جثا داميان على ركبتيه والتقط غصن شجرة كان ملقى إلى جانبه، ثم أخذ يرسم به على تراب الأرض.
“أولاً، نطلق ما تبقّى من قنابل الدخان في هذا الاتجاه. ثم تلوذون أنتم بالفرار عكسه، مُدبِرين والدخان وراء ظهوركم.”
ورسم داميان سهاماً متتابعة نحو الشمال، مشيراً إلى مسلك هربٍ عبر الوادي. عندها هزّ فيك رأسه نافياً.
“لكن الدخان لا يلبث طويلاً. أخشى أن لا نتمكّن من مغادرة هذا الوادي قبل أن ينقشع. ثم سواء اتجهنا شمالاً أو جنوباً فسنُضطر لعبور الوادي، وذلك يعرضنا للعيان أمام العدو.”
رفع داميان إصبعه قاطعاً حديثه.
“العدو سيظن أننا سننسحب تحت غطاء الدخان، فيتبعون الجهة التي تتصاعد منها السحابة. وإن لم يرونا فإنهم يدركون الوجهة.”
قال فيك متردداً: “صدقتَ، غير أنّ…”
فأردف داميان: “فحسبُ ذلك لا يكفي. هنا…”
ورسم علامات دخان في الجهة الجنوبية من الوادي، ثم قال:
“أما التقهقر فسيكون شمالاً. فالشمال متصل بالغابة، وإذا صمدتم قليلاً احتميتم بأشجارها وتوارَيتم فيها. وحين تلوذون بالانسحاب، سأفجّر الدخان بالجهة الأخرى فيتوهم العدو أننا نتراجع جنوباً. فيطاردون السراب.”
شدّ الجميع أنظارهم إلى صوته وحده.
“وإذا انصرف ذهنهم إلى الجنوب، فحتى لو انقشع دخان الشمال قبل أوانه فستكونون قد توغّلتم في الغابة، ولن يفطنوا لكم.”
فقال جيمي متعجباً وهو يميل برأسه:
“ولكن، إن فررنا نحن شمالاً، فمن الذي يفجّر الدخان في الجنوب؟”
فأشار داميان إلى نفسه بإبهامه، وملامحه باردة:
“أنا.”
حدّقوا به وعيونهم متسعة دهشة، غير أنه واصل كلامه:
“ما بقي من القنابل يكفي لإضاعة وقتٍ طويل.”
فصاح جيمي مضطرباً وقد وثب واقفاً ولوّح بيده نافياً:
“لا! لا يا سيدي الملازم! هذا لا يكون! إن نحن فررنا فلن تستطيع أنت النجاة!”
وأضافت نيكول بصوتٍ غلبه الانفعال:
“حقاً! ما الذي تنوي فعله بنفسك يا سيدي؟”
وأخذ بعضهم يهزّ رأسه رفضاً. فحكّ داميان ذقنه بحرج وقال:
“هممم… قد يكون الأمر كذلك، لكن لا أجد من يُستعمل طُعماً غيري. وأنا من يتولى أمر الفصيل، فمن واجبي أن أُخلي سبيلكم بمسؤوليتي.”
فاحتجّ جيمي: “لا نعني أنك لا تتحمل المسؤولية! إنما نلتمس طريقاً ننجو به جميعاً!”
“أما أنا، فما خطر لي سبيلٌ آخر. فهل عندكم أنتم حلٌّ أوفى؟”
فأُسقط في أيديهم، وخيّم الصمت. عندها زفر زفرةً خفيفة، ونهض من جلسته.
“أدرك قلقكم عليّ، لكن لعلّ خروجي منفرداً أيسر من تحرككم جماعة. فالأنظار تنجذب إلى الجمع أكثر من الواحد. ثم إني اعتدت أن أتشاغل وحدي حتى نلت أوسمة على ذلك… وما زلت أملك من الحظ ما يكفيني.”
فقال بعضهم محتجّاً: “لكن هذا انتحار! حتى وإن كنتَ أنت، يا سيدي الملازم، فهذا…!”
أهو إدراكٌ صريح أم إصرار على المطاردة؟ لم يعلم، لكن كل رصاصة تحمل حقداً دفيناً.
فحدّث نفسه: ‘كيف أفلِت الآن؟’
تحصّن خلف صخرة يتفقد المحيط، فلم يجد مخرجاً. فما كان إلا أن تابع في مساره جنوباً. وما لبث أن دوّى الرصاص من جديد، فأصاب ذراعه اليمنى.
“أغغ!”
كظم صرخته وتشبّث واقفاً، وضغط على جرحه، فإذا الدم الحار يتدفّق. وما إن استشعره حتى اجتاحه ألم كالسياط. فعضّ ساعده الآخر كي لا يصرخ.
“آااه…”
واستخرج من خصره رباطاً، فشدّه أعلى موضع الإصابة ليوقف النزيف.
“تباً.”
إذ خسر ذراعه، لن يعود قادراً على حمل السلاح.
‘هذه المرّة، الخطر حقيقي.’
لقد كان حين افترق عن الفصيلة كمن يتجرّد من الإحساس، لا يوقن ما هو فيه. أما الآن، وقد أصيب، فقد اجتاحه شعور آخر، كأنّ الموت يحدق به. سال عرق بارد على جبينه، لا يشبه عرق الجهد.
‘آه… حتى حين كنتُ أنال الأوسمة على مغامراتي…’
ثم ابتسم بمرارة وقال في نفسه:
‘كان بقاء جسدي سالماً من الرأس إلى القدم محض معجزة.’
أي تهوّر ذاك! لم يكن يحق له أن يعدّ النجاة أمراً بديهياً. لقد كان يعرف أنه محظوظ، لكنه الآن أدرك كم كان حظه عظيماً.
التعليقات لهذا الفصل " 14"