تحملت عواقب أفعال والدتي المتجسدة [ 74 ]

 

سقط صمت خانق يكاد يخنق الأنفاس.

 

‘آه……’

 

بدت إستيل شاردة لبرهةٍ، ثم تداركت نفسها على عجل ممسكةً بذات الكاذبة في داخلها.

 

اللعنة، عليّ أن أتماسك. 

 

ما دمت وحدي متماسكة فلن يُفضح أمري. 

 

صحيح أن ما تفوهت به كان أشبه برمية عشوائية، لكنها أصابت الهدف بدقة لا بأس بها. 

 

‘على كل حال، يمكنني احتواء الأمر من جانبي!’

 

ولتُحكم كذبتها، أخفت إستيل أصابعها التي كادت تعبث بلا وعي تحت الطاولة، ثم أشرقت بابتسامة واسعة.

 

 فقد اعتادت أن تجادل الجنود أمام وجوههم آلاف المرات بأنها لم تسرق شيئاً. فما عساها تكترث لمثل هذا الموقف؟

 

قالت بخفة:

 

“أيـه، ما هذا، أحقاً تقول أشياء مسلية كهذه؟”

 

غير أن قلبها كان يخفق بجنون على عكس نبرة صوتها الخالية من الارتباك.

 

 ‘تماسكي يا أنا، تماسكي.’

 

واجهت إستيل نظرات سيدريك مباشرة وضحكت، ثم سألت بلهجة واثقة كأنها تقول شيئاً عابراً:

 

“لماذا؟ لعلّك كنت تود أن أكون أنا؟”

 

كان قصدها أن تُحرجه، أن تُثير امتعاضه لتغيّر مجرى الحديث سريعاً بالهروب في ثوب المزاح. 

 

غير أن ردة فعله جاءت على غير ما توقعت.

 

“…أوه، ما بال وجهك؟”

 

ماذا؟! كأن إنساناً قد تحول إلى تفاحة ناضجة.

 

 احمرّ سيدريك فجأة وأمسك بالكأس أمامه فشربها دفعةً واحدة، وتمتم:

 

“إنه بسبب الخمر.”

 

ابتسمت إستيل وقالت:

 

“أضعف مما توقعت.”

 

لكنها كانت تعلم أن السبب ليس الشراب. 

 

بلع سيدريك الحقيقة ولم ينبس بها، ثم صب لنفسه من جديد بصمت.

 

مع أنه هو من بدأ بعبارات مبطّنة، إلا أنه هو من وجد نفسه في مهب الريح بعد لحظة. لم يفهم لماذا كلما استعاد رشده شعر بالاضطراب من جديد.

 

أما إستيل التي لم تدرك أفكاره، فكانت مشغولة بترميم الموقف:

 

“ثم لو كنتُ أنا فعلاً، فهل كنت لأتجرع كل هذه المعاناة؟”

 

ارتعشت يد سيدريك الموضوعة على الطاولة. 

 

رفع رأسه فجأة، يحدّق إليها بعينين تستوثقان:

 

“إذن، إن كنتِ أنتِ، فلن تكون لديكِ نية للهرب… أهذا صحيح؟”

 

أجابت بنبرة هازئة كي تُثبّت كذبتها:

 

“طبعاً، ولماذا أجلب المتاعب لنفسي؟”

 

رغم شعورها وكأنها تحفر قبرها بيديها، هزّت رأسها. 

 

وعندها عبرت ابتسامة خفيفة على وجهه الجامد، ابتسامة مبهمة لم تستسغها.

 

 ما هذا؟’

 

ترددت في نفسها بقلق، لكنه أومأ قائلاً:

 

“فهمت.”

 

ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة لطيفة تسللت شيئاً فشيئاً.

 

 ‘ولِمَ يبتسم ثانيةً؟’

 

تساءلت بغيظ، لكنها بادرت بتأييده بسرعة:

 

“……صحيح!”

 

“……آه.”

 

ومع حرارة الخمر، ارتفعت حرارة جسده أيضاً. 

 

مدّ سيدريك يده برفق يلاعب أطراف شعرها المتماوجة مع نسيم الليل، وهو يبتسم.

 

كان أمراً مضحكاً أن مجرد سماع جملة منها قد بعث في صدره هذا السرور.

 

 ‘حسناً، يكفيني هذا الآن.’

 

كان الطريق أمامه لا يزال طويلاً، لكن إن كانت ستمنحه ثقتها وتسند ظهرها إليه، فليكتفِ بهذه المسافة حالياً.

 

قالت إستيل مستغربة:

 

“غريب، لستَ قويّاً في الشراب كما توقعت. هل لا علاقة بين القوة الجسدية والتحمل؟”

 

لو رآه أحد رفاقه من الفرسان المقدسين بتلك الملامح الوديعة لقال: ‘لقد جنّ قائد الفرسان أخيراً.’ لكن إستيل التي كانت أمامه لم يبدُ عليها شيء.

 

لم يقترب أكثر، بل ظل يعبث بشعرها بين أصابعه، ثم نطق فجأة:

 

“تذكرت الآن. ذوقي المثالي.”

 

“آه، جيد. قل لي.”

 

فكّر لحظة ثم أجاب بحسم:

 

“أن تحب الشراب.”

 

“هاه…؟ همم، سنعتبر أني لم أسمع هذا. أي منطق هذا؟ دعنا نؤجل الحديث حتى تصحو.”

 

أجابت بسرعة، فانفجر ضاحكاً. 

 

لم تفطن إستيل إلى معنى ضحكته، فارتشفت من كأسها.

 

‘آه، يبدو أن ثمالته تجعله يهذي. حقاً، كان عليه أن يعرف حدّه قبل أن يبحث عن شريكة مولعة بالخمر! ما له هكذا؟ هل عيناه لا تميزان الناس؟’

 

فكرت في نفسها ساخرة.

 

***

 

في صباح اليوم التالي.

 

على غير العادة، جلس الغرباء الذين رحب بهم أهل القرية حول مائدة النزل.

 

 كان إدغار يتجرع عسلاً مذاباً يقطّب جبينه من شدة صداعه، بينما إستيل التي شربت معه ثم تابعت الشرب مع سيدريك، بدت في كامل عافيتها.

 

 أما سيدريك فلم يكن قد أسرف أصلاً، فكان بخير هو الآخر.

 

لم يبقَ على وجه إدغار أثر لتلك التعابير المعقدة التي أظهرها البارحة، بل اكتفى بتجهم بسيط من أثر الصداع. 

 

لم يدري هل ذلك ناتج عن نسيان أم تجاهل متعمد، لكنه لم يأتِ على ذكر ما جرى. وإستيل بدورها عزمت على التظاهر بعدم التذكر.

 

وهو يفرك رأسه المتألمة سأل:

 

“لماذا جمعتِنا؟”

 

“علينا أن نعرف أين ستكون محطتنا التالية.”

 

“آه.”

 

أومأ برأسه متفهماً، فيما جذبت إستيل إليها الدفتر الموضوع في وسط الطاولة. 

 

كان أضخم ما رأته بينهم حتى الآن. 

 

راحت تقلّب صفحاته بسرعة، وملامحها تزداد غرابة.

 

استشعر سيدريك شيئاً مريباً فسألها بدهشة:

 

“……ما بكِ؟”

 

صوت تقليب الأوراق يتسارع، حتى أطبقت الدفتر بقوة وهي تهمس مرتبكة:

 

“ما هذا؟”

 

“أريني.”

 

انتزع إدغار الدفتر منها، ووجهه يتجمد شيئاً فشيئاً.

 

 تمتم بشتيمة وهو يقلب الصفحات بسرعة، وقد اختفى منه أثر الصداع، ولمعت عيناه الخضراوان كبريق النجوم.

 

“هذا كنز.”

 

تمتمت إستيل بامتعاض وهي ترى حالته تتبدل هكذا:

 

“آه، ما كان عليّ أن أريه……”

 

“ما الأمر؟” سأل سيدريك.

 

فتجنبت نظراته بعينين متردّدتين كمن أذنب وأجابت:

 

“مخطوطات تتعلق بدراسة الشياطين……؟”

 

“حقاً لم يكن عليكِ إطلاعه عليها. أعطني إياها.”

 

“أترى؟ إدغار، أعدها حالاً.”

 

خشية أن يفر بها، هجمت عليه وانتزعتها من يده ثم زفرت. 

 

لم يكن دفتراً عادياً، بل أقرب إلى سجلٍّ بحثي. 

 

يختلف كلياً عن الدفاتر السابقة التي كانت تدوّن فيها ما جرى لها وما أحست به.

 

نظرت إلى تلك الكتابات المبعثرة بلغات شتى، ثم أمسكت رأسها متعجبة، وضحكت بمرارة وهمست:

 

“أستطيع قراءة كل هذا.”

 

ومع مرور الوقت، أخذت ذاكرتها بالكتابات تعود إليها شيئاً فشيئاً. 

 

كلما مر الوقت، ازداد عدد اللغات التي تفهمها. 

 

وفي تلك اللحظة، وقعت عيناها على لغة وحيدة لا تستطيع قراءتها، فخفضت رأسها وحدّقت بها مليّاً.

 

كانت أول مرة ترى مثل هذه الرموز، أقرب إلى صور منها إلى حروف. 

 

أسرعت تفتح الدفتر الثاني للتجسد، وما إن وجدت شيئاً بعينه حتى غاصت في التفكير.

 

“كما توقعت…….”

 

كانت هذه الرموز تشبه إلى حد كبير اللغة المكتوبة في الدائرتين السحريتين، النمط الأول والنمط الثامن والعشرين، اللتين سبق أن أراهما إياها إدغار. 

 

أي إن فهم النصوص بالكامل لن يتم إلا إذا تمكنت من إتقان هذه اللغة.

 

عادت لتتأكد من الصفحة الأولى. ولحسن الحظ، كانت بداية الدفتر أشبه بيوميات عادية. 

 

***

 

[21 أغسطس، السنة 772

 

جئت لأكتب أطروحة.

 

أن أضطر لكتابة أطروحة حتى هنا…… أمر كريه حقاً.

 

يمكنني أن أكتب أي كلام وأقدّمه، لكن بما أنني مضطر للكتابة، فقد قررت أن أجعلها بحثاً عن الشياطين. 

 

بعد أن حظيت بلقب الساحرة العظيمة حصلت على دعم مالي وفير، وهذه فرصة لأشبع فضولي الشخصي، وفي الوقت نفسه أرفع مستوى أبحاث الإمبراطورية.

 

الصحراء الواقعة في وسط القارة لم يبقَ منها سوى الآثار، وكانت يوماً مهداً لحضارة قديمة. 

 

يعتقد العلماء أن أول من أبرم عقداً مع الشياطين وُلد هنا……

 

إذا تذكرت ما قالته الشياطين في الروايات، فالأمر يبدو مقنعاً.

 

تريستان لحق بي حتى هنا. كنت أريد أن أتجنب أي اتصال بالشياطين فطلبت منه ألا يأتي…… لكنه جاء على أي حال.

 

لا أدري بعد الآن.]

 

***

 

بعد ذلك، لم يكن في الدفتر سوى سجلات بحثية متواصلة. 

 

تمتمت إستيل بشرود وهي تقلّب الصفحات:

 

“لماذا لم تكتبي مذكرات يا أمي…….”

 

ثم رفعت رأسها وقالت:

 

“علينا أن نذهب، أليس كذلك؟”

 

فأجابها إدغار:

 

“يبدو أن الدائرة السحرية الثالثة موجودة في الصحراء.”

 

‘أغرقنما في الماء، والآن تريد تجفيفنا تحت الشمس؟’

 

أغلقت إستيل الدفتر بقلق وسألت إدغار:

 

“ما قصة تلك الدولة القديمة؟”

 

“كانت مجرد أساطير متوارثة، لكن عندما اكتُشفت آثار هائلة الحجم وكنوز ثمينة في الصحراء، انقلبت الأوساط الأكاديمية رأساً على عقب. لكن……”

 

“لكن ماذا؟”

 

“في أبحاث الساحرة العظيمة المنشورة، لا يوجد أي شيء عن الشياطين.”

 

تنهدت إستيل وهي تلمح في عيني إدغار بريقاً محموماً.

 

 ‘لقد فقد صوابه من فكرة العثور على أبحاث غير منشورة.’

 

اعتادت على هذه النظرات، ومع ذلك كانت تقشعر منها في كل مرة.

 

فاحتضنت الدفتر جيداً وغيرت الموضوع:

 

“هل سبق لك أن ذهبت إلى هناك؟”

 

“كثيراً.”

 

“إذن، ألن يكون من البديهي أن يخبئ شيئاً في مكان يزوره الجميع؟”

 

“بل العكس، هذا ما يصعّب الأمر.”

 

قطّب سيدريك حاجبيه وهو يقول:

 

“الصحراء أكثر ازدحاماً مما يُظن. منذ اكتشاف الآثار، والعلماء لا ينفكون يجوبونها. لكن لم يرد أي خبر عن دائرة سحرية حتى الآن. هذا يعني أنها خُبئت بإحكام.”

 

“أي أنها أصعب مما نتصور؟” سألت إستيل وهي تزفر.

 

“على الأقل يمكن حصر المواقع المرشحة. نبدأ بالبحث في الأماكن التي لم تُنقّب بعد. لكن العلماء ليسوا أغبياء.”

 

‘ما معنى هذا؟’

 

تساءلت في سرها، فأجاب إدغار ببرود:

 

“أي مكان لم يعبث به الشيوخ الباحثون، فذلك لأنه لا يستحق العناء.”

 

لم يكن للنقاش مزيد من الجدوى. فضربت إستيل الطاولة بيديها وقالت بنبرة حيوية:

 

“كفى كلاماً، لنذهب ونرى بأنفسنا.”

 

‘إن كان ثمة ما يميز هذه المرأة فهو اندفاعها العملي.’

 

هكذا فكّر سيدريك وهو ينهض ليلحق بها. 

 

وفي تلك اللحظة، سقط الدفتر من يد إستيل، فانزلق من بين صفحاته قصاص ورق صغير.

 

“ما هذا؟” 

 

رفعت حاجبها وأمسكت به.

 

 بدا وكأنه ورقة ممزقة بعجلة ثم حُشرت داخل الدفتر. 

 

تجمدت ملامحها وهي تحدق في الحروف الحمراء. 

 

كانت رسالة تركتها أمها منذ عهد قريب:

 

“لا ترمِ الهدايا عبثاً.”

 

‘هدايا……؟ وماذا أعطيتني أصلاً؟ لا شيء، ومع ذلك تتظاهرين وكأنك فعلت.’

 

 همّت بإهمال الورقة، لكن يدها توقفت.

 

‘لا…… كان هناك شيء واحد.’

 

رفعت رأسها فجأة وسألت سيدريك بلهفة:

 

“مهلاً، تلك السفينة، السفينة التي انتُشلت من البحر…… أين هي الآن؟”

 

****

 

ترجمة : سنو

 

بالنسبه لقُراء المواقع.

انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )

 

بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee

او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee