ولعل إستيل قد أدركت حاله إجمالًا، فابتسمت بخفة وقالت:
“أنا… أجدك عجيبًا يا سيدريك. غريب أنك تضع مبادئ لنفسك، والأغرب أنك تلتزم بها التزامًا صارمًا.”
“لا أفهم ما تعنين.”
“أليست مبادئك كثيرة جدًّا؟”
‘أأعدّها واحدًا واحدًا؟ لنرَ.’
رفعت إستيل أصابعها وبدأت تعدّها واحدة تلو الأخرى:
“مبدأك ألّا تواعد أي امرأة حتى تجد من ستتزوجها. ومبدأك ألّا تُضحي بالأقلية من أجل الأكثرية. ومبدأك ألّا تتجاهل المدني الذي يُلقى فجأة في مهمة ضخمة.
ومبدأك أن الخائن يجب أن يُقصى بضربة قاطعة…”
“هذا أمر بديهي عند الجميع.”
“لا؟ ليس الجميع يفعل ذلك. لا الجميع يطبّقونه حقًا. أما أنت فتنفذه بالفعل.”
فانفجرت إستيل ضاحكة من جدية سيدريك.
‘ عند الجميع؟’
لقد رأت في حياتها من ينقضون المبادئ أكثر بكثير ممن يلتزمون بها.
حياة الفقراء في الأزقة الخلفية لم تكن لتُريها العدل بقدر ما أظهرت لها الفساد.
ولذلك بدا لها الأمر عجيبًا. أن ترى شخصًا يحافظ على مبادئ دقيقة حدّ الصرامة، كأنه فارس من حكايات الطفولة.
“لهذا السبب أنا أثق بك يا سيدريك. فأنا الآن أتنقّل بحثًا عن التذكارات التي تركتها أمي من أجل إنقاذ الناس، أي إنني أقوم بما ينسجم مع مبادئك… ولهذا أنا واثقة أنك ستساعدني. لن تخونني، وستبقى إلى النهاية.”
ولمّا ظل صامتًا، ابتسمت الفتاة بلطف.
“لأني الآن واقعة داخل مبادئك.”
أحسّ سيدريك بشعور غريب.
كأن صدره يضيق قليلًا.
عقله صار فوضى، فلم يستطع أن ينطق كلمة واحدة.
تنهدت إستيل طويلًا، ثم وجّهت بصرها نحو الساحر البعيد الذي أمسك بزجاجة الخمر وشرع يشربها كاملة.
“أما إدغار… فمختلف. إنه يؤمن بطريقة غير طريقتك أيها المبدئي. أنا… من ذلك الرجل أشعر…”
ترددت لحظة، ثم خطرت لها العبارة المناسبة، فضربت كفًا بكف وقالت:
“أشعر بالتعقيد المنبعث من دواخل فاسدة متشابكة ومتعفنة.”
“أنا أعتقد أنه إن أمسكتُ بأصل تلك المشاعر المعقدة، فلن يخونني إدغار أبدًا. فالعاطفة أحيانًا أشد رهبة من المبدأ.”
ورأت إدغار وقد بدأ يترنح ناعسًا في جلسته من أثر الخمر، فهبّت واقفة.
دقّت على جسدها المنهك بعد أن تسلّقت عنق الوحش البحري، وتدحرجت، وكادت تغرق. ثم صاحت بحماس:
“إذن سأذهب لأصالحه. لقد نجحت في استمالته إلى جانبي، وعليّ أن أرسّخ ذلك جيدًا!”
مدّ الرجل يده ليوقفها، لكن خطوات اللصة السابقة كانت أسرع.
اختفت بخفة البرق، فيما رمش سيدريك محدّقًا في ظهرها الذي تلاشى، ثم وضع يده على عينيه القلقتين.
‘أتقولين هل ما زلتِ داخل مبادئي…؟’
لم يكن سيدريك مدركًا أصلًا أن مبادئه كثيرة إلى ذلك الحد، حتى ذكرتها الفتاة بلسانها.
أجل، حتى فكرة ألّا يواعد أو يلمس امرأة إلا إذا كانت زوجته المستقبلية، هي الأخرى مبدأ.
لقد كان يعيش على افتراض أن الجميع هكذا.
لكن حين رافق إستيل تلك التي تقف على طرف نقيض منه، أدرك أن ليس كل الناس يحافظون على المبادئ مثله.
وبينما يتذكر ذلك، خطرت في باله صورة إستيل وهي تكسر مبادئه واحدًا تلو الآخر حين أمسكت بيده، بل واحتضنته، وحتى تحت الماء…
“هاه…”
زفر بعمق وهو يحدّق في الاتجاه الذي مضت فيه إستيل.
‘لماذا حين أقف أمامك أفقد صلابتي؟ لماذا أشعر أنني لست أنا، وكأني شخص آخر…؟’
لم تكن نبوءة “ستلتقي بعد عشر سنوات بامرأة ستتزوجها” هي ما هزّ كيانه.
كان رجلًا يقود حياته بيده. لم يعش يومًا مكتوفًا ينتظر نبوءة ليقرر مشاعره.
إنما كان السبب أنه لم ينجذب إلى أحد طوال تلك السنين.
أما مع إستيل… فكان عليه أن يقمع مشاعره المتدفقة.
ليس فقط لأنها قد لا تكون الشخص المقصود بالنبوءة، ولا لأنها مختلفة عنه.
ابتسم بمرارة وهزّ رأسه.
‘إنها رفيقة ينبغي أن أتعاون معها، لا أن أنظر إليها بعين خاصة.’
إنها إنسانة عليه أن يساندها بأقصى طاقته كي تحمي العالم.
تسير إلى غاية رهيبة تجعل قلبها مثقلًا، فكيف يُسمح لمشاعر شخصية أن تتسلل إلى طريقها؟
هكذا أقنع نفسه.
لكن رغم ذلك، تزداد الأسئلة التي يريد أن يوجهها إليها.
لقد باتت تثير فضوله.
يريد أن يقترب من الحزن الذي لمحَه فيها، أن يعرف ما الذي دفعها رغم خوفها الشديد إلى أن ترتمي في مهمة جنونية من أجل الأطفال.
ويتمنى في وقت من السلام، أن يجلسا جنبًا إلى جنب يتبادلان الأحاديث الصغيرة.
وبابتسامة بائسة، غطى الرجل فمه وهمس لنفسه:
“…الأمر أعظم مما ظننت.”
***
انتُزع الزجاجة من يده في لحظة.
التقت عيناه الخضراوان التي بدت نظرتها مضطربة قليلًا بعيني الفتاة.
جلست إستيل بجواره بهدوء وابتسمت قائلة:
“يقولون إن شرب الخمر وحدك نذير شؤم.”
“هذه أنتِ إذن.”
مدّ يده ليستعيد الزجاجة بغضب، لكن إستيل لوّحت بها بعيدًا وهي تبتسم بخبث، فحدّق فيها باستياء.
هل فقدت خوفها بعدما نجت من الموت؟
ارتسمت بسمة ساخره على وجهه، بينما مدت إليه كوبًا فارغًا وقالت:
“لستُ ساذجة حتى أشرب من فم الزجاجة. صبّه في الكأس.”
“قلتُ لكِ لا تقتربي مني اليوم.”
“نخبًا؟”
وكأنها لم تسمع كلامه أصلًا، ملأت الكأسين بسرعة.
التقط هو أحدهما بعصبية، لكنها لم تُعره بالًا، بل قرعت كأسها بكأسه واحتست جرعة بخفة.
نظر إدغار إلى كأسها الفارغ بسرعة دهشة، ثم رفع كأسه وأفرغه هو الآخر.
سرعان ما أعادت ملء الكأسين، وتناولا الثاني.
لم يتغير لون وجه إستيل قط، وهو ما جعل إدغار يتساءل متعجبًا:
“أتعرفين الشرب أصلًا؟”
“لا أشرب لأني لا أجده.”
“سمعت أن حتى الساحرة العظيمة كانت محبة للخمر.”
“تعرف حتى هذا؟ مقرف.”
فشدّ إدغار خدها بقوة، فصرخت من الألم “آه! مؤلم! يكفي!” ثم تركها وأخذ رشفة أخرى.
تابعت إستيل وهي تراقب تعابيره:
“إذًا أنا المخطئة؟”
“ليس بالضرورة.”
“حقًا؟”
“ربما قليلاً.”
“لا أفهمك…”
تمتمت متذمرة، فضحك إدغار ضحكة قصيرة.
“جئتِ لتتشاجري؟”
“لا، جئت لأصالحك…”
“مصالحة؟ إن أردتِ راحتي فعودي من حيث أتيتِ. حاميك يحاول قتلي أصلًا.”
“حاميّ؟ أنا يتيمة! ما هذا الكلام؟”
استدارت نحو الجهة التي كان ينظر إليها، فإذا بعينيها تلتقيان بعيني سيدريك،الذي كان يحدق بهما بامتعاض.
أشار بيده اليمنى، فأدركت أنها لا تزال ممسكة بالزجاجة.
رفعتها مشيرة إليه بعينيها ‘هذه؟’ فأومأ وحرك شفتيه بكلمات طويلة لم تفهمها.
ثم قال بوضوح: “إيّاكِ والإفراط.”
ابتسمت، راسمة دائرة فوق رأسها بإصبعها علامة على الفهم. فعقّب إدغار بسخرية:
“يا لها من علاقة حميمة.”
“أي حميمة؟”
“أتعلمين كم يقلق ذلك الرجل على سلامتك؟”
“أنا الأهم في هذه المهمة، طبيعي أن يقلق.”
‘لكنه لم يبدُ كقلق وظيفي فحسب…’
غير أن إدغار لم يُفصح عما في باله، بل صب كأسًا آخر.
لقد رأى كثيرًا ممن يندمون حين يتكلمون بما لا يجب.
كانت هذه رابع كؤوسه، ومع ذلك استطاعت إستيل أن تسايره دون أن يتغير وجهها.
نظر إليها في سرٍّ بدهشة، ثم رفعت رأسها وقالت:
“قل لي، ما علاقتك بأبي؟”
لم يُجب، بل ارتشف كأسه. فضمّت ركبتيها إلى صدرها وهمست:
“لا تخبرني شيئًا، ثم تغضب عليّ… ما الذي تريده بالضبط؟”
لم ينكر طفولية سلوكها، لكنه بقي صامتًا. فأضافت بخجل:
“هل صدمك أن يكون سبب عقد أبي مع الشيطان هو الحب؟”
“لم يُصدمني، لكن…”
“لكن ماذا؟”
“لكنّه مثير للسخرية.”
كان صوته يحمل نبرة خفيفة من الغضب. أدركت إستيل أن قليلًا من الصبر كفيل بجعله يتكلم. وبالفعل، تمتم ساخرًا:
“أكره الضعفاء.”
“أعرف. لا تخفي ذلك أصلًا. شخصيتك محطمة…”
“والدك تريستان بلانشيه، لم يكن بمستوى الساحرة العظيمة، لكنه كان قويًّا. عرفت ذلك من خلال البحث في التاريخ وجمع الشهادات.”
تجمدت إستيل.
أبي كان يُبحث في سيرته؟! لم تعرف عن والديها شيئًا، وها هو يقول إنه درس حياته.
ارتبكت، فتابع إدغار:
“كان من الصعب تتبع حياته بعدما صار اسمًا محرّمًا، لكن بالإصرار لا شيء مستحيل.”
“أشعر بالغرابة… أن حياتي العائلية صارت مادة للبحث… على أية حال، ثم ماذا؟”
“كان رجلًا قويًّا بحق. بقدرة سحرية جعلت الشيطان يقبل بعقده. لكنه، إذ تزوج الساحرة العظيمة واعتزل، لم يُتح لمجده أن يذيع. وبعد المجزرة الكبرى صار اسمه من المحظورات، وطُمست قوته.”
ابتسمت إستيل وقالت: “تتحدث كثيرًا هذه المرة. ثم ماذا؟”
“رجل قوي إلى تلك الدرجة… ويبيع نفسه للشيطان من أجل حب؟”
غاب عنه أسلوبه المعتاد المليء بالهزل، وبدا واضحًا أن مشاعره المعقدة هي ما اعتبرته إستيل أساس ثقته.
أسندت رأسها إلى ذراعيها وتمتمت:
“تقول ذلك الحب كأنه شيء تافه…يالقسوتك.”
“كان أحمق لا غير.”
كان أمره غريبًا؛ لم يكن يزدري والدها فحسب، بل بدا وكأنه يشعر بخيبة أمل عميقة، ومع ذلك لم يكن كالمعجبين الذين ينهارون عند اكتشاف عيوب قدوتهم.
‘ما هذا بالضبط؟’
تساءلت وهي تحاول التخفيف من حدّة الجو بابتسامة:
“أتشتم أب أمام ابنته؟ أعرف أنك لا تجيد المعاشرة، لكن هذا كثير.”
“وكأنك لم تسمعي شتم والدك من قبل؟”
“صحيح، كان قاتلًا يستحق الموت.”
قالتها ضاحكة بلا ذرة تردد، فارتجف إدغار وهو ينظر إليها.
“أهكذا تتحدثين عن أبيك؟”
“وما الضير؟ رجل كهذا يستحق كل شتيمة.”
“يبدو أن حتى الساحرة العظيمة لم تُحسن تربيتك.”
أيقنت إستيل أن كلامه صحيح.
فأبوها لا حاجة للكلام عنه، وأمها سواء بسببه أو بسبب محو ذكرياتها لم تمنحها أي تربية تُذكر.
وحين رفع إدغار كأسه ليشرب مجددًا، وضعت يدها على فمه مبتسمة وقالت:
“يكفي شربًا، أليس كذلك؟”
فابتسم ابتسامة ساحرة وقال:
“اغربي عن وجهي.”
فتأملته باستغراب صادق وقالت في نفسها:
‘حتى وهو سكران، يحافظ على سوء طبعه… مذهل.’
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 72"