قال له بوجه فيه مسحة الظَّفر: “إنّي لأراك تُبدِي ملامح مَن قد عَرَف الجواب، فاعلم أنّه إذا سأل الرَّجلُ عن أمرٍ لا يسأل عنه عادةً، فالظنُّ الأكبر أن للنساء فيه يدًا، ولا سيّما إن كان الأمر متعلِّقًا بالهيئة والمَظهر. فإذا برجلٍ لم يكن يومًا مُباليًا بوجهه أو مَلبَسه، وإذا به فجأةً يشتغل بالهيئة، فأيُّ سببٍ يكون غير ذاك؟”
قال داميان: “قد يكون غير ذاك، فما كلُّ مَن يُرِيد أن يحسِّن صورته إنّما يقصد النساء، إذ قد يكون له في غيرهنّ غرض.”
“نعم، وقد يكون من ذوي الميول الأُخَر. أيكون هذا شأنك؟ “
“خاب ظنُّك، فذلك ليس من شأني.”
“أحقًّا؟ فكيف لقيتَ النساء إذن؟ وأنت في المعسكر لا تُحادِث امرأةً على انفراد، ولا تنزل إلى القرية أصلًا.”
ثم شبك كفّيه خلف رأسه، وأدار جسده نحو داميان وقال فجأةً: “آه! مراسلة بريدية!”
فارتعش داميان عند سماع الكلمة، فازداد يقين بول، وقال بعينين تلتمعان فضولًا: “فقد مضى على تبادل الرسائل ثلاثة أشهرٍ أو نحوها، أليس كذلك؟ وما زلتَ على ذاك حتى الآن؟ ما أصدقك في الرد! وصاحبتك امرأة إذن؟ على ذكر ذلك، ألستَ قد تلقيتَ من قبلُ منديلاً في طرد، وأخذتَ صورةً قبل أيام؟”
فخفض داميان بصره دون وعي منه.
قال بول: “ما هذا؟ أتبادلتما الصور أيضًا؟ أهي حسناء؟ كيف هي؟”
ولو لم يكن بول قائدَه وابنَ عمّه، لكان داميان قد أشبعَه ضربًا.
قال بول وهو يتصنَّع التأثّر: “آهٍ آه! حبٌّ يتفتّح عبر الرسائل! لقد أثّرتَ فيَّ يا فتى. عرفتُ الآن أنّك رجل بحقّ.”
فلم يملك داميان نفسه، وركل ساقه تحت الطاولة.
وكانت تلك جنايةً على النظام العسكري، لكن بول كان منشغلًا بالمزاح حتى لم يشعر بألم ساقه.
“ألستَ أنتَ مَن نصحني بالمراسلة أصلًا؟ فما بال هذا التعجّب؟”
“لم أظنّك تأخذ الأمر مأخذ الجدّ. حسنا صنعت! لو كنتَ أطعتني من قبل لكان خيرًا.”
فهزّ داميان رأسه ضجرًا، بينما بول لا يكفّ عن الكلام حتى وهو يأخذ طعامه.
“مع أنّ القادة يضيعون وقتهم أحيانًا، فقد كان في حالتك ثمرة لم أتوقّعها. فأنت، الذي كنتَ منقطعًا عن التعبير عن مشاعرك، ها أنت تغيّرتَ بعد بضع رسائل.”
جلس داميان إلى المائدة، فبادر بول بالجلوس قبالته، وداميان يلوذ بالصمت ويغمس لقمةً من البيض المخفوق.
“أما تخبرني أيّ شخصٍ هي؟”
“أحدّثك بشيءٍ واحد: إنّي لا أعرف وجهها، وهي لا تعرف وجهي كذلك.”
“وكيف ذلك، وقد أخذتَ صورة؟”
“كانت صورةً جماعيّة، ولم تستطع أن تجدني فيها.”
“ولِمَ لم تأخذ منها صورةً إذن؟ أبت أن تعطيك؟”
“قلتُ لها إنّي لا رغبة لي في ذلك.”
ففغر بول فاه ذهولًا، وقال: “أحقًّا قلتَ لها هذا صراحة؟”
“بلى، فوبّختني.”
فمدّ بول رجله تحت الطاولة وركل داميان قائلًا: “اذهب فاقضِ على نفسك! لا رجاء منك.”
“لقد آلمتني.”
“وأنتَ ركَلْتَني قبل قليل. ومع ذلك، رغم قولك هذا لها، ما زالت تراسلك؟”
“أجل.”
“عجيبةٌ هي إذن.”
“أحسب ذلك.”
“بل لعلّها توافقك في الطبع.”
“لستُ أعلم.”
ثم أسند بول ذقنه إلى يده، يرقبه وهو يأكل، وقال: “تقول إنك لا تهتمّ بها، فلمَ تردّ على رسائلها إذن؟”
فوقف داميان عن الأكل، وقال: “لا أريد أن أخيّب الظنّ.”
“أيّ ظنّ؟”
“إنّها تنتظر جوابي، فإن أنا لم أكتب، ظنّت أنّي قُتِلت.”
وكان ذلك أولَ ما قاله له بول حين بدأ المراسلة، وقد قالت له لينتري كلامًا شبيهًا. فداميان يعلم أنّها تنتظر ردّه دائمًا.
وكان هو أدرى الناس بما يعنيه خذلان التوقّع؛ فقد ذاقه على يد ذلك الماركيز المسمّى جيسكا، وأدرك أنّ التوقّع غيرُ الأمل المجرد، وأنّ من خُذِل فيه قد تنكسر نفسه أشدّ الانكسار، وأنّ وقعه في القلب أمرّ من كل شعورٍ آخر.
“إن انقطع التراسل من مَلَلٍ فذاك أمر، أمّا أن أتركها تفكّر هذا الظنّ، فلا أريده.”
“هُمم…”
بول، وهو متكئ في هيئة متعالية، قد شبك ذراعيه وأخرج أنفاسًا فيها شيء من التفاخر وقال:
“لا أدري لِمَ أنت في مكان كهذا.”
“وما معنى قولك هذا؟”
“أعني أنّك لست من طينة العسكريين المحترفين.”
“ولستُ أفكر في ترك الخدمة على كلّ حال.”
فلما فرغ داميان من حكّ قعر قصعة الحساء حتى أفرغها وقام، تبعه بول قائمًا. ووضعا صَفَائِحهما على منضدة حوض التنظيف على التوالي، ثم غادرا المطعم.
“في الحقيقة، مقولتك إنك غير مهتم، محض كذب، أليس كذلك؟”
فلم يُجب داميان، بل أطلق زفرة خفيفة. وقد أخذت ملامحه تميل إلى الفتور كمن ضاق صدره بمواجهة بول وكاد يبلغ حدَّ السأم.
قبل أن يكف بول عن مداعبته بالسخرية، هوى بكفّه على ظهره هويةً لطيفة وقال:
“مهما يكن من أمرك، فأنت فتى رقيق.”
“هذا الكلام المقزّز.”
“وأنا أيضًا أراك مقزّزًا، يا فتى.”
ثم مسح يده التي لامست ظهره على ثوبه مسحًا شديدًا.
—
[إلى السيدة لينترَي التي لا ترى لها باعًا في فنون التحري،
لقد خيّبتِ ظنّي حقًّا، يا سيدتي. خاب أملي في ذوقك حين رأيتِ أنّ الرقيب بيناس هو أوسمنا، ثم خاب أملي مرة أخرى في خيالك الضيّق إذ لم تتصوّري صورتي إلا في أبهت صورة. آه، تقولين إن عبارتي لاذعة؟ لكن إن راعيتِ قلبي المجروح، فسامحيني على هذا القدر من التذمّر.
حرّر في 18 من أكتوبر سنة 1878،
الملازم ماكورد الذي أثنى عليه قائده آنفًا في وسامته.
ملحق: أتراكِ تظنّين أنّني أقل وسامة من غرين؟]
[إلى الملازم ماكورد الذي لا أراه إلا متكدّر الخاطر،
أن تُفصح عن مزاجك المتأفّف، ثم تُبدي غيرة من غرين، فهذا أمر لم أتوقعه. ولما أنك ترى نفسك وسيمًا، فلا شك أنك تريد الغلبة على غرين في ميدان الطلعة والهيئة. لا بأس، فأنا أكبرك بعام، وسأعذرك. فعند العشرين، يكون المرء في أوج عنايته بمظهره. نعم، لقد كنتُ كذلك في العشرين، وأتفهمك.]
‘الفرق بيننا عام واحد فقط!’
غصّ داميان بغيظه فجأة.
لم يكن يضيره أن يكون أصغر سنًّا من لينترَي، ولكن أن تُنزله منزلة الأصغر سنًّا حتى في النضج العقلي، فهذا ما لم يسُغه كبرياؤه. غير أنّه إذا نظر إلى قوله السابق بعين التجرد، فقد كان فيه حقًّا ما يوحي بالزعل والتكدّر، فلا حجة له.
[أمّا غرين، فوجهه عاديّ لا شية فيه، ليس فيه عيب ظاهر، ولا فيه مزيّة تُذكر، فهو وجه مألوف. وعليه، فالملازم ماكورد –كما تقول عن نفسه– أجمل منه. أترى جوابي هذا يرضيك؟
وبما أنك على هذه الثقة من حسن طلعتك، فقد بتُّ أتساءل كيف ملامحك. فإن لم ترسل إليّ صورتك، فليتك تُسْرع إليّ لتلقاني.]
‘هممم… لقد كان قولي بأنّي سأجيء لألقاها محضَ مجاملة.’
غير أنّ لينترَي قد تلقّت قولَه هذا على محمل الجد، فشعر داميان بالحرج. فما دام القتال مستمرًّا، فلا يدري متى يعود إلى إستاريكا، وإن عاد، فليس في نيّته أصلًا أن يذهب للقائها.
ثم إنّ هذه الصلة بينهما لا يدري كم تدوم، فهي واهية تنقطع إذا كفّ أحدهما عن إرسال الجواب، فضلًا عن أنّ كلًّا منهما يجهل ملامح الآخر واسمه.
وإذ فكّر في الأمر، وجد أنه لا يعرف عن لينترَي إلا النزر القليل: سنّها 21 عامًا، فقدت أمّها، تعيش في إيدنفالن مع أبيها، وربما مع خادمة واحدة، وتقتني كلبًا، ولا صديقة لها سوى رجل يدعى غرين… وهذا كلّ ما هناك.
أما لينترَي فلا بد أنها تعرف عنه أقلّ مما يعرف هو عنها، إذ لم يُبادر يومًا بالحديث عن نفسه، وحتى إذا ذكرت هي شيئًا عن أهله، لم يُطِل الكلام.
وكان داميان يرى أنّه ما دام هذا الرباط قابلًا للانقطاع في أي لحظة، فلا حاجة إلى أن يفيض بذكر تفاصيل حياته، كما أنّ المرء يسهل أن ينسى شخصًا لا يعرف عنه شيئًا يُذكر، فيزول عبء حضوره عن خاطره.
‘على كل حال، إنما نفعل هذا لأن كلًّا منّا يبحث عن ذريعة ليهدر وقته، فإذا شُغل أحدُنا، نسي أمر الرسائل تمامًا.’
لوّح داميان بالرسالة بين أصابعه.
‘لا سيما أنّ المرأة إذا تزوجت أو نحو ذلك، انقطعت صلتها برجل غريب لا يُوثق بنسبه مثلي.’
وبينما هو في هذه الخواطر، أخذ يومئ برأسه منفردًا، ثم فجأة توقّف.
التعليقات لهذا الفصل " 9"