نقرَ داميان بطرف قلمه على سطح المكتب من بلا وعيٍ ، وهو يُقَلِّب في صدره ألفاظه التالية.
فانسابت من سنّ القلم قطرةُ حبرٍ أسود فوق الخشب، فحدّق فيها هنيهةً، ثم مسحها بطرف زِيّه العسكري.
وكان الحبرُ أطهرَ في نفسه من وحلِ أرض المعركة ودمها. فأخذ نفسًا عميقًا، ثم أرسله زفيرًا، وأقبل على الكتابة.
[في ساحة الحرب، تكون القضيّة ذريعة. أجل، إنّي أقاتل في صفّ الأمامي إيمانًا بحقّهم في الانفصال عن سلطان الإمبراطوريّة.
ولكنّ الحقّ أقول، لشخصٍ مثلي إنّما هي ذريعة لا غير. فما بيني وبينهم رحمٌ ولا عهد، ولم أكن يومًا من أهل الجندية المحترفين. فلو أني فررت من هذه الحرب، لما لامني أحد.
ومع ذلك، أرى أنّ من نذر نفسه لقضيةٍ ما، لا يليق به أن يُوجد في مكان كهذا. فلذلك أقاتل عن أولئك الذين يستحقون الحياة، لا عن نفسي. هذا كلُّ ما في الأمر.]
وكان في نفس داميان كلامٌ آخر، غير أنّه أمسك عن الإفصاح به.
ولم يكن في باله شأنُ تلقّي لينتري لكلماته؛ إنما كان همّه ألّا يظهر في صورة رجلٍ شقيٍّ انخرط في الجند إذ لم يجد ما يصنعه.
ثم استأنف داميان كتابة رسالته على ورقة أخرى:
[سيّدتي، إنّي أرى أن خيرَ ما تصنعين هو أن لا تدخلي في هذا الأمر. فلا تحدّثي نفسَكِ بالقتال، فإنّ الحرب سمٌّ في الروح. ولا أدري لِمَ بدأْتِ بمكاتبة الرسائل أصلًا، ولكنْ فلنكفّ عنها.]
ثم وقف عن الكتابة ومزّق الورقة التي كان يخطّها.
وأخرج ورقةً جديدة، وأخذ يكتب من جديد:
[إنّ أسباب الحرب متشابكة، ولكن إذا أُمعن النظر فيها، تبيّن أنّ غايتها إنما هي انقسامُ الصفّين واقتتالُهما، ثم تكرارُ الاقتتال. وما ذاك بعملٍ كريم.
سيّدتي، لا تُكثري من ذكر الحرب ولا الخوض في شأن القتال. فبذلك تعرّضين نفسكِ لشرّها، عيشي في موضعٍ آمنٍ هادئ.
في التاسع والعشرين من شهر أغسطس سنة 1878
-الملازم ماكورد،
أترى أنمتِ ملءَ جفنيكِ ليلةَ وردَكِ ردي الأخير؟]
——–
[إلى الملازم ماكورد، الذي يرى في نفسه الحُمْق:
أوّلًا، كنتُ أودّ جواب سؤالك، ولكنّي لا أفعل. فإنّي أستحي أن أبلغك بأن امرأةٌ قد سُلبَ منها النوم بسببك.
ونصيحتك عن غْرين كانت طريقةً جديدةً عليّ كلّ الجِدّة. فما كنتُ أظنّك تصفه بالحُمق، ولا أن تبالغ في الاهتمام بصداقاتي. ولكنْ مع خوفك ذاك، فإني حقًّا حريصة على ألّا أتورّط مع غلين. فالوشايات في هذا البلد تسبق الريح في عَدْوها، وما لي إلّا أن أكون حذرةً.
واعلم أنّا لم نكن قطُّ’على انفرادٍ’ معًا، فإنّي أحتفظ دائمًا بخادمة ترعاني. ومع ذلك، فإنّي أقرّ أنّ في قولك شيئًا من الحقّ، إذ إنّ الرجال في هذا السّنّ أغبياء. وغرين، هو كذلك حقًّا… نعم، هو رفيقٌ مرح، لكنّ مرحه ليس عفويا.]
قرأ داميان الكتاب وابتسم ابتسامة الظافر.
[في الحقيقة، إنّي… لم أكن أقضي الأوقات مع غلين إلّا حديثًا، ولهذا لشدة افتقادي لرفيقٍ من بني جنسي. فإنّك تعلم أنّ أشياء كثيرة لا أُسِرُّ بها إلى أصدقاء من الجنس الآخر، أليس كذلك؟ وغلين، وإن كان صديقًا حسنًا، لا يسدّ هذا الخَلاء. ووالدي، إذ هو بقية أهلي، يجعلني أستحي إذا احتجتُ إلى امرأةٍ راشدة. أتفهم ما أعنيه؟ إنّي أظنّك تفهم يا ملازم.]
“همم…”
وقف داميان يفكّر قليلًا. فقد أدرك مراد لينتري في ذهنه، غير أنّ قلبه لم يَجِد سبيلًا لمشاركته الشعور، إذ لم يكن له صديق.
[ولكن ربما لأننا لا نلتقي وجهًا لوجه يا ملازم… حتى وإن لم نكن من بني جنسٍ واحد، فإنّ في بثّ ما عندي لك ممّا لا أستطيع قوله له في غيره راحةً لي.
حسنًا، لقد وضعت تيمو اليوم خمسة جراء! وتيمو كلبتي، وهي ابنة عام، من سلالة كلاب الصيد، غير أنّها لم تخرج قطُّ إلى الصيد. وإنّ في منظر الجراء المغمضة العيون عجبًا!
وأحسبها ستزداد لطفًا بعد اليوم، فما قولك؟
بالمناسبة، أتحبّ الكلاب أم القطط يا ملازم؟ وكما لا يخفى عليك، فأنا من عشّاق الكلاب.
أرجو أن تُخبرني في جوابك.
في السادس من سبتمبر سنة 1878،
-من لينتري، التي زادت إخوةً كثيرين.]
وانقضت الرسالة بغير إشارة إلى سبب قتال داميان، وكان ذلك له راحةً، إذ لم يكن يثق من نفسه عند إطالة القول فيه.
[إلى السيدة لينتري، التي تتفهم قلقي،
سرّني أنّكِ وجدتِ فيَّ مَن تُسندين إليه خاطركِ كما لو كنتُ صديقةً لكِ.
لكن لا أملك أصدقاء من جنسكِ، ولا من الجنس الآخر، فأخشى قلّة فهمي لكِ. ولا تسأليني لِمَ ليس لي أصدقاء؛ فالأمر هكذا فحسب. ثم إني نشأت في دار أيتام، فإن كنتُ أعلم بأدوار أهل البيت، فإني أجهل كثيرًا من دقائقها. فاعذريني إن لم يتلاقَ فهمُنا.
وأنا أيضًا أؤثر الكلاب على القطط، إذ أجد بيني وبين الكلاب وُدًّا، وأمّا القطط فما أدركتُ يومًا ما في ضمائرها. ولأنّي ربّيت الكلاب العسكريّة في الثكنات، فقد ألفتها.
هل عندكِ آلة تصوير؟ فإن يكن، فإني أنصحكِ أن تلتقطي كلَّ يوم صورةً لجرائكِ. فإنّ لطف الحيوان يذوي سريعًا، وصور صباه تبقى ذكرى.
وقد بدأ البرد يشتدّ حتى احتاجت ريبي إلى المعاطف الغليظة، وأنا أتوجّس من سوء الحال على الجبهة.
فليس غريبًا أن يصرع الجنديَّ رصاصُ العدوّ، ولكنّ ظلمًا أن يصرعه البرد. وفي العام المنصرم قصرت المؤن، فاشتدّ علينا الشتاء، وآمل أن يكون هذا العام أهون.
فاحذر أنتِ أيضًا من نزلات البرد إذا أقبل الخريف.
في الثاني عشر من سبتمبر سنة 1878،
من الثكنات، الباردة أصلًا، الملازم ماكورد.]
————
بعد بضعة أيام، عاد داميان إلى الثكنات بعد معركة، وغدى يفتش في جنون بين الظروف والأوراق رسمية.
كان منظره مروعاً. فشعره ممرغ تماما بالدم والطين، وثيابه ممزقة،وقد تغلغلت رائحة البارود النفاذة في جسده.
[إلى السيدة لينتري.
أترشين العطر على رسالة واحدة فقط وتبخلين به عما يليها؟”
ألتمس منك حقاً رشه على الرسالة القادمة،
الملازم ماكورد.]
كانت رسالته هذه المرة قصيرة جدًا، لا تشبه أية رسالة أرسلها من قبل، فالحبر مبعثر في أرجائها وكلماتها المعوجة تدل على أنفعاله.
لكن داميان لم يعنِ بإصلاحها، بل أرسلها فورًا عبر البريد الدولي السريع، ومن ثم هوى على سريره قابضا على صدره كمن يختنق منفجراً في بكاء مر.
ذلك اليوم، كان هو الناجي الوحيد من بين رفاقه في الثكنة.
***
ورد ردّها بعد خمسة أيام فقط، إذ سارعت لينتري هي الأخرى بإرسال رسالتها عبر البريد السريع.
[“أيها الملازم ماكورد،
رسالتك الأخيرة أثارت قلقي؛ لم أعهدك ترسل إليّ خطابًا منفصلًا عن ردودك المعتادة. ما الأمر؟ أأنت مصاب؟
كتابتك المرتبكة وموضوعها الغريب يزيدان خوفي، وأكاد أجزم أن تلك النقطة في زاوية الورقة دم!
أما العطر، فقد غاب عن بالي، إذ ظننت أن نفحته لا تصمد أسبوعًا في الطريق. لكن إن كان يُسعدك، فسأنثره دائمًا. وقد رششته اليوم.
٢١ سبتمبر ١٨٧٨
— لينتري التي لا تكف عن القلق عليك.]
ولأن الرسالتين تم تبادلهما على عجل، تلقى داميان ردًا على الرسالة السابقة في نفس يوم أستلام هذه، والآن لديه ظرفان.
من بينها، كانت الرسالة التي وصلت عبر البريد السريع الدولي سميكة بشكل مميز. فتحها داميان بعينين واسعتين، ووجد داخل الظرف منديلًا مطويًا بعناية.
كانت رائحة المنديل تُشبه تمامًا رائحة الرسالة التي تلقاها أول مرة.
ارتعشت يداه وهو ينشر المنديل- وقد خبت رائحته بعض الشيء من طول المسير- غير أن بقاياها كانت كافية لملء قلبه.
لم يعرف اسم الزهرة التي تُعطّره، لكنها كانت الفاوانيا، بعبقها الدافئ المطمئن، تطرد – ولو برهة – نتن البارود الذي التصق بروحه..
وضع داميان المنديل على أنفه وأخذ يستنشق رائحته بعمق.
التعليقات لهذا الفصل " 5"