حدّقت بريسيبي على عجل في الكتاب الذي تدحرج على الأرض، لكن الأوان كان قد فات. اللهيب الذي استدعاه فيدار كان قويًا على نحوٍ لا يُقارن حتى بلهيب إيفان. مجرد أوراق رثة كهذه بدت وكأنها ستحترق في لحظة، دون أن تترك حتى رمادًا خلفها.
لو كان كتاب الذكريات مجرد كتاب بسيط حقًا، لربما كان ذلك مصيره بالفعل.
لم تمضِ لحظات حتى خمد اللهيب، وخبت الغيوم السوداء. أسرع فينريك ليخفي بريسيبي وراء ظهره، بينما جلس ريك على كتفها متوجسًا، يراقب بحذر.
“……”
عيناه الحمراوان، وهما تحدقان بفيدار، اشتعلتا بحدةٍ لا تضاهى. لقد كان يتوقع هذا. كان يعرف أن اللقاء سيحدث بهذا الشكل. ولعلّ وصول بريسيبي إلى هنا بجسدها وحدها كان في حد ذاته معجزة.
… لكن هناك أمرًا غريبًا.
فيدار، الذي ظن فينريك أنه سينقض عليهما في أية لحظة، لم يتحرك قيد أنملة. كان فقط يعض شفتيه حتى سال الدم، وعيناه مثبتتان على الأرض حيث ما زال الدخان يتصاعد.
…لم يحترق؟
حين تبعت بريسيبي نظره، أدركت الحقيقة. كتاب الذكريات، رغم تلك القوة المدمرة، لم يُمسّ بأذى.
“……”
وفي عيني فيدار، وهو يحدق في الكتاب، ارتسمت مشاعر متداخلة، جارفة.
لن تمسكي بيدي، أليس كذلك؟ في النهاية، ستعودين لتحتمي بين ذراعي فينريك، أليس كذلك؟ ستتخلين عني مجددًا، أليس كذلك؟
إذن، ألا يجدر بي أن أمحو كل هذا؟ لعلّي بذلك أتحرر من هذه المشاعر الخانقة.
أو ربما… ربما أراد أن يُثبت شيئًا. أن حتى بلا أي “إعدادات” موضوعة مسبقًا، هو أيضًا قادر على أن يحبها، مثل فينريك.
في كل مرة يرى بريسيبي وهي تفوح منها رائحة فينريك، تتفجر داخله رغبة حارقة في القتل، رغبة يعرف تمامًا أنها ليست من إرادته…
لكن النظام بدا وكأنه يسخر من أفكاره. وقف فيدار يحدق في كتاب الذكريات السليم تمامًا بعينين تتلألآن بجنون.
“فيدار… مصاب.”
“…ماذا؟”
صوت بريسيبي الخافت جعل فينريك يتوقف فجأة، لينظر إلى فيدار. وعندها فقط رآها. الجرح الغائر عند الترقوة، يحترق بالسواد وكأنه يلتهم حياته نفسها. جرح لم يلتئم قط، ولم يُجدِ فيه أي تجدد.
سيف بريسيبي…!
ذلك الموضع بالضبط، حيث طعنته يومًا بسيفها الذي منحته له.
– …ولكن يجب أن نتذكر دائمًا، أنه حين يعود، لن يقدر على القضاء عليه حتى أولئك الذين وُلدوا من رحم الأساطير العظيمة، ولن تقتله الأسلحة التي ارتبطت بحكايات دامعة، ولا حتى بركات أي حاكم كان. فكل شيء سيبدأ منه، وكل شيء سينتهي عنده.
ذلك ما كُتب في الوثيقة التي سرقها زيجفريد سرًا من الكنيسة. وكلماتها لا تزال مطبوعة في ذاكرة فينريك بوضوح.
لا أحد، ولا شيء، قادر على قتله. وبالأخص، من هم سجناء في هذا العالم، المرتبطون به، المقيّدون بقيوده المحكمة.
الشعور الأول الذي اجتاح فينريك عند قراءة ذلك النص كان فراغًا هائلًا، إحساسًا باللاجدوى. لا شيء قادر على قتله؟
لكن أفكاره لم تتوقف عند ذلك.
لم يكن هناك حاجة لأسطورة، ولا لقصص، ولا لبركة.
إن وُجد شخص أو شيء لا ينتمي لهذا العالم أصلًا… لربما كان قادرًا على قتل فيدار.
وهذا ما أثبته الواقع.
صحيح أن مسألة قتله فعلًا تبقى شيئًا آخر، لكن لولا ذلك السيف، ولولا كونه بيد بريسيبي، لما أصاب فيدار بخدش واحد حتى.
ربما كان محض حظ. وربما كانت أفكاره المتهورة قد صادفت الصواب عرضًا. وربما لن يصلوا أبدًا إلى قتله.
لكن هناك أوقات لا بد أن يضع المرء فيها حياته كلها رهنًا بأمل ضئيل.
مثل هذه اللحظة تمامًا.
مدّ فينريك يده سريعًا ليتأكد من أن سيف بريسيبي ما زال في مكانه بين طيات ردائه.
أتراه… يريد أن يتحرر من قيود النظام أيضًا؟ مثل دوق فينريك؟
حدقت بريسيبي بذهول في فيدار. لماذا؟ لأي سبب؟
إن نجح فعلًا في كسر النظام، ماذا سيحدث؟
في الماضي، كان هدفها هو هدم النظام بأي ثمن. لأنه، في غياب البطل الحقيقي، ملك الشياطين، بدا ذلك وكأنه الطريق الوحيد للعودة إلى الواقع.
لكن الآن… إن انهار النظام، فما الذي سيحدث؟
النصف بالنصف. احتمالية أن تعود، واحتمالية أن تُسحق للأبد.
هل أريد حقًا أن أرى النظام ينهار؟ هل أريد حقًا أن أعود؟
عيناها المرتجفتان التصقتا بظهر فينريك. حتى وهي واقفة عند مفترق الطرق، حيث يمكن أن تعرف مصيرها قريبًا جدًا، لم يملأ بصرها إلا جرحه الممزق بفعل أنياب الوحش.
“هل… سأعود…؟”
حتى الآن، تلك الكلمات لم يجرؤ قلبها يومًا أن يبوح بها. كانت كالثِقل الجاثم، يتدحرج من طبقة إلى أخرى، يغرق أعمق فأعمق في روحها، حتى تفجرت أخيرًا من بين شفتيها المطبقتين كاعتراف لم يعد يحتمل الكتمان.
“لا أريد…”
“……ماذا؟”
“لا أريد العودة إلى الواقع…”
في ذلك العالم، لم يكن هناك دوق فينريك. لم يكن هناك سوى “يون جو-يون”، ذلك الغريب الذي لا يذكر شيئًا.
لم تنسَ قط أن ذلك الشخص هو هي نفسها. ومع ذلك، كيف يمكن أن يُسمى ذلك واقعًا بالنسبة لها؟ واقعًا يخلو منه؟
ارتعشت أصابع بريسيبي وهي تتشبث بعضد فينريك بقوة مرتجفة.
“…….”
في تلك اللحظة، تقدم فيدار بخطوات ثقيلة متعثرة. ثم انحنى والتقط كتاب الذكريات الذي ظل يتدحرج على الأرض.
“تفاهة…”
بدأ يتمتم بكلمات غامضة لا يكاد يُفهم منها شيء.
“تفاهة كهذه… بسببه…”
أنتِ لا تثقين بي، وأنا لا أستطيع التحكم حتى في قلبي.
وفجأة بدا وكأن الغضب، الذي ظل محبوسًا في أعماقه حتى الآن، قد انفجر. مرت أمام عينيه آلاف السنين التي تحملها مكبلًا.
ومع ذلك، ومهما عاند وقاوم، فلن يستطيع أبدًا أن يتخلص من هذا المصير! كان كتاب الذكريات يسخر منه ببرود.
التماع الغضب في عيني فيدار الزرقاوين وهو يحدق في الكتاب. ومن يده الشاحبة المتصلبة أخذت طاقة هائلة تتسرب بلا توقف، فيما كان الجرح غير القابل للالتئام ينزف بغزارة.
لكن مهما بذل من قوة وضغط، لم يُصب كتاب الذكريات بأدنى خدش. ظل هناك، ساخرًا به، كأن لا شيء في هذا العالم قادر على مسّه.
وبالضبط في تلك اللحظة—
من بعيد، دوّى صوت أحدهم.
“الدوق فينريك عند ضفة البحيرة!”
‘……كيفن؟’
تعرفت بريسيبي على صاحب الصوت، فاستدارت سريعًا. فرأت الجموع السوداء من الجنود يندفعون نحوهم، يتقدمهم كيفن وهو يقودهم.
“علينا القضاء على ملك الشياطين، وإنقاذ السيدة بريسيبي والدوق!”
[……كيفن. أصغِ جيدًا لما سأقوله الآن.]
كان ذلك ما أوصى به فينريك قبل أن يغادر المخيم، عندما أصر ريك على أن يصحبه. كان لابد من وضع احتمال الأسوأ في الحسبان.
[سأتجه شرقًا، نحو البحيرة. لست متأكدًا، لكن على الأرجح هناك سيكون. يكفي أن ترى كيف شوّهت هذه الوحوش الخريطة.]
[لكن يا سيدي! التحرك وحيدًا في وضع كهذا شديد الخطورة!]
كان كلام كيفن صحيحًا. فمن البداية لم يكن فينريك ينوي تشتيت القوات.
لكن ماذا لو لم يجد بريسيبي هناك أيضًا؟ ماذا لو كان كل هذا مجرد فخ؟
في تلك الحالة، كان من الأفضل أن يراهن بحياته وحدها.
[إن مرّت ساعة كاملة ولم يأتِ منك أي خبر…]
[عفوًا؟]
[حينها أخبر زيكفريد بالحقيقة. ففي نهاية الأمر، هو الوحيد الآن الذي يعرف الغابة عن ظهر قلب.]
[سيدي الدوق!]
[لكنني سأرسل إشارات كل ثلاثين دقيقة. إذا استمرت بلا انقطاع لساعتين كاملتين، وبقي القليل حتى بزوغ الفجر، فعندها……]
تشاك!
كلما ابتعد المسير، كان ريك يلحّ عليه أكثر. غير أن الأمر كان لا مفر منه. فقد ظل فينريك يتحقق من ساعته، ويرسل كما وعد تلك الإشارات الضوئية الصغيرة: قنابل ضوئية قصيرة العمر، كل ثلاثين دقيقة.
[في ذلك الحين، عليك أن تقود الجميع إلى ضفة البحيرة الشرقية. الأرجح أننا سنكون في مواجهة هناك.]
“إنه ملك الشياطين! هناك… ملك الشياطين!”
كان الصرخة الحادة هذه المرة من أحد الكهنة الذين كانوا يسيرون خلف كيفن. وبمجرد أن علت، ارتسم التوتر على وجوه الجنود، لكنهم لم يتراجعوا. بل اندفعوا معًا في اتجاه فينريك.
‘هذه المرة… لدينا فرصة. بلا شك.’
عندها، أنزل فينريك سيفه الطويل. ثم أخرج من صدره التذكار الذي منحته فانيسا، والذي كانت بريسيبي قد سلمته له يومًا.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات