فما إن صاح داميان وهو يطلق نيران التغطية، حتى اندفعت نيكول راكضة، لتجعل من الشجرة المقابلة ساتراً ثم ارتمت خلفها. أخذت نفساً قصيراً، ثم سحبت دبوس الأمان من القنبلة اليدوية، وقذفت بها بكل ما أوتيت من قوة نحو الجهة التي انطلقت منها الطلقات. دوّى الانفجار خلفها، فانطلقت من جديد تركض بمحاذاة الوادي.
وكان داميان يركض على مقربة منها، ومعهما سائر أفراد الفصيلة، كلٌّ منهم متفرق في موضع. غير أنّ الرصاص والقذائف قد غمرت الفضاء، والغابة الكثيفة حجبت الرؤية، فما عاد أحد يعرف أين موضع رفاقه، ولا ما الذي يصنعه.
فإذا بعدد من الجنود كانوا يسبقونهم في العدو، قد عادوا أدراجهم، فرأوا داميان ملقياً بجسده على الأرض يطلق النار، فدنا منه أحدهم وقال:
“سيدي الملازم! لقد بلغنا موضع المهمة فيما يظهر.”
“حسناً!”
لقد استدرجوا العدو إلى النقطة التي أرادوا استجلابه إليها. لم يبق إلا الانسحاب إلى منطقة الأمان.
“أطلقوا الدخان!”
فما إن أمر داميان حتى عاجل الجنود القريبون بإلقاء قنابل الدخان، فامتلأ الفضاء بسحابة كثيفة. عندها انطلق بقية الفصيلة يعدون باتجاه خط الأمان. لكن الرصاص لم يتوقف، فقد اخترق الغمام وسقط على غير هدى.
جرَّ داميان أحد رفاقه وقد أصابته رصاصة عمياء، حتى تدحرجا كلاهما إلى المنطقة الآمنة. ثم أسرع يعدُّ الوجوه بناظريه، فإذا بعض الرفاق لم يصلوا بعد.
“أخبرني بالحصيلة.”
فقال الرقيب فيناس بحدة:
“مفقود واحد، وأربعة شهداء. أمّا المصابون إصابات بليغة تُهدد الحياة فليس فينا منهم أحد، غير أن ستة أصبحوا غير قادرين على القتال.”
“أهون مما كنت أتخيل. إذن من يستطيع أن يقاتل ويواصل المسير ثمانية عشر رجلاً. ليس بالسوء.”
لقد كان الضرر يسيراً نسبةً إلى جسامة ما خاضوه. والعدو قد أُغري فدخل منطقة القتل، فما بقي إلا أن تُهال عليه القذائف.
تنفّس داميان زفرة ارتياح، فما أسرع أن جاءه الجندي المسؤول عن الاتصال، وقد ناوله جهاز اللاسلكي. التقطه على عجل وقال:
“هنا الفصيلة دلتا. نطلب استجابة القيادة. لقد دخلنا المنطقة الآمنة. نطلب القصف حسب الخطة.”
سكت الجهاز هنيهة، ثم جاء صوت خشن متقطع:
ــ “هنا القيادة. أهذا داميان؟”
ورغم التشويش، عرف داميان من نبرة الصوت مَن المتحدث.
“أجل، إنّه أنا أيها الرائد جيسيكا.”
فما كاد يجيب حتى سمع همهمة سباب، ثم تعالت صيحة بول بصوت مضطرب:
ــ “سحقا! داميان، انسحب من موضعك حالاً!”
“ما الأمر؟”
ــ “لا قصف! لقد فشل المخطط! ليس لدينا قاذفات لإرسالها إليك!”
قطّب داميان حاجبيه غير مصدق وقال:
“لا قصف؟! فماذا يكون مصيرنا إذن؟!”
“انسحبوا بجهدكم وحدكم.”
“هذا الوادي يسد علينا الممر شمالاً وجنوباً، ومن الشرق نهر عظيم يعترضنا. فإن لم يكن قصف، فلا منفذ لنا!”
“آسف أيها الملازم ستيرن. ما من سبيل. لكن إن التقيتم بالقيادة العامة، أمكن من بعد ذلك أن يتم التراجع بانتظام.”
“ومن أين الضمان أن نلتقي بالقيادة أصلاً؟! أرسلوا لنا على الأقل قوة دعماً!”
“وهل تظن القيادة تخوض قتالاً ميسوراً بعد أن فشل القصف؟ إرسال دعم غير ممكن. لا وسيلة عندنا لإخراجكم.”
صمت داميان، يعض شفته السفلى.
“هذا كل ما لدي. أستودعك الله، أيها الملازم.”
ثم انقطع الاتصال. فخفض داميان الجهاز عن يده، وغطّى عينيه بكفيه هامساً:
“كم توسلتُ أن يمدّونا برجال إضافيين….”
قال أحد الجنود متردداً: “سيدي الملازم، ما الخبر؟”
وكانوا قد أبصروا الغضب في عينيه وهو يكلم القيادة، فعلموا أن شيئاً قد فسد في الخطة، غير أنهم لم يدروا كنهه. فلما نطق قال:
“لا قصف. الخطة فشلت. القاذفات لن تأتي.”
“ماذا؟!”
فاغتّرت وجوه الجنود وتبدلت ألوانهم.
“فما الذي نصنع؟ هل لنا دعم آخر؟”
“لا دعم. يريدوننا أن ننسحب وحدنا حتى نصل إلى القيادة.”
“تبا…”
ساد الذهول، ثم بدأ الهمس يتصاعد:
“أيعقل هذا؟! أليس ذلك أمراً بالهلاك؟!”
“إذن فقد تخلّت عنا القيادة؟!”
“كيف يُعقل ألا قصف؟!”
جلس داميان غارقاً في التفكير، لا يلتفت إلى الجلبة من حوله.
‘كيف نخرج من هنا؟ الخروج من الوادي أولاً؟ لكن النهر يعترض، والجسر قد نُسف سلفاً. عبور الوادي مكشوف جداً، فننكشف للعدو… هل ثمة سبيل آخر؟’
لكن الضوضاء قطعت عليه فكره، فزمّ شفتيه. وإذا بـنيكول تصرخ في الجنود:
“اصمتوا!”
فخمدت الأصوات، وإن ظل في العيون ما يفيض بالكلام. عندها قال الرقيب فيك:
“هل لديك خطة يا سيدي؟”
مرّر داميان يده على جبهته وقال:
“ليست معدومة، ولكن كلها محفوفة بالخطر.”
ظلوا يرقبونه بعيون ملؤها رجاء، فهو الذي نجا مراراً من الموت، وحاز وسامين ورُقّي مرتين حتى صار ملازماً. من مثله إذن يقودهم من براثن الردى؟
فقال، متنهداً:
“أعترف أنّ ما ظفرتُ به من إنجازات كان بمفردي، أما أن أقود رجالاً فيُكتب لهم النجاة جميعاً، فذاك ما لا أزعم أني أجيده.”
فقال أحدهم: “لكن قلتَ إن لك خطة!”
قال: “نعم، لكنها تقتضي أن يتخلّف بعضنا. أما أن ينجو الجميع؟ فلا سبيل.”
ساد وجوم بارد. ثم رفع جندي يده وقال:
“فلِم لا نستسلم؟ أن نكون أسرى خير من أن نُباد عن آخرنا، فلعلنا نُطلق سراحنا يوماً.”
لكن داميان قاطعه بصرامة: “لا. الاستسلام غير وارد. قد يكون خيراً من الموت، لكنه ليس خيارنا.”
فاحتج آخر: “ولِمَ لا؟ جيشنا لا يقوى على قتال استنزاف طويل. فلنحتفظ على الأقل بأرواحنا!”
فقال داميان: “افعل إن شئت، إن كان عزمك صادقاً. لن أمنعك. ولكن الرجال وحدهم، أمّا النساء فلا.”
“ما معنى هذا؟!”
قال: “تأمل ما يُصيب النساء من الأسر. العدو الذي نقاتله اشتهر بالوحشية، فماذا تظن يفعل بالأسيرات؟”
فجمدت الوجوه، رجالاً ونساء. الجميع يعلم ما يلاقيه الأسرى من سوء معاملة، أما النساء فويل مضاعف، إذ يذقن من المهانة ما لا يُذيقه العدو للرجال.
فنظر داميان إلى نيكول قائلاً: “وما رأيكِ أنتِ؟”
فابتسمت بسخرية وقالت: “ها! لأن أقتل نفسي أحبّ إلي من أن أُساق أسيرة. ولكن من شاء الاستسلام فليفعل، فهي خياره.”
ثم أشارت تعدّ النساء: “إن استسلم الرجال، فمعنى ذلك أنّنا نحن النساء سنخترق صفوف العدو وحدنا. وهذا يعني أننا خمس فقط؟”
فقال داميان: “بل ست. فأنا معكن.”
فقال فيناس بخشونة: “وعندها نصبح نحن من يُوصم بأننا خُنّا رفاقنا وأسلمناهم.”
تردد داميان لحظة ثم قال: “إذن فلنلجأ إلى خطتي.”
فرفعت نيكول حاجبها وقالت: “ألست زعمت أنّه لا خطة؟”
قال: “قلتُ إني لا أعرف خطة تُنجي الجميع، أما أن نُنجي بعضنا، فذلك ممكن.”
التعليقات لهذا الفصل " 13"