27
كانت إستيل تظن أن قصر الدوق كان مذهلًا بحجمه الهائل، لكن القصر الإمبراطوري كان يفوق ذلك المستوى بأشواط. وبينما كانت تتأمل القصر بفم مفتوح وعقل مسلوب، اضطر سيدريك إلى جرّها معه مرة أخرى.
عند باب المكتب، حيث كان الإمبراطور بانتظارهم، تنهد سيدريك بخفة وقال:
“من الأفضل أن تختاري كلماتك بعناية.”
“بعناية؟ أنا بارعة في ذلك.”
“لا، لستِ كذلك.”
“أنت تستخفّ بي تمامًا، أليس كذلك؟”
“استخفاف؟ هذا مجرد استنتاج منطقي قائم على تحليل.” نظر إليها بطرف عينه قبل أن يسأل:
“إذا عرض عليك جلالته ثروة تكفيك مدى الحياة، بل تكفي لإعلان إفلاسك ثلاث مرات على الأقل، فكيف ستردين؟”
“سأقبلها بكل امتنان، ولكن… ألا يمكنه أن يعطيني ما يكفي للإفلاس خمس مرات بدلاً من ثلاث؟”
“رائع، أحسنتِ بالفعل…” كانت عيناه الزرقاوان تقولان ذلك. كلماتها انطلقت بسلاسة وكأنها حفظت نصًا مسبقًا، لكنها كانت إجابة مثالية لتُستغل بسهولة. نظر إليها سيدريك كما لو كانت طفلة تُركت قرب المياه العميقة، مما جعل إستيل تتململ وتحتج:
“لكن… أليس رفض الهدية تصرفًا غير لائق؟”
“لا توجد هدية بلا مقابل.”
بدت وكأنها تلقت صدمة عنيفة وهي تفتح عينيها على اتساعهما وتتمتم:
“كنت أظن أن جلالة الإمبراطور رجل كريم…”
“لا يوجد مكان أكثر قسوة وعديم الرحمة من القصر الإمبراطوري. هنا، كل يوم هو ساحة معركة.”
كان من الطبيعي أن تخطئ إستيل في فهم الأمر. فالإمبراطورية كانت تبدو للعلن وكأنها كريمة وسخية، لذلك لم يكن مستغربًا أن تقع في هذا الوهم وهي التي نشأت كفرد من عامة الشعب.
حدّق سيدريك بالباب وهو متوتر قليلاً قبل أن يقول:
“قد يتم استجوابك والضغط عليك. صحيح أن كبير السحرة وصفك بأنك منقذة الدمار، لكن لا يمكننا التأكد مما إذا كان القصر الإمبراطوري على دراية كاملة بذلك. كما أنك بالفعل الشخص الذي دمر الدائرة السحرية، بالإضافة إلى…”
تردد للحظة، متسائلًا إن كان عليه قول ذلك أم لا، ثم أضاف على مضض:
“علاوة على ذلك، هناك تاريخ والدك… لذا، من المحتمل…”
“آه، اللعنة على والديّ!”
عضّت إستيل شفتيها بقوة قبل أن تتنهد وتمسك جبهتها.
“إن مشيت في هذا الاتجاه، أمي تعيقني، وإن مشيت في الاتجاه الآخر، أبي يقف في طريقي… حسنًا، فهمت. سأكون حذرة.”
“لست متأكدًا مما إذا كان حذرك سيحدث فرقًا بالنظر إلى مستواك.”
“مهلًا، ما هذا؟!”
ضحك سيدريك بخفة وهو يرى ملامحها الغاضبة، ثم أشار برأسه نحو الأمام.
“فلندخل.”
أخذ نفسًا عميقًا وطرق الباب بإيقاع معتدل، لا متسرعًا ولا بطيئًا. سرعان ما انفتح الباب بهدوء وسلاسة.
دخلت إستيل إلى الغرفة بخطوات متيبسة من شدة التوتر. خلف المكتب، جلس رجل بدا أكبر بقليل من زوجي الدوق. رغم أن ملامحه كانت متعبة، إلا أن عينيه اللامعتين أظهرتا ذكاءً حادًا.
مجرد جلوسه بهدوء كان كافيًا لبثّ الرهبة في المكان. ابتلعت إستيل ريقها بصعوبة ورفعت طرف تنورتها قليلًا لتؤدي التحية كما تعلمت، لكن في تلك اللحظة…
“لقد أتيتِ أخيرًا!!”
تعالت في الغرفة صرخة أشبه بالهتاف، غير متوقعة من رجل بهذه الهيبة.
“م… ماذا؟”
تجمدت إستيل في مكانها، عالقة في وضعيتها غير المكتملة، بينما ترمش بعدم تصديق وهي تنظر إلى الإمبراطور. الرجل، الذي نهض فجأة من مقعده، رفع ذراعيه عاليًا وأجهش بالبكاء.
“لقد أتيتِ حقًا!! منقذتنا! الأمل الوحيد للإمبراطورية…! يا إلهي، لم أشعر بمثل هذه السعادة من قبل!”
“جلالتك، لا بد من التأكد أولًا مما إذا كانت حقًا ابنة كبيرة السحرة…”
“أي تأكيد وأي كلام فارغ؟! فقط انظروا إلى وجهها! إنها تبدو وكأنها نسخة محسنة بنسبة 50% من إلين أيام الأكاديمية! من الواضح أنها ابنتها!”
لاحظت إستيل وجه الإمبراطور، الذي احمرّ من شدة الحماس، فالتفتت بهدوء لتنظر إلى سيدريك وهمست له:
“هل هذه استراتيجية متقنة؟ هل يجب أن نبدأ في الشك؟”
سيدريك لم يكن متأكدًا. كان يراقب الإمبراطور، الذي لم يكتفِ بالإمساك بذراع أمينه بل بدأ يرقص فرحًا. بعد لحظة صمت، أجاب أخيرًا:
“انسي كل ما قلته لكِ عند الباب.”
إذًا، حتى القصر الإمبراطوري القاسي، الذي لا يعرف الرحمة، مستعد للتخلي عن كبريائه بمجرد أن يسمع أن لديه خمسة أشهر فقط قبل أن يُباد الجميع… أدرك سيدريك هذه الحقيقة وهز رأسه وكأنه استوعب الأمر.
استغرق الأمر وقتًا أطول مما توقعه حتى يهدأ الإمبراطور. ظل يضحك بارتياح، وكأنه قد نجى بأعجوبة، حتى انتهى به الأمر بالبكاء.
“لقد كنت أعتقد حقًا أن كل شيء انتهى! الشياطين ستستيقظ من جديد! بالكاد أستطيع التعامل مع الصداع الذي سبّبته لي الزلازل في الجنوب، ثم تأتي كبيرة السحرة هنا لتتحدث عن نهاية العالم بكلمات غامضة…!”
كان سيدريك يحاول الحفاظ على هدوئه، لكنه شعر أن الإمبراطور على وشك أن يفقد أعصابه تمامًا. نظر بيأس إلى أمين القصر، إيدلين، وكأنه يرجوه أن يتدخل، لكن الأخير لم يكن بإمكانه سوى هز رأسه بأسف، مما جعل سيدريك يستسلم ويحول نظره مجددًا إلى الإمبراطور.
كان هذا هو الحاكم الأعلى للإمبراطورية، يبكي أمامهم، والسبب الوحيد الذي جعل سيدريك لا يركع متوسلًا النجاة هو الفتاة التي بجانبه.
“حقًا؟ أرسلت لك مجرد رسالة قصيرة هكذا؟ حسنًا، صحيح أن أمي لم تكن طبيعية أبدًا… آه، جلالتك، هل تحتاج إلى منديل؟”
كيف لا تبدو هذه الفتاة حتى متفاجئة؟ كانت تواسي الإمبراطور بربتات خفيفة على كتفه، وكأنها تتحدث إلى طفل يبكي، مما جعلها تبدو كأقوى شخص في الغرفة بأكملها.
أخذ الإمبراطور المنديل الذي قدمته له إستيل ومسح أنفه بصوت عالٍ، ثم واصل نحيبه:
“وفوق ذلك، تطلب مني العثور على ابنتها دون أن تترك أي دليل، دون حتى أن تذكر ذلك ولو مرة واحدة قبل أن تموت!”
“آه، ها قد فهمت!” صفقت إستيل يديها معًا، ثم وضعت يديها على خديها وابتسمت بدلال. عند رؤية ذلك، شعر سيدريك بارتباك طفيف.
“هاهاها، لهذا السبب قررت أن أظهر فجأة! ما رأيك؟ ألستُ رائعة؟”
“رائعة وأكثر! أنا متأثر جدًا! كيف يمكن أن تخرج شابة قوية ومذهلة مثلكِ من تحت يد تلك الساحرة العجوز؟!”
كان ما يحدث أمامهم مشهدًا غريبًا أشبه بانهيار تام للمنطق. كان وكأن كل المفاهيم العادية قد تم تدميرها تمامًا ليحل محلها نوع جديد وغريب من المنطق. حتى إيدلين، أمين القصر، بدا مذهولًا، ولم يستطع حتى الاعتراض على أسلوب إستيل غير الرسمي في الحديث مع الإمبراطور.
أما سيدريك، فوجد نفسه يبتسم دون أن يدرك. هذه الفتاة لديها قدرة مذهلة على كسب الناس.
وضعت إستيل مرفقها على الطاولة واتكأت بارتياح، ثم بدأت بتلخيص الموقف:
“إذن، لنلخص الأمر. قبل عشر سنوات، أرسلت أمي رسالة إلى جلالتك، تخبرك فيها أنه ‘بعد خمسة أشهر، سيتم تحرير الشيطان المختوم، وسيستعيد متعاقد الشيطان قوته من جديد’، صحيح؟”
هذا الجزء كان معروفًا بالفعل لكل من إستيل وسيدريك، أي أنهم لم يتلقوا أي معلومات جديدة. إذًا، هل جئنا إلى هنا بلا سبب؟ فكرت إستيل بذلك وهي تحدق في الإمبراطور، الذي رد بحماس واضح:
“بالضبط! ولكن الإمبراطورة لاحظت شيئًا غريبًا—لماذا ذكرت إلين ابنتها في الرسالة، وهي معروفة بعدم قول أي شيء غير ضروري؟ ومن هنا توصلنا إلى الاستنتاج التالي…”
ثم ضرب الإمبراطور الطاولة بقبضته وهتف بحماس:
“أنتِ بلا شك المحاربة المختارة لإنقاذ الإمبراطورية!”
“…نعم، أتينا إلى هنا بلا داعٍ.”
تجمدت إستيل في مكانها، مصدومة من إعلان الإمبراطور المفاجئ، وبدأت تتمتم:
“هـ… ماذا؟ أمم، في الواقع…”
لكن الإمبراطور تجاهل ترددها وسألها مباشرة:
“إذن، ما خطتكِ الآن؟”
حتى عندما كان الإمبراطور يبكي بحرقة أمامها، بدأت ملامح إستيل، التي ظلت غير متأثرة طوال الوقت، تتغير وتعكس بعض الارتباك.
(مهلًا، أنتم تتوقعون مني الكثير، وهذا يسبب لي مشكلة… أنا بالكاد أستطيع الاعتناء بنفسي في الوقت الحالي! بل إنني حتى لا أستطيع استخدام أي سحر ما لم أكن على وشك الموت!)
في اللحظة التي دخل فيها الحديث مباشرة في صلب الموضوع، استعاد سيدريك تركيزه وتدخل قائلًا:
“جلالتك، أولًا… نعم، تفسيرك صحيح، كبيرة السحرة تنبّأت قبل وفاتها بأن إستيل، أي الآنسة، ستكون خصم الشيطان بعد عشر سنوات. لكن هذا لا يعني أنها تعرف كيف تتعامل مع الوضع، وبالتالي، لا يوجد لديها أي خطة.”
(ا-الآنسة…؟)
حدقت إستيل به بفم مفتوح وكأنها لا تصدق ما تسمعه، لكنه قابل نظرتها بنظرة صادقة تعني “أنا أيضًا لا أناديكِ بهذا اللقب عن طيب خاطر.” فخفضت رأسها بهدوء. ربما كان يستخدم هذه اللغة الرسمية بسبب الموقف الحالي، لكن ذلك لم يغير حقيقة أن الأمر كان مثيرًا للضحك.
أما الإمبراطور، فلم يبدُ مقتنعًا بكلام سيدريك، بل شخر بازدراء.
“هُه، هذا مستحيل. هل تعتقد أن كبيرة السحرة كانر مجرد إنسان عادي؟ لقد أرسلت لي رسالة حتى بعد وفاتها.”
قطبت إستيل جبينها. يبدو أن توقعات الناس من كبيرة السحرة كانت غير عادية بالفعل. صحيح أنها لم تكن إنسانًا عاديًا بأي حال، لكنها شعرت أن التوقع بأن تحل كل المشاكل بمجرد ظهورها كان مبالغًا فيه.
كان الإمبراطور غارقًا في التفكير للحظة، ثم فجأة، وكأنه توصل إلى استنتاج عظيم، قال بحماس:
“هذا صحيح! لا بد أن لديكِ مؤهلات كبيرة السحرة القادمة! أنتِ ساحرة أيضًا، صحيح؟”
تدخل سيدريك مجددًا لتوضيح الأمر:
“لقد تحققنا بالفعل من أن الآنسة ورثت قوة سحرية هائلة من كبيرة السحرة، لكن…”
توقف للحظة، وتذكر المشهد الذي رأى فيه ذلك الختم السحري الذي حطم مخالب الشيطان، التي كانت تهشم المتعصبين الدينيين وكأنهم لا شيء.
في الأصل، كان سيدريك فارسًا مقدسًا، يستخدم القوة الإلهية التي تتدفق عبر سيفه، والتي تختلف تمامًا عن القوة السحرية. صحيح أنه تخلى عن منصبه، لكنه لا يزال أقرب إلى ذلك العالم. ورغم أنه نشأ تحت رعاية والدته الساحرة، إلا أن معرفته بالسحر لم تكن نتيجة شغف، بل بسبب صراع طريف بين والديه.
“عليك أن تتقن القوة الإلهية!”
“لا، بل يجب أن تتقن القوة السحرية!”
كان والده، قائد الفرسان المقدسين، ووالدته، الساحرة العظيمة، في منافسة دائمة حول مستقبل ابنهما، وكلاهما كان مصممًا على جذبه إلى مجاله الخاص. لذا، نشأ الصبي وهو يستمع إلى حديث لا نهاية له عن القوة الإلهية والسحر.
وكان ذلك اليوم أحد تلك الأيام.
“السحر طاقة غير مستقرة بطبيعتها. لا يمكنك فعل أي شيء بها وحدها، بل تحتاج إلى عملية تسمى (التجسيد) باستخدام اللغة.”
“التجسيد؟”
“لنأخذ مثالًا. إذا كنت تريد إنشاء رياح باستخدام السحر، يكفيك رسم دائرة تحتوي على رمز يعبر عن الرياح.”
وقفت إيزابيلا، والدته، أمامه، ورسمت دائرة بسيطة بداخلها رمز يمثل الرياح. وبمجرد أن أنهت الرسم، بدأ الهواء يتحرك برفق من حولها.
ثم محَت الرسم وأكملت شرحها:
“لكن، إذا كنت تريد التحكم في اتجاه الرياح، وشدتها، ومدة هبوبها، فعليك (تجسيد) هذه التفاصيل.”
ثم أعادت رسم الدائرة، ولكن هذه المرة، كتبت بداخلها كلمات تحدد خصائص الرياح: “شمالية شرقية”، “نسيم عليل”، “جاف”، “لمدة 30 دقيقة”…
وفور انتهاءها، هبت الرياح تمامًا كما حددتها—رياح جافة تهب بلطف من الشمال الشرقي. شعرت إيزابيلا بها على أطراف أصابعها وابتسمت بفخر قائلة:
“رائع، أليس كذلك؟ لهذا السبب يجمع السحرة الكلمات من كل اللغات! فكلما زادت الكلمات التي يعرفها الساحر، زادت قدرته على التحكم في السحر!”
~ترجمة سول.