“آآخ……!”
اصطدمت بريسيبي بأحدهم، فأطلقت صرخة قصيرة وهي تترنّح.
ثم رفعت رأسها، وما إن أدركت من هو الرجل أمامها حتى تجمّدت ملامحها من تلقاء نفسها.
[سأقيّد عنقك، وكاحلك، ومعصمك بالأغلال…….]
«آتاري…… هانان…….»
[وسأحبسك في قفصٍ تحيطه المرايا. سيكون منظرًا رائعًا، أليس كذلك؟]
الرجل الذي كان قد مات بالفعل، أتاري… كيف يمكن أن يكون هنا؟
نظرت بريسيبي إليه بملامح يكسوها الذهول، لكن رد فعل أتاري كان مختلفًا تمامًا عمّا توقّعته.
فلم ينبعث منه ذلك الجو الخبيث كما في السابق، ولم يُخرج فجأة القيود ليشرع في أفعال جنونية.
إنما اكتفى بتحريك شفتيه قليلًا، وعلامات الاستغراب مرتسمة على وجهه.
“أنا آتاري هانان، أمير إمبراطورية تاين. لقد وصلت للتو، وكنت أتجول في أرجاء القصر، ويبدو أنني ارتكبت إساءة دون قصد.”
“…….”
“هل أنتم بخير؟”
في عيني آتاري، لم يكن هناك أي أثر لتلك المشاعر القذرة التي كانت دومًا تتبعه. بل كان أشبه برجل لا يذكر شيئًا على الإطلاق.
وجهه كان في حيرة، وكأنه لا يفهم لماذا تحدّق فيه هذه السيدة بذلك الذعر الشديد.
كيف يمكن أن يكون هذا؟ لو عاد للحياة حقًا، وكان ما زال محتفظًا بإعداداته، لما كان ذلك ممكنًا……
“…… آنسة؟”
مع صوته، انقدحت في ذهن بريسيبي صورة عابرة.
إنه كتاب الذكريات، الذي بدا وكأنه يحترق، يبعثر الضوء من بين ثقوب لا حصر لها.
«هل كل الإعدادات قد مُسحت……؟»
إذن، لم يحدث سوى أن عاد الجميع مجددًا؟
“هل أنت بخير حقًا؟”
“…….”
“هل أستدعي أحدًا ليساعدك؟”
“…….”
“يا آنسة……!”
لكن صوته لم يكتمل. فقد تجاهلت بريسيبي كلامه، وركضت مبتعدة بجنون.
تركته خلفها، فوقف آتاري وحده، ملامحه مليئة بالدهشة، يحدق مطولًا في ظهرها الذي يبتعد شيئًا فشيئًا.
“أن تجري هكذا وسط القصر الملكي، من دون أي وقار…….”
ثم تمتم مع نفسه:
“يا لها من سيدة لا علاقة لها باللياقة ولا بالآداب.”
وتبسّم ساخرًا بابتسامة قصيرة جدًا.
أنفاسها كانت تتلاحق حتى كادت تختنق.
“هاف… هاف…….”
كم ركضت يا تُرى؟ شعرت وكأن قلبها سينفجر في أية لحظة.
توقّفت بريسيبي وهي تترنّح، ووجهها شاحب كالرماد، تتنفس بصعوبة شديدة.
“…….”
ثم أخذت عيناها تجوبان القصر بلهفة لا توصف.
لكن على عكس آخر ما تتذكره، بدا القصر في غاية السلامة. حتى البرج الذي كان قد انهار متفحّمًا، بدا الآن سالمًا تمامًا.
وفوق ذلك، آتاري هانان، الذي كان قد مات، قد عاد أيضًا.
إذن، هل عاد كل شيء إلى نقطة البداية؟
«أيمكن أن تكون إعدادات جميع الشخصيات قد اختفت كذلك……؟»
ولو حدث ذلك، فربما لم يعد أحد يتذكر أيًا من الأحداث السابقة. لم يبقَ سوى ذواتهم الأصلية.
فماذا عن الدوق فينريك إذن؟ وماذا عن ذلك العالم الملعون؟ وماذا عن فيدار؟
“…….”
حاولت بريسيبي جاهدة تهدئة قلبها الذي يكاد ينفجر، ثم واصلت السير من جديد.
متجهة نحو الكنيسة التي ظهرت أمامها.
ولحسن حظها، لم يكن هناك حراس يراقبون المكان.
وحتى إيلا لم تكن تعلم وجهتها، فلم تستطع ملاحقتها.
أسرعت بريسيبي بخطواتها، ودون تردد فتحت باب الكنيسة المغلق بكل ما أوتيت من قوة.
لم يظهر أمامها أي إشعار غريب كما حدث حين رأت التمثال المحطم لأول مرة.
بل كان هناك فقط، ذلك التمثال الضخم المهيب، يملأ بصرها بحجمه الهائل حد المبالغة.
[التمثال المقدّس]
حدّقت عينا بريسيبي الشاردتان باسم التمثال المنقوش بوضوح.
[حارس أتلويّا، قاهر ملك الشياطين]
رجل مطروح أرضًا، يُسحق تحت أقدام أحدهم.
وذلك الوجه لم يكن غريبًا عنها… كان هو نفسه وجه فيدار الذي حفظته في ذاكرتها.
«إذن… هذه هي هيئته الحقيقية.»
فهل معنى ذلك أنّ عالم <بريسيبي في القفص> ما زال قائمًا، لم ينهدم بعد، وما زال يحافظ على وجوده؟
…… إذن، ماذا عن الدوق فينريك؟
هل محا هو الآخر جميع ذكرياته معها؟
دون أن يترك شيئًا…؟
لا، بل ربما لم يعد فينريك موجودًا أصلًا في هذا العالم. فهو لم يكن يومًا حتى من ضمن شخصيات القابلة للعب، ولا يمكن العثور على اسمه في أي نظام.
والآن وقد مُسحت إعدادات الشخصيات الرئيسة نفسها، فهل بقي مكان لكائن مثل فينريك؟ لا يوجد أي ضمان لذلك… بل العكس هو الأقرب للواقع.
«لا… لا، هذا غير ممكن.»
لن يكون الأمر كذلك. لقد وعدني بأنه سيعود ليجدني.
حاولت بريسيبي أن تكبح دموعها التي أخذت تتجمع في عينيها بقوة.
«عليّ أن أذهب… إلى قصر الدوق.»
لكن صوتًا مفاجئًا دوّى خلفها، جعلها تجفل بشدة وتلتفت.
“كنت على وشك أن أبعث في طلبك لتُحضري إلى قاعة العرش.”
“أما أنا… فقد كنت أنوي العودة مباشرة. لم أتوقع أن نلتقي هنا بهذه الطريقة.”
الذي كان يحدّق فيها الآن هو ديتريش، بملامح غامضة لا تُقرأ.
“…… ما الذي كنتِ تفعلينه هنا؟”
ظنّت أنها تخلّصت من جميع “الإعدادات”، فهل عاد ليلقي عليها قيودًا جديدة بحجة أنها تحاول الفرار؟
لكن ديتريش الذي يواجهها الآن لم يكن الوجه ذاته الذي عرفته من قبل.
بل بدا وكأن ملامحه مشبعة بنوع من الندم العميق…
“كنت للتو عائدًا من لقاء مع كبير الأساقفة. تحدّث عن الحفل الذي سيُقام بعد أيام. قال إنه سيفعل كل ما بوسعه لدعمي، من أجل نهضة أتلويّا.”
رنّ صوته المنخفض والثقيل في أرجاء الكنيسة كجرسٍ مكتوم.
“ثم انتقل مباشرة إلى صلب الموضوع.”
“…….”
“عن مصيرك.”
ارتجفت عينا بريسيبي بعنف إثر كلماته غير المتوقعة.
نعم، كبير الأساقفة لم يكن يومًا راضيًا عن وجودها.
فبالنسبة إليه، بريسيبي لم تكن سوى عبء ملتصق بالإمبراطور الجديد ديتريش، لا تربطه بها قطرة دم.
وفي أسوأ الأحوال، يمكن أن تُثير فضائح شائكة… فضائح كانت حتى الأمس القريب حقائق قائمة.
“فكرت كثيرًا.”
واصل ديتريش حديثه.
“لماذا آل بنا الحال إلى هذه العلاقة؟ لقد كان بيننا وقتٌ كنا فيه ملاذًا لبعضنا، نستمدّ من بعضنا القوّة.”
“فلماذا إذن كرهتك كثيرًا؟ ولماذا أطلقتُ عليك هذا الكمّ من الغضب واللوم؟ لا أستطيع أن أفهم نفسي السابقة.”
“ربما… نعم، ربما كان الحقد عليك أيسر الطرق عليّ آنذاك. أسهل من مواجهة ضعفي.”
“…….”
“أجل… هكذا كان. وربما لهذا السبب أردت أن أراك تذوين بجانبي، أردت أن أرى ذلك بعيني.”
ولهذا، حين قبض على زمام السلطة منذ مدة، حبسها في البرج، هذه المرّة ليضمن ألا تهرب.
…… لكن كان ثمة أمر غريب.
فذلك الغضب الخانق، وتلك الكراهية المشتعلة، وحتى الرغبة المريضة في امتلاكها… كلّها تلاشت.
المرأة أمامه لم تعد العدو الذي يثير غليانه…
بل لم يرَ فيها سوى تلك الأخت التي كانت يومًا عزاءه الوحيد.
ظلّ ديتريش صامتًا لبرهة طويلة، ينظر إليها فقط.
ثم، بعد وقت بدا طويلًا، تحرّكت شفتاه ببطء.
“بريسيبي… سأطلق سراحك.”
ارتخت أصابع بريسيبي عن ثوبها الذي كانت تشدّه بقوة.
كلماته كانت شيئًا لم يخطر لها يومًا أن تسمعه منه.
وعلى وجهها ارتسمت ملامح عدم تصديق مطلق.
“اذهبي حيث تشائين. لا بأس إن لم يكن القصر، لم يعد ذلك يهم.”
“…….”
“أردت فقط أن أقول لك هذا. لا معنى آخر وراءه.”
ارتسمت ابتسامة مُرة على محيّاه.
كانت كلماته ما تمنّت سماعه دومًا، ومع ذلك… لم يشغل عقلها في تلك اللحظة سوى أمر واحد: مصير فينريك.
“إن أردتِ، يمكنني أن أُهيّئ لك قلعة في العاصمة. فكّري في الأمر، ثم أخبري إيلا. سأنتظر.”
«نعم… لا بد أن أكون أكثر نضجًا الآن.»
«عليّ أن أتجاوز مرحلة الطفلة التي لا تفعل سوى البكاء والعناد.»
نظر ديتريش إلى بريسيبي بعينين ممتلئتين بمزيجٍ معقّد من المشاعر، ثم استدار ببطء.
وأخذ يخطو مبتعدًا.
“جلالتكم!”
نادته بريسيبي بصوت مذعور، حافلٍ بالعجلة.
“الـ… الدوق…”
توقف ديتريش في مكانه، ونظر إليها بعينين ضيقتين قليلًا.
“أين هو الدوق فينريك؟”
في تلك اللحظة، ارتسمت على وجهه علامات دهشة صافية.
لكن بريسيبي تجاهلت قلقها المتصاعد، وأعادت السؤال بصوت مرتجف:
“الدوق فينريك! أقرب المقرّبين لجلالتكم. الذي خاض معكم حروبًا لا تُحصى…!”
“لا أفهم شيئًا مما تقولين.”
كان الرد يائسًا.
“شخص كهذا لا وجود له إلى جانبي.”
«لا… لا يمكن…»
“ثم إن كان دوقًا حقًا، فلا بد أنه أحد النبلاء، لكني لم أسمع يومًا بهذا الاسم.”
«هذا مستحيل…»
“إنه اسم لا وجود له. ولقب لا وجود له.”
«لا وجود له…؟ لم يعد موجودًا… في هذا العالم؟ إلى الأبد؟»
“يبدو أنكِ حلمتِ فحسب. أجل… هذا منطقي. حتى في طفولتك، كنتِ ترين أحلامًا غريبة من حين لآخر.”
ابتسم ديتريش ابتسامة قصيرة، ثم قال أخيرًا:
“حين تحددين وجهتك، أرسلي في طلب إيلا.”
ألقى نظرة أخيرة على بريسيبي، ثم أدار رأسه مبتعدًا.
وغادر.
“…….”
هبط سكون ثقيل كالرصاص على أرجاء الكنيسة التي تُركت فيها بريسيبي وحدها.
لم يُسمع أي صوت.
إلى أن انهارت قدماها، وسقطت جالسة على الأرض.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات