وقف داميان ستيرن أمام رائده بول جيسكا، والذي كان يرمقة بنظرات خُيل له أن الشرر ينبعث منها.
أخذ بول يراقب عيني داميان الرماديتين التين تتدعيان الجهل مما أصابه بالصداع. أطلقَ تنهيدةً عميقة ثم فتح فاه:
“الملازم الأول داميان ستيرن.”
أجاب داميان بنبرةٍ مماثلة:
“نعم، سيدي.”
وكانت تلك الإجابة كفيلةً بأن تسلب ما تبقى من عقل بول.
“أنتَ! تعرف فعلتك جيداً! أيها الوغد الحقير!”
وأشار باتجاه داميان بإصبعه حنقاً:
“ملازمٌ مثلك يندفع بكل حماقة بمفرده إلى قلب المعركة؟!”
رد داميان بنبرة هادءة تنم على لا مبالاته سواءً أغضب بول أم لا:
“حكمت بأن ذلك أكثر كفاءة. إذا أحدثنا اضطراباً في صفوف العدو في عمق أراضيهم، فسنخلق فرصةً للهجوم. التحرك منفرداً سيكون أقل لفتاً لأنظار العدو، ولا حاجة للتضحية بآخرين في هذه المهمة. فأنا، ببساطة، الأكثر مهارةً بينهم جميعا.”
“وإذا طارت رأسك، فممن سيتلقى أفراد الفصيل الأوامر بعدها؟!”
“لا يهم من يشغل منصب قائد الفصيل غيري. فمنذ البداية ما كنت لأصل إلى رتبة ملازم أول وأتولى القيادة إلا لأن كل من كان فوقي قد قُتل. الأمر سيان. إذا مُتُّ، فسيحل أحدٌ آخر محلي.”
“ليس هذا المغزى من كلامي!”
“الأمر سيان. نحن في زمن حرب، والأرواح سواسيةٌ أمام الموت.”
تمنى بول لو يُخيط ذاك الفم الثرثار.
كان عليه أن يتحمل صداعه نتيجة أرتفاع ضغط دمه. حتى وهو يواجه قذائفَ على بعد بضع أذرع منه، كان متماسكاً، أما أمام داميان، فكان متفننا في إفقاده أعصابه.
مسح بول وجهه كمن يغسل وجهه، ثم ضبط تعابيره ونظر إلى داميان.
شعر بالأسف تجاه بول الذي لا ينكف عن معاملته كابن عمه، لكن سماع هذه الكلمات تحديدا لن يحرك فيه ساكناً.
” لا داعي أن يتدخل. ألن يكون هو أكثر من يشعر بالارتياح إن وصله نعشي؟”
“هاه…”
أطلق بول تنهيدةً عفويةٕ عميقةً.
منذ انضمامه لهذه الحرب، كان داميان هكذا دائماً. إن أردنا مدحه هو شجاع، وإن أردنا ذمه هو متهور.
لكن هل كان ذلك لأنه شجاع حقاً؟ كلا. كان داميان لا مباليا بنفسه، بل من الأصح القول أنه يُحقر دائما من شأنها.
فمنذ البداية، لم يكن له سببٌ للتطوع في حرب بلدٍ غريبٍ وهو ليس بجندي محترف.
لم يكن لداميان مبررٌ للمشاركة في هذه الحرب ويفترض بأمثاله أن يؤدوا دورهم باعتدال. لذا، كان إخلاصه المهني الحالي مبالغاً فيه حقإ.
لمعرفة سبب ذلك، يجب العودة إلى طفولته.
نشأ داميان ستيرن في دار أيتام.
سمع أن أمه تركتَه وهو لم يتعلم المشي بعد، بعد أن أطلقت عليه اسمه فقط. لم يعرف داميان الاسم الحقيقي لأمه، لكن لم يسبق له أن ظن أن ستيرن هو اسم عائلتها.
ستيرن هو اسم عائلة فارسٍ من حكاية خرافية قديمة.
فارس قصةٍ خرج في مغامرةٍ للعثور على أميرة اختفت بلا أثر. اسم عائلة قديمة جداً لم يعد مستخدماً اليوم، وانقطع نسلهم.
شعر داميان بالإحباط عندما علم ذلك. حيث أدرك أنه أمه لا تأبه به أبدا.
ثم، في سن الخامسة تقريباً، ابتسم الحظ له، وحصل على كفيلٍ طيب القلب. قال الراعي-وهو الماركيز جيسكا- إنه سيرعى داميان بالذات من بين العديد من أطفال الميتم.
بعد تحول مملكة إستاريكا إلى جمهورية، أصبحت الألقاب النبيلة مجرد بهرجة، لكن آل جيسكا كانوا عائلةً مهيبةً حكمت البلاد ذات يوم. وكان ذلك ساحراً جداً في عيني طفل صغير.
شعر داميان بأنه سيغدو مميزاً، بعد أن كان مجرد يتيم ألصقت به والدته أسم عائلة مبتذل.
إن كسب ود ماركيز جيسكا، فسيكون شخصاً ذا قيمة بالنسبة له-وذلك حقا يسره- لا مجرد لقيطٍ تركتْه أمه في دار الأيتام ظناً منها أنها لا تحتاج لطفل.
لذا، سعى داميان جاهداً لتلبية كل ما توقعه الماركيز منه.
لكن داميان لم يخطر على باله أن الماركيز هو والده الحقيقي.
لم يكن ماركيز جيسكا مجرد كفيل طيب القلب ولطيف.
لقد بحث عن داميان فقط لأنه سمع أن امرأةً -تدعي أنها أمه- تركتْه في دار الأيتام، وأزعجه ترك الأمر كما هو.
فقط كي لا يُسيء إلى “اسم النبلاء المزيف”. كي لا يُلوثه داميان، إذا أحدث مشاكلا مستقبلا. وضع ابنه غير الشرعي نصب عينيه لأنه لا يثق به. وسرا، كان أكثر من يرغب في التخلص منه.
ظن أنه أخيرا أصبح شخصاً ذا فائدة، لكنه عاد ليصبح عديم الفائدة مرة أخرى.
عندما دخل مدرسة داخلية في سن الخامسة عشرة، أصبح هذا الاعتقاد أكثر رسوخاً. كان لدى طلاب المدرسة الداخلية أحلامهم الخاصة. لكن داميان لم يستطع رسم مستقبله أبداً.
نتيجةً لذلك، أصبح منعزلاً في المدرسة، وفقد الرغبة في فعل أي شيء.
بعد إكمال المنهج الدراسي في المدرسة الداخلية، لم يكن لداميان مكانٌ يذهب إليه في سن التاسعة عشرة. وذلك لأن الأيتام عليهم مغادرة الدار بعد سن الرشد.
بمساعدة الماركيز جيسكا، كان بإمكانه العيش أن يحيا بهناء، لكنه لم يرغب في ذلك. أراد الهروب من الماركيز جيسكا.
ثم لفت نظره إعلانٌ عن تجنيد متطوعين للمشاركة في الحرب. اندلعت الحرب بين مملكة ليف المجاورة وإمبراطورية
سوفيلز.
وكانت مملكة ليف قد طلبت المساعدة من الدول المجاورة.
جمهورية إيستاريكا، التي كانت يوماً مستعمرةً في كنف سوفيلز قبل استقلالها، لبت النداء وردت جميل مملكة ليف اللتي قدمت لهم دعما في حرب الاستقلال، فأرسلت جنوداً إلى الخطوط الأمامية.
ظن داميان أن حرباً تدور في بلدٍ أجنبي ستكون بعيدةً عن متناول ماركيز جيسكا. ولأنه لم يكن لديه ما يفعله، انضم إلى الجيش وشارك في الحرب.
نعم. لم يكن سبب انضمام داميان لهذه الحرب رغبة سامية.
كان سببه يجعل الناس يسخرون منه أولاً ثم يعتبرونه مجنوناً عندما يعرفون أنه جاد، لكن داميان انضم حقاً إلى الجيش لأنه لم يكن لديه ما يفعله.
في القطار المتجه إلى ليف، ظن داميان أن الأمور تسير على خير ما يرام.
ثم فجأةً، صدر أمر بنقله إلى وحدة أخرى، وقائد الوحدة الجديدة هذا كان…
“مرحباً، أأنت داميان؟ أنا بول جيسكا. الماركيز جيسكا هو عمي، وأنا ابن عمك. سمعت عنك من عني. سأساعدك بطرقٍ مختلفة، فلنشد عضد بعضنا.”
………… كانت الأمور تسير على ما يرام قبل أن يحدث هذا.
***
بول، الذي يعرف كل هذه التفاصيل، كان يشعر بصداعٍ حيٍ نابضٍ في رأسه كلما تورط داميان في مشكلة.
حتى لو أصيب داميان، فلن يرف مجفن للماركيز جيسكا. لكن بما أن المشاكل خارج نطاق السيطرته ستكون مزعجة، ولأن بول جندي محترف، أوكل الماركيز دامياناً لبول الذي كان متجهاً إلى ليف.
هكذا، بدأ بول رعايته داميان على مضض، لكنه الآن، وهو يراه يتصرف كمن يسعى بيأس إلى هلاكه، يشعر بغصةٍ في قلبه.
لا أحد يعرف ما نهاية هذه الحرب، إلا أن داميان تصرف كمن لا غد له.
ومع ذلك فمن المستغرب أنه لم يمت بعد، فقد مر عام ونصف وهو على هذه الحال المزرية. فترةٌ كافيةٌ ليتحول داميان، الذي جُند وهو مجرد فتىً، إلى شابٍ ناضج.
مشط بول شعره بيده ثم لوح بها:
“على أي حال، في المرة القادمة، إذا أردت فعل شيء ما، أيمكنك على الأقل إخباري؟ قلبي ضاق ذرعاً بتصرفاتك.”
“سأحاول.”
“لا ترد على أمر قائدك بـ «سأحاول». هذا جيش، مكانٌ يجب أن تطيع فيه أوامر رؤسائك. ما يجدر بك قوله هو «نعم سيدي».”
“آه، كان ذلك كلامك كضابط وليس كابن عم. حسناً، نعم سيدي.”
‘ليتني أقتله…’
غطى بول وجهه بيديه. تفحص داميان حالته بحذر ثم قال:
“هل انتهيت مما تريد قوله، سيدي؟”
“نعم، نعم. انتهيت، اذهب الآن.”
هم داميان بأداء التحية العسكرية. ولكن…
“آه، صحيح. الملازم الأول.”
بابتسامةٍ عابثة، نشر بول خمس أو ست ظروف رسائل بين يديه كمن يوزع ورق لعب، ومدها لداميان:
“اختر واحدة.”
نظر داميان إليه بذهول، فرفع بول كتفيه:
“قامت القيادة بشيء طريف. قرروا إقامة صداقات بالمراسلة للجنود.”
“صديق مراسلة…. هل تقصد ما أعرفه أنا عن صديق المراسلة؟”
بالنسبة لداميان، لم يكن صديق المراسلة سوى نوعٍ من التسلية لقتل الوقت، يتضمن تبادل رسائل مع شخصٍ مجهول.
“يبدو أن كبار القادة يعتقدون أن تبادل المشاعر مع شخصٍ ما قد يُهدئ نفسية الجنود ويعزز معنوياتهم. لذا جمعوا متطوعين من المدنيين لمراسلة الجنود، والآن وصلت بعض الرسائل إلى الوحدة…”
ازدادت تعابير وجه داميان غرابةً وهو يفكر أنه بكيفية تبادل الرسائل بهدوء وسط كثرة المهام وخطر الموت الذي يحدق به كل يوم.
“عُد نفسك محظوظاً. قابلتني بينما لا تزال هناك رسائل متبقية. البعض يتمنى المشاركة ولا يستطيع.”
ضحك داميان في داخله على ما قاله بول.
فكرةٌ حمقاء. هل سترتفع الروح المعنوية حقاً بهذا؟ لو حسنوا الإمدادات لكان ذلك أفضل. كم من الوقت سنعيش على الخبز الصلب والبسكويت المملح؟
“إذن، ألن تختار؟”
أخذ داميان إحدى الرسائل على مضض من يد بول التي تهز الظروف. ابتسم بول على نحوٍ عريض ثم جمع الظروف المتبقية ووضعها في جيبه قائلاً:
“يجب أن ترد. إن لم ترد، فسيعدونك ممن قتلوا قبل ان تتاح لهم فرصة الرد، لذا لا تخيب أمل من ينتظر ردك.”
أطلق داميان زفيراً خفيفاً. فليس لديه وقتٌ لمثل هذه
التعليقات لهذا الفصل " 1"