كان داميان قد ضجر من أسئلة كيسي المتلاحقة، فاختلق عذرًا على عجل.
“المعذرة… بسببي لم تتمكنوا حتى من الاستمتاع بمشهد الألعاب النارية.”
ولمّا اعتذر داميان على نحو بدا فيه شيء من الكآبة، راح كيسي يتأمله من أعلى إلى أسفل، ورأى أنّ العرق البارد لم يُمحَ بعد عن محيّاه، فهزّ رأسه نافيًا.
“لا، إن كنت بخير، فحسبُنا ذلك. فلنعد إذن، فإن يوجين قد شغل قلبه القلق عليك كثيرًا.”
“أجل…”
تقدّم كيسي يمشي في المقدّمة، وتبعته ليليانا، غير أنها توقفت قليلًا والتفتت نحو داميان.
“لن تختفي ثانيةً، أليس كذلك؟”
كان وجهها وصوتها كالمعتاد، كأنّ ما جرى بينهما قبل قليل لم يكن. فأطرق داميان رأسه وأجاب:
“…أستميحك عذرًا.”
ولشدّة خشيتها أن يهرب ثانية، سارت ليليانا إلى جانبه. ومع ذلك كان قلب داميان مفعمًا بالضيق، فقد بدا له أنّ ليليانا أساءت فهم شيء ما، ولم يعرف بأي سبيل يبدّد ذلك الالتباس.
ثم عادت إلى ذهنه كلمتها قبل قليل…
‘لقد… بسببك لم أعد أتساءل عن مَن كنتُ أحبّه فيما مضى.’
ما عسى أن يكون المراد من هذه الكلمات؟ لقد كان يتوق إلى الوقوف على معناها الدقيق.
وفيما هو غارق في أفكاره، كانوا قد بلغوا إلى الفيلا، حيث استقبلهم يوجين، وقد سبقهم بالعودة.
“داميان، هل أنت بخير؟ أتشعر بتحسّن الآن؟”
كان داميان مُثقلًا بالحرج، لا سيّما تجاه يوجين الذي بدا أشدّ الناس قلقًا عليه.
“حقًّا آسف، لقد حرمتكم بسببي من متعة الألعاب النارية.”
“كلا يا داميان، لا تقل ذلك. إن كنت قد تعافيت فهذا يكفينا. أما الألعاب النارية فسنراها مرة أخرى، ولا شك أنّ لنا في الغد أو في مستقبل الأيام فرصة أخرى.”
قال يوجين هذا مبتسمًا ابتسامة ودودة، مواسيًا داميان بدل أن يلومه، وذلك ما زاد من إحساس داميان بالبؤس.
ألقى داميان نظرة على الأطعمة الباردة وقد بَطُلت شهوتها، وزفر متحسرًا. بيد أن أحدًا لم يلتفت إلى ذلك، بل راحوا يقودونه إلى داخل الفيلا.
“داميان، عليك أن تستلقي.”
“أجل، إن غفوت قليلًا ونهضت بعدها ستشعر بتحسّن. لا تهتم بترتيب المكان، نحن نتولاه، أمّا أنت فاذهب لترتاح.”
قاد كيسي ويوجين داميان إلى غرفته.
“لا، إنني…”
حاول داميان أن يثنيهم، لكنهم لم يتركوه لحاله. حتى ليليانا دفعت ظهره برفق قائلة:
“بقاؤك تتجول يزيد همّنا. استلقِ على السرير فقط، يا داميان.”
كان الأمر يثقله حتى كاد يختنق من الضيق. وما كان يخطر بباله إلا أنه “لقد فسدت النزهة!”، فقد كان يجب أن تنتهي بخير وسرور، لكن بسبب اضطرابه لم تنعم ليليانا ولا الآخران برؤية الألعاب النارية التي كانوا يتطلعون إليها. وظلّ هذا يجلده بالذنب.
وحين رآه الجمع يدخل إلى الغرفة في الطابق الثاني، أوصوه بصرامة:
“نم نومًا عميقًا، هل تفهم؟”
فأجابهم داميان وهو متجهم الملامح غير راضٍ: “حسنًا.” فألقى كيسي ويوجين عليه تحية قصيرة، وانسحبا إلى الأسفل.
أراد داميان إغلاق الباب، فإذا بليليانا واقفة وذراعاها متشابكتان تسأله:
“حقًّا ستنام، أليس كذلك؟”
ولم يشأ أن يكذب، إذ كان في نيته أن يضطجع على السرير وإن لم يغمض له جفن. فأجاب:
“نعم.”
“والألم الوهمي… أزال يزورك؟”
كانت قد شهدت مرارًا كيف ترافق الهلاوس نوبات فزعه، فتغشاه آلام وهمية في ذراعه الاصطناعية. سألت بقلق، لكن هذه المرة لم يأتِ الألم.
رفع داميان قبضته المعدنية يحركها أمامها.
“إنني بخير.”
قالت وقد تنفست الصعداء: “الحمد لله. إذن استرح.”
دارت لتغادر، وفي تلك اللحظة كاد داميان، من غير وعي، أن يمدّ يده إليها. لكن ذراعه الآلية لم تسعفه، فبقيت تتلمس الهواء.
كان في صدره من الكلام ما لا يُحصى، لكنه عجز عن إخراجه، فلم يستطع أن يمسك بها.
—
انتبه داميان من غفوته القصيرة، فجلس يفرك عينيه. السماء قد أضاءت بخيوط الفجر، وعصافير الصباح تزقزق قريبًا.
لم يكن وقتًا مناسبًا لتهيئة الإفطار، لكنه لم يشأ العودة إلى السرير. عيناه محمرتان متورمتان، إذ لم يذق النوم طول الليل، شاغلًا باله كيف سيلقى ليليانا صباحًا.
غسل وجهه في المغسل، فأحسّ أنّ سحابة الغشاوة تنقشع عن بصره وعن عقله. عندها عاودته الحيرة التي أرقته طوال الليل: ما معنى قول ليليانا أمس؟
‘بفضلك لم أعد أتساءل عن مَن كنت أحبّ.’
أعجزه ذلك عن الفهم. هل أرادت أنّها لم تعد تبالي بالرجل الغامض الذي كانت تبحث عنه؟ فإن كان كذلك فهو أمر سار. ولكن، كيف يكون ذلك بسببه هو؟
رفع رأسه فجأة.
‘ألعلّ ليليانا تفكر بي؟’
ثم هزّه الشك، فطأطأ رأسه وعرك شعره بأصابعه.
‘لا، لعلّها تعني أمرًا آخر…’
ظلّ هذا السؤال يعذبه الليل بطوله. لكن التعب والإرهاق النفسي حالا دون أن يصل إلى جواب. وما لبث أن استبعد فكرة أن ليليانا قد تحبه، إذ كان يرى نفسه رجلًا ممّلًا، لا مزية فيه غير وجه مقبول. ولم يرَ منها من قبل تعاملًا يتجاوز حدود الصداقة.
لكن سلوكها بالأمس كان مختلفًا… حين غشيه الهلع، كان ثمة وسائل شتى لإعادته إلى وعيه: كأن يُرشّ عليه الماء، كما يفعل آشر. وليليانا قد شهدت ذلك مرارًا. فلماذا اختارت فعل ذلك بالذات؟ ألزمها ذلك؟ حقًّا؟
‘لا أستوعب ما يعنيه ذلك.’
كان كلما أدار فكره ازداد حيرته. هو نفسه أراد أن يكون بقربها، أن يكون هو أقرب الناس إليها. لكن هل كانت تبادله الشعور؟ لم يدرِ.
زاد الأمر عليه عسرًا، إذ لم يكن بارعًا في قراءة القلوب، لا في غيره ولا حتى في نفسه.
‘إلامَ تسعى ليليانا بيني وبينها؟’
إنها قد قبّلت خده، لكن بعد ذلك تظاهرت وكأن شيئًا لم يقع. بل حين عادوا إلى الفيلا ليلة أمس، قابلته لبرهة وجهًا غير اعتيادي، ثم ما لبثت أن تصرّفت كالمألوف.
صحيح أن قبلة واحدة لا توجب انقلابًا جذريًا، لكنها أيضًا لا يمكن محوها وكأنها لم تكن. أفلا تُعدّ هذه خيانة لما جرى؟
فأيّ حق لها أن تتجاهل الأمر وتعود به إلى دائرة الصداقة والعمل؟ وهي التي بادرت بالخطوة أولًا، أما هو فقد باغتته بلا استعداد.
أيجوز لها أن تتنصّل هكذا؟
ثار في قلبه الغضب، لكن ما لبث أن برد إذ تذكّر ملامحها.
‘كلما نظرتُ إليك، صرتَ ترسم على وجهك ذات النظرة التي كنت ترسمها حين تحدّثني عن “السيدة لينتري”…’
قالت ذلك وهي تحمل وجهًا تملؤه الحيرة والأسى. وقد أنكر داميان ذلك بملء فمه، لكنه لم يستطع أن يوضّح الأمر كما يجب.
وبدا أنّ ليليانا لم تُصدق نفيه. لذا شعر أنّها تريد دفن ما جرى لئلا تتفاقم تلك الغمامة التي تحجب الفهم بينهما.
التعليقات لهذا الفصل " 159"