ديتريش كان قد أوصى أن يُنقل الخبر إلى إيلا متى ما تحدد وجهة الرحيل،
لكن مثل ذلك لم يكن له وجود أصلاً.
في عالم لم يكن فيه “فينريك” موجوداً، لم يكن أمام بريسيبي أي مكان تذهب إليه.
لا… لا بد أن شيئاً ما قد تعرقل.
نعم، ربما يكون الأمر كذلك فعلاً.
فمن يجرؤ أن يجزم بأنه بعد اختفاء كل إعدادات الشخصيات، لم يكن من الممكن أن تقع مثل هذه الأخطاء؟
ولهذا، لم تجد بريسيبي المسكينة بداً من أن تطلب من إيلا ـ التي جاءت تبحث عنها متأخرة ـ أن تستدعي لها عربة.
وكأن ديتريش، محافظاً على وعده بأن يمنحها الحرية أخيراً، لم يحاول منعها أو اعتراض طريقها.
أما المرافق لأسباب تتعلق بالأمان، فكان شخصاً غير متوقع…
زيغفريد نفسه.
“……”
خرجت بريسيبي من الكنيسة بوجه شاحب، رفعت رأسها بتردد، ثم صوبت نظرها نحو العربة التي تنتظرها في المقدمة.
لكن، أمام العربة لم يكن يقف زيغفريد وحده.
“أنت ما زلت تتفوه بكلمات تُثير الغثيان وكأنها أمر عادي. قل لي، لماذا عليَّ أن أساعد فرسانك؟”
“صحيح أن وحوش الغابة المحرمة قد هدأت في الآونة الأخيرة، لكن لا أحد يضمن أن يبقى الحال هكذا. وبصفتي قائد الفرسان، تقع على عاتقي مسؤولية الاستعداد لأي طارئ محتمل.”
“ثم لماذا عليّ أنا أن أتحمل هذا؟”
حدّقت بريسيبي بملامح جامدة في إيفان، الذي كان يتحدث بنفاد صبر.
… بدا أن طباعه القاسية لم تتغير حتى بعد أن مُسحت إعداداته.
“الغابة المحرمة ما تزال تحوي عدداً لا يحصى من الكائنات المجهولة. وحوش، نباتات… أيّاً كان. وأنت ساحر عظيم، فلا شك أنك أعلم بها مني.”
“هاه…”
“سيأتيك بعد قليل أحد الفرسان ومعه التقارير السابقة. على الأقل ألقِ نظرة عليها. لقد رفعت الأمر إلى جلالة الإمبراطور، ولا يمكنك رفضه من موقعك.”
“مؤسف حقاً، لكن يا زيغفريد… أنا لا أجيد القراءة.”
“إيـفان!”
هذه المرة بدا الغضب على زيغفريد أيضاً، فنادى اسمه بصوت مرتفع قليلاً.
لكن غضبه سرعان ما تلاشى حين وقعت عيناه على بريسيبي، التي كانت واقفة على مسافة منهم.
“نُحيّي السيدة بريسيبي.”
انحنى زيغفريد وإيفان بتحية رسمية.
لكن بريسيبي لم تُبدِ أي رد فعل. اكتفت بالنظر إليهما بوجه جاف خالٍ من أي تعبير.
“أنا قائد الفرسان زيغفريد. سأرافقك إلى حيث أمرتِ بأمان.”
“… وأنا إيفان، الساحر العظيم.”
زيغفريد ابتسم وهو يحييها، بينما ألقى إيفان نظرة فاترة على بريسيبي، ثم أدار رأسه فجأة مبتعداً، محوّلاً اهتمامه إلى زيغفريد.
“قائد الفرسان، دعني أوضح مسبقاً. أريد أن تصلني التقارير مختصرة في ثلاث صفحات أو أقل. أنا، على عكس البعض، لا أملك فائضاً من الوقت. أتفهم قصدي؟”
“……”
“حسناً، سأذهب إذن. السيدة بريسيبي، رافقك السلام.”
كانت تلك كلمات وداع خالية من أي روح.
توقف إيفان لبرهة وهو يحدق في بريسيبي، ثم دون أي تعلق أو ندم، استدار متجهاً بخطوات ثابتة نحو برج السحر.
وجه ملفت للنظر حقاً.
لكن هذا كل ما في الأمر.
لم يثر ذلك في داخله رغبة، ولم يُحرك فيه أي إحساس مميز.
كل ما كان يملأ ذهن إيفان في تلك اللحظة، هو التفكير في أبحاث السحر التي تركها معلقة قبل قليل.
“أرجو أن تعذريه. الساحر العظيم بعيد كل البعد عن اللياقة والأدب…”
“لا بأس.”
“ماذا؟”
“لا يهم ما كان الأمر، فلننطلق حالاً. بسرعة.”
لم تُعر بريسيبي يد زيغفريد الممدودة أي اهتمام، بل صعدت إلى العربة وحدها. بدا الأمر غريباً بعض الشيء، لكن زيغفريد هز رأسه وكأنه فهم ووافق.
“لحظة، أريد أن تركب أنت أيضاً يا قائد الفرسان.”
“أنا… تقصدينني؟”
“الحراسة يتكفل بها الفرسان على كل حال، ولدي بعض الأسئلة لك. أهو أمر يسبب لك إزعاجاً؟”
“لا، ليس الأمر كذلك، لكن…….”
“إذن فلا بأس. اصعد.”
أمرتها بدا وكأنه إلحاح، فلم يجد زيغفريد بداً من الركوب.
✦✦✦
“…… إذن، لا أذكر أنني سمعت باسم يُدعى فينريك.”
“…….”
“لو كان فارساً لكنت أعرفه بالتأكيد. العدد ليس قليلاً، لكنني أحفظ أسماء الجميع بلا استثناء.”
“…….”
“السيدة بريسيبي؟”
كان يجيب بإخلاص، لكن لم يصله أي رد. ضيّق زيغفريد عينيه وهو يتأمل بريسيبي.
كانت تحدّق من النافذة بوجه غريب…
وجه يوحي بالحزن، وكأنه أيضاً يغرق في اليأس.
عندها لم يستطع زيغفريد أن يطرح سؤالاً آخر.
لم يستطع أن يسأل من يكون فينريك، ولا لماذا تبحث عنه.
وبدلاً من ذلك، وكأنه يحاول تبديد الكآبة التي خيمت، حدّق للحظة في الخارج ثم تكلم مجدداً.
“لكن، هل لي أن أسأل لماذا تريدين الذهاب إلى ذلك المكان؟”
“…….”
“إن لم يكن في ذلك إساءة أدب طبعاً…”
المكان الذي تتجه إليه بريسيبي هو منزل فينريك.
أو بالأحرى، “المكان الذي كان يجب أن يكون فيه منزله”.
في هذا العالم الذي مُسحت فيه كل القيم وتبدّلت الكثير من الأشياء، قد يكون ما قام على ذلك الموضع شيئاً آخر تماماً.
لكنها لم تسأل زيغفريد لتعرف مسبقاً.
أرادت أن تتحقق بنفسها، وأيضاً… خشيت أن لا تجد أي شيء.
“…… فقط.”
“عفواً؟”
“أريد فقط أن أذهب.”
عرفت أن الجواب غريب، لكنها لم تجد بديلاً. لم يكن لديها طاقة تكفي لمحادثة طويلة مع زيغفريد في تلك اللحظة.
سواء فهم قصدها أم لا، التزم زيغفريد الصمت.
ولم يمض وقت طويل حتى توقفت العربة.
“آه، يبدو أننا وصلنا. انتظري قليلاً، سأرافقك…”
لكن جملته لم تكتمل.
كما فعلت عند الصعود، قفزت بريسيبي وحدها مسرعة دون أن تلتفت.
وهكذا، حين نزلت من العربة…
“…….”
وقفت بوجه شاحب مذهول، تحدّق في قطعة أرض خالية.
لم يكن هناك شيء.
لا شيء إطلاقاً.
لم يظهر أي أثر.
ذلك القصر، الذي جمعها مع فينريك في أكثر ذكرياتهما قيمة… اختفى.
أن يزول بلا أثر؟
أن لا يبقى أي دليل على وجود فينريك؟
كان شعوراً يمزق القلب.
“لأنها من الأراضي القليلة الفارغة الباقية في العاصمة، سمعت أن النبلاء يتنافسون عليها.”
قال زيغفريد وهو يحدق في الأرض الفارغة.
“أترين أولئك الواقفين هناك؟ إنهم نبلاء يطمعون جميعاً في هذه الأرض. يأتون كل يوم ويضغطون على التجار. فالثمن الباهظ يصعّب عليهم الشراء صراحةً، فيحاولون استغلال معارفهم.”
“…….”
“لكن بما أن مساحتها كبيرة وثمنها باهظ جداً، فربما تظل مهجورة إلى أن…”
“أوه، أليس هذا قائد الفرسان؟”
صوت رجل ارتفع فجأة، فتصلب وجه زيغفريد قليلاً.
“ألعلّك مهتم بهذه الأرض أيضاً؟ لم أسمع عن ذلك من قبل.”
“أنا لست معنياًّ بهذه الأرض. لكن عليك أولاً أن تقدّم التحية. هذه السيدة بريسيبي.”
“آه… إذن هذه هي صاحبة الشائعات…”
عينان ميّتتان بلا أي بريق التفتتا نحو الرجل.
إنه نوآخ دوڤيرن.
تفحّص بريسيبي بعينه.
لابد أن الإمبراطور فقد صوابه حينها.
لم تكن امرأة فاتنة إلى الحد الذي يستحق حبسها في البرج.
ربما كان ذوق الإمبراطور غريباً، كما هو حاله.
أنهى نوآه دوڤيرن خواطره الجريئة التي لا يمكن أن تُقال بصوت عالٍ، ثم انحنى بانحناءة مبالغ فيها.
“ألجئتَك هذه الأرض يا دوق؟ أظن أنك تملك أصلاً داراً في البلدة.”
“نعم، لكن لسبب ما لم أعد أرتاح إلى التحف.”
“التحف؟”
“يقال إن الأذواق تتغير مع العمر… لكنني فجأة شعرت بالقشعريرة منها. مقلقة حقاً.”
تابع نوآه دوڤيرن كلامه بلا توقف، لكن بريسيبي لم تولِه أي اهتمام.
“الكميات كبيرة، إن تخلصت منها فسأخسر كثيراً، وإن بعتها فالتجار محدودون. لذا استخدمت الدار كالمخزن، وأنا أبحث الآن عن أرض جديدة.”
“أفهم.”
أومأ زيغفريد ببرود، كما لو أن حديثه لا يهمه إطلاقاً، ثم أعاد نظره إلى بريسيبي.
“إن كنتِ قد أنهيتِ ما أردتِ، فهل نعود إلى القصر؟”
“…….”
“السيدة بريسيبي.”
“… لا، لا بأس.”
قالتها بصوت بدا وكأنه مخنوق.
“سأمر بمكان آخر. فلتأخذ الفرسان وتعد إلى القصر. دعوا خادم واحداً فقط.”
“ماذا؟ لكن ذلك خطر جداً. كيف يمكن أن تبقي وحدك…”
“آسفة يا قائد الفرسان، هذا ليس طلباً بل أمر.”
“…….”
“تفهم قصدي، أليس كذلك؟”
مهما كانت أميرة مخلعة من منصبها، فلن يحتقرها زيغفريد أو يتجاهلها مثل الآخرين.
كان هذا انعكاساً لطبيعته الأصلية، لا لما فُرض عليه من إعداد.
وهي كانت تدرك ذلك حين نطقت.
“لكن…!”
“أم أنك أيضاً سترفض تنفيذ أمري؟”
“لا، ليس الأمر كذلك. فقط يقلقني أم… أمانك.”
“لا تتبعني. قلتها بوضوح.”
“…….”
“شكراً لأنك أوصلتني حتى هنا. والآن، وداعاً.”
قطعت الحوار بسرعة، وصعدت إلى العربة بلا تردد.
الخادم، الذي ظل يراقب الموقف بحذر، وجّه نظره إلى زيغفريد وكأنه يسأله ماذا يفعل، لكن بريسيبي حسمت الأمر. لم يكن لهم خيار آخر.
انطلقت العربة مثيرةً الغبار، تاركةً خلفها زيغفريد ونوآه دوڤيرن وحدهما أمام الأرض الفارغة.
“خلافاً لما يُشاع، تبدو صاحبة طبع قوي.”
قال نوآه دوڤيرن وهو يرفع كتفيه.
“انتقِ كلماتك، نوآه دوڤيرن.”
أجاب زيغفريد بلهجة يقطر منها الضيق، وأطلق تنهيدة قصيرة.
ثم وقف صامتاً، عاجزاً عن فهم ما يجري، يراقب فقط العربة التي ابتعدت شيئاً فشيئاً.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات