لقد مرّ حتى الآن بعدّة معارك، وكان قاب قوسين أو أدنى من الموت مراراً لا تُحصى، غير أنّه خرج منها سالماً بلا جرحٍ عظيم؛ وكان ذلك في حدّ ذاته معجزة. أمّا الآن، فقد استُنفدت تلك الحظوة.
لكن، إذا ما تفكّر مليّاً، لوجد أن هذا أيضاً ضربٌ من الحظ. فأن تنفجر قنبلة يدوية أمام عينيه، فلا يذهب منه سوى ذراعٍ واحد وتبقى حياته؟ إنّه ربحٌ صافٍ.
‘ليت القَدَر اختار يسراي، فأنا أيمنُ اليد، وكان الأمر أهون لو طارت اليسرى.’
وهو يُلقي تلك الخواطر بروحٍ باردة، راح يتحسّس جسده بيده اليسرى المرتجفة. لقد كان جسده كلّه ملفوفاً بالضماد حتى غمره إحساس بالشدّ والضغط تحت الثياب. ما من موضع إلا وفيه ألم، حتى إنّه لم يستطع تبيّن موضع الجراح بالضبط عدا ذراعه اليمنى.
وكان يحدّث نفسه: متى يأتي الطبيب ليشرح له حالته؟
وإذ به يسمع صخباً وركضاً، تلاه صوتٌ يهتف:
“داميان!”
وفُتح باب الغرفة فجأة، وإذا بـبول جيسكا يقتحم المكان، وخلفه رجلٌ بزيّ الأطباء الأبيض.
تطلّع داميان بوجهٍ شاحب كأنّه في حلم، ناظراً إلى بول، ثم صرف بصره إلى الطبيب. لم يكن يهمّه كثيراً قدوم بول، فقد كان شغله الشاغل حال بدنه. لكن بول لم يتركه لشأنه.
“داميان، أيها الوغد! لقد كنتُ أكتب إشعار وفاتك بنفسي، ثم وردني نداء من المستشفى، فكاد يغمى عليّ! بحق خالق السماء، كيف بقيتَ حياً هذه المرّة أيضاً؟! إن روحك هذه لها ألف حياة!”
كان صوته الجهوري يبعث الصداع في رأس داميان. ولما حاول أن يرفع يده اليمنى ليُشير له بفتورٍ أن يكفّ، لم يجد شيئاً تحت مرفقه. فابتسم ابتسامةً جافة وهو يرمق فراغ ذراعه المبتورة، ثم نظر بخجلٍ إلى بول.
تنفّس بول بعمق وقال:
“مهما يكن، فذلك أهون من الموت ذاته.”
“وأنا كذلك أرى الأمر كذلك.”
لم يكد ينطق بكلماتٍ يسيرة حتى آلمه حلقه. فأشار إلى الماء، فناوله بولذ القربة التي يحملها. وبينما كان داميان يرطّب حلقه، أخذ الطبيب يشرح حالته:
“لقد انفجرت القنبلة بجواره، فكان قاب قوسين من الموت، غير أن بعض اللاجئين العابرين اكتشفوه في آخر لحظة وحملوه إلى المستشفى. ظلّ أسبوعاً كاملاً فاقد الوعي.
أما هويّته، فقد عرفوها بفضل السلسلة العسكرية المعلّقة في عنقه، غير أنّ الإدارة العسكرية لجيش إستاريكا كانت مضطربة، فاستغرق تأكيد هويته أياماً.”
وخلال ذلك أجروا له عملية استئصال لربع كبده، ورتّقوا سائر جراحه. حاول الأطباء إنقاذ ذراعه اليمنى، لكن لا أمل فيها، فاضطروا إلى بترها.
سأل داميان بوجهٍ جامد:
“أفهم من هذا أنّ حياتي لم تعد في خطر داهم؟”
فأجاب الطبيب بوجهٍ متردّد:
“إن لم تتفاقم الجراح، فلعلّك تكون بخير. ولكن، والحقيقة تقال، جسدك الآن قد ينهار في أي لحظة.”
فقال داميان بابتسامةٍ واهنة:
“ما دمتُ حيّاً، فستتدبّر الأمور فيما بعد.”
غطّى بول وجهه بكفّه وهو يهزّ رأسه.
ثم سأل داميان:
“وهل ثمّة عاهات أخرى غير اليمنى؟”
قال الطبيب:
“لقد فقدت ربع كبدك، فعليك أن تحذر من المبالغة في الشراب.”
لم يكن الشراب من عاداته، فما بالى بذلك. غير أنّ فقدان يمناه غصّة مريرة، ومع ذلك فقد كان في الأمر نجاة.
قال بول:
“يا رجل! أتدري كم كانت سحنة رفاقك قاتمة؟ لقد كانوا على وشك تكوين فرقٍ للبحث عنك، ولم أفلح في تهدئتهم إلا بشقّ الأنفس. والآن، إذ علموا بنجاتك، فلا شك أنّ دموعهم تجري سيولاً.”
ضحك داميان ضحكةً قصيرة. لقد شعر بالأسف لإثقال قلب رفاقه، لكنه لم يكن بيده حيلة.
ثم تذكّر وقال:
“ألم تبلّغك الرقيب نيكول بما أوصيتها أن تبلّغ؟”
رفع بول حاجبيه وقال:
“وصية؟ لم يصلني شيء.”
فأطرق داميان قائلاً بين أسنانه:
“لقد طلبتُ تعزيزات، لكنّكم أعرضتم عن ندائي كأنّي لم أنطق. بلغهم عني هذا القول: (فلتشعر بالراحة الآن، أيها الوغد الحقير).”
وأردف:
“لقد كان ذلك رسالتي.”
ساد الصمت، إذ لم يجد بول عذراً يقوله، ثم قال بعد تنهيدة:
“لقد سبقونا، فقصفوا مدرجنا قبل أن نتحرّك. لعلّ خطّتنا انكشفت.”
“آه، نعم.”
كانت إجابته القصيرة تحمل شيئاً من السخرية. وأخذ ينظر إلى ذراعه المبتورة بنظرة غريبة، وهو يقول:
“يبدو أنّي لن أستطيع الإمساك بالبندقية مدّة من الزمن.”
أجاب بول بأسى:
“ولن تقدر على العودة إلى وحدتك كذلك.”
فقال داميان:
“إذن فاسمح لي بالتسريح، سيدي الملازم الأول.”
فأومأ بول بجدٍّ قائلاً:
“قد أُذن لك بالتسريح.”
—
حين استقرّت حالته، نُقل داميان من المستشفى المدني إلى المستشفى العسكري ليستكمل علاجه. ولما اعتاد شيئاً فشيئاً على فقدان ذراعه، وأصبح قادراً على الخروج لجلسات العلاج، زاره بول ثانية.
وكان معه شهادة تسريحه، وبعض أمتعته من المعسكر، وتذكرة قطار إلى إستاريكا.
ظلّ داميان يطيل النظر إلى شهادة التسريح. إنّ خروجه من الجيش بدا له أثقل وقْعاً من فقدانه ذراعه. بينما هو غارق في ذلك، أخرج بول أوراقاً أخرى وقال:
“سيصلك معاشٌ ثابت، خذ هذه الأوراق لتدوين حساب البنك وعنوان المراسلات.”
رفع داميان رأسه ببطء وقال:
“لكنني… لا بيت لي أعود إليه.”
“ماذا؟”
“لقد التحقتُ بالجيش فور خروجي من سكن المدرسة. وأنا الآن رجل، فلا أستطيع العودة إلى الميتم.”
فقال بول وهو يحكّ صدغيه:
“فلتكتب عنوان قصر آل جيسكا موقتاً.”
فتجهّم داميان بصرامة، وأبدى رفضاً قاطعاً أن يكون له صلة بالماركيز جيسكا. فاكتفى بول بابتسامةٍ مريرة.
قال داميان:
“هل يمكنني تقديم العنوان لاحقاً؟ لدي بعض المال، وحين أصل إستاريكا أستأجر غرفة في بيتٍ مشترك.”
“نعم، افعل ذلك.”
ناولوه قلماً للتوقيع، لكنّه تمتم:
“أنا أيمنُ اليد…”
فأدرك بول متأخراً ما يعنيه. حاول داميان التوقيع بيده اليسرى المرتجفة، فجاء خطّه أشبه بخطّ طفل.
تمتم:
“ما أشدّ ما يضيق صدري بفقدان اليمنى.”
حينئذٍ كتب بول شيئاً على ورقة وناولها له، فإذا هو بعنوان صانعٍ للأطراف الصناعية.
قال:
“إنّه أمهر من يصنع الأيدي والأرجل. يربط أعصاب الجذع بآلةٍ دقيقة فتتحرّك كما لو كانت يداً حقيقية. صحيح أنها باهظة الثمن، لكنها نافعة.”
فأجاب داميان:
“نعم…”
ثم طوى الورقة بعناية ووضعها في محفظته.
بعد أن أتمّا سائر الأوراق، مدّ بول يده قائلاً:
“مبارك تسريحك… لنلتقِ في إستاريكا حين تضع الحرب أوزارها.”
لم يكن داميان يرغب في رؤية آل جيسكا ثانية، لكنّه لم يكره بول. فصافحه مبتسماً وقال:
“ذلك حسن.”
شدّ بول على يده وقال:
“هل لديك ما تودّ فعله بعد التسريح؟”
فأطرق داميان قائلاً:
“ما أريد فعله… إنما هنالك شخص أودّ لقاءه.”
وحين نطقها، أشرق في عينيه بريق لم يُر فيه منذ دهر. وأردف:
“ينبغي أن أذهب للقائه.”
فارتسم في ذهنه صوتها الذي تردّد يوم كانت القنبلة توشك أن تفتك به:
«فلتنجُ بسلامٍ، وتعالَ إليّ.»
تذكّر داميان أنّه آنذاك لم يرد أن يموت. لم يعد حيّاً رغماً عنه فحسب، بل رغب في الحياة كي يلقاها.
التعليقات لهذا الفصل " 16"