كانت أطرافهم ممزقة، رؤوسهم مفصولة، وأحشاؤهم اللزجة متناثرة تلطّخ الأرض… لكن فيدار لم يفعل شيئًا سوى التحديق الصامت في الجثث المبعثرة.
ثم، بعد قليل، سمع صوتًا مألوفًا.
[أمي…؟]
الطفل خرج مترنحًا من المنزل المتداعي، ثم سقط على الأرض وبدأ يزحف. كان يتحسس الأرض، ثم العشب، ثم الجثث…
[…]
يدا الطفل الصغيرتان التقطتا الدم القاني، ووجهه البريء سرعان ما اكتسى اليأس، كأنما لُطّخ بفرشاة من الحزن.
وفيدار… فقط نظر، مصدومًا، ثم غادر القرية.
وكأنما يفرّ من شيء ما، أسرع الخطى.
(ماذا فعلتُ بالضبط؟
لماذا هاجموني؟
لقد أنقذت الطفل.)
عاد إلى الغابة المحرّمة، وجلس أمام البحيرة الصافية، غارقًا في تفكيره. ثم، ببطء، حدّق في صورته المنعكسة على سطح الماء.
قرنان حادّان يخرجان من رأسه. أظافر طويلة كشفرات. عينان زرقاوان مشقوقتان بالطول.
(هل لهذا السبب هاجموني؟
لأني مختلف عنهم؟
لأنني لست إنسانًا؟)
[اقتُل الوحش!]
منذ ذلك اليوم، بدأ البشر يتوافدون بلا انقطاع إلى الغابة.
ولم ينجُ منهم أحد.
في البداية، كانوا مجرد قرويين. ثم دوريات الحراسة. ثم جنود من البلاط الإمبراطوري، وفرسان، ومغامرون لا يُحصَون.
أعداد القتلى بدأت تتضاعف. عشرات، فمئات، ثم آلاف.
وبتلك اللحظة تغيّر لقبه.
من “وحش”… إلى “ملك الوحوش”.
الجميع بدأ يهمس:
“في الغابة المحرّمة يسكن ملك الوحوش.”
“ينشر الطاعون واللعنات، ويقتل البشر كأنهم حشرات.”
(كيف انتهى بي المطاف إلى هذا؟
لماذا يهاجمونني؟
من كنت أحاول إنقاذه؟
من أعطاني اسمًا لتلك المشاعر الجائعة والموجعة؟)
ومع مرور الوقت، نسي فيدار حتى وجود الطفل.
لكنه لم ينسَ الانتظار. ذلك الانتظار الممل، القاسي، اللامنتهي.
انتظر شخصًا. لا يعرف من يكون.
وخاض الحروب ضد جيوش لا تُعدّ، ولا يُعرف لها عدد.
ثم خطرت له فكرة:
(لو وُلد مخلوق مثلي… ربما يتوقف هذا الانتظار.
ربما لن أكون وحدي بعد الآن.)
فجمع دماء البشر أسفل الجرف في الشمال، حيث لم يكن هناك شيء من قبل.
نثر دمه، وملأ المستنقعات بأجسادهم.
وهكذا، وُلدت الوحوش.
لكن الانتظار لم يتوقف.
مهما قتل، ومهما خلق، ظل قلبه خاويًا، يحترق.
في بعض الأيام، جرب أن يأكل البشر… أو الوحوش.
لكن حتى ذلك لم يملأ الفراغ بداخله.
البشر ظلوا يأتون… كأن موت ملك الوحوش قدرٌ كُتب عليهم.
حتى عندما لم يكن فيدار يخرج إليهم، هم يأتون إليه.
وعاش هكذا آلاف السنين.
يقتل… ينتظر… ثم يقتل.
لا سبب، لا أمل، لا نهاية.
(ربما عليّ أن أموت.)
لقد حاول بالفعل. قطع عنقه بسيفه.
لكن ما إن يغمض عينيه، حتى يفتحها ليجد نفسه كما كان — سليمًا. خالدًا.
“تبًا لهذه المغارة…”
مرت آلاف السنين، وفيدار عاد إلى هذا المكان اللعين.
جلس… وفكر.
(لماذا وُجدت؟
لكي أُكرَه؟ لأُهاجَم؟
هل وُجدت فقط لكي أعيش هذه الوحدة القاتلة؟
أين ذلك الشخص الذي كنت أنتظره؟
هل كان وهمًا من البداية؟
هل خُدعت؟
هل الإله هو من صنعني؟ وهل هذا هو عقابي؟)
(لو ظهر ذلك الشخص…
هل سأشفى؟
هل ستنتهي وحدتي؟)
ومع تلك الأسئلة، قرر الانعزال داخل المغارة.
ولم يحدث شيء بعدها. لم يخرج. لم يهاجم أحدًا.
أما كذبة الكنيسة، عن أن أحد الأبطال المقدّسين قد “قضى على ملك الوحوش”، فليست إلا خرافة.
الحقيقة هي أن فيدار هو من اختار أن يختفي.
وهكذا، مرت ألف سنة أخرى.
ثم أخيرًا…
ظهر خيط من الأمل.
[إذا كنتَ تعرف نيدهوغ، فهل هذا يعني أن أمي تعرفه أيضًا؟]
“…….”
كان وجه فيدار وهو يتأمل السؤال الذي طرحته عليه بريسيبي قبل قليل، مشوّشًا، تتقاطع فيه مشاعر يصعب وصفها.
[بدوتِ وكأنكِ كنتِ تبكين.]
لم تكن كل كلماته لبريسيبي كذبًا. فقد التقى بڤانيسا حقًا.
ظل فيدار، طوال آلاف السنين، يتساءل عن هوية ذاك الشخص الذي ينتظره. هل هو موجود فعلًا؟ وإن كان كذلك، فلمَ لم يظهر بعد؟ لكنه، مهما حاول، لم يجد جوابًا.
في تلك الفترة، هرب إلى النوم. ليس نومًا هادئًا أو مريحًا، بل نومًا أقرب إلى التعذيب الذاتي. أحيانًا كان يطعن نفسه حتى تخرج أحشاؤه، وأحيانًا يقطع عنقه.
لأنه حينها فقط، أثناء فترة إعادة تجسده، يمكنه النوم بلا وعي.
في إحدى تلك الليالي، فعلها مجددًا. مزق جسده بمخالبه حتى ظهرت أحشاؤه، ثم غرق في سبات عميق.
ولكن… استيقظ فجأة.
(جسدي لم يلتئم بعد… فلماذا استيقظت؟)
حدّق ببرود إلى جسده الذي لم يكتمل تجديده بعد، ثم رفع عينيه إلى السماء السوداء.
وهناك، كانت القمر مكتملًا — باهتًا ومضيئًا كما اعتاد أن يراه كلما انتظر ذلك “الشخص المجهول”.
خرج من المغارة ببطء. لا نسمة تهب، لا صوت صرصور. الليل كان ساكنًا تمامًا.
لكن ذلك السكون لم يدم طويلًا.
[مـ-ملك الوحوش…]
ذلك البكاء القادم من بعيد.
عندما التقت عينا فيدار بالمرأة الباكية — ڤانيسا — عرف على الفور.
الجنين في رحمها… لم يكن إنسانًا، ولا وحشًا بالكامل.
(لكن… كيف عرفت من أنا؟)
لم يعد يظهر للناس بشكله الحقيقي. كان يُخفي قرونه ومخالبه وضبابه الأسود.
[نيدهوغ هو من أخبرني… عن ملك الوحوش.]
كان الجواب بسيطًا أكثر مما توقع.
(هل أقتلها؟)
ليس لأنها عرفته. ولا خوفًا من أن تنقل الخبر.
فقط… لأنها كانت تبكي. وبكاءها كان مزعجًا.
[طفل الوحش…
هل سيولد كوحش؟]
سألت ڤانيسا قبل أن يلمسها حتى.
كان فيدار يعلم أن هناك حالات نادرة يولد فيها “نصف وحش، نصف إنسان”.
[مهما حاولت إخفاءه…
سيُكتشف أمره، أليس كذلك؟
خصوصًا لو عرف القصر الإمبراطوري.]
كانت تتحدث وكأنها لا تدري مدى خطورة ما تقوله، لا سيما أمام مَن يمكنه قتلها بكلمة.
[نيدهوغ قال إن ملك الوحوش لم يؤذِ أحدًا منذ ألف سنة.]
وهذا لم يكن كذبًا. فقد دخل إلى المغارة قبل تأسيس “أتيلويّا”.
[وأنا أعلم…
ليس كل الوحوش أشرارًا.]
(أشرار؟ ومن يحدد الخير والشر؟… البشر؟)
ضاق صدره. أراد قتلها مجددًا.
[سيقتلون طفلي.]
[وحتى إن نجا… لن ينتمي لأي مكان.]
[سيكون وحيدًا جدًا…]
“كنت وحيدًا دائمًا، لذا شعرت بالوحدة.”
[في أي مكان سيكون، سيشعر بالوحدة الشديدة…]
“لكن حتى أنت دائمًا وحدك، أليس كذلك؟”
صوت ڤانيسا… وكلمات ذلك الطفل من الماضي…
بدأت تختلط في أذنيه.
(هل سيكون ذاك الطفل نصف الوحش…
وحيدًا مثلي؟
هل سينشأ كما نشأت؟
هل سيشعر كما شعرت؟)
لم يخنقها.
بدلًا من ذلك، فقط نظر إليها، وهي تبكي بمرارة، ثم فتح شفتيه ببطء.
[الوحوش… ليست كبني البشر.]
[حتى إن وُلد نصفه وحشًا، فلن يُنبذ بيننا.]
وهذا كل شيء.
(ما الذي تغيّر؟
ربما أردتُ فقط أن أرى نسل الوحش يدخل إلى القصر الإمبراطوري، ذلك المكان الذي لطالما أراد موتي…)
رغم هذه الفكرة… لم يعد يملك الرغبة في قتل ڤانيسا.
أدار ظهره. لكنها سألته مجددًا:
[إن أرسلت طفلي إلى الغابة المحرمة…
هل يمكنه أن يعيش بين الوحوش؟ حتى لو لم يكن إنسانًا؟]
لم يُجب.
فقط نظر إليها مرة أخيرة… ثم رحل، بلا كلمة، بلا ندم.
“كان يجب أن أقتلها…”
ندم فيدار على ذلك اليوم طويلًا.
لكن، لم يكن بوسعه أن يعلم آنذاك… أن ذاك الكائن في رحم ڤانيسا —
ذاك الذي لم يكن لا إنسانًا ولا وحشًا بالكامل —
سيكون الشخص الذي جعل حياته جحيمًا لا يُحتمل.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 72"