الفصل 30:
بينما كانت ليتريشيا غارقة في نوم عميق، استسلمَت للنعاس تمامًا،
كان كيليان قد وصل لتوّه إلى المنطقة الحدوديّة، يستقبل فرقة بيل القادمة من الشمال.
“سيّدي، لحسن الحظ لا يبدو أنّ هناك مشكلة كبيرة، لكن بالتأكيد حدث شيء ما.”
وقف مارك إلى جانب كيليان، رافعًا يده فوق حاجبيه ليستطلع الوضع.
أوّل ما رآه كان بيل يلوّح بذراعيه بحماس كأنّه يرحّب بهم.
لكن سرعان ما بدا بيل وكأنّه يعاني، ممسكًا ببطنه وملتصقًا بحصانه.
كان وجهه شاحبًا، كأنّه أصيب باضطراب في المعدة.
ولم يكن بيل وحده، فقد كان فرسان الفرقة الذين اقتربوا يمشون بتثاقل، كأنّهم منهكون.
“هل تأخّروا بسبب إصابتهم جميعًا باضطراب معوي؟”
تمتم مارك بجديّة، لكنّه رفع رأسه فجأة عندما شعر ببرودة قطرة ماء تصطدم بظهر يده.
كانت قطرات المطر تتساقط من السماء.
نظر إلى كيليان، فوجده، كما توقّع، يمسك بلجام حصانه بقوّة كأنّه سيحطّمه تحت وطأة المطر.
“هل أنتَ بخير؟ هل أبحث عن مأوى لتجنّب المطر؟”
لاحظ مارك توتّر كيليان، فقفز من حصانه بسرعة.
“هذا المطر لا بأس به، فلا داعي للقلق. سنأخذ بيل ونعود إلى القصر قبل أن تشتدّ القطرات.”
“… حسناً، سيّدي.”
لكن، على عكس كلام كيليان، كانت القطرات تزداد كثافة بينما اقتربت فرقة بيل.
وجه كيليان، الشاحب أصلًا، أصبح باهتًا كالميت مع اشتداد المطر.
“تبًا، هذا المطر البغيض.”
فتح كيليان يده المتصلّبة من البرد بعصبيّة وأغلقها.
كانت أطراف أصابعه ترتجف قليلًا.
كيليان يكره المطر بشدّة. في اليوم الذي مات فيه أخوه، وفي اليوم الذي هربت فيه ليتريشيا، وفي اليوم الذي عادت فيه ليتريشيا في صندوق رماد، كان المطر يهطل دائمًا.
كلّما هطل المطر، فقد شخصًا عزيزًا.
مع صوت المطر الذي يضرب أذنيه، ازدادت أنفاس كيليان سرعة، محمّلة بالفقدان والقلق.
“لا يمكن أن يستمر هكذا، سيّدي. سآخذ بيل، فارجع أنتَ وتجنّب المطر.”
“متى… يتوقّف المطر؟”
“حسنًا، لا يبدو أنّه سيتوقّف الليلة!”
مع اشتداد المطر، ارتفع صوت مارك ليُسمع.
“من الأفضل أن نبيت هنا الليلة ونعود إلى القصر غدًا!”
‘غدًا؟ أليس ذلك متأخّرًا جدًا؟’
مع القلق المتزايد، كان قلب كيليان يخفق بعشوائيّة.
شعر أنّ هذا المطر اللعين سيسرق منه شيئًا آخر.
حاول ضبط أنفاسه المتقطّعة، وعضّ شفته السفلى بقوّة.
“سيّدي! ماذا تفعل؟”
عبث كيليان بملابسه بقسوة، أخرج حفنة من الحلوى البيضاء، ودفعها إلى فمه.
كانت نفس الأدوية المهدّئة التي أعطاها لليتريشيا.
تحت أسنانه، تحطّمت الحلوى، مُطلقة رائحة النعناع القويّة.
“مارك، سأعود إلى القصر الآن. انتظر أنتَ توقّف المطر وعد معهم.”
“ماذا؟ لا، هذا خطير. أنتَ تعاني من القلق في المطر! قيادة الحصان الآن خطر جدًا.”
“ابتعد.”
كان صوته المنخفض الساحر عادةً يخرج الآن متشنّجًا وخشنًا.
“يجب أن أعود فورًا لأرى بعينيّ أنّ ليتريشيا لا تزال في القصر.”
***
“ميا، هل وجدتِ السيّدة؟”
هزّت ميا رأسها بنفي عند سؤال الخادم المتوتر.
“هل دقّقتِ في المكتبة؟”
«نعم، يبدو أنّها غادرت المكتبة منذ قليل.»
تردّدت ميا، تسير في مكانها، وشعرها القصير يهتزّ مع قلقها.
كان القصر في حالة اضطراب غير معتاد، يبحث الجميع عن ليتريشيا التي اختفت فجأة.
عندما عادت ميا إلى المكتبة بعد إزالة الغبار من شعرها، رأت المكتب مرتبًا، فظنّت أنّ ليتريشيا عادت إلى غرفتها.
لذا، واصلت عملها دون شك، لكن عندما حان وقت العشاء، لم تكن ليتريشيا في غرفتها ولا في أيّ مكان بالقصر.
“يا إلهي، أين ذهبت السيّدة في هذا المطر؟”
كان الجميع يدبّون بقلق، دون أن يخطر ببالهم أنّ ليتريشيا قد تكون مختبئة في زاوية عميقة من المكتبة.
“يا للكارثة. يجب أن نجدها قبل عودة السيّد!”
كرّرت مارشا “يا إلهي” وهي تبحث في أرجاء القصر بخطوات سريعة.
“كلّه خطأي. كان عليّ البقاء إلى جانبها مهما كان السبب. لو لم أراقبها من بعيد، لما فقدنا أثرها…”
ربت غورتن على ظهر مارشا النحيل ليواسيها.
فجأة، صفقت ميا كفّيها بحماس.
“ماذا؟ هل تذكّرتِ شيئًا، ميا؟”
أشارت ميا بأن ينتظروا، ثمّ كتبت بسرعة على ورقة.
«سمعتُ السيّدة تتمتم أنّها تريد الخروج، رغم أنّها كانت تتحدّث لنفسها!»
“الخروج؟ هل من المعقول أن تخرج السيّدة لوحدها في هذا الطقس وهي لا تعرف المنطقة؟”
نظر غورتن إلى المطر الغزير بشك، لكن صوتًا حادًا قاطعه من الخلف.
“غورتن، ما هذا الاضطراب كلّه؟”
“السيّد؟ يا إلهي، كيف ابتلّتَ هكذا؟ ادخل بسرعة، ستُصاب بالبرد!”
“سألتُكَ، ما الذي يحدث؟ أين ليتريشيا؟”
كان كيليان متوترًا للغاية، يتنفّس بقوّة كوحش هائج.
كان صدره يرتفع وينخفض بشدّة تحت قميصه المبلل.
“منذ مغادرتكَ، اختفت السيّدة.”
“ماذا؟”
شعر كيليان كأنّ أحدًا يخنقه، وعاد القلق الذي كابحه يتصاعد من قدميه.
“لماذا…؟ قالت إنّها ستنتظر…”
دون أن يمسح الماء عنه، دخل كيليان القصر بخطوات واسعة.
“ليتريشيا.”
بدأ من غرفتها، يبحث في كلّ مكان قد تكون ذهبت إليه، مناديًا اسمها مرارًا.
“ليتريشيا!”
“سيّدي، تقول ميا إنّها ربّما خرجت خارج القصر. دعنا نبحث عنها، وغيّر ملابسكَ أوّلًا…”
“ابتعد!”
دفع كيليان غورتن الذي حاول إمساكه بعنف.
ارتطم ذراعه بمزهريّة، فسقطت وتحطّمت على الأرض بصوت حادّ.
“أين كانت آخر مرّة رأيتموها فيها؟”
“في المكتبة، سيّدي.”
“سأدقّق في المكتبة مجدّدًا، وأنتم أرسلوا الجنود خارج القصر-”
“كيليان؟”
توقّف كيليان فجأة، كدمية معطلة، عند سماع صوت ليتريشيا.
أدار رأسه ببطء كمن نسي كيف يتحرّك.
عندما نظر إلى مصدر الصوت الرقيق، رأى ليتريشيا، بملابس مريحة، تحدّق به بعيون متفاجئة كالأرنب.
“ها.”
شعر كأنّ حلقه انفتح، وملأت رئتيه الهواء فجأة.
“هه، كح. هه.”
سعل بسبب الهواء المفاجئ الذي ملأ رئتيه، ثمّ تجاوز الخزف المحطّم وركض إلى ليتريشيا، ضمّها إلى صدره.
“ها… تبًا، ليتريشيا، أنتِ حقًا… تجعلين الإنسان يفقد عقله.”
***
“كيل…يان؟”
كانت ليتريشيا محصورة في حضنه القويّ، عاجزة عن الحركة، تدير عينيها في ارتباك.
ما الذي حدث بينما كانت نائمة؟
نظرت إلى المزهريّة المحطّمة، مصدر الصوت الذي أيقظها.
ثمّ أدركت أنّ شظاياها اخترقت حذاء كيليان، فحاولت دفعه بفزع.
“كيليان، قدمكَ! لقد جُرحتَ! دعني أرى ونعالجها أوّلًا… آه!”
لكن كيليان ضمّها أكثر، فتقطّبت جبينها.
“كيليان، ما بكَ؟ هل حدث شيء؟”
“أنتِ…”
“أنا؟”
“قلتِ إنّكِ ستنتظرين، لكنّكِ لم تكوني في أيّ مكان…”
تمتم كيليان بكلمات متقطّعة، ودفن وجهه في حضنها كطفل.
رفعت ليتريشيا ذراعيها بتردّد، ثمّ أدركت أنّ يديه ترتجفان، بل جسده بأكمله كان يرتجف.
كان الخدم حولهما يتنفّسون الصعداء دون إخفاء وجوههم.
لم تفهم ليتريشيا ما يحدث، لكنّها شعرت أنّها السبب في حالة كيليان، فاحتضنت ظهره بحذر.
“هل أفزعتكَ لأنّني لم أكن موجودة؟ أعتذر، كنتُ أقرأ في المكتبة وغفوت، فلم أعلم بعودتكَ.”
مرّت يدها البيضاء على ظهره العريض، الذي لم تستطع احتضانه بالكامل، بحركات منتظمة.
“قلتُ إنّني سأنتظر، أليس كذلك؟”
—
المترجمة:«Яєяє✨»
التعليقات لهذا الفصل " 30"