36
“تفضّل من هنا.”
تبع بيتر، بإرشاد من مارك، إلى قلعة الدّوق الأكبر، وهو يتفحّص المكان بنظرات متفحّصة.
كانت عيناه الذّهبيّتان تلمعان بحدّة من خلف نظّارته الأحاديّة الزّخرفيّة، وهو يراقب المناطق المحيطة.
كان هذا هو بيتر جودوين الّذي يعرفه أهل العاصمة، الدّقيق والمنظّم، بعيدًا عن الطّابع الفضفاض الّذي أظهره في منطقة الحدود.
لكن هذا لم يدم طويلًا، إذ تشتّت انتباه بيتر بزخارف السّقف، وكاد يتعثّر بساقيه لولا أنّ نيرو أمسكه بمهارة.
أعاد نيرو بيتر إلى وقفته وكأنّ شيئًا لم يكن، ثمّ هزّ رأسه بيأس.
“سيّدي، دائمًا ما أتساءل: كيف انتشرت إشاعة أنّكَ شخص دقيق وكامل؟”
“لأنّني كامل، بالطّبع.”
بجديّة تامّة، نظر بيتر إلى نيرو وكأنّه يتساءل عن سبب طرح سؤال بديهيّ.
“نيرو، أنا كامل. هل رأيتني أرتكب خطأً في عملي من قبل؟”
“لا، أنتَ دائمًا بلا ثغرات، كامل في عملك.”
لكن هذا ينطبق على العمل فقط، وهي نقطة مهمّة. تجاهل نيرو الأمر بتعبير متبلّد، وهي ردّة فعل طبّع عليها بعد عشرين عامًا من مرافقة بيتر جودوين.
كيف يمكن وصف بيتر جودوين بكلمة واحدة؟ ربّما “عبقري غريب الأطوار”. نعم، هذا قد يكون وصفًا قريبًا من حقيقته.
وإلاّ، كيف يُفسّر دخوله الشّمال بمحض إرادته، وهي منطقة يتجنّبها الجميع؟
‘في الحقيقة، هذا أقلّ ما في الأمر. كلّ تصرّفاته لا تُفسّر، هذا هو سيّدي.’
بعد أن أنقذه من السّقوط، رأى نيرو بيتر يسير بوقار ليتعثّر مجدّدًا في مكان خالٍ من العوائق، فتجاهله عمدًا.
‘سيّدي الّذي يُخجلني أينما ذهبنا. إذا علم الدّوق بزيارته للشّمال… سيقوم القيامة.’
الوريث المثاليّ الّذي سيقود الإمبراطوريّة، مستقبل عائلة جودوين، بيتر جودوين الكامل بلا ثغرات.
لم تكن هذه الألقاب المتداولة بين النّاس خاطئة تمامًا.
فعلى الرّغم من مظهره الفضفاض، كان بيتر يتحوّل إلى شخص حادّ بشكل مخيف عندما يتعلّق الأمر بالعمل.
حتّى أنّه يقود تجارة البهارات، وهي تجارة يجدها حتّى دوق جودوين نفسه شاقّة، ويوسّع أعماله الخاصّة.
في مجال العمل، كان بيتر حقًا لا يُضاهى.
وعلاوة على ذلك، كان حسّاسًا تجاه سمعته، فيظهر دائمًا بمظهر أنيق أمام الآخرين، ممّا يبرّر هذه الألقاب.
“نيرو، هل رأيتَ؟”
“نعم، رأيتُ.”
“رأيتَ ماذا؟ عيناكَ كانتا كالسّمك المجفّف.”
كما اعتاد نيرو على تصرّفات بيتر الغريبة، كان بيتر معتادًا على موقف نيرو الباهت، فاستمرّ في الثرثرة بجانبه دون اكتراث.
“انظر إلى هذا السّقف وتلك الجدران. يقال إنّ الفنّ لا يزدهر في الشّمال بسبب برودة الطّقس، لكن يبدو أنّ هذا مجرّد إشاعة. في رأيي، هذا المكان يفوق العاصمة. وهل تشعر بهذا؟ الجوّ هنا دافئ بشكل غريب.”
“نعم، هذا صحيح. إنّه مدهش حقًا.”
بعكس دوق جودوين أو بيتريك، تفحّص بيتر المكان بنظرة مليئة بالفضول الصّافي دون أيّ عداء.
بفضل نيرو الّذي أمسكه وهو منشغل بنقوش أعمدة الرّدهة، تجنّب بيتر، لحسن الحظ، اصطدام وجهه بظهر مارك الّذي توقّف فجأة.
دخل بيتر غرفة الاستقبال بعد تقرير مارك، وأضاءت عيناه بوميض من الاهتمام.
كان الدّيكور الدّاخليّ للغرفة، المنظّم بأناقة وفخامة تتناسب مع أجواء الشّمال، مليئًا بما يجذب ذوقه الجماليّ.
لكنّ عينيه اتّجهتا أوّلًا نحو الدّوق الأكبر وزوجته.
“كنتُ أراكم عبر الرّسائل فقط، والآن أخيرًا ألتقي بكم وجهًا لوجه، يا صاحب السّمو الدّوق.”
أدّى بيتر التّحيّة لكيليان بأدب مثاليّ، ثمّ أطرق رأسه لحظة كمن يلتقط أنفاسه.
عندما رفع وجهه مجدّدًا، اختفى المظهر المريح الّذي كان عليه خارج الغرفة، وحلّ محله وجه رجل نبيل يرتدي ابتسامة ساحرة خالية من العيوب.
ابتسم بيتر بملامحه الجميلة، وكشفت ابتسامته عن غمّازتين تشبهان بيتريك كثيرًا.
“أليس هذا لقاءنا الثّاني، يا صاحبة السّمو الدّوقة؟ تشرّفتُ بلقائكِ بعد وقت طويل.”
تكثّفت ابتسامة بيتر وهو يراقب ليتريشيا، الّتي ربطت نصف شعرها الوفير وتركته يتدلّى.
‘يا إلهي، هذا مثير للاهتمام أيضًا.’
ظهر احمرار خفيف على وجنتي بيتر النّاعمتين كعجينة الدّقيق.
كانت ليتريشيا، الّتي بدت دائمًا بعيون ميّتة إلى جانب بيتريك، كما لو أنّ العالم قد ينهار دون أن تتحرّك، تنبض الآن بحيويّة لم تُرَ من قبل.
وهل هذا كلّ شيء؟
لم تستطع عينا الدّوق الأكبر الانفصال عن زوجته ولو للحظة.
قبل وصوله إلى هنا، لم يكن بيتر يصدّق الإشاعات الطّفوليّة التي تقول إنّ الدّوق وقع في حبّ زوجته من النّظرة الأولى وتقدّم لخطبتها.
لكن، وهو يرى هذا المشهد، بدا أنّ تلك الإشاعات قد لا تكون كاذبة تمامًا.
‘يبدو أنّهما لا يدركان ذلك بعد.’
عندما التقى بصر بيتر بعيني ليتريشيا، لاحظ أنّ كيليان يحوّل نظره بارتباك، فأطلق صفيرًا صامتًا داخل فمه.
‘لو كان بيتريك ذلك الأحمق هنا، لكان قد أمسك بعنقه من الغضب.’
تخيّل بيتر وجه بيتريك وهو يحمرّ ويزرقّ من الغضب، وهو يعبث بذقنه الخالية من الدّهون.
لفت انتباهه شيء آخر مثير للاهتمام: بروش يلمع في يد ليتريشيا.
كان الحجر الكريم يعكس ضوء الشّمس القادم من النّافذة، متلألئًا باللّون الأخضر.
“بالمناسبة، لديكِ بروش جميل جدًا.”
عند كلام بيتر، لمست ليتريشيا الحجر البارد بأطراف أصابعها.
كان هذا بروش الزّمرّد الّذي أعاده كيليان إليها، والّذي كان يخصّ بيتريك.
“لكن، أليس من الغريب أن يبدو هذا البروش الجميل مألوفًا لعينيّ؟”
تفحّصت عيناه، المختبئتان خلف النّظّارة الأحاديّة، الموقف بسرعة وكأنّه يحسب الأمور.
قبل عام تقريبًا، سمع أنّ بيتريك كلّف بصنع بروش غريب.
بدت تصرّفاته مريبة، لكن بما أنّها كانت واضحة، تركها بيتر دون تدخّل. لكن الوضع الآن بدا ممتعًا للغاية.
‘يبدو أنّ بيتريك وقع في الفخّ الّذي أراد أن ينصبه لي.’
تبع بيتر، الّذي أدرك الموقف تقريبًا، ابتسامة عينيه، فانحنت علامة الدّمعة على وجهه.
“هل هذا البروش يخصّ بيتريك؟”
***
“كنتُ أتساءل لماذا قبِلَ بيتريك فسخ الخطوبة بهذه السهولة، رغم طباعه، لكن يبدو أنّ الأمور سارت على هذا النّحو.”
اكتشف بيتر، من خلال التّسجيل الموجود في البروش، علاقة بيتريك وروزالين، فأومأ برأسه.
بالتّأكيد، مع هذا التّسجيل، يمكن التّخلّص من بيتريك بسهولة.
في الآونة الأخيرة، بدأ بيتر يشعر بالضّجر من تحمّل نزوات بيتريك، لذا كان هذا تطوّرًا موفّقًا.
‘وعلاوة على ذلك، سمعتُ قصّة ممتعة لم أتوقّعها. حقًا، لقد كان قرارًا صائبًا أن أتيتُ إلى الشّمال.’
كبح بيتر ابتسامته الّتي كادت تظهر، ووضع البروش جانبًا، ثمّ أمسك بقارورة الماء بجانبه.
كان قد سمع للتوّ عن قضيّة سمّ التّيتراد.
“حتّى أنّ الوباء المنتشر في العاصمة الآن بسبب بضائع شركتنا؟”
تحوّل تعبيره من الحماس إلى قلق مصطنع، وهو يمسح فمه بتأثّر.
“جئتُ إلى هنا بناءً على وعد بصفقة تجاريّة جيّدة، لكن كلّ ما تخبرني به يا سيّدي وسيّدتي أمور محزنة للغاية. بصفتي عضوًا من عائلة جودوين، أشعر بالخجل من رفع وجهي.”
بوجه يعكس شعورًا بالمسؤوليّة عن أفعال أخيه، جمع بيتر يديه كمن يصلّي.
لكن في ذهنه، كانت حبات المسبحة تتحرّك بسرعة.
بالطّبع، الوضع يميل لصالحه، لكن قضيّة التّيتراد حساسة للغاية، وقد تؤدّي التصرّفات المتسرّعة إلى تحميل عائلة جودوين بأكملها المسؤوليّة، وليس بيتريك وحده.
استمرّ بيتر في العبث بالقارورة وهو لا يزال مطأطئ الرّأس.
“إذًا، ما الّذي ستحصلان عليه مقابل إخباري بهذه الأمور؟”
“في البداية، فكّرتُ في اقتراح صفقة مع متجركَ التّجاريّ.”
أمسكت ليتريشيا بكمّ كيليان عندما تحدّث بنبرة خالية من الاهتمام.
“…يبدو أنّ زوجتي لا ترضى بهذا الحدّ.”
نظر كيليان إلى يد ليتريشيا المتمسّكة بكمّه. كانت قبضتها ضعيفة لدرجة أنّه لو هزّ ذراعه قليلًا، لانفلتت يدها الصّغيرة.
لكن بدلًا من ذلك، ترك كيليان ذراعه ساكنًا. فجأة، تساءل عما يفعله في هذا الموقف المزعج.
صحيح أنّه، بناءً على رغبة ليتريشيا، رتّب لقاءً مع بيتر جودوين، لكن هذه ليست طريقته.
كان السّيف أكثر ألفة له من الكلام، وكان معتادًا على تجاهل الإشاعات والضّجيج بدلًا من مواجهتهما.
لكن عندما حاول فعل ما اعتاد عليه، رأى عيني ليتريشيا مليئتين بالعزيمة، فوجد صعوبة في ذلك.
‘ما الّذي يحرّككِ بهذا الشّكل؟’
هل هو بسبب الحاجة إلى ترياق لألين، الخادمة الصّغيرة الّتي جاءت معها من دار الكونت؟
لم يخطر ببال كيليان أبدًا أنّ دافع ليتريشيا قد يكون بسببه هو.
أدخل أصابعه بين أصابع ليتريشيا، وهو يفكّر أنّه حتّى لو ساءت الأمور، يمكنه تصحيحها، فقرّر أن يترك ليتريشيا تفعل ما تريد بهدوء.
“لذا، ناقش التّفاصيل مع زوجتي.”
“مع صاحبة السّمو الدّوقة؟”
تحوّلت عينا بيتر نحو ليتريشيا.
فاتتها الفرصة لسحب يدها من كيليان، فاضطرّت للمشاركة في الحوار وهي ممسكة بيده.
“نعم. ما نريده منكَ، يا سيّد الدّوق الصّغير، أمرين.”
المترجمة:«Яєяє✨»
التعليقات لهذا الفصل " 36"