كان داميان يحفظ العنوان عن ظهر قلب، فقد تردّد في الرسائل بينه وبين لينتري شهوراً طوال حتى استقرّ في ذاكرته كالنقش على الحجر. غير أنّه مضت ثلاثة أشهر لم يكتب فيها جواباً على رسالتها. لقد كان العنوان مسطوراً أيضاً في آخر رسالة بعثتها إليه في شهر فبراير، ولكن ها هو الآن أواخر مارس… فهل تغيّر شيء في ما بين ذلك؟
نهض داميان من مقعد القطار وهو مثقل بهذه الهواجس.
“إيدنفالن! المحطّة التالية هي إيدنفالن!”
هكذا صاح موظف المحطّة بأعلى صوته، فألقى داميان نظرة على اللافتة التي كُتب عليها اسم البلدة ‘إيدِنفالن’، ثم نزل.
غشيه شعور غريب وهو يستوعب أنّه حقاً بلغ إيدنفالن.
لقد كان بول قد أعطاه تذكرة إلى عاصمة إيستاريكا المسماة نيهيرو، غير أنّه لم يتوجّه إلى هناك، بل غيّر القطار في إحدى المدن الوسطى حتى انتهى به الأمر إلى هذه البلدة الريفية. أي أنّه جاء من ليف رأساً إلى إيدِنفالن.
كان بوسعه أن يستقرّ أوّلاً في العاصمة، يتخذ مسكناً ويستريح أيّاماً، ثم يشدّ الرحال إلى إيدِنفالن، غير أنّ قلبه لم يطاوعه. كان يتوق أن يصل بأعجل ما يكون. وهكذا دخل البلدة… ولكن،
‘ألعلّهم يصدّونني إذ أطرق بابهم فجأة بلا إنذار؟’
انقبض صدره فجأة، وخفق قلبه بالقلق.
‘أتراني أبدو في هيئة رثّة؟ لقد أصلحت شعري منذ أيّام، فلا بأس. آه! ولكن ماذا أقول في أمر يدي؟ أكنتُ أحقّ أن أجيء بعد أن أهيّئ يداً صناعية؟…’
أوشك أن يعدل عن الأمر كلّه ويرجع إلى نيهيرو من حيث أتى، ولكن مجرّد التفكير أنّ لينتري قريبة منه جعله لا يطيق الصبر.
تضاءلت همّته الأولى، ومع ذلك أسرع الخطى وخرج من المحطّة.
وكانت البلدة، كما وُصف له، صغيرة متواضعة؛ المحطّة بسيطة أشدّ البساطة، والمنظر الخارجي لا يملأ العين إلا بالحقول الممتدّة.
وعند باب المحطّة وقفت عربة تجرّها الخيل تنتظر؛ فمثل هذا المكان ليس فيه ترام ولا مواصلات حديثة، والعربات وحدها هي الوسيلة.
لم يكن أمام داميان إلا أن يتقدّم إليها. وما إن اقترب حتى انتبه السائق الذي كان يغفو على مقعده، فاعتدل وسأله:
“إلى أين وجهتك يا سيدي؟”
تردّد داميان برهة ثم قال:
“أريد الذهاب إلى القصر القائم في شارع فيلبوسكا، الرقم أربعة عشر.”
قطّب السائق حاجبيه وقال:
“الرقم أربعة عشر في فيلبوسكا؟ ولماذا هنالك؟”
كان في سؤاله لهجة استغراب مريبة، كأنّه يلومه لمجرّد قصده ذلك المكان. فأجاب داميان بعد لحظة صمت:
“إنّما أذهب لأزور صديقاً.”
قال السائق:
“صديق؟ ومن هو؟”
ازدادت مضايقة داميان من هذا الرجل؛ فما شأنه بتفاصيل لا تخصّه؟ أليس يكفي أن يوصله حيث طلب؟ فقال ببرود:
“وهل يلزمني أن أبوح لك بكل ذلك؟ دعك من الأمر، وسأنتظر عربةً أخرى.”
وما كاد يدير ظهره حتى بادر السائق مهرولاً:
“لا، لا! لم أقصد الإساءة. إنّما أردتُ أن أعلم: أأنت ذاهب وأنت على دراية بما يجري هناك؟”
“ما الذي تعني؟”
هزّ السائق رأسه متنهّداً وقال:
“يبدو أنّك لا تعلم. الحق أنّه لا يسكن هناك أحد.”
“ماذا تقول؟”
“لقد شبّ حريق عظيم منذ مدّة وجيزة، فاحترق البيت عن آخره. وصاحب الدار قُتل مع إحدى الخادمات، وأمّا ابنته فقد أصيبت إصابة بالغة فنُقلت إلى مستشفى العاصمة.”
تجمّد وجه داميان كالحجر.
“… ماذا؟”
قال السائق:
“إنّي أرى من ردّك أنّك لا علم لك بالخبر.”
أجاب داميان وهو يهزّ رأسه بذهول:
“ومتى كان ذلك؟”
قال الرجل بعد تفكير:
“لعلّه منذ ثلاثة أسابيع، أو نحو ذلك.”
وكان ذلك في الوقت الذي كان داميان نفسه ما يزال في المستشفى يتعافى من جراحه. ظنّ أنّ انقطاع رسائل لينتري إنّما لأنّه هو منقطع في فراش المرض… بل كان قد طلب من بول أن يمحو أي رسالة ترد باسمه فلا تصله، فحسب أنّ ذلك السبب. ولكن أن يكون الأمر هكذا فجأة؟
شعر داميان وكأنّ الدم انسحب من عروقه. فسأل السائق بلهفة:
“قلت إنّ ابنة الدار نُقلت إلى مستشفى العاصمة! فـ… فما حالها؟! أهي بخير؟! أهي… السيدة لينتري؟”
قطّب الرجل جبينه وقال:
“ماذا؟ لينتري؟ عمّ تتكلّم؟”
“ها؟”
“أراك تقصد أنّ صديقتك تُدعى لينتري. ولكن لينتري لم تكن إلا خادمة في البيت، لا ابنة السيّد.”
“ماذا؟!”
“نعم، يبدو أنّك توهّمت الأمر. إن كنتَ تعني لينتري الخادمة، فقد ماتت.”
وقف عقل داميان مشلولاً؛ لم يستوعب دماغه الكلمة. ظلّ فمه فاغراً ثم تمتم:
“إذن… من كان صاحب القصر؟ من هو مالكه؟”
“هو البارون لويد بنبريك.”
قال داميان بدهشة مغفّلة:
“أوليس لينتري؟”
فأجابه السائق بازدراء:
“بل لينتري خادمة عندهم كما قلت لك.”
“فما اسم ابنة البارون إذن؟”
“اسمها سيرا بنبريك.”
وكان ذلك اسماً لم يسمعه داميان من قبل. ازداد وجهه شحوباً وهو يضغط رأسه بكفّه، بينما السائق يصف الوضع ببرود:
“الخلاصة أنّ من كان يسكن الدار ثلاثة: البارون لويد بنبريك، وابنته سيرا، وخادمة تُدعى لينتري. وقد نُقلت سيرا إلى مستشفى العاصمة، وأمّا الاثنان الآخران فقد قضي عليهما. هذا كلّ ما في الأمر.”
ازداد داميان حيرة واضطراباً. مع من كان يكاتب إذن؟ أمع سيرا ابنة البارون؟ أم مع الخادمة لينتري؟ هل كانت لينتري التي عرفها تكذب إذ نسبَتْ لنفسها مقاماً ليس لها. ولكن لِمَ؟
أسرع يقول باضطراب:
“على كلّ حال… هلا أخذتني إلى الدار نفسها؟ ينبغي أن أراها بعيني.”
قال السائق متردداً:
“إن كنتَ مصرّاً… فليكن.”
وانطلقت العربة تحمل داميان وقد انغمس في دوّامة من الأفكار. ‘لماذا؟ لِمَ الكذب؟ إن كانت سيرا هي صاحبة الرسائل، فلماذا سمّت نفسها باسم خادمتها؟ وإن كانت الخادمة هي صاحبة الرسائل، فلماذا ادّعت أنّها ابنة البارون؟’
“ها قد وصلنا.”
توقّفت العربة أمام أنقاض سوداء، بقايا القصر المحترق. نزل داميان شاخص البصر مشدوهاً.
“يا إلهي…”
لم يبقَ من القصر إلا الحطام؛ السقف منهار، والطابق الثاني أوشك على السقوط، والمنظر كلّه كجسد ميتٍ مُتفحّم.
تقدّم داميان بخطوات متردّدة نحو الدار. صاح السائق خلفه:
“انظر! لقد كانت الدار في مكان ناءٍ فلم يدرك أهل البلدة الحريق إلا متأخّرين، ولهذا لم يُسعفوا بشيء… هيه! إيّاك! المكان خطر!”
غير أنّ داميان دفع الباب المحطّم ودخل. كان الداخل خراباً لا يُعرف له معالم، فلا أثر للأثاث، ولا هيئة للغرف. وأمّا الطابق الثاني فكان أكثر تهالكاً، فلم يجرؤ على صعوده.
بعد أن دار دورة في الداخل خرج إلى السائق وهو واجم وسأله بصوت مبحوح:
“هنا… أليس ابن العمدة يُدعى غرين؟”
نظر إليه السائق باستغراب:
“غريب! تجهل أحوال البيت، ثم تعرف هذا؟ أتعرفه؟”
قال داميان:
“لا معرفة بيننا، لكن… هل أستطيع لقاءه؟”
فأجابه الرجل بهزّ رأس:
“ليس هنا. لقد ترك القرية منذ زمن ليتعلّم التجارة في مدينة الميناء.”
وذلك ما كان مذكوراً في رسائل لينتري نفسها. فجلس داميان يائساً كدمية مقطوعة الخيط.
غير أنّ عناده لم يتركه، فقال:
“فإذن، أيمكن أن ترشدني إلى العمدة نفسه؟ إنّه أعلم الناس بما يجري هنا.”
قال السائق:
“لعلّه في بيته… لا أدري. هلمّ، أصعد. أوصلك إليه.”
رمق داميان القصر المنهار نظرة أخيرة، ثم صعد العربة.
التعليقات لهذا الفصل " 17"