عكست عينَا فيدار الزرقاوان مشهد المغارة، كما كانت دومًا. كما قبل آلاف السنين، وكما هي اليوم… لم يتغيّر شيء.
“…….”
متى كانت أول مرة وطأت قدماه هذا المكان؟
كالعادة، جلس في أعمق نقطة من المغارة، عند أقصى عمقٍ لا يُسمع فيه صوت ولا يُحس فيه دفء، على صخرةٍ باردةٍ وصامتة. هناك، ولأول مرة منذ زمن بعيد، بدأ يستعيد شظايا من ماضيه.
“أول مرة…”
أول ما استحضره فيدار كان أقدم ما يمكن أن يتذكره.
أول ذكرى له على الإطلاق.
في مملكة أتيلويّا، كل الوحوش تولد من رحم الوحوش في شمال الغابة المحرمة — سواء كانت طائرة، أو زاحفة، أو بلا أطراف.
لكن فيدار كان استثناءً.
أول ما وعاه… كان هنا، في هذه المغارة.
وُلد ككائن غريب بلا والدين، بلا عائلة. لم يكن له طفولة.
خرج من المغارة دون أن يدرك حتى لماذا وُجد، أو ما هو أصلاً.
في ذلك الوقت، لم تكن هناك وحوش أخرى.
كان فيدار الكائن الوحيد من نوعه على وجه الأرض.
وقد كانت تلك هي الحقيقة القاسية: أنه وحيد… حد الألم.
لكن، لم يكن يعرف ما هي الوحدة.
لم يكن يعرف ما يشعر به أصلًا.
لم يكن يأكل، لم يكن يشرب، لم يكن يتكلّم.
كان فقط يراقب بصمت… الطيور التي تزقزق، الحيوانات التي تتقاتل، وأحيانًا… البشر الذين يدخلون الغابة.
ثم تساءل:
لماذا أنا وحدي؟
لماذا لستُ مثلهم؟
ذلك الفراغ الغامض الذي اجتاحه، لم يعرف له اسمًا.
لكنه ظل يلازمه.
وفي بعض الليالي، كان يتسلّق شجرة عالية ويحدّق في السماء، دون هدف، دون سبب.
بدأ هذا التصرّف الغريب في إحدى الليالي… حين أضاء ضوء خافت من القمر المكتمل السماء السوداء، وكان الضباب يملأ الغابة، والهواء يهبّ بارداً على جلده.
كان شعورًا غريبًا، لم يعرفه من قبل.
رغم أن وحدته لم تتغير، إلا أن القمر… في تلك الليلة… جعله يشعر وكأنه ليس وحيدًا تمامًا.
وكأن هناك من سيأتي إليه، في أي لحظة.
كان أملًا باهتًا، لكنه تمسك به.
وهكذا، كلما امتلأت السماء بالقمر، كان يحدّق فيه بصمت.
كما لو أنه ينتظر شخصًا ما.
شخصًا مجهولًا… لكنه يملك الإجابة.
شخصًا إذا ظهر، ستخمد نيران هذا الشعور الذي لا اسم له في أعماقه.
…من الذي أفتقده؟
لم يكن يعرف.
لكنه كان واثقًا،
أنه ما لم يأتِ هذا الشخص، فسيظل هكذا إلى الأبد.
ينتظر.
مرّت سنوات، وربما عقود، أو حتى قرون.
لا يعلم كم من الوقت انقضى.
لكنه ظل في الغابة، وظل ينتظر.
ولم يأتِ أحد.
ثم، في أحد الأيام…
[هل… هل يمكنك مساعدتي؟]
قابل طفلًا ضائعًا.
كان الطفل يجلس في وسط الغابة باكيًا، ويقول إن أصدقاءه جاؤوا معه ليجمعوا الأعشاب، ثم تخلوا عنه.
[أعتقد أنه لو ساعدتني فقط في الوصول إلى مدخل الغابة، سأعرف طريقي من هناك. جسدي يتذكره.]
قال إنه لا يرى.
لم يوضح إن كانت ولادته هكذا، أم بسبب إصابة.
(لماذا يجب أن أساعده؟)
تساءل فيدار. لكنه لم يتعمق في التفكير كثيرًا.
ربما كان السبب أن الطقس في ذلك اليوم كان رائعًا.
الشمس كانت دافئة، والريح كانت لطيفة.
كانت نهاية موسم أمطار طويل وثقيل.
وربما لهذا فقط… قرر أن يفعل ما لم يفعله من قبل.
خلال الطريق، لم يصمت الطفل لحظة واحدة.
ظل يتحدث، يسأل، يضحك… رغم أن فيدار لم يرد عليه ولو مرة.
[هل تسكن هذه الغابة؟]
[هل يمكنني أن أراك مجددًا إذا جئت مرة أخرى؟]
وصلوا إلى مدخل الغابة، وهناك، تركه فيدار ورحل، دون أن ينبس بكلمة.
[أراك لاحقًا، أيها الأخ الكبير.]
حتى هذا الصوت خلفه تجاهله.
لكن… ذلك لم يكن اللقاء الأخير.
ففي كل مرة، كان الطفل يأتي مجددًا… مع أصدقائه… ثم يُترَك وحيدًا مرة أخرى.
ويظل يتجول بحذر، حتى يظهر له فيدار.
وعندما يظهر، يبتسم له الطفل بابتسامة كبيرة.
[لماذا تستمر في القدوم؟]
كان ذلك أول سؤال طرحه فيدار.
سأله بينما يوصل الطفل كالعادة.
كان الطفل يتعرض للتنمر، وكان سلة أعشابه مليئة بالنباتات غير المفيدة.
[في البداية، كنت أظن أن أصدقائي يحبونني رغم أنهم يتركونني وحدي…]
ثم ابتسم الطفل وقال:
[لكن الآن، أعود لأراك أنت.]
[أشعر بالوحدة دائمًا… لكن عندما أكون معك… لا أشعر بها.]
“…….”
[لكنّك أيضًا دائمًا بمفردك، أليس كذلك؟]
وحده؟ هل يشعر بالوحدة؟
ما هي الوحدة أصلًا؟ حاول فيدار التفكير مرارًا، لكنه لم يستطع الفهم. لذلك لم يجب على الطفل.
مع ذلك، ظل الطفل يزور الغابة، وفيدار استمر في مرافقة الطفل وإيصاله، يستمع إلى أحاديثه دون أن ينبس ببنت شفة.
كان يعلم جيدًا أن الطفل ليس هو “ذلك الشخص” الذي انتظره طوال هذه السنوات.
لكن جسد الطفل الصغير، الذي كان يتحرك ببطء كعصفور صغير، كان دافئًا ولطيفًا. وكانت أسنانه الصغيرة التي تظهر وهو يتكلم تبدو مضحكة. وحكاياته، التي لم يفهم فيدار منها الكثير، كانت غريبة ومثيرة للاهتمام.
ومرت شهور على هذا الحال.
حتى جاء اليوم الذي سقط فيه الطفل في البحيرة، بينما كان ينتظر فيدار.
(هل سيموت إن تركته؟)
كان الطفل يلفظ أنفاسه الأخيرة، وفيدار لم يتحرك.
(ما هو الموت؟ وإلى أين يذهب الميت؟ هل سيتوقف جسده عن الحركة مثل الحيوانات التي تفترس بعضها؟ هل سيتعفن؟ يصبح عظامًا بيضاء؟ ثم يتحلل إلى تراب، وتذروه الرياح؟)
(هل لن أسمع صوته مجددًا؟ لن يعود لزيارتي؟ هل سأبقى وحدي مرة أخرى؟)
… في النهاية، أنقذه فيدار من المياه المتجمدة.
لم تمضِ لحظات حتى وصل صخب أصدقاء الطفل وهم يركضون نحوه، الذين كانوا قد تركوه وحيدًا.
اختبأ فيدار، واكتفى بمراقبة الفوضى وهم يأخذون الطفل معهم.
ومنذ ذلك اليوم، لم يعد الطفل.
مرت أيام، ثم أسابيع، ولم يظهر.
كان فيدار يحدّق إلى سلّة الأعشاب الفارغة التي كانت تطفو في البحيرة… دون أن ينطق بكلمة.
(أنقذته… فلماذا لا يعود؟ تمامًا مثل من كنت أنتظره طوال هذا الوقت…)
عاد فيدار إلى حاله الأول… إلى وحدته الكاملة.
لم يعجبه ذلك.
ثم أدرك — بعد وقتٍ ليس بالقصير — أن ما كان يشعر به كل تلك السنين… له اسم.
وهو الوحدة… الكلمة التي قالها ذلك الطفل.
لكنها الآن لم تعد مجرّد شعور.
بل أصبحت وحشًا ضخمًا كبر في داخله، ينهش أعماقه بلا رحمة.
[يقولون إنه على شفير الموت فعلًا.]
عرف فيدار أخبار الطفل من حديث أولئك الفتية الذين اعتادوا مضايقته.
[ماذا لو مات؟ ماذا لو أُلقِي اللوم علينا؟]
[ما ذنبنا؟ متى طلبنا منه أن يأتي معنا للغابة؟ هو الذي تبعنا من تلقاء نفسه!]
[قلنا له ينتظر لأنه لا يرى، لكنه أصر أن يأتي، فوقع في البحيرة. ليس مشكلتنا.]
(سيموت؟ لماذا؟ أنقذته…)
(يعني ذلك أنني لن أراه مجددًا؟)
“ما الذي كنت أفكر فيه أصلًا؟”
ابتسم فيدار بسخرية لنفسه، كمن يسخر من حماقته.
“كم كنتُ غبيًا…”
لقد كان تصرفًا أحمقًا، بكل معنى الكلمة.
لكنه أراد فقط… أن يراه مرة أخيرة.
أن يرى عينيه الصافيتين رغم العمى.
أن يرى ضحكته التي تكشف أسنانه الصغيرة.
أن يسمع خطواته البطيئة والصغيرة.
تتبع رائحته.
وبالفعل، وجده.
منزلٌ قديم ومتهالك… حيث يعيش الطفل.
وهناك، التقى بوالديه.
[و-وحش…!]
قبل أن ينبس بكلمة، اندفعوا نحوه بأدوات زراعية متواضعة.
والداه، جيرانه، وكل من في القرية.
ربما شعر بالدهشة. وربما بالغضب.
وعندما استعاد وعيه — لم يكن هناك شيء حيّ حوله.
فقط جثث… مقطوعة الرأس، مفتوحة البطن، مبعثرة بلا حياة.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 71"