“… ماذا…؟”
تصرّف كيليان كأنّه سمع لغة غير موجودة في هذا العالم.
“تنظرين إليّ… بعينين كيف؟”
“بنفس العينين التي تنظر بها إليّ، كيليان.”
عبّرت ليتريشيا بوضوح أكبر.
“أشعر بنفس مشاعركَ.”
ليس فقط الحبّ، بل أيضًا الأمنية بأن يعيش، وأن يعيش بسعادة أكثر من أيّ شخص آخر، كلّ شيء.
كما كانت ليتريشيا بالنسبة لكيليان، كان كيليان بالنسبة لها.
كان كيليان يملأ قلبها، دون أن تعرف متى بدأ ذلك. لكنّ كيليان، الذي قرّر الموت دون تردّد وهو غير مدرك لذلك، أثار استياءها، فنظرت إليه بعينين مفعمتين باللوم.
في الوقت ذاته، شعرت بالأسف. أدركت أنّ هذا الشعور الذي تشعر به الآن هو نفسه الذي كان يشعر به كيليان كلّما تخلّت عن الحياة.
“منذ متى، بحقكِ منذ متى وضعتِني في قلبكِ؟”
سأل كيليان بعجلة، وكأنّه لا يستطيع استيعاب أنّ مشاعره، التي ظنّها من طرف واحد لفترة طويلة، قد لقيت ردًا.
“لا أعرف.”
أطرقت ليتريشيا رأسها.
“لا أعلم. لكن، بما أنّ لحظة لقائنا الأوّل لا تزال واضحة كأنّها حدثت بالأمس، ربّما منذ البداية.”
حتّى مع ذاكرتها المتدهورة بسبب المرض، كانت لحظاتها مع كيليان دائمًا واضحة. ليس فقط اللقاء الأوّل، بل كلّ لحظة.
‘لا أعرف بالضبط، لكنّني واثقة أنّني قبل الرجوع كنتُ كذلك أيضًا.’
كانت متأكّدة. كان كيليان دائمًا يقول إنّه قاسٍ، لكنّه لا يمكن إنكاره، كان رقيقًا.
حتّى لو لم يكن كيليان قبل الرجوع كما هو الآن، لكانت أحبّته لا محالة.
كيف لا تحبّه ونظرة عينيه العابرة تجعل جسدها يرتجف؟
لكنّها تردّدت في الكشف عن هذه المشاعر بسهولة.
الآن، بعد أن تقول إنّها تحبّه بصدق، ألن يزيد ذلك من ألم كيليان الذي سيُترك وحيدًا؟
لكنّها غيّرت رأيها. إخفاء مشاعرها لن يقلّل من ألم كيليان، بل قد يزيده.
عندما بدا غورتن، الذي جاء ليبلغها بدخول القصر، مضطربًا، تسلّلت خلفه ورأت كيليان يتلوّى من الألم. أدركت حينها أنّ الإخفاء والتجنّب ليسا الحلّ.
“لا أستطيع تصديق ذلك…”
استغلّت ليتريشيا ذهول كيليان، وأمسكت بحقيبتها وركضت خارجًا.
كان وجهتها غرفة بيتر. قبل أيّام، أخذ بيتر كتابًا قديمًا عن مملكة شوتن لأغراض البحث، وهي بحاجة إليه الآن.
قال بيتر إنّ تمنّي أمنية من برج الساعة يتطلّب ذلك الكتاب.
عندما دخلت جسر السحاب المؤدّي إلى الجناح المنفصل حيث يقيم بيتر، هطلت الشهب مجدّدًا فوق رأسها.
مع ذلك، بدأ رذاذ خفيف كالضباب يهطل على جسر السحاب المكشوف بدون سقف.
أيقظتها الرطوبة.
قبل ساعة، كان المستقبل غامضًا، لكنّه الآن أصبح واضحًا. ‘يجب أن أتمنّى أمنية، كما فعل كيليان.’
‘أتمنّى أن يُمحى ذكراي من ذهنه. أن ينسى كيليان وجودي تمامًا.’
لا خيار آخر. إن لم تفعل، لن يتراجع كيليان عن قراره المشؤوم بالتخلّي عن الحياة.
بطباع كيليان التي تعرفها جيّدًا، لا يمكن كسر إرادته إلّا بالقوّة.
حتّى لو كرهها كيليان لهذا الخيار، لم تستطع ليتريشيا تركه يدمّر نفسه هكذا.
“أعلم أنّه خيار أنانيّ وقاسٍ… لكن، حتّى هكذا، أتمنّى أن تعيش.”
***
“… مجنون.”
تسرّبت كلمة ذهول من كيليان وهو واقف بلا حراك.
“لا بدّ أنّني مجنون. هذا، هذا حقًا…”
استعاد كيليان وعيه فجأة، وركض بكلّ قوّته، فتجاوز خطوات ليتريشيا الصغيرة في لمح البصر.
عندما خرج إلى جسر السحاب ليلحق بزوجته، هطل المطر البارد على أنفه البارز.
كووم، كووم.
اجتاحه القلق لا إراديًا، لكنّ إحساس أقوى دفع قلبه للخفقان.
ارتفعت زاويا فمه.
‘ليتريشيا تحبّني. أنا، لا أحد غيري.’
تحوّل خفقان القلق إلى فرح غامر. لم يشعر بالاختناق حتّى بدون مهدّئات.
هل كان المطر الرطب، رمز كلّ التعاسة، يبدو منعشًا هكذا من قبل؟ مع تبلّل بشرته بالرذاذ، شعر بحلقه الجاف منذ زمن يهدأ.
تجاوز كيليان ليتريشيا الرّاكضة بسهولة، وأمسك ذراعها النحيل بعرق يتصبّب من يده.
“لقد أخطأتِ الآن، ليتريشيا.” “…!”
“كان عليكِ إخفاء ذلك إلى النهاية. الآن، بعد أن قلتِ كلمة الحبّ، لا أريد أن أترككِ أبدًا.”
“كيليان! أنتَ تتبلّل! دعنا ندخل الجناح المنفصل أوّلًا، لنذهب إلى…”
أصاب الرعب وجه ليتريشيا وهي ترى كيليان معرّضًا للمطر.
حتّى الآن، كانت رقيقة جدًا، غير قادرة على القسوة.
انتزع كيليان الحقيبة من يدها ليحميها من المطر، ورماها تحت جسر السحاب.
“آه…؟”
مع الموقف المفاجئ، توقّفت ليتريشيا كدمية معطّلة.
لم يفوّت كيليان الفرصة، واندفع إلى حضنها الصغير.
“ما العمل الآن؟ لا يمكنكِ المغادرة بحقيبة مكسورة. يبدو أنّ عليكِ البقاء بجانبي.”
عندما لم تتحرّك ليتريشيا، أمسك كيليان طرف ثوبها كطفل.
“إذا تمسّكتُ بثوبكِ وبكيتُ هكذا، هل ستستسلمين ولو قليلاً؟ هاه؟ هل ستنظرين إليّ ولو بدافع الشفقة؟”
“كيليان، أنتَ لا تبكي حقًا…”
خوفًا من ذلك، رفعت ليتريشيا وجهه بالقوّة. كان وجهه الساحر، المحتجز بيدها البيضاء، متورّدًا هنا وهناك.
تشوّهت عينا كيليان الطويلتان، كأنّه يبكي ويضحك معًا.
“ليتريشيا، يبدو أنّ الحمّى أثّرت على رأسي. لم يتحسّن شيء، بل ربّما أصبح أسوأ.”
‘لكن لماذا أستمرّ في الضحك؟’ تمتم كيليان.
“ربّما… أنا سعيد الآن.”
هزّ كيليان رأسه وكأنّه لا يصدّق نفسه.
“كان يجب أن أثير شفقة، لكنّني أجنّ. انظري، ليتريشيا، كيف يمكنكِ ترك رجل يفرح إلى هذا الحدّ بكلمة منكِ؟”
‘إذا فعلتِ، سأنوح كوحش صغير فقد والديه.’ بينما كان كيليان يتوسّل، خرج إيزيس فجأة من الجناح المنفصل.
“آه؟”
مع هذا اللقاء غير المتوقّع، أصدر إيزيس صوتًا مرتبكًا. كان يحمل الكتاب القديم الذي كانت ليتريشيا تبحث عنه.
“لماذا أنتَ هناك، أخي؟ ولماذا تملك هذا الكتاب؟”
“آه؟ حسنًا، أنا لم أسرقه أو شيء من هذا القبيل!”
كأنّه يعلم أنّه يبدو مشبوهًا، لوّح إيزيس بيديه بسرعة، كسارق مذنب.
“هل تعتقد أنّني تسلّلت كلصّ صغير؟”
غضب إيزيس للحظة، لكنّه سرعان ما هدأ.
“أختي، قال الإمبراطور والدوق أن أنتظر هنا. قالا إنّني إذا تجوّلت قد أزعجكِ، فماذا أفعل؟”
حتّى الموت، لم يستطع إيزيس مناداتها بالدوقة الكبرى أو استخدام لغة محترمة، فاختلط كلامه بين الرسميّة والعاميّة.
لكن مضمونه كان مطيعًا بشكل مدهش، فانفجر كلّ من ليتريشيا وكيليان بالضحك.
‘منذ متى كان يطيع أوامر الآخرين هكذا؟’
“حتّى لو كان كذلك، لا يوجد سبب لإخراج هذا الكتاب من الغرفة، أليس كذلك؟”
“آه، أنا لا أحتمل! أقسم إنّني لم أسرقه! أردتُ فقط أن أريكِ إيّاه!”
عاد إيزيس إلى مناداتها مباشرة، متجاهلاً الأدب.
حاول كيليان توبيخه، لكن ليتريشيا منعته.
ليس لأنّها تحبّ إيزيس، بل لأنّها لا تتوقّع تحسّنًا منه.
ولم يكن لديها وقت للتركيز على مسألة التسمية.
“أعرف محتوى الكتاب عن ظهر قلب.”
“لا تكوني كذلك، انظري إليه ولو مرّة!”
ردًّا على ردّ ليتريشيا الفاتر، فتح إيزيس عينيه بدهشة وسار نحوها بغضب.
تردّد عندما قابل عيني كيليان الحادتين، لكنّه واصل خطواته بثبات.
الكتاب الذي قدّمه لم يكن مختلفًا عمّا تعرفه ليتريشيا، باستثناء شيء واحد: زاوية الصفحة الأخيرة كانت ممزّقة.
عندما سحبت الجزء الممزّق بحذر، انفصلت الصفحة التي ظنّتها واحدة إلى اثنتين.
“كان هناك شيء كهذا…؟”
المترجمة:«Яєяє✨»
التعليقات