أضاء ضوء المصباح على دفتر اليوميات فأمعن النظر فيه يميناً ويساراً ثم مال برأسه وهو يعبر عن شكه، تمتم بنبرة مترددة:
“يبدو أن هناك فارق زمني بين اليوميات والكلمات الحمراء…”
“فرق زمني؟“
“مقارنة بالحبر الأسود، درجة بهتان الحبر مختلفة. الحبر الأحمر يبدو أكثر وضوحاً لذا أعتقد أن هذه الكتابة كتبت في وقت لاحق بكثير من وقت كتابة اليوميات.”
أخذت هي الدفتر مرة أخرى، وتمعنت جيداً في الحروف الحمراء. فعلاً، كما قال سيدريك، كان تلاشي لون الحبر مختلفاً بشكل ملحوظ. فكرت قليلاً: قبل أن تموت الساحرة العظيمة، سلّم هذا الدفتر إلى سيدريك، ومنذ ذلك الحين لم يُفتح الصندوق مرة واحدة. إذن من كتب هذا…
“أمي قبل عشر سنوات…”
“أعتقد ذلك أيضاً.”
فجأة، وقف سيدريك الذي كان يجلس على الأرض بعد أن حاول بسرعة السيطرة على إستيل التي دخلت الغرفة بفتح قفل الباب وكشف ضوء القمر الساطع جسده المتين من خلال ملابسه الفضفاضة. كانت إستيل تحدق فيه بلا وعي حتى أفاقت فجأة.
رأت الرجل ينظر إليها كما لو كان منحرفاً. أنكر سيدريك ذلك على الفور.
“ليس كذلك…”
“لم أقل شيئاً.”
لقد عبر عن ذلك بنظرة عينيه لكنها كانت هي من تحتاج إلى التبرير، فخدّتها خفيفة وابتسمت بخجل.
“آسفة… فقط كنت مندهشة لأنني لم أرَ جسداً كهذا من قبل.”
نظر إليها سيدريك بدهشة ثم أدنى رأسه وتنهد قائلاً:
“حسناً، لا بأس.”
أخرج قميصًا وسروالًا مرتبين بعناية من الخزانة، ثم استدار.
إستيل التي لم تستطع قراءة المعنى وراء النظرات الثاقبة التي يوجهها إليها بدت محتارة، فقال لها سيدريك بلهجة توحي بالإحباط:
“سوف تغيرين ملابسك.”
“أوه؟ لماذا؟“
“لماذا؟ كيف تخرجين هكذا… هل تظنين حقًا أنك ستخرجين بهذه الملابس كما هي؟“
لأن الغرفة كانت مظلمة، لم يلاحظ في البداية ملابس إستيل، لكن عندما أدرك ذلك تشوّه وجهه فجأة ثم استدار بسرعة. كان يغطّي فمه بدهشة وظل يحدق في النافذة بلا هدف. بدأ قلبه ينبض بسرعة. بما أن الموسم شتاء، كانت الملابس الداخلية ثقيلة ولم يكن هناك ما يُرى بوضوح، ومع ذلك، مهما يكن…!
توقف دماغه المحافظ عن العمل للحظة. نظرت إستيل إلى ملابسها بسرعة وقالت متذمرة:
“آه، لقد كنت مستعجلة جداً.”
“هل تدركين أن ما ترتدين الآن ليس مناسباً للظهور أمام الآخرين؟“
“أدرك ذلك… لكنني جئت بسرعة فقط…”
“مع أنك تعرفين ذلك—”
آه، شتيمة أخرى… هل سيغضب إن أمرني بالعودة للغرفة وتغيير ملابسي؟ عندما نهضت إستيل لتعود إلى الغرفة، سقط شيء فوق رأسها فجأة.
ارتجفت وسحبت رأسها من خلال فتحة العباءة بوجه متحير بدأت تبحث حولها. عندها اقترب منها فجأة ذلك العطر الذي بدأت تعتاد عليه.
ربط سيدريك عباءتها بإحكام مخفياً شعرها بقبعة مُرتبة، وتنهد عميقاً وهو يربط الحبل تحت الرقبة. كانت يدا الرجل الكبير، التي تبدو مناسبة لحمل السيف متقنة في صنع العقدة.
“قلت لك ألا تكوني مكشوفة هكذا.”
“آسفة…”
“ليس هذا وقت الاعتذار بل وقت الحذر. هل تعلمين كم هو تراث الساحرة العظيمة الذي تركته؟ قد يأتي رجل غريب يريد استدراجك واستغلالك، فإذا استمريت في التصرف بدون حماية…”
“نعم، نعم.”
كانت إستيل ترسل له إشارة ليتوقف، لكن كلامه أصبح أسرع وأطول. دحرجت عينيها بلا وعي فما كان من سيدريك إلا أن نظر إليها بنظرة صارمة وحذرها بلهجة حازمة:
“فكري قبل أن تتصرفي. حتى لو لم يكن الأمر مهماً بالنسبة لك، من منظور الطرف الآخر قد يكون له تأثير كبير—”
“لا، لا بأس! أنا لا أتصرف هكذا مع أي شخص! أتعامل معك براحة لأنني أثق بك، فلنتوقف هنا حسناً؟“
توقف كلام سيدريك فجأة وبشكل غير طبيعي.
‘ما هذا؟ هل غضب لأنني قطعت كلامه؟ أعلم أنه يقصد خيراً، لكن يجب أن يكون ذلك باعتدال!’
نظرت إستيل إلى يدي الرجل التي توقفت عن ترتيب العقدة، ثم رفعت رأسها بحذر لتفحص وجهه، فوجدته متجمدًا وجادًا فمالت برأسها متسائلة.
‘ما الأمر؟ هل قلت شيئاً خاطئاً؟‘
حين حاولت أن تفكر في الإجابة تراجع سيدريك خطوة إلى الوراء مسح على وجهه بسرعة ثم همس بصوت باهت:
“…لا تفعلي ذلك مع أي شخص.”
“أنا أختار الناس بعناية بطريقتي صحيح؟ فكر قليلًا. لست حمقاء إلى هذا الحد، أليس كذلك؟“
أدار سيدريك رقبته المتصلبة بصعوبة ليلقي نظرة عليها، تحركت شفتاه كأنه يريد أن يقول شيئاً لكن الكلام لم يكن واضحاً، اقتربت إستيل منه وهمست:
“ماذا قلت؟ لم أسمع.”
تذكّرت المثل القديم القائل: “لا يمكنك البصق في وجه شخص مبتسم“، وابتسمت ابتسامة مشرقة. فكّرت أن هذا كافٍ ليغضب قليلاً وينهي الأمر. إذا كنت إنسانًا، فلا بد أن تفعل ذلك. وبينما كانت إستيل تحافظ على ابتسامتها معتقدةً ذلك، تمتم سيدريك الذي لم يبدُ عليه أي نيّة لتلطيف الأجواء بل بدا جديًا أكثر:
“…هيا.”
“نعم؟“
قبل أن يتسنّى لها الشعور بالارتباك من يده التي أمسكت كتفها فجأة سُحبت نحو باب الغرفة. لم يتغير تعبيره وجهه أبدًا وهو يجرّها بقوة وقبل أن تملك الوقت لتندهش من قوته التي نقلتها بتلك السهولة دُفعت إستيل إلى خارج الباب. أ… أوه؟
“أحتاج إلى وقت لأبدل ملابسي، فاخرجي.”
كووونغ. أُغلق الباب أمام وجهها في لحظة. وبينما كانت تحدق بشرود في نقش الخشب على الباب، تمتمت إستيل بصوت يائس:
“آه، لقد طُردت.”
يا له من شخص يصعب فهمه حقًا. هل يكره أن يقترب مني أحد؟ قلت له إنني وثقت به، فلماذا يغضب لهذا الحد؟
مرة أخرى، أدركت حقيقة ما. نبوءة الساحرة العظيمة التي قالت إن هذا الرجل سيكون زوجها المستقبلي… كانت هراءً بالتأكيد. كيف يكون زوجًا وهو يرفضها بهذا الشكل؟
وفي تلك اللحظة تذكّرت ما قاله إيدغار في وقتٍ سابق من النهار:
“هممم؟ لا. أنتِ مجرد عائق. بوجودك عمر هذا الرجل لن يتجاوز أربع دقائق وأربعين ثانية.”
‘هل أنا عديمة الفائدة إلى هذا الحد؟ هل لهذا السبب يشعر سيدريك بالاستياء مني؟‘
وبينما ازدادت كآبتها رفعت يدها بتردد نحو الباب، أغمضت عينيها بإحكام وطرقت طرقًا خافتًا جداً يكاد لا يُسمع. ثم تمتمت وهي تُقرب فمها من الباب:
“أممم، لكنك… ما زلت ستذهب معي إلى المكتبة، صحيح؟“
لم يصلها أي رد من داخل الغرفة. عضّت إستيل شفتيها بعدم رضا ثم شبكت ذراعيها وأسندت ظهرها إلى الحائط.
‘سأنتظر. وإذا لم يخرج، مجددًا…’
خلعت إحدى خُفّيها وسحبت من داخله حديدة احتياطية كانت قد خبأتها، ثم حدّقت في الباب المغلق وقالت بتمتمة:
“لا بأس، أنا كالعَلَقة.”
صحيح، لا بأس. سأقتحم الباب مرة أخرى!
لحسن الحظ، أو لسوئه، خرج سيدريك من الغرفة بعد أقل من خمس دقائق وقد بدّل ملابسه.
مدّ يده ليمنعها من الاقتراب منه ثم وضع عند قدميها زوجًا من الأحذية كان يحمله بيده. كانت أحذية رجالية كبيرة الحجم لكنها شدّت أربطتها لأقصى حد فصارت واسعة قليلًا لكنها قابلة للارتداء.
“إلبسي.”
مرت العديد من علامات الاستفهام على وجه إستيل المرتبك.
‘ما هذا؟ إذًا، لم يكن منزعجًا مني؟‘
تصرّفاته وتعبيراته وكلماته كثيرًا ما كانت متناقضة مما جعل من الصعب عليها الفهم. فهي من النوع الذي يعبّر بوضوح عن الإعجاب أو الكراهية، لذلك كانت تجد مزاج سيدريك غريبًا.
قال لها بنبرة جافّة وهو يحدّق فيها بتعبير غير مبالٍ:
“لا يمكن الخروج بحذاء منزلي في الشتاء. هذه أحذيتي فارتديها بشكل مؤقت.”
نظرت إستيل إليه بنظرة غريبة ثم رفعت كتفيها، وأدخلت قدميها في الحذاء الذي تركه.
بدر منظرهما مضحكًا وهما يتخبطان في قدميها، لكنها لم تهتم بما أنها لن ترتديهما طويلًا. قالت بعد قليل بتردد وهي تميل رأسها:
“أممم… تصرّفك مربك. تقول كلامًا قاسيًا ثم تعتني بي بهذه الطريقة… إذًا تحبني، أليس كذلك؟ أعني حتى كلامك الجارح تقوله لأنك تهتم لأمري أليس كذلك؟“
لم يُجبها. بدلًا من ذلك أغمض عينيه وكأنه يعاني من الصداع، ثم قال بصوت خافت كئيب:
“الحذاء.”
“هاه؟“
“قد أسحب الحذاء مجددًا.”
‘كنت على وشك أن أشكرك، لكنك فجأة تسحب الكلام بهذه الطريقة…’
سحب الحذاء بعد أن أعطاه؟ يا له من رجل تافه. بدا خاليًا تمامًا من العاطفة، فازدادت حيرتها.
‘هل ما زال غاضبًا مني؟ بسبب أنني عديمة النفع، أتسبب له الكثير من المتاعب؟‘
من ناحيته، تجاوزها سيدريك وهو يفتح فمه على وسعه ثم يمرر يده على وجهه.
‘لقد جُننت. لا، لا بد أنني جُننت. لا يمكنني التصرف هكذا تجاه فتاة لم يمضِ على لقائنا شهر واحد. لا، هذا مجرد وهم. لم أتصرف هكذا من قبل، لذلك أشعر بهذا الشكل الآن.’
هزّ رأسه مرارًا، ثم نظر نحو إستيل التي كانت تتلفّت حولها بحثًا عن المكتبة كأن شيئًا لم يحدث. ربما شعرت بنظرته فقد بدأت تدرّج عينيها هنا وهناك ثم تنهدت بعمق وقالت:
“آه، فهمت! أنا آسفة. كنت أظن أنني أُبدي نوعًا من الاهتمام بطريقتي الخاصة. أنت تهتم كثيرًا بهذه الأمور، أليس كذلك؟“
“أي أمور؟“
“مثل الشائعات. أن يقال إن ابن الدوق الصغير التقى بفتاة في وقت متأخر من الليل أليس هذا يسبب لك المتاعب؟ خاصة وأنت تقول إنك لا تريد الزواج من امرأة لا تنوي الارتباط بها. لا، لنكفّ عن هذه النقطة.”
تذمّرت إستيل وهي تعقد حاجبيها.
‘لا أنوي تحويل النبوءة إلى واقع، لكن لماذا تتطور الأمور بهذه السلاسة؟‘
ربما الشيء الوحيد الجيد هو أن شفاههما لم تلمس بعضها.
لا، هناك أمر آخر جيد أيضًا: يبدو أن هذا الرجل يكرهني جدًا، أليس كذلك؟ رغم أنني لست واثقة إن كان ذلك أمرًا جيدًا.
وبينما ازدادت كآبتها، بدأت تسحب قدميها بتكاسل.
على الأقل، كانت خطّتها التي أسمتها “مراعاة” منطقية. أرادت تجنّب الشائعات التي قد تنتشر إذا قيل إنهما التقيا سرًا في الليل، فدخلت الغرفة سرًا.
لكنها لم تتوقع أن تكون ردود فعل سِدريك بهذه السرعة. لقد كانت حادثة كبيرة على وشك الحدوث، كادت أن تُقبّل رجلًا لا يطيق ملامسة النساء ما لم تكن زوجته المستقبلية. من وجهة نظر إستيل، كان من المدهش أنه لم يُغمَ عليه.
‘لكن مهلاً، أنا التي كدت أُقبَل، فلماذا أعتذر…؟‘
‘حسنًا، أنا من اقتحم الغرفة أولًا، بعد كل شيء…’
وسط دوامة من التساؤلات الذاتية، تمتمت إستيل بصوت خافت:
“على كل حال، كنت أحاول أن أتصرف بحذر لأنني ظننت أنك ستنزعج.”
ترجمة : سنو
انستا : soulyinl
واتباد : punnychanehe
التعليقات لهذا الفصل " 40"