الآن إذ أسترجع الأمر، أجد أنّه لم يكن مجرّد صلابةٍ أمام سوء الطالع.
لو كان الحظ إنسانا، لقال: لقد سكبتُ على داميان من خيري مرارت لا تُحصى، ومع ذلك فهو متشائم يائس، فجديرٌ أن يُوبّخ ويُلام.
حتى بول نفسه، لمّا ضاق به ذرعاً، تجنّب مجالسته شهراً بأكمله، وكان يناديه: أحمق! مجنون!
وإذا بالرصاص يُدوّي أقرب من ذي قبل. فانطلق داميان يعدو، ولكن أصوات البنادق ما فتئت تقترب، وساقاه يثقلان كالرصاص.
طاخ!
انفلتت رصاصة فمرّت بمحاذاة أذنه اليسرى، لم تُصِبه مباشرة، غير أنّه أحسّ بحرارةٍ في أذنه كأنّها قد لُسِعت. فمسح موضعها بيده اليسرى على عجل، وهو ما يزال يعدو، وخطر له خاطر:
‘هكذا أموت.’
كلمة “الموت” ارتسمت في ذهنه ارتسام الطعنة، فاضطرب قلبه وجعل يخفق كالمجنون. لو انحرفت الرصاصة قيد شعرة إلى اليمين لتهشّم رأسه في الحال. لقد نجا بالحظ لا غير. ولكن إلى متى يدوم هذا الحظ؟
الرصاص يطارده من ورائه، وهو يركض مبتعداً، ولكن لا إلى حيث يتمركز رفاقه، بل إلى الجهة الأخرى. وحده يفرّ، وهم هناك كتيبة كاملة، حتى لو حاول التخفي فلن يسلم من انكشاف. وذراعه اليمنى التي جُرحت جرحاً بالغاً لا تُطيق قبض السلاح.
‘أهذه هي الضربة القاضية؟’
ابتسم داميان ابتسامة يابسة، لا يدري لِمَ خرجت من شفتيه، خرجت فحسب. غير أنّها لم تحمل الحمل عن صدره.
‘هذه المرّة، الموت حقّاً قريب.’
كم سمّى ميدان الحرب وادي الهلاك! فما العجب أن يهلك فيه؟
‘أهكذا إذاً ألقى حتفي؟ في آخر هذه الحرب، في آخر معركتي؟ ما كان أشجعه أن يرى بعينه ما في نهاية المطاف… لكن، وهل بقي لي واجب أؤدّيه؟ وهل كانت نفسي عزيزة عليّ حتى أجزع لفقدها؟ فلا ضير إذن…’
ثم هزّ رأسه نافياً.
‘لا ضير، نعم… ولكن لا يعني ذلك أنّي أبتغي الموت. عليّ أن أجري أكثر، وأن أحتال لأنجو. لعلّي، إن نلت مهلةً ألتقط فيها أنفاسي، أجد في الفكر مخرجاً للحياة…’
لكن الدماء التي سالت منه أفقدته صفاء الذهن، فتطايرت أفكاره كقطعٍ مبعثرة. وبينما هو يحاول أن يردّ نفسه إلى تركيز، إذا بصوتٍ يخترق الهواء. لم يكن صفيراً سريعاً كالرصاصة، بل أبطأ منها، وأثقل.
التفت داميان بسرعة، فإذا بعينيه تُبصران جسماً مقبلاً نحوه. بدا له المشهد بطيئاً كأنّ الزمن تمهّل، حتى استطاع أن يتبيّن صورته بوضوح.
إنه قنبلة يدوية! كانت تتقدّم نحوه بسرعةٍ أعظم من جريه، أسرع بكثير.
‘أما هذه، فلا مهرب منها.’
حين خطر له الموت أوّل مرة، اضطرب قلبه كالمسعور. أمّا الآن، وقد جاء الخطر ماثلاً، نظر إلى القنبلة بعينٍ هادئة. لقد تعوّد أن يواجه أقسى اللحظات وفيه بقايا من زهدٍ يُتيح له أن يحكم العقل. غير أنّ هذه المرّة لا ينفع عقل ولا تدبير.
‘لا مهرب. إن لم يكن مهرب، فالموت إذن… ليس ذلك بأمرٍ لم أتوقّعه…’
هنالك خُيّل إليه أنّه سمع صوتاً لم يكن ينبغي أن يُسمَع:
“إن متَّ في الميدان، فسوف أبكيك بصدقٍ، وأصرخ نادبةً إياك.”
كلماتٌ قالها له أحدهم يوماً، أو هكذا يظن. صوتٌ مجهول، لكنه الصوت الذي طالما تخيّله.
ارتجفت شفتاه وتمتم:
“لينتـ… ـري…”
ثم عاد الصوت يهمس:
“فلتعد إليَّ بسلام، لألقاك حيّاً.”
‘…لا أريد أن أموت.’
هكذا قال قلبه بغير وعي، وما إن تردّد في ضميره هذا الاعتراف، حتى دوّى انفجار هائل، وغشيه ظلام مطبق.
—
أحسّ بنورٍ يتسرّب من بين جفونه. أراد أن يستسلم للنوم ثانية، لكن الألم هاج في جسده فجأة، فانتزع وعيه انتزاعاً، وفتح عينيه وهو يئنّ:
“آااه…”
خرج صوته مبحوحاً، وذاق في حلقه طعم الحديد. كان الوجع يعصف بأوصاله حتى تمنّى لو عاد إلى غيبوبته.
أخذ يلهث، وجعل يرفّ جفنيه. شيئاً فشيئاً انقشع الضباب عن بصره، فإذا هو يرى ما حوله.
أوّل ما وقع عليه نظره: نافذة قبالته، تنفذ منها أشعة الشمس. يبدو أنّها ساعة الظهيرة. ثم التفت فرأى جدراناً بيضاء ناصعة، وإلى جانبه سريران خاليان مصطفّان. وكان في الجو رائحة الدواء والكحول.
‘مستشفى…؟’
لم يفهم لمَ هو هنا. حاول أن يستعيد آخر ما وعاه: غابة… دخان كثيف… ركضٌ حتى تمزّقت رئتاه… ثم قنبلة… وظنَّ أن نهايته قد حانت.
‘فهل متُّ؟ لا، المكان لا يشبه عالَم الموت. بل هو من دنيا الأحياء.’
‘إن كان هذا مشفى فلا بدّ أن فيه جرساً يُستدعى به الأطبّاء…’
دار بعينيه يبحث، فلم يره. لعلّه عند الوسادة.
حاول أن يرفع يمينه، فلم يُطعْه الجسد. فمدّ يده الأخرى، واستند على مرفقه حتى جلس نصف جلوس، ثم مدّ يده اليمنى يتحسّس بحثاً عن الجرس…
“ماذا…!”
شهق فجأة، وتقلّبت عيناه في ارتجاف. كمّ قميصه الأيمن كان يتدلّى فارغاً، يتأرجح في الهواء. مدّ يده المرتعشة وأمسك الكمّ، فتحسّس القماش، لكن لم يجد ما يملؤه. بسرعة جَرَّ القماش إلى أعلى، فإذا بذراعه قد بُترت من أسفل الكتف!
فغر فاه، ثم أغلقه، وأخذ ينظر حوله كالمذهول، كأنّ ذراعه قد سقطت في مكانٍ ما قريب! غير أنّ المكان خالٍ. ومع ذلك حاول أن ينهض يبحث، لكن قواه خانته، فتدحرج من السرير إلى الأرض بضجّة.
“آه…”
ألمٌ جديد اخترق كيانه، فقد كان جسده أصلاً يشتعل بالوجع، فإذا بالارتطام يزيده عذاباً. وبينما هو يتلوّى متأوّهاً، سمع وقع خطوات، وإذا بالباب يُفتح.
“يا إلهي! المريض!”
دخلت مسرعةٌ ممرّضة، وأسرعت تسنده حتى أعادته إلى فراشه. قالت بلطف:
“هل أفقت؟ استرح، لا تتحرّك.”
استلقى داميان واهناً، وسعل سُعالاً جافّاً ثم سأل بصوتٍ متقطّع:
“أين… أنا؟”
فأجابته:
“إنّك في مستشفى.”
كان يعلم ذلك، لكن ما لم يفهمه: كيف نُقل من ساحة المعركة إلى هنا؟ فقد كان القتال في موضعٍ ناءٍ لا يعمره الناس.
وبينما يتردّد في نفسه السؤال، أخذت الممرضة ترتّب القوارير المعلّقة بأنابيب في ذراعه، ثم قالت:
“سيأتي الطبيب بعد قليل ويشرح لك الأمر.”
قال بلهفة:
“ولكن…”
وكانت رغبته في أن يعرف مصيره أشدّ من أن يصبر. فلما رأته الممرضة متوتّراً، مدت يدها وربّتت على يده قائلة:
“لا بأس، اصبر قليلاً.”
ثم أسرعت خارج الغرفة.
ألقى نظرةً شاردة إلى الباب، ثم إلى ذراعه المبتورة، وتنهد قائلاً:
“هاه…”
حرّك كتفه الأيمن مرات، وحاول أن يثني ساعداً لم يعد موجوداً، فشعر بتنافرٍ في وعيه، إذ يأمر عقله عضواً غائباً بالحركة فلا يرى له أثراً.
ثم أرخى ذراعه المقطوعة على الفراش وقال في نفسه:
‘إذا كان هذا هو ثمن الحياة… فهو رخيص.’
نعم، لقد كان حاله مضطرباً، ولكن لم يجزع كما يُظنّ. فالذراع المبتورة خيرٌ من الموت المحتوم.
—
فقرة المناقشة: بخصوص إن أول شي خطر بباله لما جا يموت هو لينتري؟ كيااااااه
التعليقات لهذا الفصل " 15"