في العربة التي كانت تعود بهما، بقيت بريسيبي صامتة طوال الطريق.
“…….”
فينريك، الجالس إلى جوارها، لم ينبس بكلمة هو الآخر، واكتفى بالنظر إليها بهدوء.
كان قد تعمّد مرافقتها في العربة لأنه توقّع أنها قد تخشى من الوضع الذي ستعود إليه.
فقد عرفت الآن الحقيقة الكاملة عن أصل دمها، كما أنها التقت بزغفريد في الغابة المحرّمة في نهاية المطاف.
وليس ذلك فقط، بل إنّ عددًا لا بأس به من فرسان الفيلق رأوا كيف حاولت إسقاطه وهو متعلّق على الحافة، ورأوا كيف أنّ الوحوش لم تهاجمها وحدها.
وزغفريد سيبلّغ ديتريش حتمًا بهذه التفاصيل، ولا أحد يعلم ما الذي قد يحدث بعد ذلك.
أما بالنسبة لإيفان، فحدّث ولا حرج. فهو أصلًا من أكثر الأشخاص الذين أظهروا هوسًا مرضيًا تجاه بريسيبي.
يكفي أنه قد جاء بنفسه إلى القصر ذات مرة.
(يا لهذه اللعبة المجنونة…)
كما توقّع فينريك تمامًا، كانت بريسيبي تشعر باضطراب كبير من هذا الوضع الغريب الذي أصبحت فيه الأمور تدور.
رغم ذلك، فإنّ أكثر ما سبّب لها الارتباك هو سؤال واحد:
“هل مات ملك الشياطين حقًا؟”
(الآن بعد أن هرب إيفان، ماذا لو استغل ديتريش ذلك كذريعة لابتزازي مجددًا من أجل العودة إلى القصر؟)
قال لها فينريك سابقًا إنه قد سلّم ديتريش حجر الذاكرة الذي يحوي تسجيلًا حيًا لما حدث في ذلك اليوم.
وتساءلت حينها عن سبب قطع ذراع إيفان، ويبدو أن السبب كان غضب ديتريش منه بسبب ذلك الحدث بالذات.
حينما تتأمل في كل ما فعله إيفان بها، فإنها لا تشعر بأي تعاطف معه، بل تكاد ترى أنه يستحق أكثر من ذلك.
لكن المشكلة تكمن في أنّ رجلًا هاربًا بذراع مبتورة لا يمكن لأحد أن يتوقّع ما سيفعله وهو ممتلئ بالحقد.
“هانّا ستكون في غاية السعادة.”
قالها فينريك بنبرة هادئة، فرفعت بريسيبي نظرها إليه أخيرًا.
“لا بدّ أنها كانت تنتظر عودتك بفارغ الصبر، تتساءل متى ستعودين.”
ملامحه كانت مطمئنة للغاية، وكأن ما مرّوا به لم يكن أكثر من نزهة عادية وليس مغامرة في الغابة المحرّمة.
“لذا عليكِ أن ترتاحي قليلًا. لأن هانّا ستنهال عليكِ بالكلام الذي كتمته طوال الأيام الماضية، دون رحمة.”
كان موقفًا غريبًا بالفعل. فرغم كل القلق والاضطراب، لم تستطع بريسيبي أن تمنع ضحكة خفيفة من الإفلات من شفتيها.
“اتكئي عليّ.”
“…….”
“لقد ركبت هذه العربة معكِ خصيصًا من أجل ذلك.”
عندها، ارتسمت ملامح صدر فينريك العريض في عيني بريسيبي البنفسجيتين.
ذلك الصدر الذي احتواها ليلة أمس وكأنّه يقول: لا تقلقي، أنا هنا.
وبهدوء، أسندت رأسها على كتفه. عيناها التائهتان كانتا تتأملان الفراغ ببطء، وقد امتلأتا بمشاعر شتى.
(ما الذي يحدث بحق السماء؟
ملك الشياطين؟ إيفان؟
من أين أبدأ؟ أين أجد أول خيط للحقيقة؟
هل يوجد حتى حل آخر؟)
(وإن عدت إلى القصر، ماذا لو بدأ ديتريش في ترديد هراءه مجددًا، وفعل شيئًا مؤذيًا تجاه الدوق فينريك؟)
حتى وسط هذا الجنون، كانت تفكر في فينريك بقلق. رغم أن وضعها كان أصعب بكثير، لكن عقلها كان مشغولًا به.
“وعدي بحمايتك لا يزال قائمًا.”
وكأن فينريك كان يشعر بكل تلك الأفكار، فقال بصوت منخفض مطمئن.
“حتى لو كنتِ من نسل الشياطين. وحتى إن أصدر جلالته أمرًا مجنونًا بخروج آخر للحرب.”
“…….”
“لذا، لا تقلقي.”
استمعت بريسيبي لكلماته بصمت، ثم تحدثت أخيرًا بصوت متكسّر:
“الدوق فينريك… أنت تتعرض للأذى بسببي باستمرار، أليس كذلك؟”
“لم أفكر يومًا أنني أتأذى بسببك.”
“لكنّك تأذيت هذه المرة…”
“لنكن دقيقين، الوحوش هي من هاجمتني. لم تقومي أنتِ بعضّي أو خدشي، أليس كذلك؟”
ضحكت بريسيبي ضحكة باهتة.
رغم محاولته تمرير الأمر كمزحة، فإن كل من يراهما سيعرف أنه هو من يتعرض للضرر.
(حتى لا أسبب له ضررًا أكبر، ربما من الأفضل أن أعود إلى القصر.)
صحيح أنّ ديتريش، بعد أن اكتسب وعيًا، ما زال مهووسًا بها. لكن على الأقل، لم يعُد يبدو أنه سيقتلها بكل بساطة كما كانت الأمور تسير في اللعبة الأصلية.
وبما أن الغابة المحرّمة والوحوش قد احترقوا، فلن يكون هناك مبرر لإرسال فينريك في مهمات قتال مجنونة كما حصل من قبل.
لكن، ورغم كل تلك الأفكار، ورغم إدراكها أنها تسبب له الأذى…
“أريد البقاء معك، دوق فينريك.”
قلبها لم يتغير.
“هل… هل يُسمح لي بذلك؟”
“نعم.”
كانت إجابة فينريك على سؤالها القصير بسيطة، لكن قاطعة.
“خصوصًا إذا كان هذا القرار قد صدر منكِ أنتِ يا آنسة بريسيبي.”
قرارٌ اتخذته بنفسها؟ لو كان الأمر في الواقع، لما أولته اهتمامًا كبيرًا، لكنه في هذا العالم اللعين الذي لم تكن تملك فيه حرية اختيار أي شيء، فقد كانت لتلك الكلمات وقع مختلف قليلًا على بريسيبي.
“…….”
بريسيبي لم تُجب بشيء بعد ذلك، بل أسندت رأسها على كتف فينريك الذي كان دائمًا يسندها، وغرقت في أفكارها العميقة.
—
كانت الأيام تمضي بجنون، دون لحظة راحة.
“…….”
جلس دييتريش على السرير بوجه يكسوه الإرهاق الشديد، فرك وجهه الجاف بكلتا يديه، والإنهاك بادٍ على ملامحه.
تم القضاء على جميع الوحوش التي هاجمت القصر الإمبراطوري دون استثناء. صحيح أن عددًا غير قليل من الجنود قُتلوا في تلك المعركة، لكن حجم الخسائر لم يكن كبيرًا كما تَوقّع.
أما الجدران والأسوار التي تهدّمت، فقد بدأ بالفعل ترميمها، وقريبًا ستعود الأمور كما كانت، كأن شيئًا لم يحدث.
لكن المشكلة لم تكن هناك.
[ردة فعل الكهنة كانت عنيفة للغاية.]
كان ذلك متوقعًا. فالمسؤول عن قتل كبير الكهنة والهروب لم يكن شخصًا عاديًا، بل كان الساحر الأعظم، وهذا وحده كافٍ ليُشعل الغضب.
[العلاقة بين الكنيسة وبرج السحر لم تكن طيبة من البداية، لكن يبدو أن الأمور ستزداد سوءًا الآن. هناك أصوات ترتفع تطالب بطرد السحرة من القصر الإمبراطوري تمامًا. يتساءلون ما الذي يضمن ألا يرتكبوا نفس الجريمة مجددًا.]
لو تم القبض عليه لكان الوضع أسهل قليلًا. لكن الساحر الأعظم، إيفان، الذي ارتكب كل تلك الأفعال الشنيعة وهرب، لم يُعثر له على أثر.
تم تعليق ملصقات في أنحاء أتلويّا تعرض صورته مع جائزة مالية ضخمة لمن يدلي بمعلومة. ورغم أنه نجح في الهروب، فإن التواري عن الأنظار والاستمرار في العيش لم يكن بالأمر السهل. ومع ذلك، لا أحد رآه أو سمع عنه.
“هاه……”
قطب دييتريش حاجبيه من شدة الصداع، وضغط بإصبعيه على جانبي رأسه بعصبية. ثم، وبعد لحظة، وقعت عيناه على شيء بجانب السرير.
كانت دمية صغيرة، قديمة ومتواضعة الشكل، لا تليق إطلاقًا بإمبراطور.
[قالت لي إحدى وصيفاتي إن هناك كائنًا في إحدى مناطق أتلويّا يطرد الكوابيس.]
دييتريش ما يزال يتذكر بوضوح، عندما كان صغيرًا يمرض باستمرار، وفَقَد والدته. في ذلك الوقت، كان يعاني من كوابيس يومية، فجاءت بريسيبي الصغيرة بوجهها البريء وأعطته تلك الدمية الغريبة.
[أتمنى أن تساعدك……]
مدّ دييتريش يده وأمسك بالدمية الصغيرة، ثم ظل يحدّق بها طويلًا.
كانت تلك اللفتة البسيطة منها، في حينها، مصدر عزاء عظيم له. حتى هو، الإمبراطور الصغير حينها، لم يكن له مكان في القصر، لم يجد أحدًا يسند عليه قلبه سوى بريسيبي، وكان ينام كل ليلة وهو يعانق تلك الدمية كأنها شريان حياة.
لكن الآن، لم تعد تلك الدمية تنفع في شيء.
ما لم تكن بريسيبي، فلن يكون لأي شيء آخر أي معنى.
[من الممكن أن يولد طفل بين إنسان ووحش. إنه أمر مثير للسخرية، أليس كذلك؟]
غير أن كلمات إيفان التي سمعها من حجر الذاكرة عادت لتخطر بباله فجأة.
ماذا لو…
ماذا لو كانت بريسيبي حقًا من سلالة الوحوش؟
ماذا لو كان الشخص الذي تورطت معه فانيسا وأنجبت منه هو وحش؟
إن تسربت هذه الحقيقة إلى العلن، فإن صدمة كبيرة ستحدث لا محالة. وخصوصًا الآن، حيث أصبحت صورة برج السحر في الحضيض، وغضب الشعب في أوجه.
هل يمكنني، رغم كل ذلك، أن أُبقي بريسيبي إلى جانبي؟
عض دييتريش شفتيه بقوة، غارقًا في التردد.
كان لا يريد تصديق ما قاله إيفان، لكن حتى هو يتذكر مشهدًا لا يستطيع إنكاره.
[لكني ذهبت إلى الإمبراطور. إلى والدي. لأتوسل إليه ألا يقتلها.]
كان ذلك ما سألته عنه بريسيبي في السابق.
بعد انكشاف خيانة فانيسا، ذهب ديريتش إلى الإمبراطور السابق، يتوسل إليه ألا يمسها بسوء.
[لا يجب أن تقتلها.]
لكنه، دييتريش، تذكر أنه لم يكن الوحيد في قاعة الاستقبال ذلك اليوم.
كان هناك شخص آخر قد سبقه، وكان يسترق السمع خفية.
[إذا كان ما قاله الفرسان صحيحًا، فمن الأفضل أن تتخلى عنها فورًا.]
وبينما استعاد تلك الذكرى، بدأت ملامح دييتريش تزداد تعقيدًا وغموضًا.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 78"