قضت بريسِبي وقتًا طويلًا وهي تسير معه، تزور أماكن كثيرة، وتستهلك زمنًا ممتدًا في خطوات هادئة.
حين كانت حبيسة برج القصر لم تكن تدري، لكن هذا العالم واسع… واسع إلى ما لا نهاية.
ولم يكن الزمن يشبه ما خبرته من قبل؛ إذ لم يقع أي حدث خاص، بل كانت أيامًا ساكنة هادئة.
أحيانًا تختلط بالناس وتشاركهم أجواءهم، وأحيانًا تمضي وقتها مع فينريك في أماكن يظن المرء أن لا أحد يعرفها، أماكن غامضة نسجت حولها أساطير شتى.
كان ذلك ممتعًا، وكان سلامًا خالصًا.
“أتمنى أن يكون المكان دافئًا، حيث يطول النهار ويقصر الليل. هكذا أستطيع أن أرى وجه الدوق تحت ضوء الشمس طويلًا.”
وحين اعتادت على السفر الطويل، قال لها فينريك:
“الآن، فلنذهب إلى المكان الذي كنتِ تتمنين زيارته.”
“إلى الجنوب… أبعد من الجنوب. إذا سرنا بمحاذاة البحر سنصل إلى إمبراطورية تُسمى ألفهايم.”
ألفهايم التي قيل إن إله السلام قد رافقها دهورًا طويلة، كانت كما أرادتها بريسِب: نهارها طويل وليلها قصير.
ولم يُعرف أن حربًا نشبت هناك قط، وإمبراطورها الطيب الحنون كان يستقبل كل من لا مأوى له دون قيد أو شرط.
لذلك، فإن أهل هذا العالم يعتبرون ألفهايم تجسيدًا للسلام نفسه.
وكان جواب بريسِبي على كلام فينريك محسومًا منذ البداية.
… تُرى أي أيام ستلقاها في ألفهايم؟ وأي ذكريات ستملأ قلبها هناك؟
كان المستقبل ما يزال غامضًا لا يمكن تخيله، لكن حقيقة واحدة كانت أكيدة: ما دامت مع فينريك، فلن يكون في حياتها حزن ولا ألم بعد الآن.
وهكذا، وبعد أن قررت أن توقف رحلتها الهادئة مؤقتًا، تابعت المسير مع فينريك من جديد.
لكن عند وقت لم يخطر لها، وفي مكان لم تتوقعه… وجدت نفسها أمام ما لم تكن تحسب له حسابًا.
✦✦✦
كانت بيفروست هي المنطقة التي مرّت بها بريسِبي لتتمكن من عبور البحر.
“هناك موانئ أخرى، لكن هذا هو الأكبر.”
قال فينريك وهو يربت بخفة على نافذة العربة.
تشبثت بريسيبي بيده، ومدت عنقها لترى ما وراء النافذة، فإذا بها أمام ميناء هائل الحجم، وحشود لا تُعد ولا تُحصى.
“يمكن القول إن من هنا تستطيعين الوصول إلى أي إمبراطورية تقريبًا.”
ابتسم فينريك بلطف وهو يضيف:
“هذا آخر موضع في رحلتنا.”
ومن بيفروست، يكفي أن تركب سفينة أيامًا قليلة لتصل إلى ألفهايم. ربما يكون الأمر شاقًا بعض الشيء، لكنه أقصر الطرق ولا خيار غيره.
“حين نصل إلى ألفهايم، ستقع لك مفاجأة سارة.”
“مفاجأة سارة؟”
“ستعرفينها حين نصل.”
لم تستطع بريسيبي أن تفهم ما يقصد فينريك بـ “المفاجأة السارة”، لكنها اكتفت بأن تبتسم وتهز رأسها.
ولعل انتظار تلك المفاجأة طوال الطريق لن يكون أمرًا سيئًا.
“لعل كِبَر الميناء هو السبب، لكن هناك الكثير من الناس يرتدون أزياء غريبة.”
“إنه مكان يجتمع فيه شتى الخلق.”
أجل.
مدت بريسيبي عنقها تراقب بصمت الناس الذين يعبرون أمام العربة.
فمنذ أن تملّكها ذلك الكيان وظلت حبيسة في أتيلويّا، كان كل عالم خارج حدودها مجهولًا بالنسبة إليها.
ولهذا، حتى بعد أن رأت الكثيرين خلال رحلاتها، لم تستطع أن تكف عن الاندهاش في كل مرة.
غير أن الأمر لم يطل، إذ سرعان ما لم تعد تشعر بالدهشة وحدها.
هناك، على بُعد، بدت غابة كثيفة.
“…….”
امتد بصر بريسيبي إليها، وعينيها تلمعان بتركيز.
لم يسبق لها أن زارت بيفروست، وبالتالي لم يكن يُفترض أن تعرف تلك الغابة. ومع ذلك، غمرها شعور غريب… شعور بأنها تعرفها مسبقًا.
حتى الإحساس بالديجا فو هذا…
“صحيح.”
قال فينريك، وكأنه قرأ أفكارها.
“بيفروست هي أيضًا الطريق المؤدي إلى الغابة المحرّمة.”
“…….”
“أو لأكون أدق، هناك ممر يصل إليها من هنا. فهي شاسعة للغاية.”
لم تجب بريسيبي.
كل ما فعلته أنها ظلت تحدّق بعينيها البنفسجيتين اللامعتين، المملوءتين بعاطفة جياشة، إلى الغابة البعيدة.
… فما جرى في الغابة المحرّمة لا يزال حاضرًا في ذهنها وكأنه وقع بالأمس.
لكن ما بقي محفورًا كالندبة بين كل تلك الذكريات كان…
“ومع ذلك، لو أنك اخترتني وأحببتني…”
ذلك الصوت الذي سمعته يومها.
“كنتُ أظن أنك ستفهمينني.”
وبالأحرى… كانت كلمات فيدار في ذلك اليوم.
“على خلاف بقية البشر تمامًا…”
والآن وهي على وشك أن تغادر إلى ألفهايم، علمت أنها لن تعود إلى هنا، لا قريبًا ولا بعيدًا.
وربما، سيجعلها هذا تنسى الكثير… نسيانًا لا يشبه ما مضى.
“… أيها الدوق.”
وبعد زمن ليس بالقصير، تمتمت بريسيبي بصوت خافت وهي تحدق من النافذة.
“حين قلت إنك ستأخذني إلى أي مكان أريده… هل ما زال وعدك قائمًا؟”
“بالطبع.”
أجاب فنريك بسرعة:
“وأيضًا، إلى الأبد.”
كان يبدو وكأنه يعرف بالفعل المكان الذي ترغب بريسيبي في الذهاب إليه. ولهذا، دون أي تردد، أمسك بيدها بإحكام، ثم عبر النافذة الضيقة أخبر السائق بالوجهة الجديدة.
كانت هيبة الغابة المحرّمة كما هي لم تتغير.
بوجه ينضح بالخوف، قال السائق: “أقصى ما أستطيع فعله هو أن أوصلكم حتى مدخل الطريق المؤدي إلى الغابة.” ثم أضاف بتحذيرٍ مرتجف: “ذلك المكان خطر، من الأفضل عدم دخوله.”
لكن فنريك لم يرد على كلامه. كل ما فعله أنه ترجل مع بريسيبي من العربة، واكتفى بجملة قصيرة للسائق يأمره أن ينتظر في هذا المكان.
“…….”
تأرجحت الأيدي المتشابكة بينهما في الهواء برفق. وتمسكت بريسيبي بيد فنريك وهي تخطو بحذر على الدرب الضيق الذي يشق الغابة.
لكن، ألن يكره الدوق هذا؟
إذ اختارا التوقف هنا، بينما كان بوسعهما أن يواصلا السير دون اكتراث، ربما يثير ذلك استياءه.
“فكرتُ أنكِ سترغبين في المجيء إلى هذا المكان ولو مرة واحدة.”
كأنما قرأ ما في قلبها، كان فنريك هو من بادر بالكلام أولًا.
“لأنكِ شخصٌ دافئ وحنون.”
“…….”
“لذلك توقعتُ أنك ستولين الأمر اهتمامك.”
قالت بصوت خافت:
“آسفة لأني تصرفت بأنانية.”
ابتسم فنريك ابتسامة صغيرة.
“لا يستحق الأمر أن تقولي ذلك.”
…… ولو قال إنه لا يشعر بالغيرة، فذلك سيكون كذبًا. فما زال يتمنى أن تنصب بريسيبي كل حبها عليه وحده.
لكن ما يعلو على غيرته كان فهمه العميق لها.
ألم يقولوا إن من يحب أكثر يكون أضعف دائمًا؟
إن كان هذا صحيحًا، فسأظل أنا الأضعف إلى الأبد. تمامًا كما أنا الآن.
لكن، لم يكن ذلك شيئًا يثير نفوري.
قالت بريسيبي بنبرة قلقة قليلًا:
“…… لكن هذه الأرض، إن دققنا في الأمر، لا تزال تابعة لأتيلّويا. ألن يشكّل ذلك مشكلة؟”
هز فنريك رأسه نافيًا، كأنه يبعث في نفسها الطمأنينة.
“لم يعد الفرسان يتمركزون هنا. لذا لن نصادفهم بعد الآن.”
“…… ماذا؟”
“الغابة المحرّمة ما زالت تُعتبر مكانًا مخيفًا، صحيح أنها لا تزال مأوى للوحوش… لكن عددها انخفض بدرجة لا تُقارن بالماضي، وحتى الذين يزعمون رؤيتها اختفوا تقريبًا.”
…… لكن، في مئات المرات من العودة المتكررة، صحيح أن عدد الوحوش كان يقل أحيانًا، لكن لم يحدث قط أن اختفى الشهود جميعًا.
هل يمكن أن يكون هذا أحد التغييرات التي طرأت حين انهار العالم وزالت قيم الإعداد؟
وتابع فنريك كلامه:
“ولهذا، عادت الألسنة تروي الحكايات.”
“…….”
“يقولون إنه ربما لم يكن هناك شيء اسمه ملك الشياطين أصلًا.”
توقفت بريسيبي متفاجئة.
“أو ربما… بعدما كبَحه محارب أتيلّويا، فإنه لا يزال عاجزًا عن الاستيقاظ حتى الآن.”
…… أيُّ جوابٍ كنتُ أرجو أن يكون هو الصواب؟ تساءلت بريسيبي، بعينين مضطربتين تراقبان الغابة المحرّمة الغارقة في سكون لا نهاية له.
[لقد عدتُ فقط إلى البداية.]
وعادت إلى ذهنها الكلمات التي قالها فنريك ذات مرة.
[إن لم يعد الآخرون يتذكرونني، فذلك لأن كل قيم الإعداد اختفت، والنظام انهار. لم يعد هناك ما يُسمى بالحبكة.]
هكذا شرح فنريك.
من البداية، لم يكن بمقدور الآخرين أن يتذكروه إلا لأنه لم يكن كائنًا مقيّدًا بقيود هذا العالم.
لكن، الآن بعدما تلاشت تلك القيود، صار من الطبيعي أن يُمحى من ذاكرتهم.
ومع ذلك، قال أيضًا إن من لم يخضعوا لقوانين هذا العالم، مثل بريسيبي، سيظلون قادرين على تذكره.
تمامًا كما فعلت هي.
أما بقية الشخصيات، فقد استعادت ذواتها الأصلية.
فمثلًا، نواه ديفيرن الذي فقد شغفه الغريب بجمع عينات الوحوش.
هكذا، لم يعد هناك أي وجود خاص في هذا العالم.
إذن… ماذا عن فيدار؟
راحت بريسيبي تمطر نفسها بأسئلة لا تنتهي، بينما تشبثت بيد فنريك بقوة أكبر.
ثم، من حيث لا تدري، كانت قد وصلت بالفعل إلى أعماق الغابة المحرّمة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات