فلما سكن عنه الروع، أطرق إلى المنديل محدّقًا فيه بنظرةٍ شاردة، ثم طواه بتأنٍ وأودعه جيب صدره. وكان إلى جانبه بول، فمسح وجهه بكفّيه وأطلق زفرةً طويلة.
“هاه… لقد كان من حسن حظنا أن أُرسل إلينا المدد سريعًا قبل الشتاء، وإلا ظننت أننا سنفنى عن آخرنا.”
ثم مدّ يده وربّت على كتف داميان، ووجهه أشحب من القرطاس الأبيض:
“أُعزّيك في رجال فصيلك الذين طواهم الردى… لكن أحسن القيام على أمر المستجدّين.”
قال داميان:
“أعلم ذلك، فلا تقلق. فمثل هذا أمر مألوف.”
وإن كان فناء الفصائل أمرًا كثير الحدوث، غير أن النفس لا تسلم من أوجاعه. وكان منظر داميان آنذاك كمن يُهيّأ للنعش بلا غرابة.
فقال بول، يريد أن يصرفه إلى غير هذا الحديث:
“حسنا… أظن أنّ مراسلتك مستمرة على خير ما يرام، أليس كذلك؟”
فما إن سمع داميان قوله حتى تغيّر وجهه وأسرع يحشو الرسالتين في جيب سترته. فأحدق بول النظر فيه بطرف عينيه وقال في نفسه: ‘انظروا إلى هذا الفتى!’
“دع المجندين الجدد يرتاحون اليوم، وهيّئهم من غد ليكونوا على أُهبة الأستعداد.”
“حاضر.”
وهزّ داميان رأسه إقرارًا.
انصرف بول، ووجهه قد بدا عليه الوهن وإن لم يبلغ شحوب صاحبه، يلتمس عملًا آخر.
وكان بول قد أمر لهم بالراحة، غير أنّ حال الجبهة لم تدعهم إلى ذلك، فأمر داميانُ المستجدّين الذين وصلوا توًّا أن يباشروا حفر الخنادق متى فرغوا من تفريغ أمتعتهم.
وجلس على بُعد خطوات منهم، ففتح الرسالة الأخرى من لينتري، فإذا فيها:
[إلى الملازم ماكورد الحكيم،
ما خطرت لي فكرة تصوير الجِراء! لقد صدقتَ في قولك، فقد كان حريًّا بي أن أُخلّد لهم صورةً أو أكثر في حال صغرهم وبهائهم. لكن ويا للأسف، لما أخرجت آلة التصوير بعد حين طويل، وجدتها قد تعطّلت، فدفعتها إلى الإصلاح. قالوا إن الأمر يستغرق ثلاثة أيام تقريبًا، وأرجو ألّا تكون الجِراء قد كبرت في هذه المدّة حتى لا يُعرف شكلها. ليتهم لا يكبرون أبدًا!
ولما ذكرتَ الصور، خطر لي أن أسألك، إذا صلحت الآلة، أترغب أن أبعث إليك صورتي مع الجِراء؟ ألا يساورك الفضول لمعرفة ملامحي؟ إنني أجد في قولي هذا وقاحة، غير أنني طالما سمعت الناس يقولون إنني جميلة.
ومع أن قريتنا، إيدنفالن، صغيرة جدًّا، فلو سُئلوا عن أجمل نسائها، لكنتُ في المرتبة الثانية أو الثالثة على الأقل. وربما طمعتُ بالمقام الأول، غير أن من شيم السيدة التواضع، فأدع هذا الشرف لغيري من الحسناوات.]
وتوقف داميان عند موضع عرضت فيه لينتري أن تبعث له صورتها.
وبصراحة، كان في نفسه فضول لرؤية وجهها، وكاد أن يُومئ موافقةً لما قرأ.
فأدهشه أن تثير فيه هذه الرغبة، إذ لم يَمضِ على مراسلاتهما غير شهرين، ومع طول زمن وصول البريد، فإن ما تبادلاه من الحديث أقلّ. والآن لدية رغبة في اقتناء صورتها…
إن امتلاك صورة أحدٍ في وسط ساحات الحرب معناه الاتّكال عليها، وداميان لم يعُد يرغب أن يتّكل على أحد.
فبعد أن اعتمد على راعٍ بدا له في الظاهر كريمًا، فإذا به والده الخائن الملعون، غدا يوقن أنّ الاتكال على غيره خيانة للنفس.
فقال في نفسه: ‘أتراني أرغب في الاتكال على لينتري؟’
ثم تذكّر أنّه اليوم دفن وجهه في المنديل الذي أرسلته له، كما أن الرسالة الأخيرة منه كانت ترجوها أن ترشّها بالعطر.
‘لعلي قد أُصبت بالتعب أنا أيضًا.’
فمسح عينيه وهزّ رأسه.
وكان عليه بدلًا من إنكار حاجته إلى الراحة أن يعترف بأن حاله سيّئة.
قبل أيام قليلة، حين أُبيد فصيله كلّه وبقي هو، تمنى لو مات معهم. وكان قد بدأ يفتقد وجه تينانت المبتسم كلما خرج لإرسال رسالة إلى لينتري.
وكانت إصابة تينانت من النوع المسمّى “رمز السواد”، أي إصابة محقّقة الموت لا نفع في علاجها.
فأراحه داميان بيده بعد أن بُترت يده، ثم تولّى دفنه بنفسه.
موروها. بمعنى هو اللي قتله.
ولم يكن في معارك القتال وقتٌ ولا إمكانية لردّ الأجساد إلى مواطنها، فكانوا ينصبون على القبور المؤقتة شواهد خشبية، حتى إذا انقضت الحرب جاؤوا يستعيدونها.
ثم عاد داميان إلى الثكنة، وفي شبه ذهول كتب إلى لينتري رسالةً حافلةً بالهذيان.
‘لقد كان منظرًا مُزرِيًا.’
قالها وهو يبتسم في سخرية.
وأمسك بالمنديل المعطّر الذي أرسلته له، فاستعاد شيئًا من سكونه، لكنه وجد في ذلك مدعاةً للحنق على نفسه، فأخذ يفرك شعره.
وأخرج المنديل من جيب سترته الأمامي مرةً أخرى. وكان أبيض اللون، متين النسيج، في أطرافه زخارف من عرائش الورد، وفي إحدى زواياه اسم “ماكورد” مطرزًا بالخيوط.
وكان يأسف قليلًا لأنه ليس اسمه الحقيقي، لكنه مع ذلك أجمل وقعًا من لقبه السخيف “ستيرن”.
‘يا للغباء.’
هكذا قال في نفسه، ومع ذلك أعاد طيَّ المنديل وأودعه جيب صدره الأمامي، ثم عاد إلى قراءة الرسالة.
[في الحقيقة، إنني شديدة الفضول لمعرفة هيئة وجهك، أيها الملازم. ولكن ما دمتَ تستعمل اسمًا مستعارًا، فلا ريب أنك لن تُريني ملامحك. وإنه لأمر مؤسف، لكنني سأتجلّد وأصبر. مع ذلك… إن أرسلت إليَّ صورة فسوف يسعدني الأمر.]
وهذه المرّة، تطلب صورته هو. وفي هذه المسألة، لم يتردّد داميان لحظة في اتخاذ القرار.
لن يُعطيها صورة أبدًا؛ إذ إن الصورة، إن هي إلا وسيلة لتعلّق القلب، وهو لا يريد أن يُنشئ في نفسها مثل هذا التعلّق بجنديٍّ قد يلقى حتفه في أية ساعة.
ثم إن التي طلبت لم يكن يبدو عليها كبير الأمل، ولذلك لم يشعر بوخز الضمير.
[وعلمتُ أنك نشأت في دار للأيتام. وقد قلت إنك تكره الحديث عن شؤون الأسرة، فتساءلتُ أيّ قصّة وراء ذلك، ثم فهمتُ طرفًا من الملابسات. وكما ذكرتُ لك من قبل، فقد توفّيت والدتي. والحق أن لي تاريخًا عائليًا معقّدًا، لكن الخوض في حديث الأسرة أمر يورث الحرج لي ولك، فاختصرت الكلام.
ومع ذلك، كثيرًا ما أجد في نفسي رغبة في بثّ شكواي لشخص ما، وليس لي من يصلح لذلك. فهل يعتريك مثل هذا الحال أحيانًا؟ فإن كان، فإني أكون لك مستمعة حسنة الإصغاء. أنا دائمة الاستعداد لسماعك، فلا تتردد.
حقًا إن المراسلة أمر حسن! إني، أنا الذي قلّ أن أغادر إيدنفالن، أستطيع بهذه الرسائل أن أحادثك، وأنت الذي شاركت في حربٍ بأرض بعيدة، فأعجب لذلك غاية العجب.
نعم، أنا ريفيةٌ بسيطٌ. لم أزر العاصمة في حياتي إلا عددًا يُحصى على أصابع اليد الواحدة، والبلدة التي عشت فيها قبل انتقالي إلى إيدنفالن كانت نائية بعيدة عن العاصمة. ولذا، يسرّني أن أحادثك، وأنت في بيئة تخالف بيئتي كل المخالفة. إنه لأمر مدهش.
وفوق ذلك، لسنا متباعدين كثيرًا في العمر، أليس كذلك؟ ومع ذلك، كم نحن مختلفان! وذلك يجعلني أوقن بأن الدنيا واسعة، والناس كثر. ولهذا السبب التمستُ المراسلة. فأخبرني، أيها الملازم، بما تعرف، وأريني عالمًا لم أعرفه قط، سواء كان جنةً أو جحيماً، لا أبالي. فأنا بطبعي شغوفة بمعرفة ما جهلته.”
18 سبتمبر 1878م.
-لينتري، كثيرة التساؤلات.]
أراد داميان أن يكتب ردّه في الحال، لكنه تذكّر أنه لا يجد ما يسند إليه الورقة، فأعاد الرسالة إلى جيبه. ثم دفن وجهه بين كفّيه، وهو يرقب الجنود المستجدّين ذوي البشرة الداكنة، يتصبّبون عرقًا وهم يحفرون الأرض.
‘أحقًّا أنتِ بحاجة لمعرفة هذا يا سيدة لينتري؟ إن في هذه الدنيا أمورًا لا حاجة للمرء أن يعلمها.’
—
[إلى السيدة لينتري، أعظم الناس جشعًا في العالم،
أنا أحمق… ألم أقل لكِ؟ إن الرجال في مثل سني كلهم حمقى، ولذلك بعثتُ إليكِ برسالة حمقاء. أستميحكِ عذرًا. لكن كما لم تكفّي عن مجالسة غرين، ولم تكفّي عن تبادل الرسائل معي، فاحتملي إذًا حماقتي.
لقد كنتُ في يوم إرسالي لتلك الرسالة في حالٍ سيّئة جدًّا. لم أكن ثملاً نعم، لكنني كنتُ في حالٍ تجعل من الخير لو كنتُ ثملًا. لم يكن بي أذى جسدي، إنما كان الأمر كله في النفس، وقد تعافيتُ الآن، وأنا بخير، فشكرًا لاهتمامك.
أما المنديل فقد بلغني، فما هو عطركِ هذا؟ إنني لست خبيرًا في العطور ولا أعرف أنواع الروائح، لكنه راق لي.
إن شَمَّ رائحة الزهر في قلب المعركة الشديدة أمر عسير حقًّا. وبالنسبة للمنديل، فلما بعثتِ به على عجل، أهو مما أعددتِه من قبل؟
مع أنه اسم مستعار، إلا أن اسمي مطرَّز عليه. ولو كنتِ سريعة اليد لأتممتِه في يوم واحد. لكن قماشه أصلب من قماش السيدات، ويبدو أنك طرَّزتِه بنفسك، ولهذا أسأل. ومع ذلك، فإني أخشى أن يزول عبيره، فلا أظن أنني سأستعمله قط، بل سأحتفظ به بعناية.
وأما وجهكِ، فإني لا أريد أن أراه. وأدري أن في هذا القول غاية الفظاظة، لكنني لم أجد سبيلًا ألطف أعبّر به عمّا أردت، فآسف لذلك.]
التعليقات لهذا الفصل " 6"