ولكن ما لبث ذلك الألم أن زال كأن لم يكن. فحكّ داميان رأسه برهة، ثم عاد يقرأ الرسالة.
[إنْ أتى جنابُ الملازم إلى دارنا، أولمتُ له وليمةً عامرة، فله أن يتطلّع إلى ذلك. آه، ولا أرى بأسًا في أن أكون أنا الآتيةَ إليك. فما عليك إلا أن تقول، فأبتاع تذكرة القطار إلى ليت من ساعتي.
حرر في 22 تشرين الأول سنة 1878، لينترَي، المترقبةُ بفارغ الصبر يوم لقياك.]
—
“تبدو مسرورًا، يا جناب الملازم.”
“هاه؟”
رفع داميان رأسه عن الرسالة التي كان غارقًا فيها. وإذا ببعض الرقباء قد اتخذوا الوضع نفسه، مسندين خدودهم إلى أكفهم، محدقين فيه بعيون نصف مغمضة. فسألهم بوجه متحيّر:
“ماذا تعنون؟”
“أعني قراءتك للرسالة.”
فأدار داميان بصره بين رسالة لينتري وأفراد سريته، وقال:
“الأمر عادي فحسب…”
فلما قال ذلك، ضحكوا جميعًا ضحكة استخفاف كأنهم اتفقوا عليها.
“بهذا الوجه تقول إنه عادي؟”
مرّر داميان يده على وجهه بأطرف اصابعه، مظهرًا أنه لا يفقه مرادهم. فقال الرقيب بِيناس وهو يلوّح بيده:
“لقد عاد وجهك إلى حاله الآن، غير أنك منذ لحظات كنت تبتسم ابتسامة عريضة!”
“ابتسامة عريضة؟”
“نعم، وذلك وأنت تحدّق في الرسالة. وتزعم أنها ليست بخطيبتك، ومع ذلك تنظر إليها بعاطفة أشد مما أنظر أنا بها إلى زوجتي.”
“أنا أفعل ذلك؟”
وحين بدا على داميان أنه ما زال حائرًا، هزّ الجنود رؤوسهم جميعًا في آن واحد.
“نعم، أنتَ يا جناب الملازم!”
“لم يحدث هذا قط.”
“بل حدث!”
فإذا به أمام ستة شهود بأعينهم، يكذبون قوله ويؤكدون:
“ليتك تنظر إلينا كما تنظر إليها.”
“أما نحن فتعاملنا بصلابة، وهذا يجرح الشعور.”
“الملازم الذي معنا الآن غير الملازم الذي يكون وهو يقرأ رسائلها، كأنهما رجلان مختلفان.”
وأوشك داميان أن يشعر بالظلم، فإذا بهم يتهامسون فيما بينهم:
“ويقول ليست بخطيبته!”
“كلام فحسب، بل هي خطيبته لا ريب.”
“ما اسمها؟ آه، لا نعلم الاسم، لكن كنيتها لبنترَي؟”
ثم رمقوه بنظرات لامعة، ومدوا أيديهم مطالِبين:
“أمعك صورتها؟”
فأجابهم داميان بوجه متجهم:
“ليس معي.”
“حقًا؟”
“ليس معي.”
“ألست تكذب؟”
“لست أكذب، أقسم ما معي شيء. بل لا أعرف وجهها أصلًا.”
“وكيف لا تعرفه؟”
“إذ لم أرها قط، ولا حتى في صورة.”
“ماذا؟ ولم لم ترَ صورتها؟”
“إذ لم نتبادل الصور قط… ولا رغبة لي في ذلك.”
فعادوا يتهامسون:
“لا يبدو أنه يكذب.”
“تعبير وجهه صادق… أو هكذا يبدو.”
“كلا، فالملازم بارع في الكذب إذا شاء. إنه يتظاهر بالبراءة الآن.”
ثم انقطع همسهم، وسأله أحدهم:
“فما مهنتها إذن؟”
“لا أعلم.”
“ولِمَ لا تعلم؟”
“إذ لم أسألها.”
فعادت نظرات الريبة تحيط به:
“حقًا؟”
“ولِمَ لم تسأل؟”
“إذ لم أر داعيًا لذلك.”
فأطلق القوم آهات الاستغراب:
“عجبًا! أتحب امرأةً ولا تعرف عنها شيئًا؟ أحقًا تحبها؟”
“أما لديك فضول نحوها يا جناب الملازم؟”
“ليس أنني بلا فضول، ولكن…”
“ولكن ماذا؟”
“…”
وأدرك داميان أن أيًّا كان جوابه فلن يرضيهم، فآثر الصمت. وكيف يشرح لهم أنه لا رغبة له في خوض مشقة البحث عن تفاصيل إنسان لا يعدو أن يكون عابر سبيل، وأنه سيطويه النسيان متى انقطعت المراسلة، ولا يريد أن يكون عبئًا على قلبها؟
“ولكن ماذا؟ أكمل!”
“لِمَ تمسك لسانك؟”
فهزّت امرأة تدعى نيكول، وهي رقيب، رأسها وقالت لسائرهم:
“دعوه، فلن يفهمه أمثالنا أبدًا.”
لم يدرِ أكانت بذلك تدافع عنه أم تعيبه.
“حسنًا، سؤال أخير إن أذنتم؟”
فلما رفع أحدهم يده، أذن له داميان بالكلام.
“ما هو؟”
“أتحبها حقًا؟ أهو من طرف واحد، أم من الطرفين؟”
فأخذ التعب يثقل جفنيه، فدلكهما براحة يده وقال:
“أنتم… حتى طلاب الأكاديمية المتوسطة الذين يلحّون على أستاذهم أن يقصّ عليهم حكاية أول حبٍّ له، لا يتصرفون على هذا النحو.”
فقربت نيكول منه، واضعةً ذراعها على كتفه، متظاهرةً بالألفة، ثم قالت:
“لكن يا جناب الملازم، لعلّك لصِغَر سنك… أعني لشبابك… لا تدرك بعض الأمور.”
وكانت نيكول، على الرغم من رتبتها التي تلي رتبته، تكبره بعشر سنوات، إذ إن ترقيه إلى ملازم كان سريعًا على غير المألوف. ولم تكن نيكول وحدها كذلك، بل كان أصغر رقيب في السرية يبلغ من العمر تسعة عشر عامًا. وإذا رُتّبوا بحسب السن، لم يكن داميان إلا قبل الأخير، ومعظم جنوده أكبر منه سنًّا.
ولهذا كانوا، إذا انتفت القيود العسكرية، يعاملونه معاملة من يراه أصغر وألطف، والآن خاطبته نيكول بذلك الأسلوب:
“لا يوجد رجل يقضي هذا القدر من الوقت مع من لا يهتم بها.”
فارتجف قلب داميان عند سماع هذه العبارة، إذ كانت عينها هي العبارة التي قالها بنفسه للينترَي يوم تحدّثا عن غرين.
“أ… آه…؟”
وبينما هو مأخوذ بهذا الاكتشاف، ربتت نيكول على ظهره وانسحبت قائلة:
“على أية حال، لا تُكثِر من الإنكار، وحاول أن تحسن الأمر معها.”
ثم صفقّت بيديها وأعلنت لبقية السرية:
“هيا، كفى مزاحًا مع جناب الملازم، قبل أن يُقال إننا نتجاوز حدودنا. انصرفوا، انصرفوا!”
“آه… لقد كان الأمر ممتعًا.”
وتفرقوا على مضض، إذ خشوا أن يحملق فيهم داميان بنظرة باردة ثم يأمرهم بالحفر عقابًا.
أما هو، فكان غارقًا في أفكاره حتى لم يلحظ تفرقهم. ظل فمه نصف مفتوح، وعيناه معلقتان بالرسالة في يده.
‘أه…؟’
شعر كأن في رأسه من يرقص رقصة “التاب دانس” الصاخبة، فلا يستطيع وصل فكرة بأخرى.
‘آه…؟’
ووضع يده على جيبه الأيسر حيث يضع منديلاً دائمًا، فشعر بنبض قلبه يدق هناك.
‘أيمكن هذا؟’
فأخذ يهوّي بيده على وجهه من شدة الحرارة التي شعر بها، حتى إذا انتبه إلى أن الرسالة ما زالت في تلك اليد، فزع، وأسرع يحشرها في جيبه، كأنما يتستر على أمر خطير. ولم يكن لذلك الفعل أي معنى.
م. كيوت
‘لكنني لا أعرف اسمها الكامل ولا وجهها!’
وأمال رأسه يمينًا، متعجبًا من نفسه.
‘أنا؟’
كلما أمعن التفكير ازداد الأمر سخفًا. أيعقل أن تنشأ عاطفة نحو شخص لم ينوَ حتى أن يهتم به؟
“وهم، ليس إلا وهم.”
ولطم خديه بيديه لطمة خفيفة، وقال:
“إنها مجرد أوهام نيكول.”
ولم يشأ أن يقر بالأمر. وكان يعلم أن الاعتراف يعني بداية المتاعب. فهز رأسه عنادًا.
—
لم يستجمع داميان شجاعته ليفتح رسالة لينترَي من جديد إلا بعد ثلاثة أيام.
وكان ما تبقى من الرسالة ليس سوى حديث عابر عن شؤون يومية، فلما أتم قراءتها، هز رأسه وقال في نفسه:
‘ها قد قرأتها، ولا بأس.’
ولم يعد يشعر بذلك الخفقان الذي انتابه من قبل، فجلس ليكتب الرد بخفة خاطر. كعادته، كتب عن بعض الأخبار والأحاديث، فجاء رد لينترَي ضاحك النبرة، بهيجًا كصوتها المألوف في خياله، كما لو كان يخاطب صديقًا لا أكثر.
نعم، صديق… حتى لو كان عابر سبيل، فالصداقة ممكنة.
لكن المشكلة جاءت من حيث لم يتوقع:
“في هذه الأيام، غرين بعيد يتعلم شؤون القافلة التجارية، وليس لي من محاور سوى والدي والخدم… وأنت. لا أريد رسائل فحسب، أود أن نلتقي وجهًا لوجه ونتحادث، فلا بد أن يكون الأمر أكصر متعة.”
كانت لينترَي في كل رسالة تحاول تضييق المسافة بينهما، بينما هو يترك كلماتها تمر بلا جواب على تلك النقطة، كأنه يصدها بلطف. وربما وصلها قصده، فهذا تلميح منه بالابتعاد، سكتت عن الأمر، تمامًا كما فعلت يوم صدها في حديث العائلة.
لكن…
“إذا حدث أمر، فلتخبرني، أرجوك، فأنا أقلق عليك.”
إن كان لا يستطيع أن يسيطر حتى على قلبه، فكيف يسيطر على قلب غيره؟! مهما تجاهل وحاول أن يبقى في مكانه، كانت هي تمضي نحوه خطوة خطوة.
ومضت الرسائل حتى جاء آخر العام، وداميان في الخنادق، حين أدرك فجأة كم كان متردد القلب وهو يكتب ويستقبل تلك الرسائل.
التعليقات لهذا الفصل " 10"