا تكون هناك أي رائحة مزعجة.
في أسوأ الأحوال، قد تكون بقايا رائحة الطعام الذي تناولناه سويًا.
“فلنأخذ استراحة قصيرة.”
“أجل، هذا سيكون مناسبًا.”
أدركت أن استمرار الحديث بهذه الطريقة لن يُجدي، فحررت يده من قبضتي.
فرك كفه بقميص نومه، ثم مرّر يده على جبينه، وهزّ رأسه بتردد وارتباك.
“هل الأمر بهذه الصعوبة؟ حين كنتَ تتدرّب وحدك في البداية، بدا عليك الإتقان… هل من الصعب التناغم معي؟ أخبرني إن كنتُ أرتكب خطأ ما.”
“…لا، لستِ مخطئة في شيء.
فقط… العطر… تمنيت لو كان أخف قليلًا.”
“العطر؟ لقد استحممتُ لتوي.”
“لا أقصد رائحة كريهة… بل العبير!
…ألم تضعي عطراً؟”
“لِمَ أضع عطراً قبل النوم؟ أنا أيضًا لا أطيق الروائح القوية، لذلك أحرص على استخدام منتجات بلا رائحة تقريبًا.”
مدّ يده إلى خصلات شعري الوردية وشمّها، لكنه لم يلتقط شيئًا يُذكر.
ربما لأن رائحتي مألوفة لي، لا ألاحظها.
“تحمّل قليلًا، لا يمكنني التخلص من المنتجات التي أستخدمها حاليًا.
في المرة المقبلة، سأشتري ما هو أكثر خفوتًا.”
“…لا داعي لذلك.”
“أرأيت؟ ستعتاد عليها.”
اقتربت منه بنبرة مرحة، فتردد، لكنه لم يحبس أنفاسه كما يفعل عادة.
هذا تطوّر جيد.
“اجلس هنا، دعنا نتبادل الحديث ونحن نرتاح.”
رغم أن الطاولة كانت هناك في زاوية الغرفة، قررت أن أجلس على السرير وربّتُّ عليه بشكلٍ مسرحي قبل أن أجلس.
التدرب على الرقص كل ليلة أمرٌ مرهق فعلًا.
اقترب كاسيون ببطء وجلس بجانبي، فشعرت بميول السرير الخفيف نحوي.
“اقترب أكثر.
هل تنفر مني؟”
“…أشعر أنني أُصدر رائحة ليست جيدة… لقد تعرّقت أثناء الرقص.”
“لا بأس لديّ، اقترب فقط.
لا يمكننا الحديث بصوت مرتفع في مثل هذا الوقت من الليل.”
هل أقول إنه رقيق الإحساس بشكل يفوق مظهره؟ أم أنه يحاول أن يبدو مؤدبًا أكثر مني؟
واصلت التربيت على السرير، فزحف ببطء حتى اقترب.
كما توقعت، لا رائحة تُذكر.
“تبقّى عشرة أيام فقط على الحفل، ومعلم الرقص قال إن مستوانا مقبول ولن نُحرج، فلا داعي للتوتر.
وإن حدث الأسوأ، فسأتولى القيادة.”
“هاه…”
لسببٍ ما، تنهد بشكل أعمق عند سماعي.
ربما لأنه يتوتر كلما لامس جسدي، وهو أمرٌ لا يشعر به سواي.
يبدو متماسكًا ظاهريًا، لكنه في العمق…
مثاليٌّ حتى العظم.
يبدو عليه الكثير من التوتر.
“هل تود تناول قطعة ماكرون؟”
“كلا، شكرًا.”
كنت أحاول أن أرفه عنه ببعض الحلوى قبل الدخول في صلب الموضوع، لكن المحاولة باءت بالفشل.
في الحقيقة، كنت قد أطعمته واحدة قبل التمرين.
“بالمناسبة، بشأن حفل الاستقبال… تلقّينا تأكيدًا من الأمير على حضوره، ويبدو أن الزينة أوشكت على الاكتمال.
لكن، تحسّبًا لاحتمال حضور عائلتي، أعتقد أنه علينا أن نحذّرهم مجددًا.
سمعت أنهم قد استعادوا عافيتهم.”
“يا لهم من نفايات بشرية يتعافون بسرعة.”
قالها بسخرية، ثم ما لبث أن أدرك أنهم عائلتي، فشحب وجهه ونظر إليّ بتحفّظ.
لكنني لم أكترث، بل احتضنت وسادة وأسندت ذقني عليها.
“معك حق.
ربما لم يكن لديهم ما يكفي لجلب طبيب…
لكني على يقين أنهم سيزحفون إلى الحفل بمجرد سماعهم به.”
هل توجد حشرات لا تهرع إلى موضع الفتات؟
بل سيعتبرونه فرصة ليصيحوا أمام الجميع بأن ابنتهم اختُطفت أو أن الزواج غير قانوني.
لهذا يصمتون مؤقتًا.
“من أجل سمعة آل الدوق… ومن أجلي أيضًا، لا أريد لهذا الحفل أن يُدنس بسببهم…
لكن لا أعلم ما العمل.
هل نذهب ونلقّنهم درسًا مجددًا؟”
في الواقع، كنت فقط أريد منعهم من الظهور، لكن لم أجد وسيلة لذلك.
لذا فتحت الموضوع مع كاسيون.
ربما لديه خطة أكثر فاعلية.
“أوه، بالمناسبة…
لا يمكننا إعطاؤهم المال.
كبريائي لا يسمح بذلك.”
“لم يخطر لي هذا أصلًا.”
ليست المسألة مسألة مال أو ندم.
نظرت إليه نظرة جادة، وارتحت عندما وجدت أنه لم يُفكر بالأمر بدوره.
فهل لا سبيل سوى ردعهم جسديًا مجددًا؟
“يبدو أن شقيقكِ يرتاد أوكار قمار رخيصة.”
قالها كاسيون بعد شرود قصير، وكانت معلومة مفاجئة نوعًا ما… لكن، في الحقيقة، توقعت ذلك.
“أظن أن بإمكاننا استغلال هذا الوضع.”
“كيف؟ ألم يبددوا كل أموالهم؟ ماذا سيفيدنا ذلك؟”
“لو لجأنا إلى العنف المباشر، سيعودون للانتقام بدافع الكراهية فقط.
لكن إن تم الاعتداء عليهم وطردهم من وكر قمار؟ فالأمر مختلف.”
“أوه…؟”
“كما ذكرتِ، لا يمكنهم دخول أوكار القمار الراقية بسبب كلفة الرهانات، لذا يذهبون إلى أماكن شعبية.
وفي مثل تلك الأماكن، حتى لو كنت نبيلًا، إن لم تدفع، فقد تخسر يدًا أو أكثر.
وشقيقك يقترب من هذه النقطة…
بقليل من التلاعب فقط…”
ابتسم ابتسامة شيطانية، مختلفة تمامًا عن توتره في حلبة الرقص.
نعم، هذا هو الوجه الذي يشاع عنه أنه دموي بلا رحمة.
لكنه يقف إلى جانبي…
لذا أعشق رؤيته بهذا الشكل القاسي الواثق.
“كل ما نحتاجه هو أن نخلق فيهم شعورًا بالخطر… أنهم مهددون في أجسادهم وبيوتهم وحياتهم، وسيفرّون من المدينة ليلًا.”
بدأ ينقر بأصابعه، وكأنه يعيد ترتيب رجاله المزروعين في تلك الأوكار.
كان مطمئنًا… وأشكر نفسي لأني شاركته الأمر.
“لكن، ماذا لو دفعهم إفلاسهم لطرق باب القصر قبل الحفل؟”
“سننشر بعض رجال القمار قرب القصر وكأنها مصادفة، ونضغط عليهم بما فيه الكفاية ليشعروا أن عليهم الهرب فورًا.
أسبوعٌ واحد ليس مثاليًا، لكنه وقت كافٍ.”
“فكرة ممتازة.”
“وإن لم تنجح الخطة، فسأهشم أرجلهم واحدة تلو الأخرى حتى لا يتمكنوا من الحضور…
بشرط أن تسمحي بذلك طبعًا.”
“أوه، لديك الإذن المطلق.
أثق بك، افعل ما تراه مناسبًا.”
فور سماعه كلماتي، تلاشى ذلك التعبير الشيطاني على وجهه، وخدش خده في خجل واضح.
ربما بسبب النعاس، بدا لي فجأة…
ظريفًا رغم بنيته الضخمة.
“أنا سعيدة لأنني تحدثت إليك.
هل يمكنني اللجوء إليك في المستقبل إن واجهتُ مشكلة؟”
“…أنا؟”
“هل ترى أحدًا آخر هنا غيرك؟”
“هل كنتُ حقًا مفيدًا؟”
“بالطبع.
حتى وإن لم ننفذ الخطة بعد، فإن مجرد التفكير بها منحني راحة كبيرة.
كنت أظن أنني قد أجد نفسي مجددًا في شجار يتم فيه سحبي من شعري.”
“هذا لن يتكرر أبدًا.”
تغيّر تعبيره مجددًا.
من شيطاني إلى خجول، إلى جاد.
إنه إنسان حقيقي بتعابير شفافة أكثر مما توقعت.
ابتسمت، ثم مددت يدي وربّتُّ على رأسه.
“أنت حقًا جدير بالثقة.
سأعتمد عليك.”
لابد أن النعاس جعلني أكثر جرأة.
مرّرت أصابعي بلطف على شعره الناعم مرتين، ثم عادت الخصلات إلى مكانها.
تجمّد كاسيون، ثم التفت نحوي بفم مفتوح.
“ما الذي تفعلينه…؟”
صفعة—
“؟!”
“حسنًا! هيا بنا نعود لتدريب الرقص!”
بدّلت الموضوع بسرعة قبل أن يستوعب ما حدث.
ولطرد النعاس، صفعت وجهي بخفة، ثم نهضت فجأة.
فتح فمه أكثر من ذي قبل.
“إن كنتِ نعسانة، فاذهبي للنوم بدلًا من ضرب نفسك هكذا.
أو اشربي شايًا على الأقل!”
“لو شربت شايًا قبل النوم، سأقضي الليل ذهابًا وإيابًا للحمام.
الصفع هو الأفضل لإيقاظي.”
“هناك آثار يد على وجهك!
كم مرة صفعتِ نفسك؟”
قالها مصدومًا وهو يقترب مني، ثم وضع يده الكبيرة الدافئة على خدي المتوهّج.
أمسكتُ بتلك اليد، شبكت أصابعي بأصابعه، ثم استدرت بجسدي لأواصل الرقص.
كان يتماشى مع الإيقاع وهو لا يزال شاردًا.
“شكرًا على قلقك، لكن لننهِ التدريب سريعًا ونخلد للنوم مبكرًا الليلة.
أعتقد أن لديك ما تفعله من أجلي غدًا.”
غمزت له، فظهرت على وجهه نظرة محيرة.
وربما بفضل هذه الاستراحة القصيرة وحديثنا الجانبي، لم يتجمد هذه المرة عندما اقتربت منه، بل دعم ظهري بثقة.
“أقلق لأن زوجتي تحب أن تكون هي القائدة.”
تأملت وجهه المرتبك بين ابتسامة وتوتر، ولم أتمالك نفسي من الضحك.
اقتربت منه وهمست:
“كاذب… أنت تحب ذلك.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ12
كان كاسيون قد تعهّد بإنهاء أمر عائلتي خلال أسبوع، إلا أنهم اختفوا تمامًا خلال أربعة أيام فقط.
وعندما سألني إن كنت أرغب في استرجاع أي شيء من منزل العائلة، ذهبت بنفسي، لأُفاجأ بمنزلٍ نُهبت أركانه عن آخرها.
آنذاك، أيقنتُ أن عالم القمار ومطاردي الديون مخيفون فعلًا… وإن لم يخلُ الأمر من بعض التدخلات الخفية من جانبنا.
أداء رقصنا تحسّن يومًا تلو الآخر، حتى غدونا قادرَين على تقديم مقطوعة واحدة أمام الناس بثقة.
وهكذا بزغ صباح اليوم المنتظر لحفل الدعوة.
كان من المزمع أن يبدأ توافد الضيوف مع حلول المساء، غير أنني، بوصفي السيدة المضيفة المؤقتة، كنتُ أمام جدول مزدحمٍ بالتحضيرات.
“من الأفضل أن يُترك هذا الممرّ خاليًا.”
أعدتُ تفحّص تخطيط المنزل بنظرة الضيف لا المضيف، وعلى وجهي قناع حبوبٍ غريب، أصرّت خادمتي الوحيدة، بيا، على وضعه.
“هل لدينا ما يكفي من علاقات المعاطف في غرفة الخلع؟ ممتاز.
فور بدء الحفل، بيا، ابقي هنا وساعدي السيدات إن تعرضت ملابسهن لأي ضرر أو اتساخ.”
“لكن ماذا عنكِ، سيدتي؟ عليّ الاعتناء بفستانك!”
بيا، التي كانت تتبعني بقلق وتلح عليّ بالعودة قبل أن يجف القناع، رفعت صوتها بيأس وعينان على وشك الانهمار.
“سأتولى أمري وحدي، وإن طرأ ما يعجزني، سآتي فورًا.”
“لكن مكياجك يحتاج لمسات أخيرة أيضًا… كيف لكِ أن تهملي هذا الوجه الساحر؟ يا للأسى!”
“…هل يزعجكِ ذلك إلى هذا الحد؟”
استسلمتُ أمام غيرتها الشديدة، وعدت إلى غرفتي، مؤجلةً تفقدي لصالة العرض التي تحتضن اللوحات والمنحوتات.
أحضرت بيا حوضًا صغيرًا من الماء الدافئ بسرعة البرق، وبدأت تمسح وجهي بلطف وحرص.
“حين رأيتكِ لأول مرة، سيدتي، ظننت أنني أحلم. هذا الجمال… هذا القوام… أن أكون الخادمة التي تلبّسكِ بيديها شرفٌ يفوق الخيال.”
“…هممم.”
“لكن أن تتعاملي مع ذلك بكل هذا البرود!
كان غريبًا من البداية ألا يكون لكِ سوى خادمة أزياء واحدة مثلي!”
رغم حماستها، فإن لمساتها كانت ناعمة وهي تضع مادة لزجة على بشرتي بعد إزالة القناع.
“…أليس من الطبيعي أن الجمال لا يحتاج الكثير من الزينة؟”
“أتفق معكِ تمامًا! لكن لأنكِ جميلة، فإن تزيينكِ متعةٌ لا تُضاهى! أنتِ لستِ فقط سيدتي… بل ملهمتي! هذا الحفل هو فرصتي لأُظهر مهارتي أخيرًا!”
“لقد تركت لكِ بعض الوقت في المساء.”
“وهل هناك سيدة محترمة تبدأ تحضيراتها مباشرة قبل المناسبة؟ إنهن يستيقظن عند الفجر ليبدأن مراسم الاستحمام والتدليك وكأنهن يستعدن لطقسٍ مقدس!”
كنتُ ما أزال بحاجة لتفقّد أرجاء القصر… لكن كلمات بيا كانت مثل وابلٍ من التعليمات لم أجد فرصة للرد عليه.
وما إن رمشتُ بعينيّ بتذمر، حتى أمرتني أن أغمضهما وهي تضع قطع قطن مبللة فوق جفوني.
طرق… طرق—
“…همم.
هل لي بالدخول؟”
“…كاسيون؟ هل يمكنه الدخول؟”
نظرتُ إلى بيا أطلب إذنها، بشكل لا يليق بدوقة، لكنها كانت منهمكة بتدليك عنقي وعظمة الترقوة بزيت عطري بعد أن أرخت ثوبي قليلًا.
هزّت رأسها بالإيجاب، ويبدو أن كاسيون سمع الإذن فدخل على الفور.
“هل أخرج مجددًا؟”
“لا داعي، كلنا مشغولون، فقط قل ما أتيتَ من أجله… آي، بيا!”
“…”
“آه… هذا مؤلم جدًا.
ألا يمكنكِ أن تكوني أرقّ قليلًا؟”
“تحمّلي، فالعنق الأملس لا يُمنح مجانًا.
كتفاكِ مشدودان.”
“…”
كنت أشعر بوجود كاسيون خلفي، لكن صوته غاب تمامًا.
وحين حاولت رفع قطعة القطن عن عينيّ قليلًا، أوقفني بحزم.
“همم.
هـم.”
“هل أصابك البرد؟ لا يصح أن تمرض الليلة.”
“لا، أنا بخير تمامًا.”
“الحمد لله… آي.”
“…يُقال إن الأمير يتأخر عادةً في مثل هذه المناسبات، لكن وفقًا للرسالة، سيصل في الموعد المحدد.
هذا كل ما أردت قوله.
سأتابع ما تبقّى من المهام.”
تفجرت كلماته دفعةً واحدة، ثم غادر الغرفة بصفقٍ على الباب.
ما الذي أصابه فجأة؟
“أها… لقد بدأتما حياتكما الزوجية~”
“همم؟”
قالت بيا بنبرة ذات إيحاءٍ دافئ، وكأن شيئًا أشعل في قلبها حماسة مضاعفة.
“سأجعله ينبهر بكِ الليلة، سيدتي.
صحيح أنه اعتاد رؤيتك، لكن جمالكِ سيُدهشه من جديد.”
“ومن هذا الذي يجرؤ على التعود على وجهي؟”
“أحب ثقتك بنفسك، سيدتي.
سأبذل أقصى جهدي.
فقط امنحيني المزيد من الوقت.”
“…هل يمكنني التصرّف حتى الثالثة عصرًا؟ الحفل يبدأ في الثامنة، أليس كذلك؟”
“…”
“بيا، رجاءً.”
بدأت أشعر أنني فقدت إحساسي بالواقع… هل أرجو خادمتي بهذه الطريقة؟
“…منتصف النهار.”
“هذا قاسٍ جدًا.
الواحدة ظهرًا، على الأقل!”
“حسنًا، حتى الواحدة فقط.
بعد ذلك… أنتِ لي بالكامل.”
“…أنتِ مخيفة فعلًا.”
في الواقع، لم تكن بيا خادمة عادية.
إنها من صمدت أمام نظرات كاسيون الصارمة أثناء المقابلة.
وبشغفها الذي لا يقلّ عن طبيب العائلة، أنهت تدليكها ومسحت وجهي برفق.
“سأذهب الآن!”
“اشربي الكثير من الماء بين حينٍ وآخر!”
كانت كلماتها تطاردني حتى بعد أن غادرت الغرفة مسرعة.
لم أكن أكره التجميل، لكنني بدأت أشعر برهبةٍ حقيقية من ما بعد الظهيرة…
—
“آه… رغم قِصر مسيرتي، إلا أنني أعتبركِ تحفتي الفنية، سيدتي.
من المؤسف ألا نرسمكِ الآن في لوحة!”
“لا تقلقي، بيا.
سأبقى جميلة دائمًا.
وحين يأتي يوم رسم البورتريه، سأدعكِ تتولين الزينة مجددًا.”
“سأخدمكِ ما حييت، سيدتي!”
كانت ستنحني أرضًا من فرط الحماسة، لكنها تراجعت في اللحظة الأخيرة خوفًا من أن تفسد الفستان.
صورتها في المرآة، بكتفين مشدودين وثقةٍ تملأ الملامح، كانت… آية في الجمال.
“لا أبدو طفولية كما كنتُ أخشى.
أنا راضية جدًا.”
رغم أنني لست متقدمة في العمر، إلا أن ملامحي الناعمة وشعري الوردي الذي يشبه حلوى القطن كانا يُضفيان عليّ مظهرًا رقيقًا أكثر من اللازم.
لذا طلبت من بيا أن تعالج الأمر في مظهري الليلة، وقد فاقت توقعاتي.
“عليّ الحذر ألا ألمس شعري.”
“لا تقلقي، استخدمت دبابيس خيوط غير مرئية. يمكنكِ الرقص أو التحرك كيفما شئتِ، فقط لا تلمسيه بيدكِ مباشرة.”
الفستان الفضي الذي تلتمع فيه لمسة زرقاء، ويُبرز لون عينيّ الرماديتين المائلتين إلى الزرقة، كان مكشوف الكتفين، بسيطًا من حيث الحجم، لكنه انساب على جسدي بانسيابية تنطق بالأناقة دون ابتذال.
قالت إنها كانت تحتار بينه وبين الأبيض، لكن هذا اللون بدا أكثر رُقيًا.
شعري الوردي رُفع للأعلى، ولم يُترك منه سوى خصلات ناعمة تحيط بجبهتي ورقبتي المكشوفتين، مما أضفى عليّ مظهرًا أنضج وأقل طفولية.
“بالنسبة للإكسسوارات، أعتقد أن الجمشت سيكون الأمثل… راقٍ دون مبالغة.”
وبينما كنت أتفقد نفسي من كل زاوية، اقتربت بيا من خلفي وهي تحمل عقدًا وأقراطًا.
“من يتأمل عينيكِ، سيدتي، يرى فيهما ألوان العراقة.
أليس هذا ساحرًا؟”
“…بيا، أنفاسكِ تلامس عنقي.”
“آه، ما العمل معكِ، سيدتي؟ ما زلتِ فاتنة رغم زواجكِ!”
كانت قد ذهبت بعقلها بعيدًا، كما يبدو.
وأنا نفسي أعترف بجمالي… لكن إلى هذا الحد؟ أم أنها تمتلك ذوقًا فنيًا فائق الحساسية؟
“اذهبي الآن إلى غرفة المعاطف.
هناك وضعتُ عدة الطوارئ للخياطة.”
“…كنت أود رؤية سيدتي وهي ترقص…”
“أنا آسفة.
لكنني وعدتكِ بلوحة، أليس كذلك؟”
شعرت وكأنني أواسي حبيبة حزينة، وبعد أن هدّأت من روعها، بعثت بها إلى غرفة المعاطف، ثم توجهتُ إلى أعلى السلم المؤدي إلى القاعة التي زُينت لتُصبح صالة رقص، بعد أن ألقيت نظرة أخيرة على مظهري.
ولأجل الحفاظ على الهيبة، قررت الوقوف أعلى الدرج لاستقبال الضيوف حتى وصول الأمير الثاني.
“آه، كاسيون.”
كان كعب حذائي أعلى مما توقعت، لكن لا بأس بليلة واحدة.
رأيته في الممر، وقد صفّف شعره وارتدى حُلّة أنيقة.
“توقيتك ممتاز.
تفضّل، هل تفضل الوقوف معي أعلى الدرج؟ أم استقبال الضيوف في الداخل؟”
“…”
“أظن أن وجودنا سويًا على الدرج سيكون أفضل. لستَ بارعًا في المجاملات، لذا نترك الترحيب التفصيلي للبوّاب، ونتفرغ لإبراز صورة الزوجين السعيدين.”
فقد انتقينا الضيوف بعناية، ولا نتوقع من أحدهم التسبب بإحراج، لذا سيستقبلون بعضهم بعضًا ما إن ندخل.
كنتُ أعتزم الدخول لاحقًا، حين يحضر الأمير.
“…أنتِ…”
“نعم؟”
“…جميلة.”
كلمة واحدة، لكنها فاجأتني.
ابتسمتُ وربّتُّ على كتفه بخفة.
“أدركتَ ذلك أخيرًا؟ وأنت أيضًا… وسيم.”
لم تكن مجاملةً فارغة. كاسيون ذو وجهٍ وسيم، لكنه لا يملك كاريزما الأرستقراطيين عادةً، أما الآن، وهو في هذه الهيئة…
فقد بدا جديرًا بلقب دوق.
“لدينا جبهتان جميلتان أيضًا.”
كادت عبارة أن تخرج من فمي عن احتمال إنجابنا طفلًا بجبهة مثالية، لكني ابتلعتها.
كان يحدّق في جبهتي، ثم مدّ ذراعه ليقدّمني.
“أعتقد أن بقاءنا سويًا خلال الحفل سيكون الأفضل… بل طوال الوقت، إن أمكن.”
“لإظهار علاقتنا كزوجين حقيقيين، لا شريكين بعقد، أليس كذلك؟ حسنًا، لنفعل ذلك.
سأدير الحديث حتى يصل سموّه.”
وضعت يدي على ذراعه بثقةٍ وابتسامةٍ راضية.
ورغم أن الحفل سيستمر حتى بزوغ الفجر، فإن فكرة أنني لن أواجهه وحدي منحتني راحةً غير مألوفة.
بل، شعرت بقوةٍ في داخلي.
“فلننطلق إذن… عزيزي.”
ولأنه ما زال يحدق في جبهتي، مددت إصبعي لأربت على أنفه بخفة، فتراجع مفزوعًا، ولأن الضيوف لم يصلوا بعد، ضحكتُ ملء صوتي بلا قيود.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ13
“هؤلاء الحمقى المجانين لا يتوقفون عن التحديق بكِ.”
“بل المجنون الحقيقي هو من يقدر أن يُبعد نظره عني.
القادم التالي يقترب، فركزي أمامك.”
حوّل كاسيون نظره إلى الأمام، لكنه لم يُطفئ النار المشتعلة في عينيه، مما جعل النبلاء الذين كانوا يدخلون بابتسامة ردًا على ابتسامتي، يتوقفون فجأة عند رؤيته.
“البارون ماير، والبارونة، نشكركما على تشريفكما حفل الدعوة.”
“…يا إلهي…!
بل الشرف لنا.”
وحين بدا أن الزوجين النبيلين على وشك الانصراف والابتعاد أمام حدة نظرات كاسيون، أرسلت للبواب إشارة سريعة بعيني وابتسمت.
البارونة، التي بدا عليها الإعجاب لأنني عرفتهما دون مقدمات، تقدمت خطوة أخرى، واستغل البواب اللحظة ليأخذ معطف البارون ويقودهما إلى غرفة المعاطف.
“لا بد أنكما تشعران بالحر، تفضلا إلى غرفة الشاي أولًا، وتناولا بعض الشمبانيا أو المثلجات.”
“نشكركِ على حسن استقبالِكِ، سموّ الدوقة.
نحن ممتنون جدًا.”
خطوتُ قليلاً من على الدرج كمن يحجب كاسيون، وأضفت عبارة أخيرة.
يبدو أن البارونة وقعت بالكامل تحت سحر تلك الحركة.
كنتُ واثقة أن ما ستهمس به لزوجها سيكون مديحًا، بينما أنا محوت ابتسامتي والتفتُّ إلى كاسيون.
“عيناك! عيناك! خفّف قليلاً، لقد أخفت الجميع!”
“…ولِمَ ترتدين هذا الفستان الضيق… وتُظهرين عنقك بهذا الشكل.”
“وهل تعتقد أنهم لن ينظروا لو ارتديتُ كيسًا فضفاضًا؟ جمالي لا يُخفى بقطعة قماش، هل تفهم؟ توقف عن محاولات السيطرة وابتسم قليلاً.”
“سيطرة؟! أنا… أنا…”
“ماذا! …آه، أهلًا وسهلًا~”
لا أحب أن أكون محط أنظار الغرباء، لكنني أعلم جيدًا كيف أبدو.
لذلك، لم يُزعجني كثيرًا أن يلقي الضيوف نظرة ثانية أثناء دخولهم غرفة المعاطف.
صحيح أن الأمر كان مزعجًا قليلاً حين بدا أنهم يتفحصونني من الخلف، لكن لم يكن بوسعي أن أقول شيئًا بينما كاسيون أظهر أنيابه أكثر مني.
كنت أظنه يتصرف بغرابة فقط، لكن يبدو أنه أكثر من ذلك — ربما هو رجل يتبع معايير صارمة جدًّا تجاه الجنس الآخر.
“…حين أنظر إليه هكذا، يبدو نبيلًا حقيقيًا.”
“ذاك الرجل مجددًا… ها؟ ماذا قلتِ؟”
“لا شيء.”
بمظهره هذا، يمكنه التمرير كأمير دون أن يشكّ أحد.
وأنا أنظر إليه وهو يدافع عني بحزم، تساءلت كيف لشخص كهذا أن يصبح قاتلًا شهيرًا ذو سمعة مخيفة.
لكن حين رأيت تعابيره تتلوى كشيطان، أدركت المشكلة: هذا التعبير الحاد.
“إن لم تستطع الابتسام، فاقتلع على الأقل تلك النظرات المفترسة من عينيك.
هدفنا هو الود، كما تعلم.
ولا يمكنك الوقوف أقرب قليلاً؟”
أمسكت وجهه الذي ظل يتحدّق للخلف بدلًا من الأمام، وأجبرته على الالتفات إلى الأمام.
ثم وقفت بجانبه، وأمسكت بيده المتشنجة.
“ضع يدك على خصري! بمودّة!”
“؟!”
فتحت أصابعه المشدودة واحدة تلو الأخرى — والتي كانت ترتجف حتى — ووضعت يده على خصري بثبات، فتحول تعبيره إلى دهشة.
وهكذا، ظهر أمام النبلاء التاليين بوجهٍ شاردٍ تمامًا، مما جعلني أندم لعدم فعل هذا من قبل.
“هيه، كفى ترددًا.
فقط أبقِ يدك هناك.”
“لم أكن أتردد!…
الفستان زلق، أظن أنه من الأفضل أن أرفع يدي.”
“دعها حيث هي.
أو يمكنك أن تضع ذراعك حول كتفي.”
“الكتفين؟ الكتفين…”
نظر إلى كتفي المكشوفين بتعبيرٍ متألم، ولم يدرك أن يده التي ترتجف كأنها زلزال انزلقت نحو وركي، وعادت تتلمس المكان.
لو لم أكن أعلم أنه بريء، لكان من المنطقي أن أصفعه على هذا التحرش المتعمد.
لكن هيئتنا من الخارج كانت تبدو حميمية، بل مبالغًا فيها.
“يا له من مشهدٍ يُثير الغيرة منذ اللحظة الأولى.”
“آه…”
كنت على وشك أن أصرخ فيه لأتساءل عن كيفية التعامل مع رجل بهذا الغباء النقي، حين سمعت صوتًا مألوفًا نوعًا ما.
لا شك أن الخادم عند الباب أعلن دخول الأمير الثاني، لكننا — كاسيون وأنا — لم نسمعه لانشغالنا، فنزلنا الدرج على عجل.
ضحك الأمير على كاسيون وهو يراه ينزل ببطء ويده ترتجف.
“أعتذر عن التأخر في الترحيب، سموّ الأمير. نشكركم على حضوركم حفل الدعوة.”
“لا بأس.
لم أكن أتوقع أن أُدعى، لكني الأقل لم أتوقع أن أُقابل بهذا المشهد.”
الأمير الثاني، الذي أطلق ضحكة وهو يراقب كاسيون يقف إلى جانبي ببطء، منحني ابتسامة ودودة.
وكما شعرت يوم الزفاف، فهو أميرٌ صادق خالٍ من التصنّع.
“لم أعلم أن صديقي يملك هذا الجانب.
لا بد أن الجميع في القاعة فوجئوا مثلي.
هذا كله بفضل العثور على زوجة رائعة.”
“أشكرك على لطفك، وإن كان أكثر مما أستحق.”
“حسنًا، لست متأكدًا من الذي يفوق الآخر مكانةً هنا.”
ثم التفت إلى كاسيون وربت على كتفه، الذي تحوّل وجهه من الارتباك إلى العبوس.
بما أن الضيف الأهم قد وصل، كان علينا دخول القاعة أيضًا.
دفعتُ كاسيون بمرفقي لأجبره على مرافقتي، وسرنا خلف الأمير.
لم يكن الحفل رسميًا لدرجة إعلان “وصول سموّ الأمير”، لكنني شعرت بكل الأنظار تلتفت إلينا دفعةً واحدة.
لقد بدأت الآن المرحلة الحقيقية من هذا الحفل. وكنتُ متماسكة، ممسكة بذراع كاسيون بثقة.
—
“…لذلك، نتوقع أن يكون موسم الأمطار هذا العام أكثر غزارة.”
“همم.
حتى في العام الماضي، لم يكن الضرر على المدنيين بسيطًا، وإن كانت التوقعات أسوأ هذا العام، فقد يجدر بي رفع المسألة إلى جلالة الملك. سأضعها في الحسبان.”
رغم وجود بعض النبلاء المحايدين المهتمين بعائلة الدوق، وقلة من مؤيدي الأمير الأول، فإن الأغلبية كانت من أنصار الأمير الثاني.
ولهذا، جرت الأحاديث السياسية بشكل طبيعي حول مسألة وراثة العرش.
بقيت أستمع باهتمام دون أن أتدخل كثيرًا، لألتقط ما قد يتصل بأحداث القصة الأصلية.
“همم، ومع وجود دوقٍ جديد إلى جانب سموّه، نشعر بطمأنينة أكبر.”
كاسيون، رغم أنني لم أكن أعرف ما يفكر، بقي ملازمًا لي، وكان يرد من حين لآخر على كلمات الأمير.
نتيجةً لذلك، بدأ النبلاء ينظرون إلى العلاقة بيننا باعتبارها متينة.
ورؤية قلوبهم تتفتح بهذا الشكل، جعلتني أشعر بسعادة خفية وأنا أنظر إلى كاسيون مبتسمة.
لكنه التفت بسرعة، ثم أعاد النظر إلي من زاوية عينيه.
“هاها.
لم أكن أعلم أن سموّ الدوق يملك هذا الجانب اللطيف.
يبدو أننا كنا مخطئين بشأنه طوال الوقت.”
“حسنًا، ألا يصبح الجميع أكثر حدّة وقت الحروب؟”
ضحك الجميع على نظرة كاسيون الجانبية، التي لاحظوها جميعًا.
وبينما كانت القاعة تملأها أجواء دافئة، بدا أن الوحيد الذي بقي متصلبًا هو هو.
في تلك اللحظة، لاحظت أن الموسيقي المعروف الذي دعوناه قد أعطى إشارة.
“حسنًا، لنترك السياسة جانبًا ولنستمتع بالموسيقى والرقص الليلة.”
“سنشهد وجهًا جديدًا آخر للدوق على ما يبدو.”
وبما أنه من المعتاد أن يفتتح المضيفان أول رقصة، تراجع الجميع لتفريغ وسط القاعة مع بداية المعزوفة.
وانتقل التركيز من الأمير إلى كاسيون وأنا.
كنت على وشك أن أمدّ يدي أولًا، خشية أن يشعر كاسيون بالحرج، لكنني وجدته بالفعل يمدّ يده لي.
لم يكن متوترًا كما ظننت.
وبدأنا رقصة ناعمة مبهجة.
وفي تلك الرقصة القريبة التي تُظهر صورة الزوجين الجدد، همس كاسيون، الذي بدا أكثر ارتياحًا:
“…أنا لا أحب شيئًا من هذا.”
“خفّف من حدة تعابيرك.
إنك تؤدي بشكل ممتاز، أليس كذلك؟”
تابعت خطواته، التي بدت أكثر ثقة من التدريب، وأنا أضحك على انزعاجه الخفيف.
لا شك أنه من النوع العملي.
“أحاديث السياسة والصراع على العرش تزعجك، أليس كذلك؟”
“هذا ليس السبب.”
“لا؟ مما أراه، الأمور تسير بشكل جيد.
معظم الحضور بدوا معجبين بك.”
كما قالت بيا، شعري بقي ثابتًا رغم دوراننا في الرقصة.
حين وضعت يدي على صدر كاسيون، الذي كان يطوّق خصري، وهمست:
“…بالفعل.
أقرّ أن هذه أكثر النظرات وُدًّا في حياتي.
وكل ذلك بفضلك، أسيليا.”
“يسعدني سماع ذلك.
يبدو أن نسبتي في العقد ستزيد.”
لكن وجهه عاد للعبوس، واشتدّت قبضته من جديد.
قاومت الرغبة في قرص أنفه وأمرته بتخفيف ملامحه، وتابعت خطوات الرقصة التي قاربت الذروة.
استطعت أن أشعر بمن في غرفة الشاي ومن في غرف اللوحات، وهم يخرجون لمشاهدتنا نرقص.
تصفيق، تصفيق، تصفيق…
“أوه…”
حين انتهت الرقصة، بدأ شخص ما بالتصفيق كمن سُحر.
ابتسمت بهدوء لهذا الثناء العلني، وعلمت أن الآخرين سيبدؤون الآن بالرقص مع شركائهم.
“ثنائي متناسق جدًا.
لقد كانت رقصة رائعة.”
“أشكرك، سموّ الأمير.”
“هل تشرفينني برقصةٍ أخرى؟”
ومع انطلاق المعزوفة التالية، تقدم الأمير الثاني ومدّ يده نحوي.
أفلتُّ يد كاسيون وأخذت يد الأمير.
“خفّف نظراتك، إنها لحظات قصيرة فقط.”
كانت الرقصة الأساسية التي تدربت عليها مع كاسيون، وكنت أبدأ بالقلق من أن أُخطئ مع الأمير.
حينها، سمعت كلماته:
كان كاسيون لا يزال واقفًا كالصنم، يحدق بنا ونحن نبدأ الرقصة.
“آه، هكذا إذًا يكون الشعور حين يُقتلك أحد بنظراته.
أنتِ تعلمين أنني لا أملك نوايا خبيثة، أليس كذلك، سموّ الدوقة؟”
“بالطبع.
بل يشرفني أنك طلبتني، سموّ الأمير.”
لحسن الحظ، كانت الرقصة الثانية أسهل وأقل احتكاكًا جسديًا.
“كما قلت في الزفاف، كانت هناك شائعات مقلقة بشأن هذا الزواج، لكنها تبدو الآن سخيفة.
أنتما ثنائي مثالي.”
“شكرًا.”
على عكس الرقصة الأولى حيث كنت أشعر بنظرات الجميع، الآن كان هناك شخص واحد فقط أستشعر نظرته المحترقة.
نظر الأمير إلى وجهي، ثم إلى الخلف تجاه كاسيون، وابتسم بمكر.
“يبدو أن كليكما لا يدرك الحقيقة.
الأمور ستصبح ممتعة من الآن فصاعدًا.”
“عذرًا؟”
“أرجوكِ اعتني بصديقي جيدًا، يا دوقة.”
وبمجرد أن انتهت الرقصة، اقترب كاسيون بخطى حثيثة كأنه استيقظ لتوه من صدمة.
أما الأمير، الذي نطق بكلمات لم أفهمها، فقد انسحب باتجاه مجموعته.
“عن ماذا كنتما تتحدثان؟”
“لا شيء… لا يمكننا الرقص بصمت، أليس كذلك؟ قال إننا نبدو متناسبين، فشكرته فقط.”
“…حقًا؟”
“الأهم من ذلك، أشعر بالحر بعد رقصتين متتاليتين.
دعنا نذهب إلى المكتبة قليلًا.”
كانت المكتبة في آخر الممر، خالية من الزينة أو الضيافة، لكنها وُضعت لتكون مكانًا يستريح فيه من يتعب من الزحام.
ظننت أنها ستكون فارغة في هذا الوقت المبكر، فتوجهت إليها، لكن…
“هل يعني ذلك أن الأمير الثاني ليس من سلالة شرعية؟”
“شش!
صوتك عالٍ جدًا… إنها مجرد إشاعة تتناقلها الألسن.”
ما الذي يحدث الآن؟
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ14
“ما هذا الهراء الذي يتداولونه…”
“انتظري لحظة!”
أوقفت كاسيون، الذي كان على وشك اقتحام الباب، واستجمعت تركيزي لأصغي باهتمام.
في وسط أحداث القصة الأصلية، تقع حادثة خلال مأدبة ملكية يُهاجم فيها دم الأمير الثاني.
لكن ذلك الوقت لا يزال بعيدًا، ومع ذلك بدأت مثل هذه الأقاويل تنتشر في الخفاء؟
“أسيليا…؟”
“شش.”
«ألم يكن الأمير الثاني دائمًا يختلط بالناس دون اكتراث بالرتب؟»
«همم.
حتى وإن صاحَب العامة، لو لم يكن من الدم الملكي، لكانت ثارت ضجة عارمة…»
“هاه.”
أطلقت تنهيدة استغراب.
هل حقًا تنتشر مثل هذه الإشاعات فقط لأن من يرافقه أدنى مرتبة اجتماعية، دون أدلة ملموسة؟ وبالطبع، لا بد أن مصدر هذه الشائعات هو الإمبراطورة والأمير الأول.
وإذا بصوت طرقات عنيفة على الباب-
“؟!”
“يا إلهي، عذرًا، لم ندرِ بوجود ضيوف بالداخل.”
وبينما لم أرَ فائدة في سماع هذه الأحاديث الفارغة، فتحت الباب، فبدا وجوه المتجمّعين وهم يهمسون بوجوه شاحبة.
والدهشة أن هؤلاء لم يكونوا محايدين أو من أنصار الأمير الأول، بل كانوا نبلاءً داعمين للأمير الثاني.
“س-سمو الدوق.”
ارتعشوا خوفًا من أن يكون كاسيون، الذي كان يحدق خلفي، قد سمع كلماتهم.
يا لها من شجاعة وولاء ضئيلان.
ولهذا النوع من الناس فقط، نحتاج أن نرسّخ مكانة كاسيون لترقية الأمير الثاني إلى ولي العهد.
“جئنا لنرتاح قليلاً بعد رقصة متواصلة، هل تسمحون لنا بإخلاء الغرفة؟”
“ب-بالطبع، يا دوقة.”
“تفضلوا بالراحة! حقًا إنها دعوة رائعة!”
خشيت أن يسحب كاسيون سيفه عليهم، فتقدمت بالكلام، فهربوا مسرعين كأن أذيالهم تشتعل.
أتساءل إن كانوا قد شاهدوا شيئًا فعليًا، بعدما جاءوا ليثرثروا في هذه الزاوية منذ بداية الحفل. عليّ أن أتذكر وجوههم.
“…أسيليا.”
نقرت لساني وجلست، أرتب ثوبي، وأصغيت لصوت كاسيون العميق.
هل سَيغضب مني لتوقيفي له؟
“ألا تصدقين هذه الأقاويل؟ سمو الأمير بلا شك من الدم الملكي.”
انحنى إلى الأمام وهو جالس مقابلي، كأنه يناشدني.
حسنًا، من منظوره قد يعتقد ذلك، فالأولوية في عقد زواجنا هي جعل الأمير الثاني وليًا للعهد.
“لا تقلق، أنا لا أشك في ذلك أبدًا.”
بدت عليه الحيرة من صراحتي المفاجئة، كما لو كان يشعر أنه وقع في عقد زائف.
كنت أفكر بسرعة كيف أبرر أو أجد حجة.
لم أخطط لهذا الحديث الآن، توقعت أن يأتي لاحقًا…
“أسيليا؟”
لكن صمتي طال، فناداني مرة أخرى بقلق.
هل أبادر وأبوح؟
“في الحقيقة، سمعت أمرًا…”
“…؟”
“ليس الأمير الثاني غير شرعي، بل الأمير الأول.”
“ماذا؟!”
آه، هل كانت تلك مباشرة جدًا؟
وقف فجأة، ويداه مشدودتان بقوة.
أشرت إليه بالصمت، وجلستُه بجانبي بدل مواجهته.
“لا، أطلب منك أن تثق بالأمير الثاني وبنفسي، لا حاجة للخوض أبعد من ذلك…”
“لا أقول ذلك لتهدئتك، هذه معلومة حقيقية.
هل تعتقد أنني دخلت هذا الزواج من دون معرفة؟ راهنت بحياتي لأني آمنت.”
“…ألم تفعل ذلك لأنك لم يكن لديك خيار آخر؟”
نظر إلي كأنه مندهش قليلاً.
لا أنكر أنني قد أكون صارمة أحيانًا، لكن ليس إلى هذا الحد.
“هل تعتقد أني عرضت العقد فقط لمجرد مظهرك؟”
“…”
“لا، هذا عبث.
فعلت ذلك لأنني واثقة من سمو الأمير الثاني، وأنت أيضًا كنتِ مناسبة بالصدفة.
الأمر مفيد للطرفين، تفهم؟”
“…لم أكن أدرك أنك فكرت بالأمر بهذه العمق.”
“ألم تكن أنت من قبل قد دخلت العقد بلا مبالاة؟ حتى لو كان زواجًا مزيفًا، فهو زواج.
عليك أن تتعامل بحذر أكبر.”
تقاطعت ذراعاي ونقرت لساني، وملأت الدهشة عينيه.
أظن أنه ظن فقط أنه يحتاج مركز الدوق وأن الأمر مسلٍ، أليس من الطائش أن تثق بناءً على المظاهر؟
“على كلٍ، إن أردت معرفة عقدة شخص ما، استمع للشتائم التي يوجهها.
من يصف الآخرين بـ ‘الحمقى’ غالبًا ما يعاني عقدة في المعرفة، ومن يطلق عليهم ‘المتسولين’ غالبًا ما يعاني عقدة مالية.”
التفتُّ إليه بجانبي وذراعاي متقاطعتان، وبدأت أُلقِي عليه درسًا موجزًا.
…صراحة، لو سُئلت من أين حصلت على هذه المعلومات، لا أملك جوابًا، لذا أحاول كسب الوقت بإذهاله أولاً.
“مصدر هذه الشائعات غالبًا هو الأمير الأول أو الإمبراطورة.
كان من السهل عليهم النميمة لأن الأمير الثاني يختار مرافقيه حسب الكفاءة بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية.”
“…احذر كلامك، أسيليا.”
اقتربت منه وهمست في أذنه:
“في الأصل، الإمبراطورة الثانية، والدة الأمير الثاني، تزوجت في الثامنة عشرة، حملت فورًا، أنجبت الأمير، ثم توفيت.
وبالنظر للظروف، أعتقد أنه من الصعب أن تكون هناك علاقة أخرى، أليس كذلك؟”
كانت والدة الأمير الثاني أميرة من دولة تابعة، جُلبت إلى الإمبراطورية صغيرةً كسلعة مباعة لضمان سلامة بلادها، أنجبت طفلها وتوفيت.
يقال إنها كانت هشة للغاية حتى أنها لم تغادر القصر حتى وفاتها.
هل يعقل أن تكون قد أنجبت طفلًا من غير زوجها وتصر على أنه من الدم الملكي؟
…ربما ممكن، لكن في القصة الأصلية ذُكر عكس ذلك.
على أي حال، لم تبدُ كلماتي بلا أساس، إذ صار وجه كاسيون جادًا.
عادة، عندما يصر أحدهم على شيء بشدة، يكسب مصداقية.
“أنت محقة، الأمير بلا شك شرعي.
…لكن أليس مجرد تخمين أن جناح الأمير الأول يحاول تشويه سمعته؟ وأنه قد لا يكون شرعيًا؟”
“حسنًا… هذه معلومة بالغة الأهمية، وأخبرك بها لأننا في نفس المعسكر.”
اقتربت حتى كدت أقبل أذنه، ارتجف لكنه صمد، وأخذت نفسًا عميقًا قبل الكشف عن المعلومة الحاسمة.
“أنا… أعرف من هو الأب الحقيقي للأمير الأول.”
“…!”
“لا أعرفه شخصيًا، لكني أعرف مظهره العام واسمه.”
آه، لو سأل من أين حصلت على هذه المعلومة، سيكون الأمر محرجًا حقًا.
ربما يجب أن أعدّ بعض الأعذار مسبقًا.
“لا زلنا في بداية عقدنا، فآمل ألا تسأل من أين حصلت على هذه المعلومات.
لقد حصلت عليها مخاطرة بحياتي.”
“مخاطرة بحياتك…؟”
نظر إلي فجأة كأنه يبحث عن أي جرح. آسفة، هذا كذب.
“لكن لا أنوي الاحتفاظ بهذه المعلومات لنفسي. دعنا نستخدمها معًا لترقية الأمير الثاني إلى ولي العهد.
كنت أنوي إخبارك يومًا ما، واقتراح البحث عن الأب الحقيقي للأمير الأول وإحضاره إلى المحكمة.”
“…ها…”
“لم أتوقع أن يكون اليوم هو ذلك اليوم.
كنت أخطط لجمع معلومات أدق قبل إخبارك.”
“…هذه المفاجأة تجعل رأسي يدور.”
أفهم ذلك. بالنسبة لي، قرأتها في كتاب وقلت: ‘هكذا هي الأمور’، لكنه بالنسبة له خبر مدوٍ.
مع ذلك، بدا أن قلقه من شكّي في دم الأمير الثاني قد زال تمامًا.
“لم أكن أعلم أن هذه الأقاويل كانت تنتشر في الخفاء.
إذا استمر الحال هكذا، ستنتشر الشائعات سريعًا. يجب أن نكون مستعدين.”
لمست جبهته المتألمة، ثم وقفت فجأة. تبعني كاسيون بنظرة تلقائية.
“لكن هذا أمر نؤجله لما بعد الليلة! إذا تعجلنا، قد نرتكب خطأ.
فلنركز على مهام اليوم!”
“…أليس ذلك قاسيًا بعض الشيء، مع كل ثقل المعلومات التي أفصحت عنها؟”
“لا تلين أمامي، أيها المحارب المتعطش للدم! هيا لننهض! لقد حبَسنا أنفسنا هنا طويلاً.
يجب أن نعود إلى القاعة.”
“لا، فقط قليلاً من الوقت لأفكر…”
“هل التفكير الآن سيحل شيئًا سوى أن يمنحك شعراً رمادياً؟ المهمة اليوم تثبيت موقفك لصالح سمو الأمير. هذا يكفي.”
تشابكت ذراعي مع كاسيون المتردد، وسحبته معي نحو الممر.
كانت موسيقى الحفل تعلو ونحن نقترب.
“…همم.
يبدو أنك استمتعت.”
وبمجرد دخولنا القاعة، التقينا سمو الأمير الثاني. ربما لأننا كمضيفين غبنا طويلًا، خاطبنا بابتسامة ماكرة لا تليق بالأمراء.
“من المطمئن رؤية سموك تستمتعون كذلك.”
“بالفعل.
لم أستمتع هكذا منذ زمن بعيد.”
ضحك الأمير وأنا معه، بينما كاسيون قبض على أسنانه.
بدا غاضبًا لرؤية الأمير مستمتعًا دون مبالاة للاضطرابات من حوله، فدفعت قدمه لأهدئه.
“…يبدو أن هذه الليلة ستظل خالدة في الذاكرة.”
كان صوته القاتم، المكبوت بألم، منخفضًا يسمعه فقط هو وأنا، لكن للأسف، لا أنا ولا الأمير من النوع الذي يخشى مثل هذه الأمور.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ15
كانت ليلة حفل الدعوة ناجحة بكل المقاييس ومثّلت إنجازًا بارزًا.
كأنها تأكيد قاطع على أن علاقتنا ليست مجرد تمثيل شكلي أو عرض زائف، بل حقيقة ملموسة، وأن نفوذ كاسيون بصفته دوقًا قد تعزز وازداد، إذ بدأت تنهال عليّ الرسائل من بيوت نبيلة متعددة تطلب منا الزيارة.
“آه، الرسائل ليست المشكلة الآن…”
لكنّ تفكيري مشغول بأمر آخر مختلف؛ يتعلق بتطور مجريات القصة الأصلية.
“لقد أجريت تعديلات على بداية القصة الأصلية، لكن هل يعقل أن يكون الخط الزمني قد انحرف إلى هذا الحد؟”
كاسيون، الذي فشل في الهجوم منذ البداية، فرّ بشكل مرتجل والتقى بالشخصية النسائية الرئيسية في مكان ما مجهول.
بعبارة أخرى، لا أعرف أين تقيم الآن أو ما الذي تفعله.
وفوق ذلك، وعلى خلاف الرواية الأصلية التي لم يكن فيها كاسيون قادرًا حتى على العودة إلى قصر الدوق الذي مُنح له، ناهيك عن الزواج من نبلاء، فإن كاسيون الحالي يعيش سلسلة من الانتصارات المتتالية.
“كل ذلك بفضلي.”
هل يجب أن أشكره؟ لم أشعر بأي تعاطف تجاه الشخصية النسائية الأصلية أو كاسيون.
حتى لو تذكرتُ “القصة الأصلية”، أليس هذا الواقع الذي أعيشه الآن؟
لم أرتكب جريمة، والزواج مجرد عقد مؤقت، حيث أتولى رعاية كاسيون لفترة محدودة.
“إذا كان هذا قدرًا محتومًا، فسوف يلتقيان مهما طال التأخير.”
وبصراحة… أتمنى ألا يلتقيا.
فقد تعلقت بكاسيون كصديق خلال هذه الفترة.
“القصة الأصلية كانت صادمة للغاية.”
بل وأكثر من ذلك، كقصة رومانسية، كانت الرواية الأصلية نموذجًا كلاسيكيًا لـ”ثورة ناجحة وحب فاشل”.
منذ البداية، مع فشل محاولة الاعتداء من البطل، كيف يمكن أن يكون المستقبل سهلًا؟ لقد عانوا أيامًا قاسية، وبعد كفاح شاق تمكنوا من تنصيب الأمير الثاني وليًا للعهد، لكن الشخصية النسائية توفيت.
ثم توفي كاسيون أيضًا.
“هذا لا يعقل…”
كاسيون لم يعد مجرد شخصية خيالية في رواية بالنسبة لي، بل صار شخصًا أعرفه وأحسه حقيقيًا.
شددت على أسناني بينما تخيلت برودة موته.
الشخصية النسائية، التي تلقت ضربات متكررة كتكلفة لطرد جناح الأمير الأول، تموت في النهاية، ويختار كاسيون أن يلحق بها في الموت بعدما شاهد الأمير الثاني يتربع على العرش من بعيد – وتنتهي الرواية بذلك الدلالة.
كان ذلك صادمًا ومرعبًا.
“القصة الأصلية لا معنى لها.
إما ألا يلتقيا أبدًا، أو إن كان لا بد أن يلتقيا، فليكن ذلك بعد التتويج.”
بغضب، شطبت أجزاءً من الحديث عن البطلين على الورقة التي كنت أدوّن عليها ملاحظاتي عن القصة الأصلية.
“هناك أمور أكثر إلحاحًا الآن.”
الوضع الإمبراطوري أصبح أكثر أهمية من قصة الحب هذه الأيام.
كتبت عن الأمير الأول والثاني، وأضافت بعض الكلمات تحت اسميهما، ثم اتكأت إلى الخلف في مقعدي، غارقة في التفكير.
“مهما فكرت… بدا أن شائعة عن نسب الأمير الثاني بدأت تنتشر في الصيف، لكننا الآن في الربيع، أليس كذلك؟”
لا أفهم لماذا تسارعت الأحداث المتعلقة بالعائلة الإمبراطورية بهذه السرعة.
المشكلة هي الحدث الذي من المفترض أن يحدث بالتزامن مع هذه الشائعة – لا نعلم هل سيتقدم موعده، أو يُلغى، أو يحدث بطريقة مختلفة.
طرق الباب—
“أسيليا.”
“آآه!”
صوت تحطّم!
غافلت كل آداب التصرف، ودخل كاسيون الغرفة مع طرقه تقريبًا في نفس اللحظة.
فزعت وحاولت إخفاء الورقة، لكنها سقطت بي مع الكرسي.
“أسيليا!”
سقطت الورقة التي كنت أحاول التقاطها وسقطت بقوة.
رأى ذلك، فاندفع نحوي مذهولًا.
كان موقفًا محرجًا للغاية.
“لا، يجب أن تطرق ثم تنتظر الرد!
ما الفائدة من الطرق إذا فتحت الباب فورًا!”
انفعلت من الحرج، لكن كاسيون، الذي اقترب بخطوة واحدة، كان مشغولًا بالتأكد من سلامتي.
“سمعت صوتًا عاليًا، هل تأذيتِ في خصرك أو وركك؟ ربما ينبغي علينا استدعاء الطبيب…”
“الأمر ليس خطيرًا.”
“دعيني أرى وجهك، أسيليا.”
لا تبالغ، هذا يزيد إحراجي.
أنزلت رأسي بسرعة، سحبت يدي التي كنت أفرك بها مؤخرتي، ولوّحت بها بلا مبالاة في الهواء.
احتضنت يدا كاسيون الكبيرتان وجهي المحمر برفق ولكن بحزم، ورفعه قليلاً.
“وجهك أحمر…”
“آه، لأنني محرجة! اتركني من فضلك!”
دفعت يده بعيدًا وهو يحاول فحصي عن قرب، ورتبت تنورة ثوبي المقلوبة جزئيًا.
ثم بحثت عن الورقة التي طارت إلى مكان ما، فتقدم كاسيون أولًا يتبع نظراتي.
“آه، تلك…”
“هذه؟”
كنت على وشك أن أطلب منه عدم النظر إليها.
“لم يمضِ سوى أيام قليلة منذ انتهاء حفل الدعوة، وأنت تعملين بالفعل…”
كاسيون، وهو يمد الورقة إلي، بدا وكأنه لمح بعض الكلمات المكتوبة عليها.
تغير تعبير وجهه فجأة وتصلب جسده، فشعرت أنني في ورطة، ووضعت يداي معًا.
“…هل هذه أيضًا ‘معلوماتك’؟”
“حسنًا… نعم.”
“أسيليا.”
لحسن الحظ، كنت قد محوت المعلومات المتعلقة بالشخصية النسائية، لكن الورقة تحتوي على معلومات عامة عن الأمير الأول والثاني، بالإضافة إلى ما ذكرته عن الدم الحقيقي يوم الحفل.
وأخيرًا، كتبت “اغتيال الإمبراطور”.
صحيح.
في القصة الأصلية، بينما يتركز الانتباه على شائعة دم الأمير الثاني، يحدث حادث محاولة اغتيال الإمبراطور الحالي.
هذا هو الحدث الذي كنت أقلق بشأنه.
“كاسيون، هذا…”
“هل تأذيتِ في مكان ما؟ يجب أن نستدعي الطبيب فورًا.”
ثقل صوته، وبدأت تتصبب مني قطرات العرق البارد، وكنت أظن أنه سيبدأ بسؤال عن مصدر المعلومات أو هويتي، لكنه قطع كلامي فجأة ودق الجرس.
“زوجتي تحتاج إلى فحص دقيق.
أخبر الطبيب أن يأتي فورًا.”
“عذرًا؟ سيدتي، هل أنت بخير…”
“بسرعة.”
“آه، نعم.”
أمر الخادم الذي دخل مسرعًا على صوت الجرس، ثم فحص جسدي بتعبير جدي لا يقارن بما كان عليه عندما سقطت.
كان عبوس جبينه، الذي بدا وكأنه دليل جديته، واضحًا، لكنني لم أتمكن من فهم الموقف.
“كاسيون؟”
“معلومات حُصل عليها مخاطرة بحياتك…”
ناديتُه مرتبكة، فتمتم بشيء وصر على أسنانه.
أتمنى لو يحافظ على أسنانه أكثر.
ما الذي يجري؟
“كم كانت حياتك مؤلمة؟”
“ماذا؟”
“لتجمعي هذه المعلومات وتهربي من ذلك البيت، كم… أولئك الأوغاد، لم يكن ينبغي أن أسمح لهم بالهرب بأجسادهم سالمة.”
“لا، انتظر.”
أنت تفهم الأمر بشكل خاطئ تمامًا.
“أنتِ معي الآن، أسيليا.
لا داعي لأن تضغطي على نفسك بشدة بعد الآن. إذا احتجتِ معلومات، اطلبها مني ومن مساعدي.”
“لا…”
“من الأفضل ألا تُكشفِ.”
قال ذلك بثقل وهو يمزق الورقة التي كان يحملها. هذا الشخص البريء والساذج.
“لا، ربما كتبت أشياء غريبة أو فعلت ذلك عن قصد.
لا ينبغي أن تثقي بالناس بسهولة.”
كاسيون صدق كلامي تمامًا عن “جمع المعلومات مخاطرة بحياتي”.
ويبدو أنه يظن أنني تورطت في أفعال أكثر خطورة لأنني أعلم معلومات جديدة غير تفاصيل الدم.
كم هو ساذج أن يسألني إن تأذيت في جمع المعلومات قبل أن يشكك في حقيقة المعلومات أو مصدرها؟
“أعلم أنك لست من هذا النوع.”
“هذه هي المشكلة في موقفك.
قد تخسرين حياتك، وليس فقط أن تُغدري بك، هل تدركين؟”
“أنتِ الساذجة، أسيليا.”
ظل يدور حولي، يفحصني من رأس إلى أخمص قدم كما لو يبحث عن جروح غير مرئية.
“الناس الذين ينوون خداع الآخرين حقًا لا يقولون مثل هذه الأمور.”
“آه، هذا يدفعني للجنون.”
شعرت وكأنني سأفقد صوابي، فشددت شعري المتناثر.
كاسيون، وهو يحدق بي، أمسك معصمي بقوة وسحبهما للأسفل، مانعًا حتى ذلك.
ربما بسبب هذه السذاجة، تبع الشخصية النسائية في الموت حين ماتت.
كنت أكثر قلقًا من تهوره بدلاً من ارتياحي لعدم حاجتي لشرح مصدر المعلومات.
حتى لو عدلت القصة الأصلية، هل يمكنه النجاة حتى تتويج الأمير الثاني بهذه الطريقة؟ المهارة في السيف واليد ليست كل شيء.
“هاه… يجب أن تكوني ممتنة حقًا لأنك التقيت بي. سأحميك.”
“ما هذا الهراء؟ من اليوم فصاعدًا، لا تخرجي وحدك… متى سيأتي الطبيب؟!”
“قلت لك أنني لم أتأذَّ!
ربما فقط كدمة في مؤخرتي!”
“تقول إن السيدة بها كدمة في مؤخرتها؟”
في تلك اللحظة، دخل الطبيب وهو يحمل حقيبته الطبية، ونظر إلى مؤخرتي بتعبير يشوبه الشك، ثم إلى كاسيون.
يا لها من أفكار دنيئة تخطر بباله!
“لقد سقطت على مؤخرتي فقط!
لا حاجة للفحص، يمكنك الذهاب!”
“لا، نحتاج إلى فحص شامل.
سأنتظر بالخارج، اخلعوها وافحصوها بالكامل.”
“هل يمكن أن تتفقا أولًا على ما تريدان؟”
“افعل كما أقول!”
“افعل كما أقول!”
“… ليست تلك الاتفاقية.”
مع الطبيب، الذي بدا كأنه ترك كبده في المنزل اليوم، تقابلنا بنظرات حادة.
كيف يمكنه النجاة في هذا العالم القاسي بهذه السذاجة!
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ16
انتهى بي المطاف بالخضوع لفحص طبي دقيق وشامل.
لم يقتصر الأمر على البحث عن إصابات ظاهرية، بل امتد ليشمل التأكد من خلوّ جسدي من نزلات البرد أو علامات الضعف الجسدي.
وبعد تمحيص كل جزءٍ مني… اتّضح، وبكل أسف، أن صحتي في حالة يُرثى لها.
ففي فترة نموي، لم أتلقَّ التغذية السليمة، ومباشرة بعد زواجي، انغمست في الاستعداد للهجوم.
وقبيل اجتماع الدعوة، أمضيت ليالي بأكملها ساهرة أتدرّب على الرقص والبروتوكولات النبيلة.
قال الطبيب وهو يناولني كأسًا:
“من اليوم، عليكِ تناول هذا الشراب صباحًا ومساءً.
وسأُتابع الأمر بنفسي، أسيليا.”
“…حسنًا…”
كان كاسيون قد حاصر الطبيب كما يُطارد المرء فأرًا في الزاوية، وانتزع منه تقريرًا مفصلًا عن حالتي، تضمّن كدمة بارزة في أسفل الظهر، إلى جانب إنهاك شديد بسبب الإفراط في المجهود.
وراح يراقبني بنظرات صارمة وأنا أبتلع جرعة الدواء الغني بالمغذّيات.
“لا يزال هناك بعض منه.”
“أوه، بالفعل؟”
هل تحوّلتَ فجأة إلى حماتي؟ جعلتني أتناول الدواء حتى آخر قطرة.
أفرغت الكوب بالكامل ورفعته فوق رأسي متذمّرة.
“هل هذا كافٍ الآن؟! هل أرضيتك؟!”
“لا تفعلي شيئًا اليوم.
استلقي وارتاحي.”
“ولكننا في منتصف النهار! وهناك الكثير يدور في ذهني!”
“لا داعي للتفكير! فقط ارتاحي!”
“ما بال هذا الرجل؟!”
حاولت صدّه عندما أرغمني على الاستلقاء، لكنني كنت أعلم أن لا سبيل لي لمجاراته.
لذا بدلاً من المقاومة، سحبته معي ليسقط إلى جانبي.
“؟!”
“إذن استلقِ معي! لدي ما أود قوله!”
وبما أن الحقيقة قد انكشفت بالفعل، فلا ضير من مناقشتها سويًا.
كاد يسقط فوقي حين سحبت ياقة قميصه، لكنه تمكّن من التدحرج إلى جانبي، وحدّق بي بدهشة.
“أولًا، اخلع حذاءك.”
مهما بلغت أهمية الحديث، لا يمكنني التساهل مع فكرة أن يصعد أحد إلى سريري وهو ينتعل حذاءه.
“هل تمزحين؟ هل ستطلبين مني غناء تهويدة أيضًا؟”
لم يسمح لي بالنهوض، لكنه لم يرفض فكرة الاستلقاء معي. خلع حذاءه بتردد واستلقى إلى جانبي على مضض.
“ما الذي كنتِ ترغبين في قوله؟ إن كنتِ تشعرين بأي ألم، فلا تخفيه عني.”
“لقد تأكدنا للتو أنني لا أعاني من إصابات.”
“ما تأكدنا منه هو أنكِ منهكة تمامًا.”
“آه، هذا لا يُعد أمرًا جللًا… المهم الآن هو ما ورد في تلك الوثيقة… ما يتعلق بالعائلة الإمبراطورية—”
وقبل أن أتابع وقد اقتربت منه بنبرة جادة، سحب الغطاء السميك حتى أنفه وقطّب حاجبيه.
“آه، ما بالك الآن؟!”
“قلتُ لكِ لا تُجهدي نفسكِ.
أريحي هذا العقل المشغول قليلًا.”
“أتعني أنني لا يُسمح لي حتى بالكلام وأنا مستلقية؟”
حين لم تُجدِ نبرة الغضب، انتقلت إلى خطة الطفلة البريئة. أمسكت طرف الغطاء وتحدثت بنبرة متوسّلة.
عندها بدأ كاسيون يتردد.
“…فقط لا تُطيلي الحديث.
سأبقى معكِ حتى تغفي.”
“موافقـة!”
في النهاية، لم يستطع مقاومة طلبي.
وإن استمريتُ بهذا الأسلوب، قد أستغل طيبته حتى آخر قطرة.
“كل ما رأيته هو كامل المعلومات التي أملكها.
الشائعات حول نسب ولي العهد ستنتشر، وبينما تُسلّط الأضواء عليها، ستتحرّك قوى خفيّة تسعى لاغتيال الإمبراطور.”
“هل يحاولون إلصاق تهمة الاغتيال بجناح الأمير الثاني المحاصر؟ أم أن جناح الأمير الأول يُدبّر المؤامرة ليستولي على العرش بينما يعزّز مكانته؟”
“…ربما كلاهما.”
“لماذا تنظرين إليّ هكذا؟”
“أنت أذكى مما ظننت.”
حدّقت بكاسيون بدهشة، بعدما توصّل لكل ذلك دون أدنى شرح مني.
لكنني لا أُلام، فقد خدعته حِيلي في السابق، وظننته رجلًا بسيطًا لا همّ له إلا السيف.
“هل كنتِ تظنينني غبيًا طيلة هذا الوقت؟”
نظر إليّ بنظرة متحفّظة، فتجاهلتها بتعمد.
“على كل حال، أرى أن الأولوية الآن لمنع محاولة الاغتيال بدلًا من الانشغال بالشائعات.
فمثل هذه الشائعات… لا وسيلة لنفيها، أليس كذلك؟”
لا وجود لتحاليل الحمض النووي في هذا العالم، ووالدة الأمير الثاني، الوحيدة التي ربما كان لها أن تُدلي بشهادة ما، قد توفيت منذ زمن.
ولهذا السبب بالتحديد، في القصة الأصلية، بقيت القضية دون حل، وتركَت مرارة في الحلق.
“الطريقة الوحيدة لإثبات أن الأمير الأول ليس من السلالة الملكية هي دفعه للاعتراف بذلك علنًا.
لكن انتزاع اعتراف كهذا أمر بالغ الصعوبة.”
“اتركي الأمر لي.”
“…أنت تدرك أنه لا يجوز لك ضرب أحد من أفراد العائلة المالكة، صحيح؟”
رمقني بنظرة صارمة من جديد.
حسنًا، لقد أسأتُ الحكم عليك، وأعترف بذلك.
رغم أنك بطل القصة الأصلي، فقد قلّلت من شأنك.
“محاولة حل كل شيء دفعة واحدة قد تُفسد كل شيء.
لذا، أظن أن تركيزنا الآن يجب أن ينصبّ على منع الاغتيال… لكن المشكلة أننا نجهل توقيته أو طبيعته.”
“هممم… سأبلغ الأمير الثاني أولًا.”
“…حقًا؟”
بصراحة، حتى وأنا أشرح له التفاصيل، لم أكن أتوقّع منه أن يفعل الكثير.
هل الأمر بسبب وفاة الماركيز، الركن الأهم لفصيل الأمير الأول وزوجي السابق؟ أم لأن كاسيون، الذي سيصبح الآن دعامة للأمير الثاني، قد ثبّت مكانته بصفته دوقًا؟ لست متأكدة.
لكن حركة جناح الأمير الأول باتت أسرع وأكثر جرأة مما كانت عليه في القصة الأصلية.
ثم قال كاسيون شيئًا بسيطًا… لكنه لم يخطر في بالي قط.
“في النهاية، الأقرب للإمبراطور في القصر هم أبناؤه.
وإن كان هناك اغتيال يلوح في الأفق، فمن الأفضل تحذير الأمير ليكون متأهبًا.”
“أوه…”
“كما أنني سأُستدعى قريبًا إلى القصر لأداء التحية الرسمية.
وبصفتي دوقًا، غالبًا سيُخصصون لي جناحًا للإقامة لبضعة أيام.”
“…إن كانت زيارة رسمية، فالمفترض أن نذهب معًا، أليس كذلك؟”
“أنتِ ابقي مكانكِ.
الأمير الثاني وأنا سنتكفّل بالأمر.”
قالها وقد لاحظ أنني تعمّدت إغفال هذه التفاصيل في حديثي.
“ولا تفكّري حتى في الخروج من الغرفة المخصّصة لك في القصر حتى نعود.”
“هل تنوي فرض الإقامة الجبرية على زوجتك؟ هذا خانق جدًا، كما تعلم.”
“الأمر ضروري في القصر الإمبراطوري.”
حتى تمثيلي دور الضعيفة لم يُجدِ هذه المرة.
كم هذا مزعج.
“بما أن أدوات الطعام في القصر تُصنع من الفضة، فلن يُستخدم سمّ يمكن كشفه بتلك الطريقة.
ربما نوعٌ يظهر تأثيره السام فقط حين يُدمج مع نوعٍ آخر من الطعام؟ ما رأيك بتحضير جميع الترياقات مسبقًا؟”
بالطبع، لم أكن مصدر هذه النظرية، بل استحضرتُها من القصة الأصلية.
ففي تلك الرواية، لم يُقتل الإمبراطور، بل أصبح طريح الفراش إلى أن ورث الأمير الثاني العرش.
وبسبب فقدانهم دعم الإمبراطور العادل، عانى كاسيون ورفاقه من ظروفٍ أكثر قسوة.
لكن لو تمكّنا من الحفاظ على صحة الإمبراطور، فقد يكون ذلك أكثر نفعًا لما هو قادم.
“أنتِ محقة.
الاستعداد حتى في حال فشلنا بمنع الاغتيال فكرة صائبة. وبما أن احتماليات السمّ قد تقلّصت، فلن يكون من الصعب إعداد الترياقات.”
“وبما أننا نجهل موعد حدوث ذلك، من الأفضل أن نتحرّك بسرعة.”
“سأبعث برسالة إلى الأمير الثاني حالًا.
كما سأفتح تحقيقًا منفصلًا حول الحادث…”
دق… دق—
“سيدي الدوق، وصلت رسالة.”
“…أعتقد أنني لن أضطر لإرسال رسالتي بعد الآن.”
جاء صوت كبير الخدم من خلف الباب.
ففي العادة، لا تُسلّم الرسائل الواردة في النهار إلا صباح اليوم التالي، لذا فإن استلام رسالة في هذا الوقت يعني أنها من القصر الإمبراطوري.
ويبدو أن كاسيون أدرك الأمر بدوره، فنهض من السرير وتوجه نحو الباب.
أما أنا، فرفعت جسدي وأسندت ظهري إلى رأس السرير بهدوء.
لست نائمة، كما ترى.
“كما توقعت.
إنها رسالة من جلالة الإمبراطور.
يُعرب عن رغبته في لقائنا معًا، كزوج وزوجة.”
مزّق الختم الشمعي، وقرأ محتواها وهو يعود للجلوس، لكن فور أن وقعت عيناه عليّ مجددًا، ضاقتا بنظرة مريبة.
“أسيليا…”
“دعني أراها.”
قاطعته قبل أن يطلب مني العودة للنوم، وألقيت نظرة على الرسالة من فوق كتفه.
بدا أن خصلات شعري المبعثرة لامست وجهه في لحظة غير مقصودة.
“هممم… لا شيء مميز.
مجرد تهنئة متأخرة ودعوة للقاء… والموعد غدًا؟!”
لم تتضمن الورقة المزخرفة سوى تهنئة زواج متأخرة ودعوة لمقابلة الثنائي “المُثير للحديث” في البلاط—أي نحن.
“لم تلتقِ بجلالته منذ حصولك على لقب الدوق، أليس كذلك؟ لقد مر وقت طويل على زواجنا… ربما لهذا السبب جاءت الدعوة الآن.
يبدو أنهم سمعوا عنا من خلال حفل الدعوة.”
ربما كانوا يراقبون تحركات كاسيون بصمت.
فرغم أنهم منحوه اللقب، فإنهم يريدون اختبار ما إن كان يستحقه.
في القصة الأصلية، أهمل كاسيون قصره وسكن قرب البطلة بعد فشل الهجوم، ولم يكن له أي نفوذ يُذكر.
ولذلك، لم يتلقَ مثل هذه الدعوة.
“طالما أننا ذاهبون غدًا، علينا أن نُجهّز ملابسنا من الليلة! دعنا نُنسّق مظهرنا معًا.”
“…تنهد. أسيليا…”
“لقد تناولت الدواء.
وسأنام باكرًا.”
قفزتُ من السرير بانتهازية، بينما كان هو يغطي وجهه بيديه بيأس.
“بالمناسبة، يمكنك مناداتي بـ‘أسيل’ الآن، يا عزيزي.”
تذكّرت كيف ناداني بذلك الاسم حين سقطت عن الكرسي، وأدركت أن طريقة نطقه لاسمي لم تكن سيئة.
“هاه؟”
“يجب أن نظهر بمزيد من الألفة في القصر.
من المؤكد أن جلالته يشك في علاقتنا.”
حتى إن اكتشف أن زواجنا كان لأجل المصلحة، فلن يُثير الأمر ضجة في قصرٍ مليء بزواجات مشابهة.
ومع ذلك، الأفضل أن نبدو كزوجين متحابين.
“…آه، تقصدين ذلك الأمر.”
“أيّ أمر؟ دعنا نُظهر التزامنا بالخطة.”
بدا كاسيون في البداية مرتبكًا، ثم عبس وتمدد مجددًا على السرير.
أليس هو من أراد الاستلقاء في البداية؟
“كفى كسلًا.
هيا انهض.
لدينا الكثير لنُجهزه إن كنا سنغادر باكرًا غدًا.”
“لا أظن أن لديّ الكثير لأفعله.”
“بل لديك الكثير، صدّقني.”
أنا مصمّمة على الظهور بمظهر المرأة السعيدة بعد الزواج.
فالصورة التي يعرفها الإمبراطور عن كاسيون لا تتعدى كونه مرتزقًا متعطشًا للدماء.
علينا أن نُريهم التغيير.
“يجب أن يلاحظ الجميع كيف تحسّن مظهرك بعد الزواج.
الليلة، سأطلب من وصيفتي تجهيز قناع وجه لنا معًا.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ17
“آه، ها قد وصلنا.”
رغم أنه أشار إليها بكلمة “ذلك”، بدا كاسيون متحمّسًا بحق لعرض طبيعة علاقتنا على الملأ.
أتذكّر جيدًا كيف قضيتُ البارحة منهكة تمامًا، أحاول بكل طاقتي ثنيه عن فكرة تنسيق ملابسنا لزيارة القصر الإمبراطوري، موضّحةً له أنها فكرة طفولية لا تليق بمقام المناسبة.
وبعد أن باءت محاولته بالفشل، اضطررتُ لمواساته، وانتهى الأمر بنا إلى اختيار ملابس منفصلة لكلٍّ منا.
ومع تلك المواساة، بدا كاسيون هذا الصباح متجهمًا بعض الشيء بينما كنا نستعدّ.
ومن خلال النافذة الجانبية للعربة، كان القصر الإمبراطوري يقترب تدريجيًا.
“مرحبًا بكم في القصر الإمبراطوري.”
توقفت العربة، وكان الأمير الثاني في انتظارنا، يرافقه عدد قليل من الخدم، بابتسامة ودودة.
مدّ يده إليّ كمن يهمّ بمرافقتي.
“تنحَّ جانبًا.”
وقبل أن أتمكن من الإمساك بيده، أزاحها كاسيون بفظاظة وهو يهبط من العربة.
“آسيل.”
ثم دفع الأمير بلطف جانبًا، ومدّ يده لي.
كتمتُ ضحكة حين رأيت دهشة الأمير وثقة كاسيون، فمددتُ يدي قائلة:
“شكرًا لك، عزيزي.”
“كوني حذرة.”
حين نزلتُ من العربة، شعرتُ ببعض نظرات الخدم تلاحقني بخجلٍ جانبي.
لعلهم قد رأوا كاسيون من قبل، أما أنا، فأنا الوجه الجديد هنا.
لم تكن هناك حاجة لادعاء الوقار، فتركتُ شعري منسدلًا بموجاته الناعمة، وارتديتُ فستانًا ناعمًا بتنورة منتفخة قليلًا تُبرز ملامحي الطبيعية.
ما زلتُ أذكر كم كان من الصعب إقناع بيا بعدم مرافقتي بحجة أنها تودّ مساعدتي في التحضيرات.
ورغم أن الأمير الثاني ظلّ مبتسمًا، إلا أن ابتسامته خفّت حين رآني أنزل بخفة إلى جوار كاسيون، ثم تمتم بأسى:
“كنتُ أرغب بمرافقة الدوقة في جولة داخل القصر…”
“لا حاجة لذلك.”
كنت أرغب فعلًا برؤية القصر، لكن بدا من المستحيل الإفلات من يد كاسيون المتشبثة بي بقوة.
“حسنًا، سأصطحبكما إلى الغرفة قبل موعد الغداء.”
عادةً ما تقتصر اللقاءات الإمبراطورية على تحية قصيرة للإمبراطور، لكننا اليوم مدعوّان لتناول الغداء برفقته، وهو ما جعل المناسبة أكثر توترًا.
“من هذا الاتجاه.”
تقدّم الأمير بخطواته المهذبة، يقودنا بنفسه.
وعندما لوّح بيده للخدم لينصرفوا، اقترب كاسيون بخطوات هادئة دون أن يترك يدي، ووقف إلى جانبه.
“أرغب بالحديث معك.”
“تفضل.”
“…”
“فهمت.”
رغم أن كاسيون لم يقل شيئًا يُذكر، إلا أن الأمير أومأ برأسه محافظًا على ابتسامته، وكأنه التقط من الصمت ما يكفي لفهم خطورة الموقف.
كنت أظن أن الحديث سيُؤجّل إلى ما بعد الغداء، لكن يبدو أنه بدأ الآن.
“الدوقة تبدو مرهقة من الرحلة، سأُريها الغرفة.
يمكنك أن تذهب بمفردك.
لن تبكي إن تركتها للحظة، صحيح؟”
وجّه الأمير حديثه إلى كاسيون الذي ظلّ متشبثًا بي متجاهلًا البروتوكول، لكنني بادرت قبل أن يرد:
“أنا من سيبكي.”
“هاه؟”
“أنا من سيتذمّر إن ابتعدنا.
فدعونا نذهب معًا.”
أنا مصدر هذه المعلومات، فلمَ يدور النقاش من حولي؟ لم تكن الرحلة طويلة من قصر الدوق إلى القصر الإمبراطوري، والعربة كانت مريحة للغاية.
ثم إنني نلتُ قسطًا كافيًا من النوم هذا الصباح، وتناولت أدويتي، لذا أشعر بنشاط تام.
“هممم…”
أطلق الأمير تنهيدة خفيفة، ثم رمق كاسيون بنظرة تلقّى فيها موافقته.
“ربما يجدر بنا أن نبدأ الجولة في الحديقة.
أزهار الربيع في أوج تفتحها.”
“أتطلّع لذلك، سموّ الأمير.”
ابتسمتُ له بحرارة، وأنا متشبثة بذراع كاسيون.
فبادلني الأمير ابتسامة يصعب تفسيرها، ثم قادنا نحو الحديقة.
وصلنا إلى ركنٍ تحجبه الأشجار الكثيفة، بعيدًا عن الأنظار، وعندما شعر الأمير أنه المكان المناسب، توقّف والتفت إلى كاسيون وكأنما يقول: “تحدث الآن.”
“وصلتنا معلومات عن محاولة اغتيال تستهدف جلالة الإمبراطور.”
“وما مصدر هذه المعلومات؟”
“…”
“سيدتي، ما مصدر المعلومات؟”
خفض كاسيون صوته وبدأ بالكلام دون أن يذكرني أو يلتفت إليّ، إلا أن الأمير، وقد لاحظ ذلك، وجّه سؤاله إليّ مباشرة.
لم يكن ممن يُصدق كل شيء بسهولة، ولا ممن يُظهرون القلق دون دليل.
“سمعتُ بذلك مصادفة في الحفل الأخير.
لم أرَ وجوههم، لكن الحديث كان واضحًا، سموّ الأمير.”
كنت قد أعددت هذا العذر مسبقًا، لكنه لا يبدو مقنعًا كفاية.
لم يكن بوسعي القول إنني علمت بذلك من عائلتي الهاربة، فذلك لا يلائم الظرف.
“بالنظر إلى خطورة ما تقولين، يبدو الدليل ضعيفًا.
كيف لي أن أتيقن أن هذا ليس ادعاءً كاذبًا؟”
“زوجتي لا تكذب.
وأنا أضمن صدقها.”
[😳😯🫣🤭😮💨😜😝😫😋🤩🥴، هاي رياكشناتي واني اترجم]
رغم أن ابتسامته لم تتغير، إلا أن لهجته كانت حادة.
كنتُ على وشك شرح أنني الابنة غير الشرعية لعائلة سقطت وهربت، ولا أملك ما يدفعني لاختلاق الأكاذيب… لكن كاسيون وقف بيننا، حاجبًا رؤيتي له.
“إن ثبت أن كلامكِ كذب، فهل ستكونين مستعدة للتنازل عن لقب الدوقة مجددًا؟”
“ماذا؟!”
“نعم.”
تقاطعت إجابتي مع إجابة كاسيون، لكن بينما نطقتها بذهول، قالها هو بثقة راسخة.
حاولت النظر إلى الأمير، لكن كاسيون لم يتحرك.
“إن كنتَ أنت من يضمنها، فلا يسعني إلا أن أصدقك.
لقد أنقذني حدسك الصادق أكثر من مرة في ساحة المعركة.”
عندها فقط تنحّى كاسيون جانبًا، كاشفًا الرؤية.
“نشكّ في أن السم يتفاعل عند امتزاج أطعمة أو أدوات معينة. نأمل أن تكون هناك كميات كافية من الترياق في المستشفى الإمبراطوري.”
“سأتأكد من ذلك.”
عاد الأمير إلى ابتسامته المعتادة، لكنني بقيت في حيرة.
كيف أمكن تسليم معلومة بهذه الخطورة بتلك السهولة؟
“فلنسرع إلى قاعة الطعام إذًا، فالموعد مع جلالة الإمبراطور لا ينتظر.”
قادنا الأمير من جديد وكأن شيئًا لم يحدث.
…
“نحن في حضرة جلالة الإمبراطور.”
“فلنأخذ أماكننا قبل أن يبرد الطعام.”
فُتحت أبواب قاعة الطعام، وكان الإمبراطور يجلس في صدر المائدة المزخرفة، مهيبًا وجادًا.
تقدّمنا لتحيته، لكنه لوّح بيده إشارة للجلوس مباشرة.
“شكرًا على الدعوة، جلالتك.”
جلستُ إلى جانب كاسيون الذي بدا مترددًا بعض الشيء. حتى في تلك اللحظة القصيرة، شعرتُ بنظرات الإمبراطور تخترقني.
ملامحه، وهدوؤه البارد، يشبهان الأمير الثاني بشدة، حتى إن شائعات الدم النبيل أصبحت فجأة ذات مصداقية.
“أعتذر على التأخير، جلالتك.”
وخزتُ كاسيون بخفة ليبادر بتحية رسمية، بعدما بقي ينظر إليّ بصمت.
فضحك الإمبراطور، ثم رفع كأسه.
“أنا من دعاكما متأخرًا، فلا حاجة للاعتذار.
ما أثار اهتمامي فعلًا هو انسجامكما اللافت.”
“شكرًا لك.”
رد كاسيون فورًا، فابتسم الإمبراطور بعمق.
“ظننتُ أنك أجبرت امرأة بائسة على الزواج لتحافظ على لقبك، لكن يبدو أنها هي من تقودك خلفها بسلسلة!”
ارتبكنا، ولم نجد ما نقول.
كيف نرد بأدب على تعليق كهذا؟ هل نعترف أنني من يمسك بزمام الأمور؟
“كان من الصعب أن أرقص معها في الحفل السابق.”
تدخل الأمير الثاني ليُنقذ الموقف، لكن بدا أن الغداء لم يكن سوى وسيلة للمضايقة.
“نعتذر عن قلة اللياقة، فنحن حديثا الزواج، جلالتك.”
“هاها، تبدين شابة لطيفة ورقيقة جدًا.”
وفي تلك اللحظة، اقترب الخادم لملء الكؤوس.
لاحظتُ أن كأس الإمبراطور كان ممتلئًا سلفًا.
كان على وشك إمساكه—
…
أحيانًا، دون سبب واضح، تشعر فقط أن شيئًا ما ليس على ما يرام.
“آسيل؟”
ناداني كاسيون بهدوء، لكنني كنت أحدق في الإمبراطور وهو يرفع كأسه.
ثم التقت نظراتي بالأمير الثاني.
للحظة، توقّف الزمن.
“أبي.”
“همم؟”
نهض فجأة، مستخدمًا “أبي” بدلًا من “جلالتك”، ما جعل الإمبراطور يوقف حركته.
“أيمكنني الاستئذان للحظة؟”
أمامه طبق من الـ”بروشيتا”—خبز مسطّح مزين بالأعشاب والفواكه وصلصة اليوزو.
لا أعرف ماهية العشبة.
ربما الخطر ليس فيه…
أو ربما كان الهدف هو الإمبراطور تحديدًا؟
اقترب الأمير، تناول قطعة، وأخذ قضمة.
ساد الصمت.
قبضتُ على كفيّ بشدة، أظافري تنغرس في راحتي.
“استدعوا الطاهي.”
“هل من مشكلة في المقبلات؟”
رغم أن الأمير بدا بخير، تحدث بجديّة.
“العشبة المستخدمة هي الكاتشيولا.
وكأس والدي يختلف في لونه.”
نظرتُ إلى الكأس، بدا لونه باهتًا أكثر من كؤوسنا.
“يبدو كنبيذ عنب أخضر، لكنه يحمل رائحة زهور السيلا.”
تجمّد الإمبراطور.
لم أفهم حجم الكارثة، لكن الجو تغيّر فجأة.
دخل الطاهي وهو يرتجف.
“اقترب.”
“ن-نعم، جلالتك.”
تفحّص الطعام بحيرة، ثم شمّ النبيذ—
“لا! النبيذ الذي قدّمته نقي، بلا أي إضافات!”
جثا على ركبتيه متوسلًا.
“أرجوكم، لم أكن أنا!”
عندها فقط أدركتُ الحقيقة.
مزيج الكاتشيولا وزهور السيلا… ينتج سم قاتل.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ18
“ألقِ القبض على جميع الخدم والطهاة الحاضرين هنا، وابدأ التحقيق مع كل من شارك في إعداد الطعام وأدوات المائدة.”
“مولاي! مولاي، أقسم أنني بريء!”
دوّت صيحات الهلع مع صدور الأمر الحازم من الإمبراطور.
لكن الغريب أنه احتسى مجددًا من كأس المقبلات وكأن شيئًا لم يحدث، وكأن الحياة مستمرة بشكل اعتيادي.
“أبعدوا البروشيتا من الطاولة.”
“أبي، الطعام…”
“هل تظنون أنهم لجأوا إلى وضع نوعين أو ثلاثة من السموم في وجبة غداء؟ إن كان الطاهي بريئًا حقًا، فسيكون من المؤسف التفريط في طعام بهذه الجودة.”
“مولاي!”
لقد قرر ببساطة استكمال وجبته، مع استبعاد الطبق الذي يحتمل وجود السم فيه.
وبينما كنت أحدق بذهول في هدوئه الغريب، انفلت صوتي دون إرادة مني، فالتفت إليّ بنظرة هادئة.
“يا دوقة، ويا دوق، إن لم تكن لديكما خشية من السم… فلنتابع الغداء.”
هل نحن قيد الاشتباه أيضًا؟ أم أن هذه مجرّد تجربة لقياس ردّات فعلنا؟
“لقد تصرّف الأمير ببراعة.
عُد إلى مقعدك، بنيّ.”
“كما تأمر، والدي.”
عاد الأمير إلى مكانه وكأنه أدى واجبًا بسيطًا، وأكمل طعامه دون أي تردّد أو انفعال.
التفتُ نحو كاسيون في حيرة، لكنه بدا كمن تلقّى تحدّيًا ضمنيًا من كلمات الإمبراطور الأخيرة.
“الدوقة شاحبة الوجه.
إن كنتِ منهارة، يمكنني الحديث مع الدوق وحده.
عودي إلى جناحك إن رغبتِ.”
وسط هذا العبث، كنت الوحيدة التي لم تمس أدوات الطعام.
كان الإمبراطور قد شرب نصف كأسه، بينما تسارع الخدم الجدد—الذين حلّوا محل أولئك الذين سُحبوا للتحقيق—في تبديل المقبلات دون توقف.
وأنا… أراقب فقط، بأصابع مشدودة وقبضة مرتجفة.
“…كلا، مولاي.
تفاجأت قليلًا، هذا صحيح، لكن لا يسعني رفض شرف الجلوس إلى هذه المائدة.”
نعم، ربما هم مجانين.
لكن أن أكون الوحيدة التي تفرّ؟ لا يبدو هذا ملائمًا لموقفي.
فقررت أن أساير هذا الجنون.
وُضعت أمامي قطعة بسيطة من الكانابي.
يدُي كانت ترتجف، لكنني رفعتها إلى فمي بثبات، دون أن تسقط مني.
لم أشعر بطعمها إطلاقًا.
لم أذق إلا الغضب المتأجج في أعماقي.
“كما توقّعت… ليس الطاهي هو الفاعل.
سيكون من المؤسف أن نحرم أنفسنا من طعامه.
فلنترك هذه الحادثة الصغيرة خلفنا ونواصل الطعام والحديث.”
حادثة صغيرة؟ هل يُطلق على ما جرى للتو “حادثة صغيرة”؟!
كنت أشتعل داخليًا، فرفعت الكأس وارتشفت منها جرعة كبيرة من النبيذ المصنوع من العنب الأخضر.
لكن على الأرجح، كانت مشاعري أكثر اضطرابًا من أن تخفف حرقة الكحول.
“…”
“أسيليا؟”
هل شربت بسرعة مفرطة؟ ناداني كاسيون بصوت منخفض.
خشيتُ أن أتحدث فيفلت مني الغثيان، فاكتفيت بالنظر في عينيه بصمت.
“يبدو أن الدوق والدوقة في انسجام تام… يبدو أن منحي للورد ييغر لقب الدوق كان قرارًا صائبًا.”
بدا صوت الإمبراطور بعيدًا، كأنما يأتي من عالم آخر.
الغثيان كان يتصاعد في حلقي، لا أعلم إن كان بسبب الصدمة أم تركيبة المشروب.
“…آه…”
لو تقيأتُ هنا، فستكون الفضيحة مدوّية.
كم تمنيت لو أنني انسحبتُ قبل ذلك.
بصعوبة بالغة، ابتلعت ما صعد إلى فمي.
لكن الطعم… الطعم المعدني كان علامة لا تخطئ—هذا ليس طعامًا.
لماذا أنا؟
“أسيليا!”
“…!”
لم أتقيأ على الطاولة، لكن الدم تدفّق رغمًا عني.
عضضت على شفتي بكل ما أوتيت من قوة، إلا أنني شعرت بدفء الدم يسيل بينهما.
كاسيون، وقد تلبّسته الدهشة، نهض من مقعده على الفور.
“آه…”
شعرت وكأن نارًا تستعر في داخلي.
تمسّكت بحافة الطاولة وانحنيت، وكاسيون صرخ بشيء غير مفهوم ثم اندفع ناحيتي وضمني.
رغم ألمي، كان همّي لا يزال منصبًّا على الحاضرين من حولي.
نظرت إلى الإمبراطور والأمير—وبدت الدهشة واضحة عليهما، وكأن تسمّمي لم يكن في حسبانهما.
“آه، آه…”
رأى الإمبراطور وجهي المتألم، فأمر فورًا بجلب الطبيب.
“أسيل، أسيليا… تماسكي، رجاءً.
ستنجين، أعدكِ.”
كلا، لا يمكنني أن أموت هنا.
من المؤكد أن القصر يملك ترياقات جاهزة لحالات التسمم.
لا بد أن هناك أملًا.
لم أعد قادرة على الصمود.
تشبثت بكاسيون بشراسة، وتمزق قماش سترته بين أصابعي المرتجفة.
لم أعد أكترث لأي أحد.
الألم كان لا يُحتمل.
“آه… كخ…”
يداه الكبيرتان المرتجفتان كانتا تواسيانني بحنان، حتى لفظت دمًا في حضنه.
أردت أن أصرخ بأنني أتألّم، أردت أن أسأله متى يصل الطبيب… لكن الكلمات لم تجد طريقها إلى فمي.
كان الأمير قد اقترب وأخذ يوجّه التعليمات سريعًا، لكن كل شيء بات باهتًا في أذنيّ.
ثم رأيت وجه الأمير، رغم غشاوة الرؤية.
كانت ملامحه قاتمة، متجهمة، غريبة.
ومن ذلك الوجه… فهمت لماذا أنا، أنا بالتحديد، مَن جرى تسميمها.
اللعنة…
رغم الألم المهول، شعرت ببعض الراحة.
فالسم… لم يكن قاتلًا.
لأن من دسّه…
لم يكن من فصيل الأمير الأول، بل من جناح الأمير الثاني.
حينها فقط سمحت لنفسي بالاستسلام.
وانقطع الخيط الأخير الذي كنت أتشبث به.
خُيّل إليّ أنني سمعت أحدهم يصرخ باسمي بيأس.
—
“…آه…”
“أسيليا!”
سقفٌ غريب… لكنه مألوف بما يكفي لأُدرك أنني في جناح بالقصر.
أغمضت عينيّ بشدة، أضغط على حلقي المحترق كمن يحاول احتواء جحيم داخلي.
صوت مألوف كان يقترب.
“أسيليا، هل تسمعينني؟ هل تشعرين بشيء؟”
“…تفو.”
لم أملك طاقة للرد… فقط طاقة كافية لشتم الألم.
رغم وقاحتي، لم يبالِ كاسيون بشيء سوى التأكد من أنني على قيد الحياة.
“هل أمسكوا بالفاعل؟”
حين حاولت النهوض، أراد منعي.
لكنني أزحت يده، وأسندت ظهري إلى لوح السرير.
“أسيليا، أرجوكِ استريحي.
سأحضر الطبيب مجددًا—”
“قلتُ لك، هل قبضوا على من فعلها؟”
سألت مجددًا وأنا لا أفتح عينيّ.
لم أكن أحتمل لسعتهما.
تردد، ثم قال:
“الخادم الذي حاول تسميم الإمبراطور أُلقي القبض عليه. مجرد تابع بسيط، ولم نصل بعد إلى الرأس المدبّر.
يحققون الآن مع من قدّم لكِ الكانابي أيضًا.”
“هاه…”
سخافة… هذه مهزلة بحق.
“يبدو أن علينا شكر الأمير الثاني، إذًا.”
“…”
انحنى رأس كاسيون بصمت.
كان يدرك مغزى كلامي.
“…كل هذا لأنني بجانبك، أليس كذلك؟”
“أعلم أنكِ غاضبة، لكن… هذه كانت مسؤوليتي منذ البداية.”
“لا تقولي هذا.
أرجوكِ، أنا آسف.”
“…”
“ارجعي للاستلقاء، رجاءً.
سأجلب الطبيب.”
استجبتُ بصمت، فعاد ليغطي جسدي بعناية، ثم هرع خارجًا وكأن كل ثانية تعني له حياة أو موتًا.
“حفنة من المجانين…”
الألم لا يزال نابعًا من كل خلية في جسدي، لكنه لا يبدو مميتًا.
من المؤكد أن السم الذي استُخدم معي كان متعمدًا أن لا يقتل.
والسبب؟ لأننا من نفس الجبهة.
عندما حدثت محاولة التسميم، كان من الطبيعي أن نكون نحن—فصيل الأمير الثاني—على رأس المشتبه بهم.
لكن حين تعرضتُ أنا أيضًا للتسمم، زالت عنا تلك الشبهة تمامًا.
لقد ضحّى أحدهم بي ليمنح الفصيل غطاءً من البراءة.
“…لا يمكن أن يكون الأمير نفسه، أليس كذلك؟”
إن كان هو، فقد أحتاج إلى إعادة التفكير بشأن دعمي له.
لكن تعبيره الأخير لا يزال محفورًا في ذهني، ولم يكن يبدو عليه الفرح.
“الوضع مزعج للغاية…”
الألم يفتك بي، والنتائج تصب في مصلحتنا، وهذا أكثر ما يزعجني.
كل الدلائل ستتجه الآن إلى فصيل الأمير الأول.
إنها خطة واضحة، نعم، لكن تأثيرها قوي بما يكفي لتغيير مسار الشكوك.
لقد حاولوا استهداف حجر الزاوية في تحالف الإمبراطور والأمير الثاني.
ولو نجحوا، لاقترب الأمير الأول أكثر من العرش.
“أنا خائفة… خائفة حقًا…”
همست بهذه الكلمات وأنا أسعل مجددًا، ولاحظت أثر الدم لم يختفِ بعد.
قلتُ لكاسيون إن هذا كان دوري، لكن… لم أكن أعنيها تمامًا.
قلتُ إنني سأكون درعه حتى يجمع حوله من يحب… لكنني، واثقة بأن القصة الأصلية تحميني، كنتُ ساذجة.
باب الغرفة يُفتح بقوة—
“أسيليا! بسرعة، افحصوها فورًا!”
كاسيون اقتحم الغرفة يجرّ الطبيب معه تقريبًا.
وحين رأى الدم على البطانية، شحب وجهه كأنه تلقى طعنة.
“قد ترتفع حرارتها الليلة بسبب آثار السم، لكنها ليست في خطر.
لقد تناولت الترياق، وإن حصلت على الراحة الكافية، فكل شيء سيكون بخير…”
كما توقعت. كان السم قابلًا للعلاج.
…وهذا يعني أن هناك من كان مستعدًا للتحرك لحظة ظهور أعراض التسمم.
“كيف تقول ذلك ووجهها يفيض شحوبًا؟ افحصها مرة أخرى!”
لكني لم أعد أملك طاقة للرد.
اكتفيت بالتنهيدة، أستمع إلى كاسيون وهو يصرخ في وجه الطبيب.
ما أحتاجه الآن…
هو ترتيب أفكاري من جديد.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ19
لنعُد ترتيب أفكاري أولًا.
لقد تمكّنتُ مع الأمير الثاني من إحباط محاولة تسميم الإمبراطور.
أحد التابعين لفصيل الأمير، وكان متواجدًا إما في القاعة أو في الممر أو المطبخ، تصرّف من تلقاء نفسه، ودسّ السم في قطعتي من المقبلات.
وبهذا، خفّت حدة الشبهات الموجهة إليّ، وإلى كاسيون، بل وحتى إلى الأمير نفسه، إذ كان وجودنا جميعًا في المكان ذاته قد يجعلنا محلّ شك في تدبير تلك المؤامرة.
“اللعنة…”
“آسيل، أما زال بطنك يؤلمك؟ هل أستدعي الطبيب مجددًا؟”
الأمر ليس خطيرًا، لكنني أشعر بغيظ شديد ومرارة لا تُحتمل. بل إنّ الألم حين بدأ يهدأ، بدأتُ أرى الموقف وكأنه بات مقبولًا، وذلك ما يثير غيظي أكثر.
“كاسيون، ماذا ستفعل إن قُبض على من حرّض على التسميم؟”
“وما عساني أفعل؟ سأمزّق حنجرته.”
قال ذلك وعيناه تومضان بغضبٍ جارف، ما أنذرني بأننا مقبلون على مزيدٍ من التعقيد.
“أو… إن كان ثمة ما ترغبين فيه، قولي فقط.
سأفعل أي شيء لأجلك.”
“حسنًا… دع الحنجرة وشأنها إذًا.”
“…الحنجرة؟ مخيّبٌ للآمال.
لكن لا بأس، يمكننا الإبقاء عليه حيًّا، وننتزع أطرافه واحدًا تلو الآخر.
لنجعله يزحف ما تبقى من عمره…”
“أوي! ما الذي تقوله؟ فقط هدّده، ولا تمسّه بسوء!”
صرختُ مرتاعة، فقد رأيت فيه لأول مرة ذاك الوجه الدمويّ الكامن خلف هدوئه.
لكنه مال بأذنه نحوي كأنه لم يسمعني.
“ماذا قلتِ؟”
“فقط حذّره من تكرار مثل هذا التصرف بين الحلفاء.
على الأقل، امنحه فرصة الاستعداد النفسي، وأنذره مسبقًا…”
“أي استعداد نفسي تحتاجه لتسميم أحدهم؟! آسيل، أما زلتِ تتألمين؟”
“أوه، هل تحاول إخباري بأنني أتهجّى الجنون؟ حسنًا، أنا بخير الآن.”
“لا، لستِ بخير.
إنك تتكلمين ترّهات.”
اقترب مني ووضع كفه على جبهتي ليتفقد حرارتي.
نعم، كنت أعاني من حمى طفيفة بسبب أثر السم، لكنها ليست بتلك الشدة.
أليس هذا طبيعيًّا حين يرهق الإنسان نفسه؟
“كما ظننت… حرارتك لم تهبط بعد.
لا شك أن هذا الهراء سببه الحمى.”
“أنا لا أقول هراء.”
دفعته بتبرّم حين بدأت يداه تلامسان وجنتَيّ بعد جبهتي. لم يكن هذا مدعاة سرور لي.
“تذكّر فقط أن هدفنا النهائي هو إيصال سمو الأمير الثاني إلى ولاية العهد.
وليس من الحكمة إيذاء حليف يملك من البديهة ما يجعله يتصرّف على الفور.
مع أنني، على الصعيد الشخصي، غاضبة للغاية.”
“غاضبة؟ أنت تختزلين المأساة في كلمة واحدة؟
لقد كنتِ قاب قوسين أو أدنى من الموت!”
“لكنهم تحكموا بالجرعة، أليس كذلك؟ وقلت بنفسك إن الترياق سهل التحضير.”
“آسيليا!”
“آه، رأسي يؤلمني من كثرة صراخك.”
تظاهرت بالمرض عمدًا لوقف سيل عتابه.
وضعتُ يدي على أذني وصدغي، واستلقيت على السرير كمن أعياه الحمى.
عندها نهض كاسيون غاضبًا، ثم جلس مجددًا وهو يضغط على أسنانه.
“آسيليا…!”
همسه الغاضب جعلني أرغب في الضحك، فحتى تمثيلي لم يمنعه من إظهار قلقه الشديد.
تلك الطريقة الحانية التي ناداني بها وهو يضم كفه إلى فمه أثارت في نفسي شعورًا غريبًا… هل ما زال أثر السم قائمًا؟
“أنا ممتنة لأنك تهتم بي بهذا القدر، لكن يجب أن نتعامل مع الموقف بعقلٍ راجح.
لقد ثبتنا أقدامنا أكثر، وكسبنا دَينًا من الأمير الثاني.”
“لكن…”
“إن كان رجلًا يعرف قيمة المعروف، فإن هذه التضحيات ستعود إليك لاحقًا حين يصير وليًا للعهد.
ولهذا نحن في زواج تعاقدي، أليس كذلك؟”
“…”
“لقد صُدمت قليلًا، نعم.
لكن طالما أن هذا كان دوري منذ البداية، فسأتعلّم منه وأكون أكثر حذرًا.
قد أكون ‘زوجة درع’، لكنني لست هنا لأموت فحسب.”
“آسيل، لا تقولي هذا.
أنتِ لستِ درعًا، ولا زوجة على ورق.”
“إذًا، أنا زوجتك الحقيقية؟”
قلت ذلك مازحةً، فضحكتي جعلته يعض شفتيه، ويغرق في تفكيرٍ ثقيل.
يا له من شخص بسيط القلب… ربما لهذا السبب لم يُدخل أحدًا إلى عالمه الخاص طوال حياته.
كيف صمد في ساحات المعارك وهو بهذه الرقة؟ مددت يدي، وربتّ على وجنته بشيءٍ من الأسى.
“أنا بخير فعلًا.
وبما أنهم سمحوا لنا بالبقاء في القصر لأيام، فسأستغل وجودي لأتناول كل الأدوية الثمينة.
أنظر إلى الأمر برؤية طويلة الأمد.”
“…لكن، آسيل، أنا… لا أستطيع التظاهر بالمصافحة مع من دسّ السم في طعامك لأجل أهدافنا.
حين تقيأتِ دمًا وسقطتِ، شعرت وكأن حياتي تنهار أمامي.”
[ااهخخخ شنو هذا البطل المثالي لو مو عيب من آسيل بتزوجه]
غلق عينيه كمن يحاول محو مشهدٍ مؤلم، ثم فتحهما مجددًا، وعيناه تلمعان برطوبةٍ لم أدرِ أهي من الدموع أم من انعكاس الضوء.
“لو لم تتشبّثي بي حينها، لربما أمسكت الإمبراطور أو الأمير نفسه من عنقه.”
هل يجدر بي الامتنان؟ أم أُخبره أنه يبالغ إلى حدٍّ مقلق؟
“نعم، علاقتنا بدأت بعقد، لكنني لا أراك أداة.
ولا أريد معاملتك كذلك.
حين يصير الأمير الثاني وليًا للعهد، وحين يعمّ السلام دوقيتنا… أريدكِ أن تبقي معي، بكل بساطة.”
ابتسمتُ بعفوية، وقد تملّكني شعور خفيّ بالامتنان.
لو كان يُظهر هذا الجانب من شخصيته أمام الآخرين، لكان محط أنظار الجميع.
إنه رجل صادق وسهل القرب، لكن أحدًا لا يدرك ذلك.
“ولا أنا أراك مجرد وسيلة لتحقيق هدفنا.
أريدك أن تحيا، وأريد للدوقية أن تنعم بالهناء.”
“آسيليا…”
“لكن، فلنحرص على اختيار كلماتنا.
قد يظن البعض أنك تقدم عرض زواج! ألا يمكنك فقط أن تقول إنك تودّ أن نكون صديقين؟”
لسببٍ ما، توقّف كاسيون عن الحركة.
بدا وكأنه أدرك شيئًا فجأة… هل استوعب أنه بالغ؟ أتمنى ألا يكون الندم قد زاره الآن فقط.
“في الواقع، كنت أنوي أخذ نصيبي والعيش بهدوء في الريف، لكنني سأحرص على إرسال الرسائل.
طبعًا، إن لم تمانع الدوقة الجديدة.”
ربّتُّ على كتفه المتصلّب، وتخيلتُ مستقبلًا دافئًا بعيدًا عن كل هذا الصخب.
فلتذهب القصة الأصلية إلى الجحيم. البطل، البطلة، وأنا… سأجعلنا جميعًا ننجو، ونحيا بسعادة.
—
“بلغني أن الدوقة هي من أوقفت كاسيون.”
جاءنا الأمير الثاني عصرًا.
لم تكن زيارةً مرضية بالمعنى الحرفي، لأننا لا نزال في إحدى غرف القصر.
سأل عن حالتي أولًا، ثم أطرق رأسه قليلًا قبل أن يقول:
“أنا مدين لكِ.
كنت واثقًا من أن من فعلها كان سيفقد رأسه فورًا، مع طباع كاسيون.”
“هل تعرف من المسؤول؟”
“لا.
لديّ شكوك، لكن لا شيء مؤكد.”
كوني أوقفته لا يعني أنني غير غاضبة.
سألته بنبرة حادة، فتنهّد بحرج وقال:
“أعدك بأني لن أخفي شيئًا.
وإن توصّلتُ إلى الحقيقة، سأجبره على الاعتذار لكِ وجهًا لوجه.”
“سيكون من الأفضل أن تُخبره أننا لا نقبل بالاعتذارات الفارغة.
وإلا، فقد نبدأ بالتفكير في ردٍّ يُساوي حياتهم.”
لو خرج يبرر ضعف فصيله ويطلب التفهّم، لربما طالبتُ بيدٍ أو قدم تُستخدم كثيرًا، إن لم يكن الرأس ذاته.
لكن يبدو فعلًا أن الأرواح المتشابهة تجذب بعضها.
رغم أنه أمير، فإن صدقه وشفافيته هدّآ من انفعالي.
“…هل هذا سبب قربكما؟”
“هم؟”
“لا شيء…”
“إن كان في نفسك ما تقولينه، فقولي.
أنا مستعد للإصغاء.”
اهتمّ بما همستُ به، فحككت مؤخرة رأسي بخجل وقلت:
“قد يكون من غير اللائق قول هذا، لكنني أرى أنك وكاسيون متشابهان.
صادقان، طيبان.
وأظن هذا ما جعلكما صديقين.”
“…”
“…”
“…”
“ماذا؟ لماذا تنظر إليّ هكذا؟”
“…لا شيء.”
نظر إليّ الأمير بدهشة أكبر من تلك التي أظهرها لحظة رؤيته لي أتقيأ دمًا.
وحين خجلت من نظراته، مرّر يده على وجهه وقال:
“حقًا؟ كاسيون؟ صادق وطيب؟”
“أليس كذلك؟ إنه بريء، بخلاف ما تقوله الشائعات.”
“هاه…”
“لا أدري كيف ظهرت تلك الشائعات عن أنه دموي أو لعوب.
ساحات المعارك بيئة قاسية، لكن يبدو أن الإشاعات تنمو في أي تربة خصبة.”
“أنا… لا أعرف ما أقول.”
نظر إليّ مجددًا.
كنت بملابس مرضى غير رسمية وشعري فوضوي، فغطّيت نفسي بالبطانية خجلًا.
“إن كنتِ ترينه كذلك، فلا بأس.
لكن… حرصًا على ألا أزيد من كراهيته لي، سأصمت.”
“ما الذي قلته ليستدعي الكراهية؟”
دخل كاسيون، وقد عاد بعد أن تأكد من تجهيز الأدوية، ورفع صوته محتجًا.
لكن الأمير اكتفى بابتسامة ورفع كتفيه، متجاهلًا نظراته الغاضبة.
“يبدو أن حالة الدوقة ليست سيئة كما تصورت.”
“هل عيناك مصنوعة من الخشب؟ كيف تقول إنها بخير ووجهها شاحب هكذا؟”
“بشرتها كانت بيضاء أصلًا… لا بأس.
سأرسل مزيدًا من الأدوية الجيدة.
جلالة الإمبراطور قال إن بإمكانكما البقاء في القصر ما شئتما، فلا تترددا في طلب أي شيء.”
“إذًا، يمكنك المغادرة الآن.”
رغم صداقتهما، أليس هذا وقحًا نوعًا ما؟ لكن الأمير شكرني بنظرة قبل أن يغادر.
“تناولي الدواء وارتاحي، آسيل.”
“…بهذا المعدّل، سأغادر القصر بصحة ممتازة… لكن بشبه خنزير مدلّل.”
“أتمنى ذلك من كل قلبي.”
وعندما نظرت إلى الصينية التي جلبها، وجدتُ إلى جانب الأدوية، حلوى شهية لتلطيف الفم.
حينها أدركت أنني قد أتحوّل فعلًا إلى مريضةٍ تُغذّى قسرًا، دون أن أُسمح بمغادرة الفراش.
وأشعر الآن أن جسدي أصبح أثقل من ذي قبل…
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ20
“أرجوك، دعني أتمشى قليلًا فحسب.
أشعر بصدق أنني سأتحوّل إلى خنزير إن بقيتُ حبيسة هكذا.”
“هل رأيتِ يومًا خنزيرًا بذراعَين بهذا النحول؟”
مرّت ثلاثة أيام على إقامتنا في القصر الإمبراطوري، وخلالها التقى الإمبراطور بكاسيون مرة أخرى، غير أنه لم يوجه لي أي تعليمات.
مع ذلك، نقل كاسيون لي اعتذاره عبره عن واقعة التسميم، مبررًا ما حدث بأنه لم يكن قد أنهى غداءه.
“لكن الطبيب أكد أن السم زال بالكامل! وقال إن كل ما أحتاجه الآن هو طعام مغذٍ وحركة! دعني أتنفس الهواء قليلًا، وغدًا نعود إلى قصر الدوق.”
“أنا لا أمانع العودة.
الطعام هنا دائمًا يثير الريبة، حتى مع الرقابة المشددة…تسك.
لكن لا دواء يضاهي دواء القصر الإمبراطوري.
ويبدو أنهم يُعدّون لمأدبة إمبراطورية.”
“مأدبة؟”
توقفت عن تمردي الطفولي فجأة، وقد اتسعت عيناي من المفاجأة.
فالمآدب الإمبراطورية تُقام في مناسبات قومية عظيمة فقط، كأعياد الميلاد أو يوم تأسيس الإمبراطورية.
فما المناسبة الآن لإقامة مأدبة طارئة كهذه؟
“ربما هي محاولة لعرض استقرار العائلة الإمبراطورية. ولأنها تُحضّر على عجالة، فلن تكون باذخة، لكنها ستستقطب معظم النبلاء.”
“هممم…”
“قال جلالته إنه بإمكانك البقاء في القصر حتى موعد المأدبة، كتعبير عن الاعتذار.
لكن إن أردتِ المغادرة، فسنعود إلى قصر الدوق مع أخذ الدواء فحسب.”
“لا، لن يكون من اللائق أن أغادر بعد أن أبدى الإمبراطور هذا اللطف.”
ربما تكون هذه فرصة لا تُعوّض.
فرغم مكانة كاسيون كدوق، متى تتكرر لي فرصة المكوث في القصر الإمبراطوري ومراقبة ما يدور فيه عن كثب؟ سأبقى حتى موعد المأدبة، وأتنقل كمن لا يدري شيئًا، أترصّد وأستكشف بخفّة.
“سلامتك تبقى الأهم، سواء بالنسبة للإمبراطور أو للأمير.”
أتساءل متى تحديدًا سيكون هذا الحفل.
بما أن جلالته قال إن عليّ البقاء حتى حينه، فالأرجح أنه قريب، وربما لا يتجاوز عشرة أيام.
ولو حالفني الحظ، فقد ألتقي بالإمبراطورة أو الأمير الأول.
بينما كنت شاردة في خططي، اقترب كاسيون وخفَض رأسه بصوت مملوء بالأسى.
“في ذلك اليوم… كان ينبغي أن أتجاهل الاستفزاز وأُخرجك أولًا.”
“ماذا؟”
“كنت غافلًا.
المكان الذي تناولنا فيه الطعام سبق أن وُضع فيه السم.
ولم يخطر ببالي للحظة أنكِ – لا أنا – من سيكون الضحية.
كنت أحمقًا.”
“لكنا تحدثنا في هذا الأمر من قبل وانتهينا منه.
أنا بخير، صدقني.
لقد اخترت البقاء بإرادتي.”
“الأمر أعقد من ذلك يا أسِليا.”
بل الأمر أبسط مما يصوّره، لكنه يُمعن في تعقيده.
صحيح أنه استجاب لاستفزاز الإمبراطور، لكن القرار بالبقاء كان قراري.
وضعتُ يدي بهدوء على كتفه.
“كما ترى، أنا على ما يُرام.
لا تُحمّل نفسك ما لا طاقة لك به.
وإن كنت تشعر بالذنب فعلًا… فدعني أتمشى قليلًا.”
“هذا غير وارد.”
“بحقك… كاسيون…”
“…لا.”
“رجاءً، لنصف ساعة فقط، أستنشق الهواء وأعود.
أشعر أنني أختنق بين هذه الجدران.
البقاء الطويل يدفعني إلى أفكار لا لزوم لها.”
“…”
تردّد كاسيون أمام كلماتي الأخيرة.
ورغم أنه لم يفارقني تقريبًا منذ الحادثة، إلا أنه اليوم بدا منشغلًا بشيء يخص الأمير.
“…لكن لفترة قصيرة جدًا.
ارتدي شيئًا دافئًا، وخذي معك المرافق الذي سأختاره.
وإن لم تكوني في غرفتك حين أعود… فلن تحصلِي على فرصة أخرى.”
“وكيف يُمكنني إنهاء نزهتي قبل عودتك إن لم أعرف متى ستعود؟”
“هل هذا يعني أنك لا ترغبين بالخروج؟”
“سأتنفّس قليلًا وأعود مباشرة.”
ما إن لمحت النظرة الصارمة في عينيه، حتى سارعت إلى النهوض.
يا للسماء… إن كان بهذه الغيرة مع زوجة بعقد، فكيف سيكون حاله مع زوجته الحقيقية؟
وبينما كان منشغلًا بتكليف أحد المرافقين، ارتديت ملابس ثقيلة لا تناسب حرارة الطقس، واعتمرت قبعة واسعة، ثم خرجت.
“لباسك خفيف جدًا.”
“الجو خانق بالفعل.”
“ألن تأخذي شالًا إضافيًا؟”
خشيت أن يقلص هذا جدولي الزمني أكثر، فوافقت أن يحمل المرافق شيئًا يمكنني أن أُلقيه على كتفي إن لزم الأمر.
فقط حينها بدأ وجه كاسيون يلين قليلًا.
“اعتنِ بالدوقة جيدًا، ولا تدع التجوال يتجاوز النصف ساعة.”
“أجل، سأكون حذرًا يا صاحب السمو.”
كان المرافق يبدو متوترًا، وكأنه خضع لتحقيق صارم قبل السماح له بمرافقتي.
أما أنا، فكنت على شفا الجنون من السأم.
لقد قضيت أربعة أيام سجينة، رغم أنني لم أُصب بكسر! وأخيرًا، تحررت!
—
“رائع… صدق الأمير حين قال إن زهور الربيع تزدهر بجمال استثنائي.”
“سأطلب من البستاني أن يُزيّن بها غرفة السيدة.”
“أشكرك.”
وصلنا إلى حديقة قريبة من الجناح الذي أُقيم فيه، لا تلك الحديقة الخلفية التي شهدت محادثتنا السرية من قبل.
وكما يُتوقع من حدائق القصر الإمبراطوري… كانت بديعة، وربما ساعدت أجواء الربيع في ذلك.
حتى أنا، التي لا تهوى الزهور، شعرت بالسرور.
أم أن لذّة التجوّل بعد انقطاع طويل جعلتني أرى كل شيء أجمل؟
“هاه…”
لكنني بدأت أُلهث من مجرد المشي الخفيف.
لم ألحظ الأمر، لكن ربما لا تزال آثار السم تسري في جسدي، أو أن قوتي لم تعد كما كانت.
خشيت أن يلاحظ المرافق ذلك ويُبلّغ كاسيون، فبدأت أتنفس بصمت شديد.
“…آه!”
وبينما كنت أمسح العرق خلسة ورفعت رأسي، هبّت نسمة خفيفة أطاحت بقبعتي الواسعة.
لم تكن قوية، لكنني لم أكن قادرة على اللحاق بها.
“دعيني أُعيدها لكِ، سيدتي.”
تحرّكتُ نحو القبعة، لكن المرافق أوقفني واندفع نحوها.
غير أن شابًا قادمًا من الاتجاه المقابل التقطها أولًا.
شاب مذهل الوسامة.
“يبدو أن الشمس رغبت في رؤية وجهكِ الجميل، آنستي.”
…ما هذا الأسلوب المبتذل؟ اتّسعت عيناي من الدهشة لدرجة أنني لم أتمكن من الرد.
بل إن شعره الذهبي هو ما كان يتلألأ تحت أشعة الشمس، لا وجهي.
“تبدين مُرهَقة.
بما أن القبعة اتّسخت، فربما يكون من الأفضل أن تنتقلي إلى الظل.”
“آه… لا بأس.”
انحنيت قليلًا، نفضت القبعة وأعدتها إلى رأسي، ليرد بابتسامة ملائكية، بعينيه الزرقاوين اللامعتين.
“أنا ليكس رومينيل، الابن الثاني للكونت رومينيل.”
انحنى بانضباط، وقبّل ظاهر يدي، ثم ابتسم ثانية، تلك الابتسامة التي جعلته يبدو كصبي صغير، كأن كيوبيد ذاته تجسّد فيه.
“أنا أسيليا ييغر.
ولستُ آنسة.”
“…آه، أرجو المعذرة.
إذًا، أنتِ الدوقة.”
لأول مرة، شعرت بوخز غريب حين نطقتُ اسمي بلقبي الجديد “ييغر”.
بدا لي غريبًا أن أُقدّم نفسي به، على خلاف ما أشعر به حين يُناديني الآخرون بلقب الدوقة.
“وما الذي جاء بكِ إلى القصر، سيدتي؟”
ظننت أن حماسه سيفتر عندما يعلم أنني متزوجة، لكنه استمر في الحديث.
عائلة رومينيل… على ما أذكر، من أنصار الأمير الأول.
أما الابن الثاني، فقد قيل إنه محايد، وقد تخرّج حديثًا من الأكاديمية، مما يفسر مظهره الفتي.
“دعاني جلالته، لكن سوء حالتي الصحية أجبرني على البقاء فترة أطول.”
“آه… لا تزالين شاحبة.”
يبدو أن شائعة التسميم لم تصل إلى مسامع النبلاء بعد.
ربما سيذكرها الإمبراطور ضمنيًا في المأدبة القادمة، لكن حاليًا، يبدو أنها لا تزال طيّ الكتمان.
…أتُراه ساذجًا أم يضطلع بمهمة ما؟ ابتسمتُ وأنا أرفض المنديل الذي مدّه نحوي.
“شكرًا، لكن هذه لوني الطبيعي.”
“أعتذر إن كنتُ قد تجاوزت.”
“أبدًا، أشكر لك لطفك يا سيد رومينيل.”
“يليق بتواضعك هذا الجمال، سيدتي.”
هل هذا حقيقي؟ يقترب أكثر ويتحدث وكأننا في إحدى الروايات الرومانسية.
“عندما رأيتكِ أول مرة، خُيّل لي أنكِ جنية زهرية ظهرت في الحديقة.
شعركِ الوردي المتطاير كان أجمل من بتلات الربيع.”
“إطراؤك يُربكني يا سيد رومينيل.”
“بما أننا التقينا صدفة، ناديني ليكس فحسب، سيدتي.”
أي قدر من الوقاحة هذا؟ واضح أنه يتغزّل بي دون مواربة. راقبته بهدوء وأنا أفكر: هل هو مجرد لعوب؟ أم لديه غرض خفي؟ ربما يجدر بي مجاراته بحذر.
“حسنًا، ليكس.
سمعت أنك تخرّجت من الأكاديمية…”
“أجل، أنهيت دراستي هذا العام، في سن الثامنة عشرة.”
همم… أصغر مني بعام.
لكن إن كان لا يزال طالبًا حتى وقت قريب، فالأرجح أنه لا يملك الكثير من المعلومات.
أم تراه تلقّى تعليمات من أسرته؟ حتى إن لم يعرف بشأن التسميم، فخبر مأدبة الإمبراطور انتشر.
“نظرتكِ تُربكني، سيدتي.”
“…ليكس، التملّق الزائد غير مستحب.”
“أنا فقط أصف الحقيقة.”
ما كل هذا التودد؟ لا يبدو أن في الحديث مزيدًا من الفائدة. وأنا بدأت أملّ من مجاراته.
“تشرفت بلقائك.
لكن حان وقت عودتي…”
وما إن التفتُّ للانسحاب، وقد كان يحاول بلُطف أن يقودني نحو ممر جانبي، حتى رفعت رأسي نحو الجهة التي تقع فيها غرفتي… وتجمّدت.
“…يجب أن أعود فورًا.”
حتى من هذا البعد، لم أحتج سوى إلى لمحة واحدة كي أدرك أن نظرات كاسيون كانت مشتعلة… كالجمَر.
اللعنة… لقد نسيت الوقت تمامًا أثناء الحديث.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 10 - من الفصل الحادي والتسعين إلى المائة «النهاية». 2025-08-14
- 9 - من الفصل الحادي والثمانين إلى التسعين. 2025-08-14
- 8 - من الفصل الحادي والسبعين إلى الثمانين. 2025-08-14
- 7 - من الفصل الحادي والستين إلى السبعين. 2025-08-14
- 6 - من الفصل الحادي والخمسين إلى الستين. 2025-08-14
- 5 - من الفصل الحادي والأربعين إلى الخمسين. 2025-07-23
- 4 - الفصل الحادي والثلاثين إلى الأربعين. 2025-07-23
- 3 - من الفصل الحادي والعشرين إلى الثلاثين. 2025-07-23
- 2 - من الفصل الحادي عشر إلى العشرين. 2025-07-23
- 1 - من الفصل الأول إلى العاشر. 2025-07-23
التعليقات لهذا الفصل " 2"